المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقصد الثالث المتكلم: كيف تكون تلك الإشارات غير بينة؟ وفيها قوله - القائد إلى تصحيح العقائد

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ ‌المقصد الثالث المتكلم: كيف تكون تلك الإشارات غير بينة؟ وفيها قوله

‌المقصد الثالث

المتكلم: كيف تكون تلك الإشارات غير بينة؟ وفيها قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» واسمه تعالى «الواحد» و (قل هو الله أحد) السورة.

السلفي: أما قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» فمثل الشيء - في لغة العرب - نظيره الذي يقوم مقامه ويسد مسده. وعند اكثر المتكلمين: مشاركة في جميع الصفات النفسية. وعند أكثر المعتزلة: مشاركة في أخص وصف النفس. وقال قدماء المتكلمين كما في (المواقف)«ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات، وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة: الوجوب والحياة «التامة» والعلم التام والقدرة التامة

» قال السيد في (شرحه) : «قالوا ولا يرد علينا قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» . لأن المماثلة المنفية ههنا المشاركة في أخص صفات النفس دون المشاركة في الذات والحقيقة» .

وقال النجار: مثل الشيء مشاركة في صفة لإثبات وليس أحدهما بالثاني. وألزموه: «مماثلة الرب للمربوب إذ يشتركان في بعض الصفات الثبوتية كالعالمية والقادرية» كذا في (المواقف)(وشرحها) وفيما بعد ذلك «هل يسمى المتخالفان المتشاركان في بعض الصفات النفسية أو غيرها مثلين باعتبار ما اشتركا فيه؟ لهم فيه تردد وخلاف ويرجع إلى مجرد الاصطلاح

وعليه

يحمل قول النجار

فالله مماثل عنده للحوادث في وجوده عقلاً أي بحسب المعنى والنزاع في الاطلاق

»

أقول: وليس في النصوص التي ينكر المتكلمون معانيها ما يظهر منه إثبات مناظرة على الإطلاق بين الله عز وجل وغيره، ولا مشاركة في جميع الصفات النفسية، ولا في أخص وصف النفس، فإذا حملت المماثلة المنفية في الآية على واحد

ص: 114

من هذه المعاني فليس بين الآية وبين شيء من المعاني الظاهرة لتلك النصوص منافاة ما.

فأما المماثلة في بعض الصفات دون بعض فقد علمت إن المتكلمين يثبتونها في الجملة، ولذلك ذكر الفخر الرازي أنه لا يصلح حمل الآية ما ينفي ذلك، وأجاب الآلوسي بقوله:

«من المعلوم البين أن علم العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عز وجل وقدرته جل وعلا - أي ليس سادين مسدهما» .

أقول: قد تؤخذ المماثلة في مطلق العالمية والقادرية ونحوذلك. فإن قيل ذاك أمر لا يلتفت إليه، إذ ليس الواقع إلا قدرة ذاتية تامة لله عز وجل، وقدرة مستفادة ناقصة للعبد - وهكذا.

قلت: فهذا المعنى أيضاً غير مناف لشيء من تلك الظواهر.

تحقيق معنى الآية

من تتبع موارد استعمال نفي المثل في الكتاب والسنة وكلام البلغاء علم أنه إنما يراد به نفي المكافئ فيما يراد إثباته من فضل أو غيره، فمن ذلك قول الشاعر:

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يدانيه في الفضائل

وقول الآخر:

سعد بن زيد إذا أبصرت جمعهم

ما إن كمثلهم في الناس من أحد

وقال الله عز وجل: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» . الاسراء: 88.

وقال تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ

ص: 115

مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ» الفجر:6 - 8.

أي - والله أعلم - في قوة الأجسام كما يومئ آيه السياق وآيات أخرى.

وقال سبحانه: «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» خاتمة سورة (محمد) أي في الولي والبخل. وفي حديث أبي أمامة في (المسند) وغيره أنه قال يا رسول الله مرني بعمل. فقام: عليك بالصوم فإنه لا مثل له. (1) ودونك الآيات التي فيها (ليس كمثله شيء) ونظائرها «حم عسق. كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي

(1) قلت: هو في «المسند» (5/258،255) من طريق مهدي بن ميمون ثنا محمد بن عبد الله ابن أبي يعقوب الضي عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة. ومن هذا الوجه ابن حبان (929) ، وهذا إسناد صحيح. رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن رواه شعبة عن محمد هذا قال: سمعت أبا نصر الهلالي عن رجاء بن حيوة. أخرجه ابن حبان (930) والحاكم (1 /421) وقال: «صحيح الإسناد وأبونصر الهلالي هو حميد بن هلال العدوي» . ووافقه الذهبي. كذا قالا، وأبونصر هذا ليس هو حميد ابن هلال، بل هو رجل لا يدرى من هو كما قال الذهبي نفسه في «الميزان» . وقال الحافظ في «التقريب» :«مجهو ل» . لكن ذكره في الإسناد شاذ، فقد رواه ثقتان آخران كما رواه مهدي بم ميمون بإسقاطه، وصرح بعضهم بسماع ابن أبي يعقوب من رجاء فهو إسناد متصل صحيح وقد صححه الحافظ في «الفتح» كما بينته فيما علقته على (الترغيب والترهيب) . ن

ص: 116

السَّعِيرِ. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . (فواتح سورة الشورى) .

ومن نظائر هذه الآيات في الجملة قوله تعالى: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» الرعد: 16.

وقوله سبحانه: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» يونس: 31 - 32.

وقوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ.» النمل:59 - 60.

وقوله تبارك اسمه: «قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.

ص: 117

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ. بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» . المؤمنون 84 - 92.

الآيات في هذه المواضع وأمثالها مسوقة لإقامة الحجة على المشركين الذين يتخذون من دون الله تعالى وبغير سلطان منه أولياء يعبدونهم أي يخضعون لهم طلباً للنفع الغيبي، فالقرآن يبين أن مناط استحقاق العبادة أن يكون المعبود مالكاً للتدبير الغيبي مختاراً أن ينفع به ويضر كما يشاء لا على وجه الطاعة منه لمن هو أعلى منه، ولا مفتقراً إلى إذن خاص ممن هو أعلى منه، فإن هذا المالك هو الذي يكون خضوع من دونه له سبباً لأن ينفعه، وإعراضه عنه مظنة أن يضره، فحينئذ يحق لمن دونه أن يخضع له. فأما من ليس كذلك فلا يمكن أن ينال من دونه منه نفع ولا ضر. نعم إن الله عز وجل يأمر الملائكة بما يريد فيفعلونه ويأذن لهم في الشفاعة لمن يحب فيشفعون وهم كما قال تعالى:«عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون» الأنبياء: 26 - 28.

فإذا أمرهم سبحانه بنفع عبد فعلوا ذلك طاعة لربهم فقط. وإذا أذن لهم في الشفاعة شفعوا رغبة في رضا ربهم، ولوفرض أنهم لم يشفعوا بعد الأذن فلم يأذن لهم ربهم إلا وقد ارتضى الأمر الذي أذن لهم أن يشفعوا فيه فهو كائن لا محالة وإن لم يشفعوا، وبهذا يتضح يقيناً أن سؤال العبد من الملائكة أو خضوعه لهم عبث من جهة وسبب لغضب الله عز وجل على السائل، فتغضب الملائكة لغضب ربهم من جهة أخرى. ولوكان الملائكة يتصرفون بأهو ائهم لأختلفوا، إذ قد يهوى هذا نصر أحد الجيشين المقتلين ويهوى الآخر نصر الجيش الآخر فيعمل كل منهما بحسب هواه، يبذل جهده في التصرف بكل ما يمكنه، هذا مع عظم قوة الملائكة وقدرتهم،

ص: 118

فتختل الأمور ويفسد النظام، قال الله عز وجل:«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» الأنبياء: 22. وقال تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِن» المؤمنون: 71. ولما أذن الله عز وجل للبشر إذناً قدرياً عاماً في عمل ما يريدون - لأن مقصود التكليف لا يتم في حقهم إلا بذلك جعل قدرتهم محدودة، فيقع من الفساد ما يناسب قدرتهم كما هو مشاهد، وكلما زادت قدرتهم بواسطة الآلات والمخترعات زاد الفساد كما تراه في هذا العصر، ولولا الله عز وجل يكفكف شدة ذلك بقدره لكان الفساد أعظم، قال تعالى:«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» البقرة:251.

إن كان الله عز وجل يأذن لأرواح الصالحين الموتى بأمر يتعلق بالأحياء فلن يكون حال الأرواح إلا كحال الملائكة سواء، بل الأرواح أولى بأن لا يؤذن لها في التصرف (1) بأهوائها، فإنها في غير دار تكليف لا تخشى عقوبة علة ما يقع منها

(1) والحق أن الأرواح بعد في قبضة الواحد القهار لا تصرف لهم في شؤون الأحياء بل قد انقطع عملهم كما في الحديث: «إذا مات أبن آدم انقطع عمله غلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له» وهذه الثلاثة الباقية له بعد موته في آثار أعماله في الحيات قبل موته فليست عملاً له بعد الموت. وقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا» فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا «الْمَوْتَ» وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى) . فالذي مات أمسك في قبضة القهار، بخلاف الحي الذي أرسل إلى أجل مسمى. وما فتح الشرك على من أشركوا بالأموات والصالحين إلا اعتقادهم فيهم أنهم يفعلون بعد موتهم مثل ما كانوا يفعلون في حياتهم أو أشد وأقوى على سبيل الكرامة بزعمهم، فتوكلوا على الأموات وعبدوهم ونسوا الحي القيوم فلم يتكلموا عليه ولم يخلصوا له العبادة كما هو مشاهد من أحوال عباد القبور والمنتصرين لهم من شرق الأرض وغربها. والله المستعان كتبه محمد عبد الرزاق س.

يقول المؤلف: إنما فرضت الأذن للأرواح فرضاً، وأوضحت أنه على فرضه فلن يكون حالها إلا كحال الملائكة في أن تصرفها إنما يكون تنفيذاً لما يأمر الله عز وجل، وكما أن ثبوت ذاك التصرف للملائكة لا شبهة فيه لمن يعبدهم فكذلك الأرواح. وهذا =

ص: 119

بخلاف الملائكة، وبعض المسلمين يتردد في عصمه بعض الملائكة، والقائلون بالعصمة يقولون بالتكليف مع شدة الخشية، كما تقدم في بعض الآيات السابقة والمشركين الذين يزعمون أن الملائكة يتصرفون بأهو ائهم، يزعمون أنهم غير معصومين، بل يجعلون حالهم كحال البشر مع عظم القدرة، ويقولون كما أن للإنسان أن يسأل إنساناً آخر أغنى أو أقدر منه ويخضع له، فكذلك له أن يسأل الملائكة ويخضع لهم لأنهم يعملون ما يشاءون، ويشاءون ما يهوون كالبشر وقدرتهم أعظم وهذا الشرك يوجد في بعض مشركي الهند وغيرهم، وعليه كان أكثر الأمم المشركة. أما مشركوا العرب فإنهم قلدوا غيرهم من الأمم في الشرك العملي فقط كما تقدم في الآيات، إلا أنهم كانوا عندما يسألون عن ذلك يتشبثون بالشفاعة فقط، مع تردد فيها، ولما حاجهم القرآن لم يبق بأيديهم إلا الشغب حتى أنقذهم الله عز وجل، وبالجملة فكان شركهم يكاد يكون عملياً فقط. وإذا تأملنا ما وقع فيه عامة المسلمين في القرون المتأخرة وجدناه أشد جداً مما كان عليه مشركوالعرب. فإنا لله وأنا إليه راجعون.

= واضح جداً وهو أقطع للنزاع من بسط الكلام في نفي التصرف البتة. وفي (كتاب الروح) لأبن القيم ما يؤخذ منه أنه يثبت للأرواح تصرفاً في الجملة، وسمعت بعض الأخوان يستعظم ذلك، كأنه برى أن ذلك يروج شبه دعاة الموتى. ولا أشك أن هذا لم يغب عنه ذهن أبن القيم، ولكنه يعلم أن الشبهة إنما تروج إذ أثبتنا للأرواح تصرفاً بأهو ائها، فأما ما كان من قبيل تصرف الملائكة فلا وما ذكره الشيخ من انقطاع العمل حق، لكن لأبن القيم أن يقول قد تحب الأرواح أن تعمل عملاً في طاعة الله عز وجل تلذذاً بالطاعة كصلاة الأنبياء ليلة الإسراء ونحوذلك فيكون ذاك التصرف في حقها من جملة النعيم تلتذ به نفسه ولا تثاب عليه، وعلى كل حال فإنما فرضا فرضاً، ليس فيه أدنى متشبث لدعاة الموتى فتدبر.

وانظر كتاب "الآيات البيان في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات " للعلامة الألوسي بتحقيق أستاذنا الألباني - الطبعة الثالثة - المكتب الإسلامي. زهير

ص: 120

وأما البشر الأحياء فقدرتهم معروفة ولا تكون لهم قدرة غير عادية، نعم قد يتفق قدرة عادية غريبة كما يقع لبعض المرتاضين والسحرة وسيأتي الكلام فيها، فأما معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء فليست بقدرتهم ولا في ملكهم، قال اله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم:«وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» . وكان الصحابة إذا احتاجوا إلى نفع غيبي إنما يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء كما في الاستسقاء، وقلة الأزواد في السفر، وغير ذلك، والدعاء داخل في المقدورات العادية كما لا يخفى. وكانوا إذا بعدوا عنه فاحتاجوا أن يراجعوه في شيء كتبوا إليه أو أرسلوا على ما جرت به العادة، فإذا لم يمكن ذلك قال أحدهم: أللهم أخبر عنا رسولك، كما قال عاصم بن ثابت، وجاء نحوه عن خبيب ابن عدي / ومنا يحكى عنه مما يخالف ذلك لا يثبت، ولوثبت وجب حمله على المعنى المعروف. ودعاؤهم مرجوا الإجابة وليس ذلك بحتم، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:«إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» وقال سبحانه: «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ» الأنعام: 35 والنصوص في هذا المعنى كثيرة.

وأما الجن فأنه مأذون لهم أذناً قدرياً عاماً في الوسوسة لبني آدم، وذاك كالأمر الطبيعي لهم، إما يستدعي بمعصية الله عز وجل والغفلة عن ذكره، ويستدفع بطاعته سبحانه والتعوذ به. فأما ان ينفعوا الناس أو يضروهم فلوكان مأذوناً لهم فيه أذناً قدرياً عاماً يشبه الأذن للناس، لفسدت الدنيا، فإن كان قد يقع شيء من ذلك فإنما يكون بأذن قدري خاص لا يفسد قواعد الدنيا، والإنسان لا يحتاج إلى

ص: 121

الرغبة إليهم لتحصيل شيء من ذلك لأن الله عز وجل قد أغنى الناس بالأسباب العادية، وبدعائه سبحانه، أوليس أن تسأل المالك الحقيقي القادر على كل شيء أقرب وأولى من أن تسأل جنياً على أمل أن يأذن له الله عز وجل إذناً قدرياً خاصاً في فعل مطلوبك؟ فإن فرض أن إنساناً رغب إلى الجن فحصل له نفع أو أندفع عنه ضر فذلك بمنزلة من يتقرب إلى المشركين بالسجود لأصنامهم ونحوه، فإنهم قد ينفعونه وليس ذلك بعذر له، بل الأمر أبعد فإن المشركين مأذون لهم إذناً قدرياً عاماً في النفع والضر على ما جرت به العادة.

وحال السحر كحال الجن قال الله عز وجل: «وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ (1) إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي والله أعلم إذناً قدرياً خاصاً وإنما يقع ذلك نادراً، نعم قد يعد من السحر ما هو مبني على سبب عادي غريب كالتنويم المغناطيسي، وما يقع لبعض المرتاضين من التأثير بالهمة فيحسبه الجاهل كرامة.

هذا وإذا أمر الله عز وجل بطاعة أحد أو الخضوع له أو بفعل هو في الصورة خضوع له ففعل المأمور ذلك طلباً للنفع الغيبي من الله عز وجل فهذه عبادة الله عز وجل، وهذا كسجود الملائكة لآدم، وهكذا تعظيم المسلمين لحرمات الله عز وجل كاستقبال الكعبة (2) والطواف بها وتقبيل الحجر الأسود، وغير ذلك مما أمرهم الله به ففعلوه طاعة لله غير مجاوزين ما حده لهم، وكذلك توقير النبي وإكرام الأبوين وأهل العلم والصلاح بدون مجاوزة ما حده الله تعالى من ذلك.

(1) في الأصل (به أحدا) . ن

(2)

تعظيم المسلمين لحرمات الله واستقبال الكعبة والطواف بها وتقبيل الحجر الأسود ليس كل ذلك من الخضوع لغير الله وطاعته بل هو خضوع لله وطاعة له بهذا العمل. م ع

ص: 122

والحاصل أن الخضوع طلباً للنفع الغيبي عبادة. فإن كان عن أمر من الله تعالى ثابت بسلطان فهو عبادة له سبحانه ولو كان في الصورة لغيره كالكعبة، وإلا فهو عبادة لغيره. ويتعلق بهذا الباب مباحث عديدة قد بسطت الكلام عليها في كتاب (العبادة)(1) وإنما ذكرت هنا شذرة منه.

وأصل المقصود هنا تفسير الآية فأقول: إن القرآن يذكر التدبير الغيبي جملة أو يذكر بعض أنواعه تفصيلاً، ويبين أن المالك له القادر عليه المختار فيه بدون توقف على أمر آمر أو إذن أو تسليط مسلط، هو الله وحده لا شريك له، وأن ذلك هو مناط استحقاق العبادة، فإذا كان سبحانه هو المتفرد بذلك فهو المتفرد باستحقاق العبادة. فتدبر الآيات المتقدمة تجدها على ما وصفت، وتدبر آيات الشورى التي فيها «ليس كمثله شيء» تجدها من هذا القبيل، فإذا كان الأمر هكذا فالظاهر أن المراد بقوله:«ليس كمثله شيء» نفي المثل فيما ذكر في السياق من أنه تعالى يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن إليه الحكم وأنه فاطر السماوات والأرض إلى غير ذلك. وجماع ذلك كله ملك التدبير الغيبي والقدرة عليه والاختيار فيه على ما تقدم وصفه، والمقصود بذلك إثبات أنه لا آله إلا الله.

وهب أنه يسوغ حمل قوله «ليس كمثله شيء» على ما يخالف تلك الظواهر التي يفر منها المتكلمون فهو احتمال مرجوح، وهبه مساوياً أو راجحاً فهل يصح أن يعتد بها قرينه تصرف عن ظواهر تلك النصوص التي لا تحصى، منها الظاهر البين،

(1) كتاب من تأليفي استقرأت فيه الآيات الاقرآنية ودلئل السنة والسيرة والتاريخ وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله تعالى مما هو عبادة لغيره يسر الله نشره. المؤلف

ص: 123

ومنها الصريح الواضح، ومنها المؤكد المثبت، ومعها عقل المخاطبين الأولين من الصحابة وغيرهم وجمهور الناس؟ وهل هذا إلا قلب للمعقول الواضح؟

هذا والقائلون بأن ذات الله تعالى مجرداً أكثرهم يثبتون أو يجوزون وجود ذوات كثيرة مجردة من عقول ونفوس وأرواح غيرها! فليتدبر من له عقل أليسوا أولى بزعم أن لله عز وجل مثلاً بل أمثالاً ممن لا يقول بالتجرد المحض الذي يزعمونه؟ فإن الذوات المخلوقة غير المجردة تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً فما الظن بذات الخالق تبارك وتعالى؟ فأما المجردة على فرض وجودها فكيف يعقل التفاوت العظيم بينهما حتى تكون هذه ذات رب العالمين وهذه ذات روح بعوضة؟ وما قيل أن التجرد أمر عدمي لا يدفع ذلك، على أنه عندهم براءة لأمر وجودي احتيج إليه، لأنه ليس في اللغات لفظ يدل على ذاك المعنى، لأن اللغات تابعة للعقول الفطرية، والعقول الفطرية لا تعقل وجود ذات مجردة ذاك التجرد، وإنما تعبر عن ذاك المعنى بقولها:«معدوم» (1) .

قال السلفي: واقتصر عن النظر في تلك الآية على ما ذكرت راجياً أن يكون فيه الكفاية لمن لم يستحوذ عليه الهوى، فأما من ختم على قلبه فلا مطمع فيه. والله الموفق.

وأما اسم الله تعالى «الواحد» فلفظ «واحد» يراد به في اللغة ما يقابل المتعدد ومن تتبع مواقعه في القرآن وغيره من الكلام العربي الفصيح وجده يأتي وصفاً لموصوف ويكون هناك شيء محكوم عليه بالموصوف مع وصفه، فعدم التعدد يكون للمحكوم عليه باعتبار الموصوف. قال الله تعالى:«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً» حكم على الناس فيما كانوا عليه بقوله «أمة واحدة» فعدم التعدد ثابت

(1) يأتي لهذا مزيد في مسألة الجهة. المؤلف

ص: 124

للناس باعتبار «أمة» أي لم يكونوا أمتين أو أكثر، وقد يصرح في الكلام بالمحكوم عليه وبالموصوف كما رأيت، وقد يطوى ذكر أحدهما فيعرف بالتدبر، ولا أطيل بأمثلة ذلك.

وعلى كل حال، فإنه يأتي على أحد معنيين:

الأول: نفي التعدد في المحكوم عليه نفسه كالمثال السابق: نفي أن يكون الناس كانوا أمتين أو أكثر.

المعنى الثاني: نفي أن يكون مع المحكوم عليه مثله أو مثلاه أو أمثاله باعتبار الموصوف فيكون المجموع متعدداً، ومن ذلك قوله تعالى:«وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» أي ليس معه آله آخر أو أكثر فيكون المجموع متعدداً، ومن هذا الثاني قولهم: فلان واحد في فنه. واحد زمانه، أي لا نظير له في ذلك.

إذا تقرر هذا فلنذكر الآيات التي ورد فيها هذا الاسم. قال تعالى فيما قصة عن يوسف عليه السلام: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا» يوسف 39 - 40

وقال عز وجل: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» الرعد - 16.

وقال سبحانه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ. سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ

ص: 125

وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» . خواتيم سورة (إبراهيم) .

وقال تبارك وتعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» ص - 65 - 66.

وقال تعالى: «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ. لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» الزمر - 3 - 4

وقال سبحانه: «يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ» غافر - 16

هكذا جاء هذان الاسمان الكريمان «الواحد القهار» في القرآن مقترنين معرفتين في المواضع كلها، وكل ذلك في سياق إقامة الحجة على المشركين في الألوهية الزاعمين أن لله شركاء في استحقاق العبادة.

فالكلام جارٍ على المعنى الثاني، وهو نفي الحاصل بجود مثله معه في الربوبية وما يقتضي استحقاق العبادة، وسياق الآيات واضح جداً في ذلك، وإنما ادعى بعضهم المعنى الأول في آية (الزمر) فقال: إن إمكان أن يكون له ولد، يستدعي التركيب والانفصال والوحدة تنافي التركيب. والتركيب الذي يريده الفلاسفة والمتكلمون ليس من التعدد الذي تعقله العقول الفطرية في شيء، «الواحد» بالمعنى الثاني الولد بدون تكلف فإنه لوكان له سبحانه ولد لكان نظيراً له في القدرة وغيرها فيكون رباً مستحقاً للعبادة، وقد قال تعالى:«وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً.» مريم: 92 - 93.

وقال تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

ص: 126

كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ» . البقرة: 116.

وقال سبحانه: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ» . الأنبياء: 26

فحصل المقصود مع بقاء الاسم «الواحد» (1) على معناه المعروف الموافق لسائر الآيات.

هذا ولما كان الاسم «الواحد» إنما هو صريح في نفي النظير في الربوبية، وما يقتضي استحقاق العبادة، وليس بالصريح في نفي المشارك في ذلك مشاركة تقتضي استحقاق العبادة في الجملة أردف في الآيات كلها بالاسم «القهار» ليتمم المعنى المقصود، وجاء الاسمان معرفين لأن ذلك معروف مسلم عند المشركين، كما يوضحه الآيات الأخرى التي تقدم ذكر بعضها في الكلام على قوله تعالى:«ليس كمثله شيء» . والله الموفق.

وأما سورة الإخلاص ففي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لم يعيدني كما بدأني

وأم إياي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفؤا أحد» وفي رواية:

«وأنا الصمد الذي لم ألد

» وقال الترمذي: «حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبوسعد - هو الصاغاني - عن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين

(1) من أدل شيء على أن الوصف بالواحد أو الأحد أو الوحيد لا ينفي الصفات عمن وصف بذلك الله تعالى وصف فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة متوعداً متهدداً بقوله (ذرني ومن خلقت وحيداً) الخ فوصفه بالوحيد بمعنى الواحد ولم ينفي عنه ذلك الوصف أن يكون إنسان له أو صاف أخرى من يدين ورجلين ووجه ورأس الخ، فوصف الله تعالى بالأحدية لا ينفي صفاته الأخرى، إفادة الإمام أحمد في «رده على الجهمية» الذين نفوا صفات الله تعالى من وصفه بالأحد والواحد. م ع

ص: 127

قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انسُب لنا ربك، فأنزل الله:«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ» ، فالصمد الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، ولا شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت ولا يورث. «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء» .

ثم قال الترمذي: «حدثنا بن حميد حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرزاي عن الربيع عن أبي العالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم، فقالوا: أنسُب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه السورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - فذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا أصح من حديث أبي سعد» .

أقول: أبوسعد قال فيه الإمام أحمد: «صدوق، ولكن كان مرجئاً» وقال أبوزرعة: «كان مرجئاً ولم يكن يكذب» وضعفه الباقون، قال ابن معين في رواية:«ضعيف» وفي أخرى: «كان جهمياً وليس هو بشيء» ، وفي ثالثة:«صاحب ابن أبي دؤاد كان هاهنا وليس هو بشيء» ، وفي رابعة:«جهمي خبيث» . وقال البخاري في موضع: «فيه أضطراب» ، وآخر: متروك الحديث» ، وفي ثالث:«ليس بثقة ولا مأمون» .

لكن لم ينفرد أبوسعد بوصل الحديث فقد أخرج الحاكم في (المستدرك) ج 2 ص 540: «أخبرنا أبوعبد الله محمد بن يعقوب الحافظ وأبوجعفر محمد بن علي قالا: ثنا الحسين بن الفضل ثنا محمد بن سابق ثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن المشركين قالوا: يا محمد، أنسُب لنا ربك، فأنزل الله عز وجل: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ» ، قال: الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد

» بمثل حديث أبي سعد، ومحمد بن سابق ثقة جليل إلا أن في ضبطه شيئاً حتى قال أبو حاتم:«يكتب حديثه ولا يحتج به» .

ص: 128

وقد صحح ابن خزيمة والحاكم هذا الحديث. (1) وأخرج ابن جرير من طريق إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي عن جابر قال: «قال المشركون: أنسُب لنا ربك، فأنزل الله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» » . وأخرج عن قتادة قال: «جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:أنسُب لنا ربك، فنزلت

» وعن سعيد بن جبير نحوه مطولاً، وعن عكرمة: أن المشركين قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن ربك، صف لنا ربك، ما هو؟ ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله تعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» » .

والذي يصح في الباب حدبث البخاري، ثم يليه حديث أبي العالية، وقد شهد له حديث جابر، وسنده صالح للمتابعة.

وحديث البخاري يدل على أن أشد ما كان المشركون يعتدون فيه في حق الله تبارك وتعالى هو شكهم في قدرته على البعث، وقد أخبر به، ونسبتهم إليه الولد، والقرآن يؤيد ذلك (2) فإنه كرر تثبيت البعث ونفي الولد في مواضع كثيرة، فأما شركهم في الألوهية فكان عندهم مرتبطاً بدعوى الولد كما هو بين من عدة آيات، وقد أوضحت ذلك في كتاب (العبادة) وتبين لي أن أول ما سرى إلى العرب نسبته إليه تعالى كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، على معنى أنهم مقربون إليه، ولم يقولوا: أبناء الله، خشية إيهام أن يكونوا نظراءه فقالوا: بنات الله، لأن الإناث عندهمضعيفات، وليس لهن ميراث من آبائهن، ثم طال الزمان فصار أخلافهم يقولون: بنات الله، ولا يحققون المعنى، ولم يكونوا يثبتون أن الله عز وجل

(1) قلت: وكذا صححه الذهبي في «تلخيص المستدرك» وفيه بعد، لأن أبا جعفر الرزاي فيه ضعف كما سبق بيانه في التعليق على حديث اللقنوت في الفجر ج 1 ص 147. لكن حديث جابر الآتي بعده يشهد له في الجملة. ن

(2)

أي يؤيد ما أقاده حديث البخاري من شكهم في قدرة الله تعالى على البعث فكرر الرد عليهم في ذلك بذكر أدلة قدرته على البعث، وذكر نفي الولد عنه بالحجج والبينات الواضحة التي تقطع شبههم وتقيم الحجة عليهم. محمد عبد الرزاق

ص: 129

صاحبة، ولذلك يقولون: احتج عليهم القرآن بقوله: «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ» . فدل هذا على أن انتفاء الصاحبة أمر مسلم، وفي قصة إسلام طلحة أنه جاء وجماعة معه إلى أبي بكر، فقال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى، فقال أبو بكر: واللات والعزى؟ فقال طلحة: بنات الله، فقال أبو بكر: ومن أمهم؟ فأسكت طلحة، ثم قال لأصحابه: أجيبوا الرجل، فأسكتوا، فأسلم طلحة.

فأما قول الله عز وجل: «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا» ، فالمراد بالجنة هاهنا: الملائكة، والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات له، وما روي أنهم كانوا يقولون إن أمهاتهم بنات سروات الجن، ولم يصح، ولوصح لكان الظاهر أنهم اخترعوا هذا بعد قصة طلحة، واللات والعزى ومناة كانت عندهم أسماء لتلك الإناث التي زعموا أنها بنات الله، ثم جعلوا لتلك الإناث تماثيل وسموها بأسمائها، كما جرت به عادة المشركين في أصنامهم، بل عادة الناس جميعاً في إطلاقهم على التمثال والصورة اسم من يرون أن ذلك ثمثال أو صورة له. وبهذا التحقيق يتضح معنى آيات النجم، وقد أوضحت ذلك في كتاب (العبادة) بما يثلج الصدر. والحمد لله.

والمقصود هنا أن الذي يظهر من الآثار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صارح المشركين بإبطال قولهم في الإناث التي يجعلونها آلهة من دون الله، يزعمون أنها الملائكة، وأنها بنات الله، ويمثلون التماثيل بأسمائها ويعظمونها تعظيماً لها، وصارحهم بنتزيه الله عن الولد، قالوا: أنسُب لنا ربك، طمعاً منهم أن يجيبهم بما يستخرجون منه شبهة يشدون بها قولهم، فأنزل الله تعالى هذه السورة.

فأما تحقيق معناها فلفظ «أحد» زعم ابن سينا ومن وافقه أنه الواحد من جميع الوجوه المنزه «عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة» . وهذا ما نقلوه من عباراته المموهة. وهو ومن وافقه يوهمون أنهم إنما يجتهدون في تنزيه في تنزيه عز وجل، وهو في نفس الأمر بعيد عن ذلك، كما يعلم من نفيهم صفات الكمال عنه، وإنما غرضهم توجيه وجوده تعالى، أي وُجُودُه من غير علة. وبعبارة

ص: 130

أوضح في العقول الفطرية توجيه وجوده من دون أن يوجده موجد. وذلك أن الفطرة والعقل قاضيان بأن الموجود من هذا الأشياء التي نراها لابد له من موجد، وأنه مهما كان لبعضها صانع منها فإن فوقها جميعها رباً هو الموجد الحقيقي. ولكن كثيراً من النفوس لا تقنع بهذا حتى تقول: فهذا الموجد الحقيقي من أوجده؟

فإن قيل: لا موجد له.

قالت: وكيف وجد من غير موجد؟ فإذا قيل: هذا السؤال إنما يأتي فيما ثبت أو جاز أنه لم يكن ثم كان، وذلك كأن تمر ببقعة لا بيت فيها ثم تمر بها وفيها بيت، وكالشمس فإن العقول الفطرية حتى الساذجة تجيز أن يخلق الله تعالى شمساً أخرى غير هذه الشمس، وتجيز أن يكون قد مضى زمان لا شمس فيه ثم خلق الله تعالى هذه الشمس، وهكذا سائر المخلوقات، وإنما قد تتوقف العقول الفطرية في بعض الأشياء التي لا ضير في التوقف فيها من جهة العقل، وذلك كالفضاء والزمان فإنهما أمرين عدميين كما عليه المتكلمون فالأعدام أزلية، (1) وإن كانا موجدين فلا يصلحان ولا واحد منهما أن يكون رباً أو جد هذه الموجودات. والمقصود أنه في مثل البيت والشمس يأتي ذلك السؤال فيقال: لم يكن موجوداً فمن أو جده؟ فأما الموجود الحق الذي ثبت أنه لم يزل فلا يأتي في حقه ذاك السؤال أصلاً.

فقد لا تطمئن النفس لهذا حق الاطمئنان، وقد نبه الشرع على هذا وعلى علاجه، ففي (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن أبي هريرة «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله (2) ولينته» لفظ البخاري في

(1) أوضح من هذا أن يقال: الأعدام عدم والعدم لا يتصوره العقل وإنما يتخيل بتصور ضده ن الموجودات، فإذا طرد من بين الموجودات فلا يتصور أن يكون موجداً لشيء منها ونحن في غنى عن تخيل أزلية أو غيرها للعدم. م ع

(2)

ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية رداً على الرازي في تشكيكه أن الاستعاذة بالله كيف تكون هلاجاً في دوام وجود الله وعدم أوليته؟ أفاد شيخ الإسلام أن الشك في العلوم =

ص: 131

«بدء الخلق» وفيهما من حديث أنس «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟ لفظ البخاري في «الاعتصام» . وفي (مسند أحمد) من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوالأول وفيه «فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه» . (1)

فمن أيقن بما قدمناه أول الرسالة من مرتبة الشرع فزع إليه فوجد الشفاء من تلك الوسوسة، ومن لم بفزع إليه وحاول الاكتفاء بذلك الجواب، وهو أن ذلك السؤال لا يرد أصلاً جاءه الشيطان من طريق أخرى فقال: إن كان هذا الذي تقوله أنه الموجد الحقيقي أو أنه واجب الوجود شبيهاً بهذه المحسوسات فحكمه حكمها، وإلا فماذا عساه أن يكون؟ فإذا دفع ذلك بنفي تلك الذات المقدسة بحجة أنه لم يرها، ولا رأى ما تكون من جنسه، وما كان هكذا فلا سبيل إلى تصوره، فالأكمة لا يتصور الألوان حتى أنه حتى لا يحلم في نومه بأنه أبصر شيئاً جاءه الشيطان من جهة أخرى فاستعرض ما يثبته العقل والشرع لله عز وجل فيعمد إلى أمر من ذلك فيقول: إن ثبت هذا لتلك

= النظرية يدفعه التفكير والبحث وأخذها من البديهيات والقطعيات والضرويات فهنا مرض عقلي ووسواس لا علاج له إلا الرجوع إلى طبيب العقول وهادي النفوس ومصححها وشافيها. وقد استشفى الغزالي بهذا الدواء حينما أصيب بهذا الشك في المحسوسات. وقد قال الشاعر:

وليس يصح في الاذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

وقد قال ابن عقيل الحنبلي لرجل سأله أنه يغتسل ويتوضأ ويشك في وصول الماء إلى جسده وأعضائه؟

فقال ابن عقيل: سقط عنك التكليف لأنك مجنون وقد رفع القلم عن المجنون أو نحو هذا. م ع

(1)

قلت: وإسناده حسن، وهو صحيح لغثير كما بينته في «الأحاديث الصحيحة» (116) . ن

ص: 132

الذات كانت شبيه بهذا المحسوسات فيلزم الافتقار. فأما من وفقه الله عز وجل فإنه لا يعدم مخلصاً، وأم المخذول فإنه يرى أنه مضطراً إلى نفي الأمر، ثم يعمد الشيطان إلى أمر آخر فيقول: وهذا كالأول، وهكذا حتى يأتي على عامة تلك الأمور، ومنها لوازم الوجود فلا يبقى للإنسان إلا اعتقاد وجود يعتقد انتفاء لوازمه. وقد لا يكتفي الشيطان منه بهذا، بل يقول له: وكيف تعقل مثل هذا؟ وما تظنه حجة على الوجود قد جربت أمثاله في تلك الأمور، فليس هناك حجة، وإنما هي شبهات نسجتها الأوهام والأغراض في العصور المظلمة، فكن حر الفكر، قوي الإرادة، وخلص نفسك من تلك القيود والأغلال، فإنك في عصر العلم! (1)

فهذه هي الحقيقة والغاية لتلك الوحدة التي موه ابن سينا عبارته عنها، فإنه يزعم أن ذات الله عز وجل ليست منفصلة عن العالم ولا متصلة به، ليست خارجة عنه ولا هي فيه، ليست مباينة له ولا محاثيه (2) ، لم توجد الذوات الأخرى حين وجدت خارج ذات الله عز وجل قريباً أو بعيداً ولا داخل ذاته. والمتكلمون وافق أكثرهم ابن سينا على هذا الأصل، ثم يقع الخلاف في التفريع فابن سينا وموافقوه يقولون: لا قدرة لله عز وجل ولا إرادة ولا علم بالجزئيات، واستحيا بعضهم فقال: يعلم ذاته، وعندهم أنه لا شأن لله عز وجل بخلق ولا تقدير ولا اختيار ولا تدبير، بل عندهم أنه سبحانه ليس برب للعالم، وإنما هو السبب الأول لوجوده في الجملة، وذلك أن

(1) واستعذ بالله من تلك الوساوس كما أرشد إلى ذلك الحديث وادع لها بالدعاء المأثور: «اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما له يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك انك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم» . وآثر عن الشيخ ابن تيمية رحمه الله أنه كان إذا أشكلت عليه مسالة توجه إلى الله تعالى وقال: يا معلم إبراهيم أهدني إليها. فيفتح عليه بها الفتاح العليم. م ع

(2)

ضد مباينة أي يوجد والكلمة مشتقة من (حيث) ظرف المكان، كما يقال: جلست حيث يجلس القاضي مثلاً.

ص: 133

أصول الموجودات عندهم أشياء قديمة:

أحدها: وجود محض هو عندهم الواجب لذاته، أو قل:«الله» .

الثاني شيء نشأ عن الأول بدون قدرة للأول ولا إرادة ولا علم! ويسمون هذا الثاني «العقل الأول» قالوا ونشأ عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك وهكذا إلى عشرة عقول وتسع أنفس وتسعة أفلاك! قالوا والعقل العاشر هو العقل الفعال وهو المدبر للعالم السلفي بواسطة الكواكب وتغير مواضعها. وشأن عندهم لله تعالى بالموجودات البتة خلا أنه كان في القدم سبباً محضاً لوجود العقل الأول بدون قدرة ولا إرادة ولا اختيار ولا علم! (1) ومن تدبر هذا علم أن البعوضة تملك من العلم والقدرة والإرادة والاختيار والتصرف مالا يسمحون لله عز وجل بلمك عشر معشاره! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. هذا مع ما في ترتيبهم المذكور على أصولهم فضلاً عن غير الاختلال، بل هو هو س يخجل العاقل من نسبة القول به إلى من يشاركه في الانسانية!

وقولهم: إن ذات الواجب وجود محض. أو رد عليه أن الوجود عندهم من المعقولات الثانية وهي عندهم أمور معدومة. فعلى هذا تكون ذاته عندهم عدماً، والعدم لا يكون سبباً لوجود. أجاب بعضهم بأن الوجود الذي هو ذات الواجب في زعمهم وجود خاص وهو موجود وإنما المعدوم الوجود المتعارف، قالوا: والداعي لهم إلى القول بأن ذات الواجب وجود خاص أنها لوكانت شيئاً آخر احتاجت إلى ما يفيدها الوجود، فإن كان غيرها كانت ممكنة، أو بلسان الجمهور كانت هي أو جدت نفسها فهذا محال. وقد أطال المتكلمون البحث في هذا. ويمكن أن يقال على وجه الالزام: ذاك الوجود الخاص إن لم يكن متصفاً بهذا الوجود المتعارف، اتصف ضرورة بنقيضه وهو العدم، والمعدوم مفتقر في أن

(1) بل بطريق التولد وقد أوضح شيخ الإسلام الرد عليهم في تفسير سورة (الإخلاص) وأن ذلك من نوع نسبة الولد إلى الله تعالى التي نقته السورة المذكورة. م ع

ص: 134

يوجد إلى غيره حتماً، وإن كان متصفاً به وقعتم فيما فررتم منه.

وفي (حواشي عبد الحكيم) على (شرح المواقف) : «الصواب عندي أن لا إيجاد ههنا بل هو اقتضاء الماهية للوجود، والمقتضي لا يلزم أن يكون موجداً، ألا ترى أن الماهيات مقتضية للوازمها وليست فاعلة لها

كيف والإيجاد الخارجي لابد له من موجود وموجد في الخارج، وليس في الخارج ههنا إلا الماهية المقتضية للوجود، واعتبار التعدد فيها باعتبار أنها من حيث هي موجد ومن حيث الاتصاف بالوجود موجد إنما هو في الذهن» . (1)

أقول: فمن فهم هذا وقنع به فذاك، وإلا فينبغي أن يدع التعمق ويرجع إلى اليقين وهو أن الله عز وجل هو الحق الذي لم يزل، وأنه خالق كل شيء، وليستعذ بالله ولينته (2) .

(1) أقول: وهذا الهوس نظير ما في الحديث من وسوسة الشيطان بقوله: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟. وعلاجه الاستعاذة بالله واللجوء إلى طب الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. م ع

(2)

وليحمد الله أن عافاه من تفكير يؤدي إلى أن الله موجد - بتفج الجيم - في الذهن، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - فإن ابتليت من هذا الهو س فخدر نفسك من الجهل والغباوة والاشتغال بشيء من علوم الدنيا فلك وجبر وهندسة حتى تصحومن تلك السكرة ثم ابتدئ التفكير والنظر بأسلوب الأنبياء والصديقين وخذه من القرآن والحديث، وسيرة الرسول وخلفائه وسلف الأمة وسر في ركابهم واربط رقبتك في عجلتهم وتلمس غبار غبار قافلتهم، فإن نازعتك نفسك الا البحث الضيق فزج بها في أحضان علوم الكون والخليقة من فلك وطب وزراعة وسياسة واجتماع وصناعة فهي بحار تكفي لسباحة السابحين وخوض الخائضين، والغرق فيها مأمون العاقبة لا يخشى عليه الهلاك الأبدي والكفر بالله تعالى، بل أما انقاذ إلى شاطئ الحياة الدنيا، أو الموت على الإسلام شهيداً أو قريباً من صفوف الشهداء، ببركة البعد عن شكوك الشاكين في الله تعالى، وببركة السير على صراط أنبياء الله ورسله والصديقين والصالحين من عباده وحسن أولئك رفيقاً. م ع

ص: 135

وقد سمعت بعض الأكابر يذكر عن جد أبيه وهو من المشهورين أنه إذا كان ذكر له ما يسميه المتأخرون على التوحيد قال: «إنما هو علم التوحيل» .

أقول: وتلك المناقضات والمعارضات والوساوس بحر من الوحل لا ساحل له إلا من جهة واحدة فمن جاء من تلك الجهة فخاض في ذاك الوحل لم يزده الإمعان فيه إلا تورطاً، فالسعيد من أعانه الله عز وجل على الرجوع إلى الساحل. (1)

والمقصود هنا أن المتفلسفين لما أصلوا ذاك الأصل وهو أن ذات الله تعالى ليست منفصلة عن العالم ولا متصلة به أمعنوا في النفي كما تقدم. فأما المتكلمين الذين وافقوا على هذا الأصل فيضطربون في التفريع، يثبت أحدهم أمراً فيجئ الذي بعه فيجد أنه مضطر إلى نفيه بمقتضى الاعتراف بذاك الأصل، وهكذا.

وعلى كل حال فابن سينا نفسه معترف بأن تلك الوحدة تأباها العقول الفطرية، وهي عقول الجمهور ومنهم الصحابة والتابعون، وتقطع أن حاصلها العدم المحض، ويعترف بأن الشرائع جاءت بضد تلك الوحدة وقد مر كلامه، ويوافق عليه من يتعانى التحقيق من المتكلمين كما يأتي في مسألة الجهة الغزالي والتفتاني، وإذا كان الأمر هكذا فلا ريب أنه لا وجه لحمل قول الله عز وجل «أحد» على تلك الوحدة، فلنطلب معنى آخر.

قال بعض السلفيين أنه «الواحد في الربوبية والألوهية لا رب سواه، ولا آله إلا هو» . وهذا المعنى محتاج إلى التطبيق على السياق، وسبب النزول، وذلك ممكن بنحوما مر في «الواحد» لكن يبقى هنا سؤال وهو: لماذا جاء الاسم «الواحد» في القرآن معرفاً وجاء «أحد» غير معرف؟

وهنا معنى ثالث. في كتب اللغة أنه قال «رجل وحد لا يعرف نسبه ولا أصله» ، وعن ابن سيدة أنه يقال «رجل أحد» بهذا المعنى وفي القاموس «رجل

(1) ساحل السلامة من الفطرة وطريقة الرسل والأنبياء. م ع

ص: 136

وحد وأحد محركتين ووحد ووحيد ومتوحد منفرد» قال شارحة: «وأنكر الأزهري قولهم: رجل أحد

لأن أحداً من صفات الله عز وجل التي استخلصها لنفسه» وفي القاموس (أح د) : «الأحد بمعنى الواحد، أي الأحد لا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى» . قال الشارح بعد قوله: الأحد: «أي المعرف باللام الذي لم يقصد به العدد المركب كالعدد عشرة ونحوه» . ثم قال الشارح أخيراً: «وهو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر، وقيل: أحديته معناها انه لا يقبل

التجزي لنزاهته عن ذلك، وقيل: الأحد الذي لا ثاني له في ربوبيته، ولا ذاته، ولا في صفاته» .

أقول: فالظاهر أن «وَحِد وأحد» الذي قالوا: أنه لا يعرف نسبه وأصله، وإنما حقيقته أنه بمعنى: منفرد، ثم لوحظ فيه التقييد، أي «منفرد عمن يكن من نسبه وأصله» . لا يوجد من يكون نسيباً له، ولكن لما كان هذا ممتنعاً في الرجل إذ لابد في غير آدم وعيسى من أن يكون له أب ويغلب له عم وابن عم وإن بعد وغير ذلك وإنما غايته أن لا يعرف نسبه وأصله عبروا بهذا، والمعنى الحقيقي ثابت لله تبارك وتعالى، فإنه لا نسيب له ولانسب البتة، وبهذا يتضح موافقة سبب النزول وهو قول المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنسب لنا ربك، ولما كان هذا الوصف قد يطلق على غيره تعالى بمعنى أنه لا يعرف نسبه وقد يطلق على آدم بمعنى أنه لا أب له وإن كان مخلوقاً من الطين، وكذلك عيسى وإن كان له نسب من جهة أمه ونحو هذا يقال في الملائكة وأبي الجان، لما كان الأمر كذلك قيل:«قل هو الله أحد» ولم يقل «الأحد» وأكد ذلك أن المشركين لما قالوا: أنسب لنا ربك، اقتضى ذلك أنهم يزعمون أن الله عز وجل ليس أحداً بذاك المعنى بخلاف «الواحد» في الربوبية فإنهم يعترفون به كما تقدم. وهذا المعنى هو المناسب لسبب النزول كما مر، ومناسبته للسياق واضحة أيضاً.

وقوله سبحانه: (الله الصمد) تقدم في حديث البخاري في رواية «شتمه إياي قوله: اتخذ الله ولداً، وأن الصمد

» وفي حديث أبي العالية «فالصمد الذي لم

ص: 137

يلد ولم يولد..» وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب «الصمد الذي لم يلد ولم يكن له كفواً أحد» يظهر أن المراد أن الصمد يستلزم أنه لم يلد ولم يولد، وتوجيه ذلك يعلم مما يأتي: أخرج ابن جرير من وجهين صحيحين عن مجاهد قال: «الصمد المصمت الذي لا جوف له» . ومن وجه صحيح عن الحسن البصري قال: «الصمد الذي لا جوف له» . ومن وجه صحيح عن سعيد ابن جبير سئل عن الصمد فقال: «الذي لا جوف له» . ومن وجه صحيح عن عكرمة قال «الصمد الذي لا جوف له» . ومن وجه آخر صحيح عن عكرمة أيضاً قال: «الصمد الذي لا يخرج منه شيء» زاد في رواية «لم يلد ولم يولد» . ومن وجه صحيح عن الشعبي قال: «الصمد الذي لا يطعم الطعام» . وفي رواية «الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب» . ومن وجه فيه ضعف عن عبد الله بن أبي بريدة عن أبيه قال عبد الله: «لا أعلمه إلا قد رفعه (يعني إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الصمد الذي لا جوف له» ومن وجه فيه ضعف عن ابن عباس قال: «الصمد الذي ليس بأجوف» . ومن وجه ضعيف عن ابن المسيب قال: «الصمد الذي لا حشوة له» .

هذه الأقوال كلها تعود إلى مثل قول مجاهد، واستلزم هذا المعنى لنفي الولد والوالد كما في حديث البخاري وحديث أبي العالية وقول محمد بن كعب ظاهر، وذلك أن من يكون كذلك لا يمكن أن يكون له ولد على الوجه المعروف في التناسل أو نحوه، لأن ذلك يتوقف على أن يخرج من جوف الأب شيء يتكون منه الأب، وهكذا من كان كذلك لا يكون له أب لأن الأب لابد أن يكون شبيه الابن في الذات، ففرض أب للمصمت الذي لا جوف له يستلزم نفي الأبوة - وهذا المعنى مع صحته عن أكابر من التابعين كما رأيت واضح المناسبة للسياق، ولحديثي البخاري وأبي العالية، ولتقديم «لم يلد» فإن دلالة هذا المعنى على أنه لم يلد أقرب من دلالته على أنه لم يولد كما لا يخفى. لكن أخرج ابن جرير من وجه صحيح عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: «الصمد السيد الذي قد انتهى

ص: 138

سودده» . وقال: «حدثنا علي (1) قال: ثنا أبوصالح قال ثنا معاوية عن علي عن إسماعيل عن ابن عباس في قوله: «الصمد» ، يقول: السيد الذي كمل في سودده والشريف الذي قد كمل شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته التي لا تنبغي إلا له» .

والسند عن أبي وائل فيه الأعمش، وهو مدلس مشهور بالتدليس، وربما دلس عن الضعفاء، (2) والسند عن ابن عباس فيه كلام وهو مع ذلك منقطع، علي ابن أبي

(1) علي هو ابن داود بن يزيد التميمي القنطري من شيوخ ابن جرير ومن تلاميذ أبي صالح عبد الله ابن صالح كاتب الليث بن سعيد عن معاوية بن صالح الحضرمي عن على بن أبي طلحة الوالي عن ابن عباس رضي الله عنه. م ع

قلت: القنطري هذا ثقة صدوق، ولم يتفرد به. فقد قال ابن أبي حاتم في «تفسيره» حدثنا أبي ثنا أبوصالح به. كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في «تفسير سورة الإخلاص» ص 5، لكن السند فيه ضعف وانقطاع كما يأتي عن المصنف رحمه الله تعالى. ن

(2)

رواية الأعمش عن أبي وائل معتمدة في «الصحيحين» لاختصاصه به، فلا يضره وجود شيء من التدليس في غير روايته عن أبي زائل، ولو تنطعنا في رد رواية رمى بشيء من التدليس لرددنا رواية كثير من الأئمة كمالك والثوري وغيرهما، راجع رسالة الحافظ ابن حجر في مراتب المدلسين. وأما رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فأقصى ما يكون من أمرها أخذها عن مجاهد وابن جبير وهما من خيار ثقات أصحاب ابن عباس، فاستندت إلى أقوى ركنين من أركان الرواة عن ابن عباس فزادت قوة بما يظن أنه يوهنها، ولذلك اعتمدها أئمة التفسير المأثور كابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما. والله أعلم. م ع

قلت: ما ذكر فضيلته في رواية الأعمش عن أبي وائل وجيه، وكذلك رواية علي عن ابن عباس، إن ثبت أن بينهما مجاهد وسعيد، ولكن أين السند بذلك؟ وما ذكره من =

ص: 139

طلحة أجمع الحفاظ كما في (الإتقان) عن الخليلي على أنه لم يسمع من ابن عباس، وقال بعضهم: إنما يروي عنه بواسطة مجاهد أوسعيد بن جبير.

ولا دليل على أنه لا يروي عنه بواسطة غيرهما، والثابت عنهما في تفسير الصمد خلاف هذا كما مر، لكن ابن جرير قال: «الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه الذي لا أحد فوقه، وبذلك تسمى به أشرافها ومنه قول الشاعر:

ألا بكر الناعي بخيري بني أسد

بعمروبن مسعود وبالسيد الصمد

وقال الزبرقان:

ولا رهينة إلا سيد صمد.

فإذا كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف من كلام من نزل القرآن بلسانه، ولوكان حديث ابن بريدة صحيحاً كان أولى الأقوال بالصحة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بما عنى الله جل ثناؤه وبما أنزل عليه.

أقول: الذي يدل عليه البيتان مع مراعاة الاشتقاق أن «صمد» بمعنى: مصمود

= اعتماد ابن جرير وابن أبي حاتم لروايته عن ابن عباس، فيه نظر، فإن مجرد الاعتماد على الرواية لا يدل على ثبوت إسنادها، لجواز أن يكون هناك ما يشهد لها من سياق أوسبب نزول، وأو غير ذلك، مما يسوغ به الاعتماد على الرواية مع كون إسنادها في نفسه ضعيفاً. على أنه ليس من السهل إثبات أن الإمامين المذكورين اعتمدا هذه الرواية في كل متونها، الله إلا إن كان المقصود بالاعتماد المذكور إنما هو اخراجهما لها، وعدم الطعن فيها، وحينئذ، فلا حجة لثبوت اخراجهما لكثير من الروايات بالأسانيد الضعيفة، وقد ذكرت بعض الأمثلة على ذلك من رواية ابن أبي حاتم في بعض تأليفي، منها قصة نظر داود عليه السلام إلى المرأة وافتتانه بها وقصة هاروت وماروت، وقد خرجتهما في «سلسة الأحاديث الضعيفة» برقم (314 / 170) .

على أنه لو سلمنا بما ذكر فضيلته من الاتصال، فلا يسلم السند إلى علي من كلام كما ذكره المصنف، مشيراً بذلك إلى الضعف الذي عرف صالح كاتب الليث، ففي «التقريب» :«صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة» . ن

ص: 140

إليه كثيراً، فأما زيادة «الذي لا أحد فوقه» فتؤخذ في الآية من القصر الذي يقتضيه تعريف الجزئين. وهذا المعنى وإن كان كأنه أشهر في العربية فالمعنى الأول معروف فيها، والاشتقاق يساعد المعنيين، وفي (اللسان) : «قال أبو عمرو: الصمد من الرجال الذي لا يعطش ولا يجوع في الحرب وأنشد:

وسارية فوقها أسود

بكفي سبتني ذفيف صمد

(السارية) الجبل المرتفع الذاهب في السماء كأنه عمود، والأسود العلم بكف رجل شجاع» .

أقول: وهذا على المبالغة أي كأنه لا جوف له فيجوع ويظمأ. وكفى دلالة على صحة المعنى الأول ثبوت القول به من أئمة التابعين، ثم هو الأوضح مناسبة للسياق وسبب النزول. وذهب بعض الأجلة (1) إلى تصحيح كلا المعنيين. وهذا إما مبني

(1) كأنه يعني به شيخ الإسلام ابن تيمية في «تفسير سورة الإخلاص» له. وتصحيحه للمعاني الواردة على أئمة المفسرين من الصحابة والتابعين ليس من باب استعمال المشترك في معنيه أو معانيه ولا من باب التخيير الإباحي ولكنه رضي الله عنه صححها كلها لأنها متلازمة، ولك معنى منها وجه من وجوه معنى الصمد، فالسيد الذي كمل في سؤدده وعلمه وحلمه وحكمته وغناه هو الذي استغنى عن الطعام والشراب، وتعالى عن الجوف والبطن والمعدة والأمعاء.

وشيخ الإسلام يرى فيما نقل من أقوال السلف في التفسير أنها متلازمة متشابهة لا اختلاف فيها، وكثير منها بل أكثرها من باب التمثيل وتقريب المعنى، ويذكر وجه من وجوهه ونوع من انواعه، كما لوسألك أعجمي عن الخبز فأشرت إلى رغيف وقلت له هذا، وأشار إلى رغيف بشكل آخر، وقال: الخبز هذا، وأشار ثالث إلى فطير أو بقسماط أو بقلاوة، وقال: مثل هذا، فتجمع هذه التفاسير عند الأعجمي على معنى كلي أنه ما صنع من دقيق الحب، ولوتنوعت كيفيات الصناعة، فكلها خبز أو من نوع الخبز أو شبيه به وحينئذ فلا تعارض ولا تناقض. وكذلك إذا تأملنا تفاسير السلف للصمد وجدناها متلازمة يشرح بعضها بعضاً ويبني بعضها بعضاً تجتمع كلها على إثبات عظمة الله وتنزيهه عن النقائص. والله أعلم. م ع

ص: 141

على صحة استعمال اللفظ المشترك في معنييه معاً، وإما على ما يشبه التخيير الإباحي، كأنه قيل: من فهم هذا وبنى عليه فقد أصاب، ومن فهم هذا وبنى عليه فقد أصاب.

والمتكلمون يقولون: إن المعنى الأول محال على الله عز وجل، لأن ذلك من صفات الأجسام، ولا شأن لنا الآن بهم، وإنما الكلام ههنا فيما فهمه المخاطبون الأولون، وقد سمعت قول كبار التابعين المروي عن بعض الصحابة، ومن الواضح أنه لا ينافي المعناي التي ينكرها المتعمقون من آيات الصفات وأحاديثها، وكذلك المعنى الثاني لا ينافيها وإنما حاصلة أن الله سبحانه هو الذي يعمد إلى الخلق فيما قصده فيما يهمهم، وحاصلة أنه سبحانه المنفرد بالربوبية واستحقاق الألوهية، «ومن لوازم ذلك نفي النقائض عنه» . (1)

قوله تعالى: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» واضح ليس فيه ما ينافي تلك المعاني.

قوله سبحانه: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» مر في حديث أبي العالية: «ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء» وأخرج ابن جرير من نسخة على بن أبي طلحة عن ابن عباس: «ليس كمثله شيء فسبحان الله الواحد القهار» وأخرج من وجه صحيح عن مجاهد قال: «صاحبة» ، والمعنى الأول متضمن للثاني، والمنفي ههنا هو الكفء، والمشاركة الإجمالية في الوجود والعالمية والقادرية وغيرها ليست مكافاة إذ الواقع «في الوجود» (1) إنما هو وجود ذاتي واجب كامل، ووجود مستفاد ممكن ناقص، وقس على ذلك، فلوفرض أن تلك المشاركة يصح عليها مشابهة، فالمنفي هنا هو الشبيه المكافئ، فليس في هذا أيضاً ما ينافي المعاني التي ينكرها المتعمقون.

(1) زيادة من فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. ن

ص: 142

المقصد الرابع

المتكلم: أمهلوني حتى أعيد النظر في المقاصد الثلاثة الأولى، وأفكر فيها.

الناقد:فليتكلم السلفي في بقية المقاصد، الرابع فما بعده.

السلفي: كان العرب الذين خوطبوا بالقرآن والسنة أولاً كغيرهم من الناس بعقولهم الفطرية وما توارثوه عن الشرائع أن الله عز وجل «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» فكانوا يعلمون أنه سبحانه ليس بحجر ولا كوكب ولا إنسان ولا طائر ولا جني ولا ملك ولا من المخلوقات التي عرفوها والتي لم يعرفوها بل هو رب كل شيء وخالقه. وقد شهد لهم القرآن بأنهم كانوا يعتقدون وجود الله عز وجل وربوبيته، وأنه يرزق من السماء والأرض، والذي لملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر كله، وله الأرض وما فيها، رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، خلق السماوات والأرض، وسخر الشمس والقمر، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزل من السماء ماء فيحي به الأرض، خلق السماوات والأرض وهو العزيز العليم. إلى غير ذلك. انظر سورة (يونس) : 31، وسورة (المؤمنون) : 84 - 89، وسورة (العنكبوت) : 61 - 63، وسورة (الزمر) : 38، وسورة (الزخرف) : 9 و87، وسورة (البقرة) : 21 - 22 و (تفسير ابن جرير) ج 1 ص 126.

وكانوا كغيرهم من أصحاب العقول الفطرية يعلقون أن الله سبحانه وتعالى ذاتاً قائمة بنفسها، ولم يكن ذلك موجباً أن يتوهموا أنه من جنس ما يرونه ويلمسونه، ولا مماثلاً لشيء من ذلك فقد كانوا يعتقدون وجود الجن والملائكة، وأنها قد تكون بحضرتهم وهم لا يرونها، ولا يسمعون كلامها ولا يحسون بمزاحمتها لهم، ويعلمون

ص: 143

أن الله عز وجل أعلى وأجل وأبعد عن مماثلة ما يرونه ويلمسونه وكانوا كغيرهم من الناس يعلمون أن الموجود القائم بنفسه حقيقة لا يمكن أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، ولا قريباً من غيره من الذوات ولا بعيد عنها، فكانوا يعتقدون أن الله تبارك وتعالى فوق عرشه الذي فوق سمواته.

ولم يكونوا إذا قيل لهم: يد الله، مثلاً ليفهموا من ذلك يداً كأيديهم،، فإنهم يعلمون أن المضاف يختلف باختلاف المضاف إليه، يقال: رأس جرادة، رأس حمامة، رأس إنسان، رأس حصان، فيختلف كما ترى، فما بالك بنحو «يد الله» مع ما قدمنا انهم كانوا يعلمون أنه تعالى ليس بإنسان ولا جني ولا ملك ولا مماثل لشيء من ذلك ولا لغيرها من مخلوقاته، وأنه أعلى وأجل وأكبر من ذلك كله، وأنهم كانوا يعتقدون وجود الجن والملئكة وأنها قد تكون بحضرتهم، لا يرونها ولا يسمعون كلامها ولا يدركون لها حساً ولا أثراً، ويعلمون أن الله تبارك وتعالى أعلى وأجل وأبعد عن مماثلة المحسوسات، والإنسان إذا كان يعرف المضاف إليه أو مثله أمكنه تصور المضاف تحقيقاً أو تقريباً يتأتى معه أن يقال: مثل، أو شبيه، ولم يبق هناك إلا إجمالي، فإذا كان المضاف إليه هو الله عز وجل لم يتصور من يده مثلاً إلا ما يليق بعظمته وجلاله وكبريائه، فلا يلزم من تلك المشاركة الإجمالية أن تكون يده مثل المخلوق ولا شبيهة بها بمقتضى لسان العرب الفطري، فإنه لا يطلق في مثل ذلك «ذاك شبيه بهذا» وقد سبق في أو اخر الكلام على قوله تعالى:«ليس كمثله شيء» ما ينبغي تذكره.

فينبغي استحضار هذا لئلا يتوهم أن العرب كانوا يعتقدون أن لله عز وجل يدين يدي إنسان أو مثلها أو يجوزون ذلك، أو فهموا ذلك من قول الله تعالى:«خلقته بيدي» وقس على هذا، فإن كان في بعض النصوص ما يوهم ظاهره المماثلة فعقول القوم كانت قريبة كافية لصرفه عن ذلك، إلا أن تكون مماثلة في مطلق أمر فهذه قد تقدم تحقيقاً في الكلام على قوله تعالى:«ليس كمثله شيء» .

قال السلفي: وليست جميع النصوص المتعلقة بالعقائد موافقة لما كان عليه

ص: 144

العرب، فقد كانوا ينسبون إلى الله تعالى الولد، وينكرون البعث، إلى غير ذلك مما رده عليهم القرآن.

المقصد الخامس إلى الثامن

قال السلفي: لسنا نلتفت إلى دعوى ابن سينا ومن وافقه ولا إلى نظرهم المتعمق فيه بل نقول: كل ما كان حقاً في نظر المأخذين السلفيين فهو حق، وكل ما كان باطلاً في نظرهما فهو باطل، وقد تقدم في الباب الأول ما فيه كفاية، وبذلك تسقط دعواهم وما بني عليها.

وحاصل كلام ابن سينا ومن وافقه إنما هو نسبة الكذب إلى الله تبارك في كثير مما أخبر به عن نفسه وغيبه، وإلى الرسول في كثير مما أخبر به عن ربه، فإن منهم من اعترف، ومنهم من تقوم عليه الحجة، بأن من تلك النصوص في دلالتها على المعنى الذي يزعمون بطلانه ما هو ظاهر بين، وما هو صريح واضح، وما هو مؤكد مثبت، مع أنه ليس في المأخذين السلفيين ما يصح أن قرينة تصرف أفهام المخاطبين الأولين من كان مثلهم عن فهم تلك الظواهر، بل فيها ما هو واضح كل الوضوح بل، فيها ما هو واضح كل الوضوح في تثبيت تلك الظواهر.

ولا يقتصر أمرهم على هذا بل يلزمه أن يتناول الكذب في زعمهم جميع النصوص الواردة في الثناء على الله عز وجل، وعلى رسوله وعلى كتابه، وعلى دين الإسلام - بالصدق والحق والهداية والبيان والإبانة ونحوذلك كقول الله عز وجل «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً» «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» وغير ذلك مما لا يحصى.

ص: 145

ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة تنزيه الله عز وجل عن الكذب، وتنزيه أنبياءه عن الكذب عليه أي فيما أخبروا به عنه أو عن دينه. وقد تقدم الكلام في ذلك، وفيه بيان تنزههم عن تعمد الكذب فيما عدا ذلك، فإن ثبت أن كلمات إبراهيم عليه السلام مما يطق عليه اسم الكذب، فاظاهر أنها كانت قبل النبوة كما مر، وبالجملة فهي أشد ما حكي عنه الأنبياء، فقد سماها إبراهيم ومحمد عليهما السلام «كذبات» وسميت في الحديث «خطايا» ويرى إبراهيم عليه السلام أنها تقعد به عن رتبة الشفاعة في المحشر، وتقتضي أن يستحي من ربه عز وجل.

وأرى أن أو ازن بين تلك الكلمات وبين النصوص التي زعم المتعمقون بطلان معانيها

الظاهرة ليتضح للناظر أنه يلزم أن يكون إبراهيم أصدق من رب العالمين - لا من محمد فحسب - بدرجات لا نهاية لها. وذلك من وجوه:

الأول: أن كلمات إبراهيم ثلاث فقط لم يقطع منه طول عمره غيرها، وتلك النصوص تبلغ آلافاً، عن أنهم يزعمون أن نصوص التوراة وسائر كتب الله عز وجل كذلك.

الثاني: أن كلمات إبراهيم في مقاصد موقتة، وتلك النصوص تعم الأزمنة إلى يوم القيامة.

الثالث: أن كلمات إبراهيم تتعلق بالذين خاطبهم فقط وتلك النصوص تعم حاجة الناس إليها إلى يوم القيامة.

الرابع: أن كلمات إبراهيم في مقاصد دنيوية ليس فيها إخبار عن الله عز وجل ولا عن دينه، وتلك النصوص في أصل الدين وأساسه.

الخامس: ان إبراهيم لم يكن عند الذين خاطبهم نبياً فيشتد وثوقهم بخبره، وفي الحديث: «كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وانت له لك به

ص: 146

كاذب» ، (1) وتلك النصوص مخاطب بها المسلمون الذين يؤمنون بأن القرآن كتاب الله وأن محمداً رسول الله.

السادس: أن إبراهيم لم يكن قد التزم لمخاطبيه أن لا يحدثهم إلا بالصدق، وتلك النصوص في الكتاب والسنة، وقد قال تعالى:«وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً» ، «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» ، «الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ» وغير ذلك.

السابع: أن كلمات إبراهيم قريبة لإحتمال المعنى الواقع، وتلك النصوص أكثرها بغاية البعد عما يزعم المتعمقون أنه الواقع.

الثامن: أن كلمات إبراهيم لم تؤكد، تلك النصوص كثير منها مؤكدة فيما هي ظاهرة فيه غاية التأكيد.

التاسع أنت كلمات إبراهيم لت تكرر، وتلك النصوص تكرر كثير منها في الكتاب والسنة.

العاشر: أن حال إبراهيم كانت ظاهرة للمخاطبين مقتضية أن يترخص في إيهامهم، وتلك النصوص على خلاف ذلك، فلم تكن حال محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقتضي إلا الصدق المحض، فأما رب العالمين فما عسى أن يقال فيه؟

الحادي عشر: أن إبراهيم احتاج إلى تلك الكلمات، ولم يكن يمكنه قبل ذلك الاستعداد للحوادث لتلك الحوادث بما يغنيه عن تلك الكلمات أو نحوها، وتلك النصوص على خلاف هذا - لولم تكن حقاً، فإن الله عز وجل إنما خلق الناس لعبادته كما تقدم تقريره أو ائل الرسالة، فلوكان الحق في نفس الأمر ما يزعمه المتعمقون لخلق الله

(1) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» وأبو داود في «السنن» من حديث سفيان بن أسيد، وفيه ضبارة بن مالك وهو مجهو ل. ورواه أحمد من حديث النوارس بن سمعان، وفيه عمر بن هارون وهو متروك كما في «التقريب» ، فمن قال في إسناده:«جيد» ، فقد تساهل أو هم. ن

ص: 147

تعالى الناس على الهيئة التي ترشحهم لإدراك ذلك بدون صعوبة شديدة، وذلك بأن يزيد في عقولهم ويهيئ لهم من آيات الآفاق والأنفس ما يقرب إدراك الحق إلى أذهانهم، حتى إذا خاطبهم به في كتبه، وعلى ألسنة رسله، ونبههم على الدلائل القريبة في ذلك أمكن من يحب الحق منهم ويرغب فيه أن يفهم ذلك ويدركه.

فنقول للمتعمقين: ألم يعلم الله عز وجل ما يكون عليه حال الناس؟ أم علم ولكن لم يقدر على أن يخلقهم على الهيئة المذكورة ويهيئ لهم من آيات الآفاق والأنفس ما ذكر؟ أم علم وقدر، ولكن لم يعبأ باقتضاء الحكمة، فضطر سبحانه وحاشاه - أخيراً إلى الكذب والتلبيس الذي يوقع الناس في نقيض ما خلقهم لأجله في ا؟ لأصول وحرصاً على أن يقبلوا بعض الفروع؟ هذا مع ما يترتب على ذلك من المفاسد كما يأتي.

الثاني عشر: أن كلمات إبراهيم كان إبراهيم محتاجاً إليها حاجة محققة، وتلك النصوص - لولم تكن حقاً - على خلاف ذلك، فإن العرب كانوا في جاهليتهم يعترفون بوجود الله وربوبيته وغير ذلك، كما سلف في الجواب عن المقصد الرابع، فلوبنى الشرع أولاً على ما كانوا يعترفون به مما يعترف المتعمقون أنه حق في نفس الأمر، وعلى ما يشبه ويقرب منه، وسكت عن غيره مما تأباه عقولهم، لم يكن ما ينفرهم عن قبول الشرع، فأي حاجة دعت إلى أن يخاطبوا بما يزعم المتعمقون أنه باطل؟

بل أقول: لوجاءهم الشرع بالأصل الجامع في الجملة لما يزعمه المتعمقون، وهو أن الله

عز وجل ليس داخل العالم ولا خارجه، ثم كرر الدعوة والاستدلال كما صنع في إثبات ما كانت عقولهم تأباه من قدرة الله عز وجل على حشر الأجساد، وكما صنع في نفي ما كانت عقولهم تتقبله أو توجبه من أن الله عز وجل ولداً - لكان فيهم من يخضع لذلك، ثم لا يزالون يزدادون، وأنت ترى من لا يحصي من المنتسبين إلى العلم وطلبه وقبلوا ذاك الأصل الجامع، وبعض فروعه ممن أحسنوا به الظن من المتكلمين؛ فقلدوه في ذلك وتعصبوا له، وعادوا من يخالفه، غير مبالين

ص: 148

بعقولهم، ولا بنصوص الكتاب والسنة، ولا بمخالفة من هو أجل عندهم ممن قلدوه.

وقد جاء أفراد بمقالات تنبذها العقول الفطرية، ويردها النظر المتعمق فيه، ومع ذلك تبعهم من لا يحصى، والعرب إنما كانوا يستندون في إنكار ذاك الأصل إلى عقولهم الفطرية وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندهم أوسطهم نسباً، وأفضلهم خلقاً، معروفاً بينهم بالصدق والأمانة، والعدل وحب الحق والحرص عليه، ولا يريد رياسة ولا جاهاً، ثم جاءهم بالمعجزات، فلوجاءهم بذاك الأصل ونحوه أما كان يجد منهم من يقلده ويتبعه كما وجد المتعمقون والأفراد الآخرون، بل كما وجد الرسول نفسه في نفي نسبة الولد إلى الله عز وجل، وفي إثبات حشر الأجساد؟ وسيأتي في الجواب عن المقصد العاشر على هذا.

وهب أن الحاجة دعت إلى إظهار موافقتهم على ما يخالف ذاك الأصل وبعض فروعه وأنه ساغ ذلك، فقد كان يكفي نص أو نصان أو ثلاثة مما هو ظاهر في غير ما يوافقهم محتمل لما يوافقهم، فيحملون ذلك على ما يوافقهم وأهو ائهم، فإن كان ولابد فما يحتمل المعنيين على السواء، أو يكون ظاهراً فيما يوافقهم ظهوراً ضعيفاً، غايته أن يكون نحوكلمات إبراهيم، فما بال الكتاب والسنة مملوأين بتلك النصوص التي يزعم المتعمقون أن ظاهرها باطل، ومنها ما ظاهر بين، وما هو صريح واضح، وما هو واضح، وما هو محقق مثبت مؤكد، فهل كانت الضرورة تدعوة إلى ذلك كله؟

الثالث عشر: كلمات إبراهيم لم تقتض الحكمة أن يتداركها بالبيان في الدنيا لأنها كانت في قضايا مؤقتة، ولم تترتب عليها مفسدة ما كما تقدم، وتلك النصوص لوكانت لما يزعم المتعمقون لاقتضت الحكمة اقتضاء باتاً أن يتبعها الشرع بما يتبين الحق، ولم يقع من هذا شيء، فأما الإشارات المذكورة في المقصد الثالث فقد مر الكلام فيها.

فإن قيل: وكَلَهم الشرع إلى العقل.

ص: 149

قلنا: العقل الفطري يوافق تلك النصوص كما تقدم، والنظر المتعمق فيه جاء في الشرع التنفير عنه وعن أهله، هذا مع الأمر المؤكد بالوقوف مع الكتاب والسنة والاعتصام بهما، ة الحكم بالزيغ والضلال والكفر على من خالفهما، وتأكيد أن الحق كله فيهما، وأن الدين قد كمل لهما، والأمر بالرجوع عند التنازع إليهما، وبيان أن الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الرسول يهدي إلى صراط مستقيم، وغير ذلك.

الرابع عشر: كلمات إبراهيم عليه السلام يظهر من تسميتها خطايا، ومن خجله واستحيائه من ربه في المحشر من أجلها انه ندم عليها في الدنيا، وعزم أن لا يعود إلى مثلها، وتلك النصوص لم يرد ما يشير إلى ندم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اجلها، بل الوارد خلاف ذلك، فأما الرب عز وجل فهو عالم الغيب والشهادة.

الخامس عشر: أن كلمات إبراهيم لم تترتب عليها مفسدة ما، بل ترتب عليها درء مفاسد عظيمة، وتحصيل مصالح جليلة، فقوله:«هي أختي» ترتب عليها سلامة إبراهيم من بطش الجبار، وسلامة الجبار وأعوانه من ذاك الظلم. وقوله:«إني سقيم» ترتب عليها تمكنه من تحطيم الأصنام، وما تبع ذلك من إقامة الحجة. والثالثة ترتب عليها إقامة الحجة على عباد الأصنام حتى اضطروا إلى الاعتراف، فقال بعضهم لبعض:«إنكم أنتم (1) الظالمون» . وأما النصوص التي يكذب المتعمقون معانيها التي هي فيها ما بين ظاهر بين، وصريح واضح، ومحقق مؤكد. فإن كانت كما يزعم المكذبون فقد ترتب عليها مفاسد لا تحصى.

الأولى: لزوم النقص كما تقرر في الوجوه السابقة حتى لولم يخلق الله تعالى الناس لما لزم مثل ذاك النقص، ولا ما يقاربه، بل لا يلزم نقص فيما أرى.

الثانية: تثبيت الاعتقاد الباطل في أصل الدين وحمل الناس عليه.

(1) الأصل «لأنتم» . ن

ص: 150

الثالثة: حمل كثير ممن يسميهم ابن سينا «الخاصة» وهم المتعمقون في النظر العقلي على تكذيب الشرع البتة لأنهم يرون فيه تلك النصوص التي يرون أن معانيها باطلة، فيقولون: لو كان هذا الشرع حقاً ما جاء بالباطل، والله تعالى أعز وأجل مكن أن يجل أو يكذب، والأنبياء الصادقون لا يجهلون ولا يكذبون عليه، واعتذار ابن سينا باطل كما ترى. فإن قيل أما هذم المفسدة فهي حاصلة على كل حال، قلت: لكن إن كانت النصوص كما يقول المكذبون كانت تبعة هذا المفسدة عليها.

فأما إذا كانت حقاً كما يقول السلفيون فإن تبعة هذه المفسدة تكون على التعمق في النظر وتقديم ما يلوح منه على الفطرة والعقول الفطرية وكلام الله وكلام رسوله، وبعبارة أخرى تكون تبعتها على إتباع الهوى، وإيثاره على الحق، ويكون ذلك بالنظر إلى الشرع مصلحة.

الرابعة: حمل أشد المؤمنين إخلاصاً وأقواهم إيماناً بالله ورسوله، وألزمهم اعتصاماً بالكتاب والسنة - على تضليل أو تكفير من يظهر خلاف تلك النصوص من «الخاصة» ، وحمل «الخاصة» على تجهيل أولئك المخلصين وتضليلهم والسخرية منهم.

ومن أعجب العجب أن الفريقين إذا علما ما في الافتراق في الدين من الفساد طلباً من الدين نفسه الذي أو قعها - على زعم المتعمقين - في الافتراق، وقد زجر عنه - أن يدلهما على المخلص، فلا يجد أن إلا قول الله عز وجل:«فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» النساء - 59.

فيتداعى الفريقان الى تحكيم الكتاب والسنة، فأما السلفيون فيقولون: ذلك ما كنا نبغي، وأما «الخاصة» فيعلمون أنهم إن أجابوا قضى الكتاب والسنة قضاء باتاً بتلك النصوص، وإن أعرضوا تلا السلفيون ما يلي تلك الآية «أَلَمْ تَرَ

ص: 151

إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» . النساء - 60 - 61.

وقوله بعد ذلك: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . النساء - 65.

الخامسة: إن وقوع الكذب في بعض النصوص الشرعية يفتح الباب لتكذيب الشريعة كلها حتى على فرض قبول اعتذار ابن سينا، هذا هو نفسه لما علم أن المتكلمين يوافقونه في بعض النصوص الاعتقادية فيزعمون أن ظواهرها باطلة جر ذلك إلى نصوص أخرى في العقائد، ثم إلى نصوص تتعلق بالملائكة والنبوة والأرواح، ثم إل النصوص المتعلقة بالبعث والنشور والجنة والنار وغير ذلك، ثم ختم بأن قضى على كل من يريد أن يكون من «الخاصة» بأن لا يلتفت إلى الشرع فيما للرأي فيه مجال، ففتح الباب بمصارعه ومهد لأصحابه الباطنية وغيرهم.

ولا ريب أنه لو جاز أن يكون في النصوص الشرعية كذب وتلبيس دعت إليه مصلحة ما وإن عارضتها عدة مفاسد، لم يسلم نص من النصوص من احتمال ذلك، وإنما حاصل هذا أن الشرع باطل، وأن الأنبياء إنما أتبعوا أهواءهم، وأحسن أحوالهم عند «الخاصة» أن يكونوا أتبعوا تخيلاتهم.

والحق الذي لا يرتاب فيه مؤمن تنزيه الله عز وجل وكتبه ورسله عما يقول الظالمون الذين يسمون أنفسهم الخاصة، وأن اتباع الأهواء والتخيلات هي صفة أولئك الفجار، «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ» ثم لرسله (1) «الْمَثَلُ

(1) بل المثل الأعلى لله وحده وهو تفرده بالصمدية والسؤدد والكمال وتنزهه عن كل عيب ونقص وشين وذم. فالكتاب العصريون الذين استعملوا المثل الأعلى في مطمح النظر والكمال المرجو لمن يتطلبه قد حرفوا المثل الأعلى أن يقال: ولله المثل الأعلى فس الوصف بالكمال ولرسله البيان الواضح والبلاغ المبين فيما أخبروا عن الله ولله وصفه كما قال تعالى: (سبحان رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) . قال الشيخ ابن تيمية ما معناه: نزه نفسه عما وصفه به المبطلون، وسلم على المرسلين لسلامة أقوالهم عما لا يليق بالله تعالى إثباتاً ونفياً، وحمد نفسه على وصفه، بربوبية رب العالمين آه ملخصاً بالمعنى في تفسير الآية من «الواسطية» وأما إستنكار وصف غير الله تعالى بأنه له المثل الأعلى، فقد أستفدته من محاورة بعض شيوخ الهند المحققين. والله أعلم. م ع

ص: 152