الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
قال الله تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» . فاطر: آية: 15.
تضافر العقل والشرع على إثبات أن الله تبارك وتعالى غني عن العالمين، وأنه سبحانه الحكيم، فخلق الله تعالى الخلق وتكليفه لهم لا يكون إلا موافقاً لما ثبت من غناه سبحانه وحمده وحكمته.
وقال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» . الذريات:56
وعبادته سبحانه هي طاعته بامتثال ما أمر به ورضيه، واجتناب ما نهى عنه وكرهه، ولم يكن الغني الحميد، الحكيم العليم، ليأمر عباده إلا بما هو خير لهم، ولا لينهاهم إلا عما هو شر لهم، فإن أمرهم أو نهاهم للابتلاء فقط فطاعته نفسها خير لهم، وعصيانه شر لهم، وقد قال تعالى:«إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» الزمر: الآية 7، تقول العرب: لا أرضى منك بكذا، وأرضى منك بكذا. إذا كانت الفائدة للمتكلم. فإذا كانت هي للمخاطب ولكن المتكلم بكرمه ورحمته يحب الخير ويكره الشر قالوا: لا أرضى لك كذا، وأرضى لك كذا، وقال تعالى فيما قصه عن لقمان: «وَمَنْ يَشْكُرْ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» : لقمان الآية 12
وفيما يخص قصة سليمان «هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» النمل: الآية 40
وقال تعالى: «وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» إبراهيم: 8.
وقال عز وجل: «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» العنكبوت: 6
وفي (صحيح مسلم) وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسُكُم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لوأن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، لوأن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لوأن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أو فيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» .
فنستطيع أن نفهم من هذا كله أن الله تبارك وتعالى اقتضى كمال جوده أن يجود بالكمال إلى الحد الممكن، ولا يفي بهذا أن يخلق خلقاً كاملين، فإنما ذلك بمنزلة خلقهم حسان الصور، وذاك كمال يتمحض فيه الحمد للخالق من كل وجه، ولا يحمد عليه المخلوق البتة، فلا يعتد به كمالاً، وكذلك أن يخلقهم غير كاملين ويجبرهم على الكمال، فإنما الحمد منوط بالإختيار. وقريب من هذا أن يخلقهم غير كاملين ولا مجبورين وييسر لهم اختيار الكمال بحيث لا يكون فيه مشقة عليهم، فإن المخلوق إنما يحمد على اختيار الكمال حيث يكون عليه فيه مشقة، وكلما كانت
المشقة أشد، كان الحمد أحق والكمال أعظم (1) .
1-
فصل
لنا أن نقول: أن مدار كمال المخلوق على حب الحق وكراهية الباطل، فخلق الله تعالى الناس مفطورين على ذلك، وقدر لهم ما يؤكد تلك الفطرة، وما يدعوهم إلى خلافها، ليكون عليهم في اختيار وهو مقتضى الفطرة ومشقة وتعب وعناء، ولهم في خلاف ذلك شهو ة وهوى، فمن اختار منهم مقتضى الفطرة وصبر على ما فيه من المشقة والعناء، وعما في خلافه من الراحة العاجلة واللذة استحق أن يحمد، فاستحق الكمال فناله، ومن آثر الشهو ة واتبع الهوى استحق الذم فسقط.
وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة وأنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» . وهو في (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة بنحوه.
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: أنظر إليها، قال: فرجع إليه فقال. وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره فقل: ارجع إليها، فرجع، فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهو ات، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد» (2) راجع (فتح الباري) «كتاب
(1) يريد أن الحكمة الإلهية التي يحمد الله عليها أن يخلق عباده من الأنس في حالة نقص ويتدرج بهم إلى الكمال باختيارهم فيما كلفهم به مما يتدرج بهم إلى الكمال بأعمالهم الاختيارية، ولوخلقهم كاملين لما عاد عليهم حمد وثناء لهذا الكمال، ولوأجبرهم على الكمال لما حمدوا أيضاً على ما أجبروا عليه، فكان الحمد والثناء عليهم أن يسر لهم طريق الكمال التدريجي باختيارهم مع شيء من المشقة. محمد عبد الرزاق.
(2)
وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . قلت: وإسناده جيد. ن
الرقاق» . وقال الله عز وجل «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» البقرة: 216.
والمقصود بالابتلاء هو أن يتبين حال الإنسان، فيفوز من صبر على تحمل المشاق، ثابتاً على الحق معرضاً عما يراه في الباطل من المخارج التي تخلص من تلك المشاق أو تخففها، علماً أن الدنيا زائلة، وأن الذي يستحق العناية هو أمر الآخرة، ويخسر من يلجأ إلى الباطل فراراً من تلك المشاق أو من شدتها.
ولا يقتصر الابتلاء على الشدائد، بال قال الله عز وجل:«وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» (الانبياء: من الآية35» وذلك من وجهين:
الأول: أن الإنسان كما يشق عليه الثبات على الحق عند الشدائد، فكذلكعند النعيم والرخاء، لأن النعيم يدعوا إلى التوسع في اللذات والإستكثارمن الشهو ات، والتكاسل عن الطاعات، والتكبر على الناس، وغير ذلك. وفي الصبر عن ذلك ما فيه من المشقة.
الوجه الثاني: أن من أستحوذ عليه إثار الباطل تكون الدنيا أعظم همة، فهو من
جهة إذا توفرت له نعم الدنيا ولم تنله مصائبها رضي عن ربه ودينه، وإذا أصابته المصائب سخط، ومن جهة أخرى يعد نعم الدنيا ومصائبها أعظم دليل على رضا الله عز وجل وسخطه، فإذا يسرت له نعم الديا ولم تنله مصائبها زعم أن الله عز وجل راضٍ عنه وعن دينه وعن عمله، وإلا زعن أن الله عز وجل ساخط عليه وعلى دينه وعلى عمله! وهذه كانت شبهو فرعون كما بينته في (كتاب العبادة) وقال الله تبارك وتعالى: «فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ» (سورة الفجر) .
وقال تعالى: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌوَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (هو د: 8 - 11) .
(فصلت: 49 - 51) .
وقال سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (الحج: 11)
وأقرأ من سورة (الفرقان) - 7 - 11 ومن سورة (الزخرف) - 31 - 35
والإنسان لا يكره الحق من حيث هو باطل، ولكنه هو يحب الحق بفطرته، ويحب الباطل لهواه وشهو ته، ومدار الفوز أو الخسران على الإيثار، قال الله تبارك وتعالى:«فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى. وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (النازعات - 37
- 41) ولك أن تقول: أن الله تبارك وتعالى في جانب، والهوى في جانب، وقد قال تعالى:«أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (الفرقان: 43 - 44) وقال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» (الجاثية: 23) .
…
وفي الحديث: «حبك الشيء يعمي ويصم» . (1) وقال البريق الهذلي:
أين لي ما ترى والمرء تأبى
…
عزيمته ويغلبه هواه
فيعمي ما يرى فيه عليه
…
ويحسب ما يراه لا يراه
2 -
فصل
الدين على درجات: كف عما نهي عنه، وعمل ما أمر به، واعتراف بالحق، واعتقاد له وعلم به. ومخالفة الهوى للحق في الكف واضحة، فان عامة ما نهي عنه شهو ات ومستلذات، وقد لا يشتهي الإنسان الشيء من ذلك لذاته، ولكنه يشتهيه لعارض. ومخالفة الهوى للحق في الاعتراف بالحق من وجوه:
الأول: أن يرى الإنسان أن اعترافه بالحق يستلزم اعترافه بأنه كان على باطل، فالإنسان ينشأ على دين أو اعتقاد أو مذهب أو رأي يتلقاه من مربيه ومعلمه على أنه حق فيكون عليه مدة، ثم إذا تبين له أنه باطل شق عليه أن يعترف بذلك، وهكذا
(1) أخرجه أبو داود وغيره عن أبي الدرداء مرفوعاً. وفي سنده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. ن
إذا كان آباؤه أو أجاده أو متبعوه على شيء، ثم تبين له بطلانه، وذلك أنه يرى أن نقصهم مستلزم لنقصه، فاعترافه بضلالهم أو خطئهم اعتراف بنقصه، حتى أنك لترى المرأة في زماننا هذا إذا وقفت على بعض المسائل التي كان فيها خلاف على أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة أخذت تحامي عن قول عائشة، لا لشيء إلا لأن عائشة امرأة مثلها، فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت وأن من خالفها من الرجال أخطأوا، كان في ذلك إثبات فضيلة لعائشة على أولئك الرجال، فتكون تلك فضيلة للنساء على الرجال مطلقاً، فينالها حظ من ذلك، وبهذا يلوح لك سر تعصب العربي للعربي، والفارسي للفارسي، والتركي للتركي، وغير ذلك. حتى لقد يتعصب الأعمى في عصرنا هذا للمعري! .
الوجه الثاني: أن يكون قد صار في الباطل جاه وشهرة ومعيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد.
الوجه الثالث: الكبر، يكون الإنسان على جهالة أو باطل، فيجيء آخر فيبين له الحجة، فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص، وأن ذلك الرجل هو الذي هداه، ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم من لا يشق عليه الإعتراف بالخطأ إذا كان الحق تبين له ببحثه ونظره، ويشق عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بين له.
الوجه الرابع: الحسد وذلك إذا كان غيره هو الذي بين الحق فيرى أن اعترافه بذلك الحق يكون اعترافاً لذلك المبين بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم ذلك في عيون الناس، ولعله يتبعه كثير منهم، وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم من يحرص على تخطئه غيره من العلماء ولو بالباطل، حسداً منه لهم، ومحاولة لحط منزلتهم عند الناس.
ومخالفة الهوى للحق في العلم والإعتقاد قد تكون لمشقة تحصيلية، فإنه يحتاج إلى البحث والنظر، وفي ذلك مشقة ويحتاج إلى سؤال العلماء والاستفادة منهم وفي ذلك
ما مر في الاعتراف ويحتاج إلى لزوم التقوى طلباً للتوفيق والهدى وفي ذلك ما فيه من المشقة. وقد تكون لكراهية العلم والاعتقاد نفسه وذلك من جهات، الأول ما تقدم في الاعتراف فأنه كما يشق على الإنسان أن يعترف ببعض ما قد تبين له، فكذلك يشق عليه أن يتبين بطلان دينه، أو اعتقاده، أو مذهبه، أو رأيه الذي نشأ عليه، واعتز به، ودعا إليه، وذهب عنه، أو بطلان ما كان عليه آباؤه وأجداده وأشياخه، ولا سيما عندما يلاحظ أنه أن تبين له ذلك تبين أن الذين يطريهم ويعظمهم، ويثنى عليهم بأنهم أهل الحق والإيمان والهدى والعلم والتحقيق، هم على خلاف ذلك، وإن الذين يحقرهم ويذمهم ويسخر منهم وينسبهم إلى الجهل والضلال والكفر هم المحقون، وحسبك ما قصه الله عز وجل من قول المشركين، قال تعالى:«وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»
(الأنفال: 32) فتجد ذا الهوى كلما عرض عليه دليل لمخالفيه أو ما يوهن دليلاً لأصحابه شق عليه ذلك وأضطرب وأغتاظ وسارع إلى الشغب، فيقول في دليل مخالفيه: هذه شبهة باطلة مخالفة للقطعيات، وهذا المذهب مذهب باطل لم يذهب إليه إلا أهل الزيغ والضلال
…
، ويؤكد ذلك بالثناء على مذهبه وأشياخه ويعدد المشاهير منهم ويطريهم
بالألفاظ الفخمة، والألفاظ الضخمة، ويذكر ما قيل في مناقبهم ومثالب مخالفيهم، وإن كان يعلم أنه لا يصح، أو أنه باطل!
ومن أوضح الأدلة على غلبة الهوى على الناس أنهم - كما تراهم - على أديان مختلفة، ومقالات متباينة، ومذاهب متفرقة، وآراء متدافعة ثم تراهم كما قال الله تبارك وتعالى:«كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» .
فلا تجد من ينشأ على شيء من ذلك ويثبت عليه يرجع عنه إلا القليل، وهؤلاء القليل يكثر أن يكون أول ما بعثهم على الخروج عما كانوا عليه أغراض دنيوية.
ومن جهات الهوى أن يتعلق الاعتقاد بعذاب الآخرة فتجد الإنسان يهوى أن لا يكون بعث لئلا يؤخذ بذنوبه، فإن علم أنه لا بد من البعث هوى أن لا يكون هناك عذاب، فإن علم أنه لا بد من العذاب هوى أن لا يكون على مثله عذاب كما هو قول المرجئة، فإن علم أن العصاة معذبون هوى التوسع في الشفاعة - وهكذا.
ومن الجهات أنه لا شق عليه عمل كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هوى عدم وجوبه، وإذا ابتلي بشيء يشق عليه أن يتركه كشرب المسكر هوى عدم حرمته. وكما يهوى ما يخفف عليه فكذلك يهوى ما يخفف على من يميل إليه، وما يشتد على من يكرهه، فتجد القاضي والمفتي هذه حالهما. ومن المنتسبين إلى العلم من يهوى ما يعجب الأغنياء وأهل الدنيا، أو ما يعجبه العامة ليكون له جاه عندهم وتقبل عليه الدنيا، فما ظهرت بدعة، وهو يها الرؤساء والأغنياء وأتباعهم إلا هويها وانتصر لها جمع من المنتسبين إلى العلم، ولعل كثيراً ممن يخالفها إنما الباعث لهم عن مخالفتها هوى آخر وافق الحق، فأما من لا يكون له هوى إلا إتباع الحق فقليل، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة، وهؤلاء القليل يقتصرون على أضعف الإيمان، وهو الإنكار بقلوبهم والمسارة به فيما بينهم، إلا من شاء الله.
فإن قيل: فلماذا لم يجعل الله عز وجل جميع حجج الحق مكشوفة قاهرة لا تشتبه على أحد، فلا يبقى إلا مطيع يعلم هو وغيره أنه مطيع، وإلا عاص يعلم هو وغيره أنه عاص، ولا يتأتى له إنكار ولا اعتذار؟ (1) .
قلت: لوكان كذلك لكان الناس مجبورين على إعتقاد الحق فلا يستحقون عليه حمداً ولا كمالاً ولا ثواباً، ولكانوا مكرهين على الاعتراف كمن كان في مكان مظلم فزعم أن ذاك الوقت ليل وراهن على ذلك ففتحت الأبواب فإذا الشمس في
(1) علق الأخ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على هذا الموضع ما لفظه «يريد الشيخ بالسؤال والجواب أن يبين حكمة الله تعالى في ابتلاء الناس بالهوى والشبهات والشهوات ليحصل الجهاد والابتلاء ويحمد المجاهد ويؤجر، وإلا فوضوح الحق =
كبد السماء، ولكانوا قريباً من المكرهين على الطاعة من عمل وكف، لفوات كثير من الشبهات التي يتعلل بها من يضعف حبه للحق فيغالط بها الناس ونفسه أيضاً.
فإن قيل: فإن المؤمن إذا كان موقناً كانت الحجة في معنى المكشوفة عنده أفلا يمون مثاباً على إيمانه واعترافه وطاعته؟
قلت: ليس هذا من ذاك في شيء، أما الاعتقاد فمن وجهين:
الأول: أن الحجة لم تكن كلها مكشوفة للمؤمن من أول الأمر، وإنما بلغ تلك الدرجة بنظره وتدبره ورغبته في الحق ومخالفته الهوى، وبهذا ثبت صدق حبه للحق
= والباطل أمر لا خفاء به، ليهلك من هلك من بينه، ويحيى من حي عن بينه» .
وعلق على ما يأتي أو الفصل الثالث ما لفظه «أن حجج الله تعالى التي سماها بينات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها وإنما تخفى على من في قلبه كن وفي أذنيه وقر وعلى بصره غشاوة من هواه وأخلاقه وما اعتاد» .
…
قال المؤلف: لا أراه يخفى أن مرادي بالقضية المكشوفة القاهرة هو أن تكون بحيث لا تخفى هي ولا إفادتها اليقين على عاقل حتى لو زعم زاعم أنه يجهلها، أو أنه يعتقد عدم دلالتها أو يرتاب فيها لقطع العقلاء بأنه إما مجنون الجنون المنافي للتكليف أو كاذب. ولا يخفى أنه ليس جميع حجج الحق هكذا، ولكنها بينات البيان الذي تحصل به الهداية وتقوم به الحجة، ثم هي على ضربين، الضرب الأول الحجج التي توصل الإنسان إلى أن يتبين له أنه يجب عليه أن يكون مسلماُ، الثاني ما بعد ذلك، فالأول حجج واضحة لكن من أتبع هوى قد بان أنه يصد عن الحق، أو قصر في القيام بما قد بان أن عليه أن يقوم به فقد يرتاب أو يجهل، والضرب الثاني على درجات، منه ما هو في معنى الأول فيكفر المخطئ فيه، ومنه ما لا يكفر ولكن يؤاخذ، ومنه ما يعذر، ومنه ما يؤجر أيضاً على إجتهاده. المؤلف.
قلت: وهذا التفصيل حق لا غبار عليه عندي. ن
وإيثاره على الهوى فيستمر له حكم ذلك بعد انكشاف الحجة، وهو بمنزلة الظمآن الذي يطلب الماء حتى ظفر به، فأراد أن يشرب فقال له مصلط: إن لم تشرب ضربتك أوسجنتك. فمثل هذا لا يقال إذا شرب إنه إنما شرب مكرهاً.
الوجه الثاني: أن وضوح الحجة للمؤمن لا يستمر بدون جهاد، لأن الشبهات لا تزال تحوم حول المؤمن لتحجب عنه الحجة وتشككه فيها، والشهوات تساعدها فثباته على الإيمان برهان على دوام صدق محبته للحق، وايثاره على الهوى.
وأما الاعتراف فالأمر فبه واضح، فإن وضوح الحجة عند المؤمن لا يكون مكشوفاً لغيره، فليس في معنى المكره على الاعتراف، بل أنه إذا ذكرنا أن الحجة واضحة عنده وجد كثيراً من الناس يكذبونه أو يرتابون في دعواه.
وهكذا حاله في الطاعة من عمل وكف، فأن انكشاف الحجة في الإيمان الاعتقادي لا يستلزم إنكشاف الحجج الأخرى التي تترتب عليها الطاعات، وهب أن هذه انكشفت له أيضاً، فقد بقيت شبهات أخرى، لولا صدق حبه للحق وإيثاره على الهوى لأمكنه التشبث بها، كأن يقول: ينبغي أروح عن نفسي فإن لي حسنات كثيرة لعلها تغمر هذا التقصير، أرى لعلها تنالني من شفاعة الشافعين، أولعل الله يغفر لي، أو أتمتع الآن ثم أتوب. وقال الله تبارك وتعالى:«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً» الأنعام: 158 وفي (الصحيحين) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين «ينفع نفساً أيمانها» ثم قرأ الآية» . ونحوه من حديث أبوذر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وصفوان بن عسال وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله ابن عباس وعبد الله بن عمروبن العاص وغيرهم.
والأخبار بأن الشمس سوف تطلع من مغربها متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى ذلك أن ما يشاهد الآن من سيرها ينعكس، فسكان هذا الوجه الذي
كان فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرونها تغرب في مغربها على العادة ثم يرونها في اليوم الثاني طالعة من مغربها، وأما سكان الوجه الأخر فإنها تطلع عليهم من مشرقهم على عادتها، ثم يرونها تسير إلى مغربها ما شاء الله ثم ترجع القهقري حتى تغرب في مشرقهم. وعلى زعم (1) أن الأرض هي التي تدور، فإن دورة الأرض تنعكس فيكون ما ذكر.
فأما إيمان الناس جميعاً فوجهه والله أعلم أن النفوس مفطورة على اعتقاد وجود الله عز وجل وربوبيته، ومن شأن ذلك أن يسوق إلى بقية فروع الإيمان، وآيات الآفاق والأنفس تؤكد ذلك، ولكن الشبهات والأهواء تغلب على أكثر الناس حتى يرتابوا فيتبعوا اهو ائهم، فإذا طلعت الشمس من مغربها لحقهم من الذعر والرعب لشدة الهو ل ما يمحق أثر الشبهات والأهواء وتفزع النفوس إلى مقتضى فطرتها، قال الله تعالى في ركاب البحر:«وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» لقمان: 32.
فتلك الآية في حق من يكون قد بلغه أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بها حجة مكشوفة قاهرة، وكذلك هي في حق من لم يبلغه لكن بمعونة الرعب والفزع وشدة الهول.
وقد دلت الآية على أن من لم يكن آمن قبل تلك الآية لا ينفعه إيمانه عندها، ومن لم يكن من المؤمنين قبل يكسب الخير لا ينفعه كسب الخير عندها وفهم من ذلك أن من كان مؤمنا قبلها ينفعه الإيمان عندها، ومن كان من المؤمنين يكسب الخير قبلها ينفعه كسب الخير عندها، والنظر يقتضي أنه إنما ينفعه من كسب الخير عندها ما كان عادة له، وفي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا مرض العبد أوسافر كتب له مثل ما كان يعمل
(1) كذا قول المصنف رحمه الله، ولعله من باب التقية، وإلا فكون الأرض تدور في الفضاء أصبحت من الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل، وليس في الكتاب ولا في السنة نص ينافي ذلك، خلافاً لبعضهم. ن
مقيماً صحيحاً» . وجاء نحوه من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص وأنس وعائشة وأبي هريرة، وأشار إليها ابن حجر في (الفتح) .
فمن كان معتاداً للعمل من أعمال الخير مواظباً عليه ثم طرأ عليه بغير إختياره أو باختياره مأذوناً له عارض يعجز معه عن ذاك العمل، أو يشرع له تركه أو يدعه وهو نفل لإشتغاله عنه أولزيادة المشقة فيه فقد ثبت باعتياده أنه لولا ذاك العارض - وهو غير مقصر فيه - لأستمر على عادته فلذلك يكتب له ثواب ذاك العمل، فأولا من هذا من كان معتاداً لعمل في عرض باعث آخر على ذاك العمل واستمر العامل على عادته.
وقال الله عز وجل في قصة نوح «فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» . هو د: 27 - 28 يريد والله أعلم أن كراهيتكم للحق وهو اكم أن لا يكون ما أدعوكم إليه حقاً يحول بينكم وبين أن يحصل لكم العلم واليقيين بصحته، وفي (تفسير ابن جرير) 12 / 17 عن قتادة قال:«أما والله لواستطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ولكن لم يملك ذلك، ولم يملكه» . والرسول لا يحرص على أن يُكره قومه إكراهاً عادياً على إظهار قبول الدين، فإنه يعلم أن هذا لا ينفعهم بل لعله أن يكون أضر عليهم، وإنما يحرص على أن يقبلوه مختارين، ولذلك يحرص هو وأصحابه على أن يظهر الله تعالى الآيات على يده أملاً أن يحصل للكفار العلم إذا رأوها فيقبلوا الدين مختارين، ويزداد الحرص على هذا عندما يطالب الكفار بالآيات، وهذه كانت حال محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فبين الله تعالى لهم في عدة آيات أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، وأن الهداية بيد الله، وأن ما أوتيه من الآيات كاف لأن يؤمن من في قلبه خير، وأن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً، لكن حكمته إنما اقتضت أن يهدي من أناب بأن كان يحب الهدى، ويؤثره على
الهوى.
فأما من كره الحق واستسلم للهوى، فإنما يستحق أن يزيد الله تعالى ضلالاً، قال الله عز وجل «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» إلى أن قال:«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» الرعد - 31. (1) وقال تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . الأنعام: 109 - 110 وقال تعالى: «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» الشورى - 13.
وقال سبحانه: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» المؤمن: 13.
وقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً. (2) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» (3) الاسراء: 101 - 102.
(1) الأصل (27 - 31) . وإنما هي آية واحدة. ن
(2)
مسحوراً. أي: ساحراً كقوله في الآية الأخرى (وقالوا يا أيه الساحر أدعولنا ربك) الخ والآية: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) وغيرهما. م ع
(3)
والمثبور الهالك كقوله: (إذا رأتهم من كان بعيد سمعوا لها تغيضاً وزفيراً وإذا القوا فيها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً. لا تدعوا اليوثبوراً وادعوا ثبوراً كثيراً) .
محمد عبد الرزاق
وقال تعالى: «فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ. فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً] . النمل:12 - 14.
فلما تبين لموسى وهارون أن فرعون وقومه قد استحكم كفرهم انتهى مقتضى الحرص على أن يهتدوا، واقتضى حبهما للحق أن يحبا أن لا يهديهما الله، قال الله تعالى:«وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» يونس: 88 - 89.
وفي القرآن آيات كثيرة في أن الله تعالى لا يهدي الكافرين، والمراد بهم من استحكم كفرهم وليس كل كافر كذلك، فقد روى هدى الله تعالى ويهدي من لا يحصى من الكفار، وإنما الحق أن لا يهدي الله تعالى من استحكم كفره.
3 -
فصل
وكما اقتضت أن الحكمة أن لا تكون حجج الحق مكشوفة (1) قاهرة فكذلك اقتضت أن لا تكون الشبهات غالبة، قال الله عز وجل:«وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» الزخرف:33 - 35.
(1) الحق أن حجج الله تعالى التي سماها بينات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها وإنما تحفى على من في قلبه كن وفي أذنيه وقر وعلى بصره غشاوة من هواه وأخلاقه وما اعتاد. م ع. أنظر التعليق ص 182. ن
وذلك أنه لو كان كل من كفر بالله خصه الله تعالى بذلك النعيم دون المؤمنين، لكانت تلك شبهة غالبة توقع الناس كلهم في الكفر.
فتخلص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بينات وشبهات، وأن لا تكون البينات قاهرة ولا الشبهات غالبة، فمن جرى مع فطرته من حب الحق ورباها ونماها وآثر مقتضاها، وتفقد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها، لم تزل تتجلى له البينات وتتضاءل عنده الشبهات، حتى يتجلى له الحق يقيناً فيما يطلب فيه اليقين، ورجحاناً فيما يكفي فيه الرجحان، وبذلك يثبت له الهدى ويستحق الفوز، والحمد والكمال على ما يليق بالمخلوق، ومن اتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا، تبرقعت دونه البينات، واستهو ته الشبهات، فذهبت به (إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم) .
4 -
فصل
إن قيل: لا ريب أن الانسان ينشأ على دينه واعتقاد ومذهب وآراء يتلقاها من مربيه ومعلمه، ويتبع فيها أسلافه وأشياخه الذين تمتلئ مسامعه بإطرائهم، وتأكيد أن الحق ما هم عليه وبذم مخالفيهم وثلبهم، وتأكيد أنهم على الضلالة، فيمتلئ قلبه بتعظيم أسلافه وبغض مخالفيهم، فيكون رأيه وهواه متعاضدين على اتباع أسلافه ومخالفة مخالفيهم، ويتأكد ذلك بأنه يرى أنه إن خالف ما نشأ عليه رماه أهله وأصحابه بالكفر والضلال، وهجروه وآذوه وضيقوا عليه عيشته، ولكن هذه الحال يشترك فيها من نشأ على باطل ومن نشأ على حق، فإذا دعونا الناس إلى الاستيقاظ للهوى وبينا لهم أثره وضرره، فمن شاء ذلك أن يشككهم فيما نشأو اعليه، وهذا إنما ينفع من نشأ على باطل، فأما من نشأ على حق فإن تشكيكه ضرر محض لأن غالب الناس عاجزون عن النظر.
قلت: المطالب على ثلاثة أضرب:
الأول: العقائد التي يطلب الجزم بها ولا يسع جهلها. الثاني: بقية العقائد.الثالث: الأحكام.
فأما الضرب الأول فسنبين إن شاء الله تعالى أن النظر فيه ميسر لكل أحد، وأن النظر العقلي المتعمق فيه لا حاجة إليه وهو مثار الشبهات، وملجأ الهدى ومنشأ الضلال، كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى، فمن استجاب لتلك الدعوة إلى النظر الفطري الشرعي مخلصاً من شوائب الهوى، فإن كان النظر سابقاً على حق فإنه يتبين له بهذا النظر أنه حق، فيلزمه وقد صفا له وخلص، ونجا من اتباع الهوى وصفت له الطمأنينة.
وأما الضرب الثاني فمن كان قائلاً بشيء منه عن حجة صحيحة فإن الاستجابة لتلك الدعوة لا تزيد تلك الحاجة إلا وضوحاً مع الخلاص عن الهوى، وإلا فالجهل بهذا الضرب خير من القول فيه بغير حجة وإن صادف الحق.
وأما الضرب الثالث فالمتواتر منه والمجمع عليه لا يختلف حكمه، وما عداه قضايا اجتهادية يكفي فيها بذل الوسع لتعرف الراجح أو الأرجح أو الأحوط فيؤخذ به. وإنما يجئ البلاء فيها من أوجه:
الأول: التقصير في بذل الوسع.
الثاني: التمسك بما ليس من الحق.
الثالث: الاعتداد بترجيح النفس الذي يكون منشؤه الهوى.
الرابع: عدم الرجوع عما يتبين أن غيره أولى بالحق منه.
الخامس: معاداة المخالف مع احتمال أنه هو المصيب وظهور أنه كان مخطئاً فهو معذور، فمن شأن تلك الإستجابة لتلك الدعوة أن تدفع هذه المفاسد.
5 -
فصل
هذه أمور ينبغي لإنسان أن يقدم التفكير فيها ويجعلها نصب عينيه.
1-
التفكير في شرف الحق وضعة الباطل، وذلك بأن يفكر في عظمة الله عز
وجل وأنه رب العالمين، وأنه سبحانه يحب الحق ويكره الباطل، وأن من اتبع الحق استحق رضوان رب العالمين، فكان سبحانه وليه في الدنيا والآخرة، بأن يختار له كل ما يعلمه خيراً له وأفضل وأنفع وأكمل وأشرف وأرفع حتى يتوفاه راضياً مرضياً، فيرفعه إليه ويقربه لديه، ويحله في جوار ربه مكرماً منعماً في النعيم المقيم، والشرف الخالد، الذي لا تبلغ الأوهام عظمته، وأن من أخلد إلى الباطل استحق سخط رب العالمين وغضبه وعقابه، فإن آتاه شيئاً من نعيم الدنيا فإنما ذلك لهو انه عليه ليزيده بعداً عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأو هام شدته.
2-
يفكر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ونسبة بؤس الدنيا إلى سخط رب العالمين وعذاب الآخرة، ويتدبر قول الله عز وجل:«وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ] . الزخرف: 31 - 35 ويفهم من ذلك أنه لولا أن يكون الناس أمة واحدة لابتلى الله المؤمنين بما لم تجر به العادة من شدة الفقر والضر والخوف والحزن وغير ذلك، وحسبك أن الله عز وجل ابتلى أنبيائه وأصفيائه بأنواع البلاء.وفي (الصحيحين) من حديث كعب بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيؤها الرياح تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة» وفي (الصحيحين) أيضاً نحوه من حديث أبي هريرة. ومعنى الحديث والله أعلم أن هذا من شأن المؤمن والمنافق فلا يلزم منه أن كل منافق تكون تلك حاله لا يناله ضرر ولا مصيبة إلا القاضية.
والمقصود من الحديث تهذيب المسلمين فيأنس المؤمن بالمتاعب والمصائب ويتلقاها بالرضا والصبر والاحتساب، راجياً أن تكون له عند ربه عز وجل، ولا يتمنى خالصاً من قلبه النعم ولا يحسد أهلها، ولا يسكن إلى السلامة والنعم ولا يركن إليها، بل يتلقاها بخوف وحذر وخشية أن تكون إنما هيئت له لاختلال إيمانه، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله عز وجل، فلا يخلد إلى الراحة ولا يبخل، ولا يعجب بما أو تيه ولا يستكبر ولا يغتر، ولم يتعرض الحديث لحال الكافر لأن الحجة عليه واضحة على كل حال. وأخرج الترمذي وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص قال «سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه
…
» الحديث قال الترمذي: «حسن صحيح» (1) وقد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور (2) . وابتلى يعقوب بفقد ولديه وشدد أثر ذلك على قلبه فكان كما قصه الله عز وجل في كتابه: «وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَأبيضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» يوسف:84. وابتلى محمداً عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في أوائل السيرة، فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعاً لآبائهم من الشرك والضلال، ويصارحهم بذلك سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، ويدور عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم، فاستمر على ذلك نحو ثلاث عشرة سنة وهم يؤذونه أشد الأذى مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذي، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقرة في بيت محترم موقر، ونشأ على أخلاق كريمة احترمه لأجلها الناس ووقروه، ثم كان ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزة النفس، ومن كانت هذه حاله يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى ويشق عليه غاية المشقة الاقدام على ما يعرضه لأن يؤذى، ويتأكد ذلك في جنس ذاك الايذاء، هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وهذا يبصق في وجهه - بأبي هو وأمي -، وهذا يحاول أن يضع رجليه على
(1) انظر تخريجه وطرقه في «الأحاديث الصحيحة» (143) . ن
(2)
راجع حديثه في المصدر السابق رقم (17) .
عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سلى (1) الجزور على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنقه، وهذا ينخس دابته حتى تلقيه (2)، وهذا عمه يتبعه أنى ذهب يؤذيه ويحذر الناس منه ويقول: إنه كذاب، وإنه مجنون، وهؤلاء (3) يغرون به السفهاء فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحصرونه وعشيرته مدة طويلة في شعب ليموتوا جوعاً، وهؤلاء يعذبون من اتبعه بأنواع العذاب، فمنهم من يضجعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء، ومنهم من ألقوه على النار حتى ما أطفأها إلا ودك ظهره، ومنهم امرأة عذبوها لترجع عن دينها فلما يئسوا منها طعنها أحدهم (4) بالحربة في فرجها فقتلها، (5) كل ذلك لا لشيء إلا أنه يدعوهم إلى أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى رضوانه، ومن عذابه الخالد إلى نعيمه الدائم، ولم يلتفوا إلى ذلك مع وضوح الحجة، وإنما كان همهم أنه يدعوهم إلى خلاف هواهم. ومن وجه آخر ابتلى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن قبض أبويه صغيراً ثم جده ثم عمه الذي
(1) السلا: غشاء جنين البهيمة. م ع
(2)
نخس الدابة كان لزينب بنت الرسول فسقطت عنها وأجهضت حينما هاجرت رضي الله عنها م ع
يقول المؤلف: بل روي مثل ذلك في شأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، راجع ترجمة ضباعة بنت عامر من «الاصابة» . قلت: لكن في إسناد الرواية المشار إليها الكلبي وهو متهم! ن
(3)
هم كبراء الطائف عندما عرض نفسه عليهم ليحموه من قريش فردوا عليه رداً قبيحاً وأغروا به السفهاء. م ع
(4)
أبو جهل قبحه الله، والمرأة سمية أم عمار. م ع
(5)
من تدبر هذه الحال علم أنها من أعظم البراهين على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة، فإن العادة تحيل أن يقدم مثله في أخلاقه وفيما عاش عليه أربعين سنة لما يعرضه لذلك الإيذاء ثم يصبر عليه سنين كثيرة وله مندوحة، ولهذا كان العارفون به من قومه لا ينبسونه إلى الكذب وإنما يقولون: مسحور، مجنون. قال الله تعالى:(فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) . المؤلف
كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه، وتخفف عنه، ثم لم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وآله وسلم وتفصيل هذا يطول، وهذا هو سيد ولد آدم وأحبهم إلى الله عز وجل.
فتدبر هذا كله لتعلم حق العلم ما تنافس فيه ونتهالك عليه من نعيم الدنيا وجاهها ليس هو بشيء في جانب رضوان الله عز وجل والنعيم الدائم في جواره، وأن ما نفر منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس في جانب سخط الله عز وجل غضبه والخلود في عذاب جهنم. وفي (الصحيح) من حديث أنس قال:«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب، ويؤتى بأشد ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا أبن آدم هل رأيت بؤساً قط وهل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط» .
3-
يفكر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية، فأما المؤمن فإنه يأتي الطاعة راغباً نشيطاً لا يريد إلا وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فإن عرضت له رغبة في الدنيا فإلى الله تعالى فيما يرجوا معونيته على السعي للآخرة، فإن كان ولا بد ففيما يغلب على ظنه أنه لا يثبطه عن السعي للآخرة، وهو على كل حال متوكل على الله راغب إليه سبحانه أن يختار له ما هو خير وأنفع، ثم يباشر الطاعة خاشعاً خاضعاً مستحضراً أن الله عز وجل يراه ويرى ما في نفسه، ويأتي بها على الوجه الذي شرعه الله عز وجل وهو مع ذلك كما قال الله تعالى:«يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ» المؤمنون: - 60، فهو يخاف ويخشى أن لا تكون نيته خالصة، وذلك أن النية الصالحة قد تكون من قوي الإيمان، وقد تكون من ضعيفه الذي إنما يطيع إحتياطاً وقد لا تكون خالصة بل يمازجها رغبة في ثواب الدنيا لأجل الدنيا، أو رغبة في الآثار الطبيعية ككسر الشهوة حيث لا يشرع، وكتقوية النفس، كالذي يصوم ويقوم ليكون من أهل اللكشف فيطلع على العجائب
والمغيبات (1) فيلتذ بذلك ويعظم جاهه بين الناس، وكذلك يتعبد ليحصل له الكشف فيصفوا إيمانه ويستريح من الوسوسة ومدافعة الشبهات، فإن هذه الطريقة غير مشروعة، ومن شأنها أن تجر إلى تعاطي الأسباب الطبيعية لتقوية النفس وإن كانت منهياً عنها في الشرع كما هو معروف في بدع المتصوفة، ومن حصل له الكشف بهذه الطريق فهو مظنة ان يضعف أيمانه أو يزول عقوبة له على سلوكه غير السبيل المشروع، حتى لوكشف له عن شيء مما يجب الإيمان به فشاهده لم ينفعه هذا الإيمان كما يعلم مما تقدم. وإنما المشروع أن يجاهد نفسه ويصرفها عن الشبهات والوساوس مستعيناً بطاعة الله تعالى والوقوف عند حدوده مبتهلاً إليه عز وجل أن يثبت قلبه بما شاء سبحانه، فهذا إنما يحمل على إتباع الشرع والاهتداء بهذا.
وكمنفعة البدن كالذي يصوم ليصح ويصلي التراويح لينهضم طعامه. وكموافقة الإلف والعادة كمن إعتاد الصلاة من صباه فيجد نفسه تنازعه إلى الصلاة فلا تستقر حتى يصلي، فإن هذا قد يكون كالذي اعتاد العبث بلحيته فيجد نفسه تنازعه إلى ذلك حتى لوكف عن ذلك أو منع منه شق عليه. وكحب الترويح عن النفس كالذي يأتي الجمعة ليتفرج ويلقى أصحابه ويقف على أخبارهم. وكمراعاة الناس لكي يمدحوه ويثنوا عليه فيعظم جاهه ويصل إلى أغراضه ولا يمقتوه، إلى غير ذلك من المقاصد، كالمرأة تتزين وتتعطر وتخرج إلى الصلاة لتشاهد الرجال وتلفتهم إليها. وكالعالم يريد أن يراه الناس ويعظموه ويستفتوه فيشتهر علمه ويعظم جاهه. وكالمنتسب إلى الصلاح يريد أن يعظمه الناس ويقبلوا يده ورجليه، ويشتهر ذكره ويتساقط الناس في شبكته، وكالحاكم النابه يريد أن يتطاول الناس إلى رؤيته ويتزاحموا وترتفع أصواتهم بمدحة وغير ذلك.
والمؤمن ولو خلصت نيته في نفس الأمر لا يستطيع أن يستيقن ذلك من نفسه.
(1) قلت: ومع كون هذه الطريقة غير مشروعية، فهي من المستحيل أن توصل إلى الإطلاع على المغيبات بعد ختم الرسالة بالنبي صلى الله عيه وسلم ونزول قوله تعالى:(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول) نعم هي في الحقيقة إنما توصل إلى أوهام وخيالات، يتوهمونها كشوفات ومغيبات! ن.
والمؤمن يخاف ويخشى أن لا يكون أتى بالطاعة على الوجه المشروع، وذلك من أوجه:
منها أن للصلاة مثلاً شرائط وأركاناً وواجبات قد اختلف في بعضها، والمجتهد إنما يراعي اجتهاده فيخشى أن يكون قصر في اجتهاده أو استزله الهوى، والعامي إنما يتبع قول مفتيه أو إمامه أو بعض فقهاء مذهبه، فيخشى أن يكون قصر أو تبع الهوى في اختياره قول ذاك المفتي أو في الجمود على مذهب إمامه في بعض ما اختلف فيه.
ومنها أن روح الصلاة الخشوع والنفس تتنازعها الخواطر فلا يثق المؤمن خشع بأنه كما يجب، فإن حاولت نفس المؤمن أن تقنعه بإخلاصها في نيتها واجتهادها وخشوعها خشى على نفسه أن يكون مغروراً مسامحاً لنفسه.
وهكذا تستمر خشية المؤمن بالنظر إلى طاعاته السالفة يرجوا أن يكون قبلها الله تعالى بعفوه وكرمه، ويحشى أن يكون ردت لخلل فيها، وإن لم يشعر به، أولخلل في أساسها وهو الإيمان.
هذه حال المؤمن في الطاعات، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي؟ وقد قال الله تبارك وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ الأعراف - 201 - 202.
فالمؤمن يتصارع إيمانه وهواه فقد يطيف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه، فيغلبه هواه فيصرعه، وهو حال مباشرة المعصية ينازع نفسه، فلا تصفوا له لذتها، ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض، حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه فيثبت يعض أنامله أسفاً وحزناً على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه، عازماً على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة. وأما إخوان الشياطين، فتمدهم الشياطين في الغي فيمتدون فيه ويمنونهم الأماني فيقنعون، فمن الأماني أن يقول: الله قدره علي، فما شاء فعل. قد أختلف العلماء في حرمة هذا الفعل. قد أختلفوا في كونه كبيرة، والصغائر أمرها هين. لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب. لعل الله يغفر لي. لعل فلاناً يشفع لي. سوف
أتوب! وأحسن حاله أن يقول: أستغفر الله، استغفر الله، ويرى أنه قد تاب ومحي ذنبه، قال الله تعالى: «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ
خُسْرَاناً مُبِيناً. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً. أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» .النساء - 119 - 124.
وفي (مسند احمد) و (المستدرك) وغيرهما من حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الكوت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» . (1) وفي (الصحيحين) عن عبد الله بن مسعود قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا - أي بيده - فذبه عنه» .
4 -
يفكر في حاله مع الهوى، أفرض أنه بلغك أن رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآخر سب داود عليه السلام، وثالثاً سب عمر أو علياً رضي الله عنهما، ورابعاً سب إمامك، وخامساً سب إماماً آخر، أيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديب بهم موافقاً لما يقتضيه الشرع فيكون غضبك على الأول والثاني قريباً من السواء وأشد مما بعدهما جداً، وغضبك على
(1) قلت: في إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. ن
الثالث دون ذلك وأشد مما بعده، وغضبك على الرابع والخامس قريباً من السواء ودون ما قبلهما بكثير؟
أفرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك، وقرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قول آخر له، أيكون نظرك إليها سواء، لا تبالي أن يتبين منها بعد التدبر صحة ما لاح لك أو عدم صحته؟
أفرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولاً لإمامك والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيها سواء، لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف؟
أفرض انك نظرت في مسألة قال إمامك قولاً وخالفه غيره، ألا يكون لك هوى في ترجيح أحد القولين بل تريد أن تنظر لتعرف الراجح منها فتبين رجحانه؟
أفرض أن رجل تحبه وآخر تبغضه تنازعا في قضية فاستفتيت فيها ولا تستحضر حكمها وتريد أن تنظر ألا يكون هو اك في موافقة الذي تحبه؟
أفرض أنك وعالماً تحبه وآخر تكرهه أفتى كل منكم في قضية وأطلعت على فتويي صاحبيك فرأيتهما صواباً، ثم بلغك أن عالماً آخر أعترض على واحدة من تلك الفتاوى وشدد النكير عليها أتكون حالك واحدة سواء كانت هي فتواك أم فتوى صديقك أم فتوى مكروهك؟
أفرض أنك تعلم من رجل منكراً وتعذر نفسك في عدم الإنكار عليه، ثم بلغك أن عالماً أنكر عليه وشدد النكير، أيكون استحسانك لذلك سواء فيما إذا كان المنكر صديقك أم عدوك، والمنكر عليه صديقك أم عدوك؟
فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص آخر ليس في الشرع بأشدمما أنت مبتلى به؟ فهل تجد إستشناعك ما هو عليه مساوياً لإستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساوياً لمقتك إياه؟
وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم
لاح لي الخدش؟ فكيف لولم يلح لي الخدش ولكن رجلاً آخر أعترض علي به؟ فكيف كان المعترض ممن أكرهه؟
هذا ولم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى؟ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه. وهذا والله أعلم معنى الحديث الذي ذكره النووي في (الأربعين) وذكر أن سنده صحيح وهو «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» (1) . والعالم قد يقصر في الإحتراس من هواه ويسامح نفسه فتميل إلى الباطل فينصره. وهو يتوهم أنه لم يخرج من الحق ولم يعاده، وهذا لا يكاد ينجوا منه إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم من يكثر الإسترسال مع هواه، ويفحش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمد، ومنهم من يقل ذلك منه ويخف، ومن تتبع كتب المؤلفين الذين لم يسندوا اجتهادهم إلى الكتاب والسنة رأساً رأى فيها العجب العجاب، ولكنه لا يتبين له إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى، أو يكون هواه مخالفاً لما في تلك الكتب، على أنه استرسل مع هواه زعم أن
(1) قلت: أنى له الصحة وفي سنده نعيم بن حماد، وقد سبقت ترجمته، وما فيه من الضعف، ثم هو قد اختلف عليه في إسناده كما بينه الحافظ ابن رجب الحنبلي في «شرح الأربعين» (ص 282 - 283)، وقال: «تصحيح هذا الحديث بعيداً جداً من وجوه، منها تفرد نعيم به
…
» . ثم بينها، فمن شاء التفصيل فاليرجع إليه، وقد أشار البخاري إلي ضعفه في «جزء رفع اليدين» . ن.
موافقيه براء من الهوى، وأن مخالفيه كلهم متبعون للهوى. وقد كان من السلف من يبلغ في الاحتراس من هواه حتى يقع في الخطأ الآخر، كالقاضي يختصم إليه أخوة وعده فيبالغ في الاحتراس حتى يظلم أخاه، وهذا كالذي يمشي في الطريق ويكون عن يمينه مزلة فيتقيها ويتباعد عنها فيقع في مزلة عن يساره!
4-
يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ يه باطل، لا يخلوا عن أن يكون قد سلف منه تقصير أولا، فعلى الأول إن استمر على ذلك كان مستمراً على النقص ومصراً عليه ومزداداً منه وذلك هو نقص الأبد وهلاكه، وإن نظر فتبين له الحق فرجع إليه حاز
الكمال وذهبت عنه معرة النقص السابق، فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد قال الله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّأبينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» . وفي الحديث «كلكم خطاءون وخير الخطائين التوابون» (1) . وأما الثاني وهو أن لا يكون قد سبق منه تقصير فلا يلزمه بما تقدم منه نقص يعاب به البتة، بل المدار على حاله بعد أن ينبه، فإن تدبر وتنبه معرف الحق فإتبعه فقد فاز، وكذلك إن اشتبه عليه الأمر فإحتاط، وإن أعرض ونفر فذلك هو الهلاك.
6 -
يستحضر أن الذي يهمه ويسأل عنه هو حاله في نفسه، فلا يضره عند الله تعالى ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلمه أو مربيه أو أسلافه أو أشياخه على نقص، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يسلموا من هذا، وأفضل هذه الأمة أصحاب رسول الله صلة الله عليه وآله وسلم ورضى عنهم وكان آباؤهم وأسلافهم مشركين. هذا مع احتمال أن يكون أسلافك معذورين إذا لم ينبهوا ولم تقم عليهم الحجة. وعلى فرض أن أسلافك كانوا على خطأ يؤاخذون به فأتباعك لهم وتعصبك لا ينفعهم شياً بل يضرهم ضرراً شديداً فإنه يلحقهم مثل إثمك ومثل إثم من يتبعك من أولادك واتباعك إلى يوم القيامة. كما يلحقك مع إثمك مثل إثم من
(1) أخرجه الترمذي وغيره بلفظ: «كل بني آدم خطاء، وخير
…
» . وسنده حسن. ن.
يتبعك إلى يوم القيامة، أفلا ترى أن رجوعك الى الحق هو خير لأسلافك على كل حال؟
7 -
يتدبر ما يرجى لمؤثر الحق من رضوان رب العالمين، وحسن عنايته في الدنيا والفوز العظيم الدائم في الآخرة، وما يستحقه متبع الهوى من سخطه عز وجل، والمقت في الدنيا والعذاب الأليم الخالد في الآخرة، وهل يرضى عاقل لنفسه أن يشتري لذة إتباع هواه بفوات حسن عناية رب العالمين وحرمان رضوانه والقرب منه والزلفى عنده النعيم العظيم في جواره، وباستحقاق مقته وسخطه وغضبه وعذابه الأليم الخالد؟ لا ينبغي أن يقع هذا حتى من اقل الناس عقلاً، سواء أكان مؤمناً موقناً بهذه النتيجة، أم ظاناً لها، أم شاكاً فيها، أم ظاناً لعدمها، فإن هاذين يحتاطان، وكما أن ذلك الإشتراء متحقق ممن يعرف أنه متبع هواه، فكذلك من يسامح نفسه فلا يناقشها ولا يحتاط.
8 -
يأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبين له، فلا يسامحها في ترك واجب أو ما يقرب منه، ولا في ارتكاب معصية أو ما يقرب منها، ولا في هجوم على مشتبه، ويروضها على التثبت والخضوع للحق، ويشدد عليها في ذلك حتى يصبر الخضوع للحق ومخالفة الهوى عادة له.
9-
يأخذ نفسه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه، فإذا كان فيما نشأ عليه أشياء يرى أه لا بأس بها، أو أنها مستحبة، وعلم أن من أهل العلم من يقول إنها شرك أو بدعة أو حرام، فيأخذ نفسه بتركها حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه، وهكذا ينبغي له أن ينصح غيره ممن هو في مثل حاله، فإن وجدت نفسك تأبى ذلك، فأعلم أن الهوى مستحوذ عليها، فجاهدها.
وأعلم أن ثبوت هذا القدر على المكلف أعنى أن يثبت عنده أن ما يدعى إليه أحوط مما هو عليه كاف في قيام الحجة عند الله عز وجل، وبذلك قامت الحجة على أكثر الكفار، فمن ذلك المشركون من العرب، لم يكن في دينهم الذي كانوا عليه تصديق بالآخرة، وإنما يدعون آلهتهم ويعبدونها للأغراض الدنيوية، مع علمهم أن مالك الضر والنفع هو الله عز وجل وحده، ولذلك كانوا إذا وقعوا في شدة
دعوا الله وحده، قال تعالى:«وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لقمان: 32. وقال تعالى: [وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» الإسراء: 67.
وكانوا يرون من هو على خلاف دينهم لا يظهر تفاوت بينه وبينهم وأحوال الدنيا، وعرفوا فيمن أسلم مثل ذلك، ثم عرض عليهم الإسلام، وعرفوا على الأقل أنه يمكن أن يكون حقاً، وأنه كان حقاً ولم يتبعوه تعرضوا للمضار الدنيوية وللخسران الأبدي في الآخرة، فلزمهم في هذه الحال أن يسلموا، لأنه إن كان الأمر كما بدا لهم من صحة الإسلام فقد أخذوا منه بنصيب، وإلا فتركهم لما كانوا عليه لا يضرهم كما لا يتضرر من خالفهم،
فلم يمنعهم من الإسلام إلا إتباع الهوى. قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» فصلت: 26.
وقال تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ» فصلت: 52.
وقال تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» الأحقاف: 10.
وتكذيبهم للحق وإعراضهم عنه بعد أن قامت الحجة عليهم بأن تصديقه واتباعه أحوط لهم وأقرب إلى النجاة ظلم شديد منهم استحقوا به أن لا يهديهم الله عز وجل إلى استيقان أنه حق، وهذا كما تقدم في قصة نوح، وقال الله تعالى:«وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ» الأعراف: 101.ونحوها في سورة (يونس) : 74 وفيها: «كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» .
وقال الله عز وجل: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» الأنعام 110:109.
وفي (تفسير ابن جرير) 7 / 194: «
…
عن ابن عباس قوله: [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ]
…
قال لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر» . وهذا هو الصحيح، الكاف في قوله:«كما» للتعليل. وكذلك هي في قوله تعالى: «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» البقرة: 198.
قال ابن جرير في (تفسيره) 2 / 163: «يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم له بالخضوع له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق» .
وهو الظاهر في قوله تعالى: «فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» البقرة: 239.
قال ابن جرير 3 / 337: «
…
فاذكروا الله في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم» . وقد ذكر ابن هشام في (المغني) هذا المعنى للكاف فراجعه. وفي (الإتقان) : «الكاف حرف جر له معان أشهرها التشبيه
…
والتعليل نحو «كما أرسلنا فيكم» . قال الأخفش: أي لأجل إرسالنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني، «واذكروه كما هداكم» ، أي لأجل هدايته إياكم
…
» .
10-
يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات، فإنه إذا تم له ذلك هان عليه الخطب، فإنه لا يأتيه من معدن الحق إلا الحق إن كان راغباً في الحق قانعاً به إلى الإعراض عن شيء جاء من معدن الحق، ولا إلى أن يتعرض لشيء جاء من معدن الشبهات، لكن أهل الأهواء قد حاولوا التشبيه والتمويه، فالواجب على الراغب في الحق أن لا بنظر إلى ما يجيئه من معدن الحق من وراء زجاجاتهم الملونة، بل ينظر إليه كما كان ينظر إليه أهل الحق. والله الموفق.