الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضمها هواتها إلى ما سبق، ملصقين لها بالعبادات الشرعية، تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة، فمنهم من تعاطاها ليروج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام الروحي، ويتدرع عن الإنكار عليه بزعم أنه من أولياء الله تعالى، ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلاً للشكوك والشبهات التي أو قعه فيها التعمق في الكلام والفلسفة.
ومن
أول من مزج التصوف بالكلام
الحارث المحاسبي، ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم، وكان من نتائج ذلك قضية الحلاج، ولعله كان في أقران الحلاج من هو موافق له في الجملة، بل لعل فيهم من هو أوغل منه إلا أنهم كانوا يتكتمون، ودعا الحلاج إلى إظهار ما أظهره حب الرياسة.
وكذلك الفارابي وابن سينا نتقاً من ذلك.
وكذلك في كلام متفلسفي المغاربة كابن باجة وغيره. وهكذا الباطنية كانوا ينتحلون التصوف، فلما جاء الغزالي نصب منصب الكلام والفلسفة الباطنية، وزعم أن الحق لا يعدوا هذه الأربع المقالات، وقضى ظاهراً للتصوف مع ذكره كفيره أن طائفة من المتصوفة ذهبوا إلى الأباحة المحضنة، وفي ذلك نبذ الشرائع البتة، ثم لم يزل الأمر يشتد حتى جاء ابن عربي وابن سبعين التلمساني، ومقالاتهم معروفة، ومن تتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأئمة التابعين، وما يصرح به الكتاب والسنة وآثار السلف، وأنعم النظر في ذلك، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم علم يقيناً أنه لا يمكنه إن لم يغالط نفسه أن يصدق الشرع ويصدقهم معاً، وإن غالط نفسه وغالطته، فالتكذيب ثابت في قرارها ولابد.
هذا والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة» .
وورد نحوه من حديث جماعة من الصحابة ذكر في (فتح الباري) منها حديث ابن عباس عند مسلم وغيره، وحديث أم كرز عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان، وحديث حذيفة بن أسيد عند أحمد والطبراني، وحديث عائشة عند أحمد، وحديث أنس عند أبي يعلي. (1)
وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يعتد به، فدل ذلك أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا، والسر في ذلك أن الغيب على مراتب.
الأولى: ما لا يعلمه إلا الله، ولم يعلم به أحداً أو أعلم به بعض ملائكته.
الثانية: ما قد علمه غير الملائكة من الخلق.
الثالثة: ما عليه قرائن ودلائل إذا تنبه لها الإنسان عرفه كما ترى أمثلة ذلك فيما يحكى من زكن إياس والشافعي وغيرهما، فالرؤيا قد تتعلق بما هو من المرتبة الأولى لكن الحديث يقضي أنه لم يبق منها إلا ما كان على وجه التبشير فقط وفي معناه التحذير، والفراسة تتعلق بالمرتبة الثالثة، وبقية الأمور بالمرتبة الثانية، وإنما الفرق بينها والله أعلم أن التحديث والإلهام من إلقاء الملك في الخاطر، والكهانة من إلقاء الشيطان، والكشف قوة طبيعية غريبة كما يسمى في هذا العصر قراءة الأفكار.
نعم قد يقال: أن الرياضة قد تؤهل صاحبها لأن يقع له في يقظته ما يقع له في نومه فيكون الكشف ضرباً من الرؤيا.
وأقول: إن صح هذا فقد تقدم أن الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير، وفي
(1) قلت: قد خرجتها وغيرها في «إرواء الغليل» (2539) ، وبعضها في الأحاديث الصحيحة» (468) ن.
الصحيح (1)«أن الرؤيا قد تكون حقاً وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس» ، والتمييز مشكل، ومع ذلك فالغالب أن تكون على خلاف الظاهر حتى في رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قص من ذلك في القرآن، وثبت في الأحاديث الصحيحة، ولهذه الأمور اتفق أهل العلم أن الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول بمتعة الحج لثبوتها عنده بالكتاب والسنة، فرأى بعض أصحابه رؤيا توافق ذلك فاستبشر ابن عباس.
هذا حال الرؤيا فقس عليه حال الكشف إن كان في معناها. فأما إن كان دونها فالأمر أوضح، وتجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقاً، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون تخيلاً موافقاً لحديث النفس، وصرحوا بأنه كثيراً ما يكشف للجل بما يوافق رأيه حقاً كان أو باطلاً، ولهذا تجد في المتصوفة من ينتسب إلى أهل الحديث ويزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه، وهكذا تجد فيهم الأشعري والمعتزلي والمتفلسف وغيرهم، وكل يزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه، ومخالفه منهم لا يكذبه ولكنه يكذب كشفه، وقد يكشف لأحدهم بما يوافق الفرقة التي ينتسب إليها، وإن لم يكن قد عرف تلك المقالات من قبل، كأنه لحسن ظنه بهم وحرصه على موافقتهم إنما تتجه همته إليهم فيقرأ أفكارهم وترتسم في مخيلته أحوالهم.
فالكشف إذن تبع للهوى، فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكان الساعي في أن يحصل له الكشف، إنما
(1) قلت: المراد بـ (الصحيح) عند الإطلاق أحد (الصحيحين) ، وعلى هذا الاصطلاح جرى المصنف فيما سبق، وهذا أن معناه أن الحديث عند أحدهما، وليس كذلك، فأما أنه وهم في عزوه لـ (الصحيح) ، أو أنه تسامح في التعبير، يعني أنه «وفي الحديث الصحيح» وليس في «الجامع الصحيح» ، وإنما أخرجه الترمذي وابن ماجة. ن
يسعى في أن يضله الله عز وجل، ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز وجل، وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل، دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني، وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنة، ولكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنة بالطريق التي يفهمها بها السلف الصالح.
فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل.
أولاً لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل.
ثانياً لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع، فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع، فالكشف شهد لنفسه فمن يشهد له على تأويله؟
وأما التحديث والإلهام ففي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فأنه عمر» . وأخرجه مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة، وفيه «فإن يكن في أمتي منهم أحد فأن عمر بن الخطاب منهم» وجاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام.
وهذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه ولا عن أحد من أئمة الصحابة وعلمائهم استدلال بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية، بل كان يخفي عليهم الحكم فيسألون عنه، فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيصيرون إليه، وكانوا يقولون القول، فيخبرهم إنسان عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلافه فيرجعون إليه.
وأما الفراسة، فإن المتفرس يمكنه أن يشرح لغيره تلك الدلائل التي تنبه لها، فإذا شرحها عرفت فإن كانت مما يعتد به عملت بها لا بالفراسة.
فصل
مهما يكن في المأخذين الخلفيين من الوهن فإننا لا نمنع أن يستند إليها فيما ليس من الدين ولا يدفعه الدين، بل لا ندفع أن يكون فيهما ما يوصل في كثير من ذلك إلى اليقين، فإن الشرع لم يتكفل ببيان ما ليس من الدين. وكذلك لا نرى كبير حرج في الاستئناس بما يوافق المأخذين السلفيين بعد الاعتراف بأنهما كافيان شافيان، إذ لا يلزم من كفايتهما أن لا يبقى في غيرهما ما يمكن أن يستدل به على الحق، وإنما الممنوع الباطل هو زعم أنهما غير وافيين ببيان الحق في الدين.
ولم يقتصر المتعمقون على هذا الزعم الباطل، بل صاروا إلى عزلهما عن بيان الحق في العقائد البتة، حتى آل بهم الضلال إلى نسبة الكذب إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام، بل إلى رب العالمين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
الباب الثاني: في تنزيه الله ورسله عن الكذب
المتعمقون يردون كثيراً من نصوص الكتاب والسنة في العقائد، فمنهم من ردها مع تصريحه بأن كثيراً منها لا يحمل إلا المعاني التي يزعم أنها باطلة، ويزعم أن الشرع إنما أتي بها مجاراة لعقول الجمهور ليمكن انقيادهم للشرع العملي.
ومنهم من زعم أنها غير صالحة للحجة في العقائد مطلقاُ، زاعماً أن ظهورها في معنى اعتقادي أو صراحتها فيه، اومبالغتها في تأكيده، كل ذلك لا يمكن أن يعلم به أن ذاك المعنى هو مراد المتكلم لدلالة النظر العقلي المتعمق فيه، أو الكشف التصوفي على بطلان كثير من تلك المعاني في زعمه واحتمال مثل ذلك في الباقي.
ومنهم من لم يصرح بما ولكنه قدم غيرها عليها وتعسف في تأويلها تعسفاً مخرجاً عن قانون الكلام، أو اقتصر - مع زعمه أن المعاني المفهومة منطا باطلة - على زعم أن لها معاني أخرى صحيحة لا حاجة إلى معرفتها.
فتحصل من كلامهم حملهم لتلك النصوص على الكذب، أما القول الأول فواضح، وأما الثاني فقريب منه كما يأتي، وأما الثالث فيلزمه ذلك.
تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب
مما علم من الدين بالضرورة وشهدت به الفطرة السليمة والعقول المستقيمة أن من
المحال الممتنع أن يقع الكذب من رب العالمين، وكيف يتصور وقوعه منه؟ وهو عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الحكيم الحميد الذي له الحمد كله، وإنما تخبط في ذلك متأخروا الأشعرية. وكأن الموقع لهم في التخبط ما ألزمهم به المعتزلة في مسألة القدر، - والخوض في القدر أم كل بلية - ولأمر ما ورد في الشرع النهي عن ذلك وشدد فيه السلف.
وإيضاح هذا أن الأشعرية لما صار قولهم إلى أن العباد مجبورون على أفعالهم، قال لهم المعتزلة: كيف يجبر الله تعالى خلقه على الكفر والفجور ثم يعاقبهم عليه، وهذا قبيح ومفسدة والله تعالى منزه عن القبائح، وأفعاله مبنية على المصالح، فاضطرب الأشعرية في هذا ثم لم يجدوا محيصاً إلا أن يجحدوا هذين الأصلين، فقالوا: الأفعال كلها سواء عند العقل ولا يدرك منها حسناً ولا قبحاً، والله عز وجل لا يفعل لشيء، ولا لأجل، إنما يفعل ما يريده، وإرادته لا تعلل بشيء البتة. فقال المعتزلة: فيلزمكم أن يجوز عقلاً أن يكذب الله تعالى، فحاول بعض الأشعرية التملص من هذا الإلزام بوجهين:
الأول: أن الكذب نقص والله سبحانه منزه عن النقص.
الثاني: أنه لو جاز لكان قديماً، وما ثبت قدمه استحال عدمه فيمتنع الصدق. فلم ير بقية الأشعرية هذين الوجهين شيئاً.
أما الأول فلأنه لم يقم برهان عندهم - زعموا - على براءته تعالى من النقص، ومن قال منهم بالبراءة، إنما يقول به في الصفات لا في الأفعال، فأما النقص في الأفعال فهو القبح العقلي الذي ينكرونه.
وأما الثاني فلإنه لو تم يختص بما يسمونه الكلام النفسي، والنزاع إنما هو في الكلام اللفظي.
فصار الأشعرية إلى التزام أنه يجوز عقلاً أن يقع الكذب من الله تبارك وتعالى، ثم حاولوا القول بأنه وإن جاز عقلاً فلا يقع، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أخبر بأن كلام الله تعالى كله صدق. فقالت المعتزلة: إنما ثبتت نبوة النبي بإخبار الله عز وجل بأنه صادق، وذلك بإظهار المعجزة على يده إظهار مستلزماً لذاك الإخبار، إذ هو بمنزلة أن يقول تعالى: صدق في دعواه أنني أرسلته.قالوا: فإن كان العقل يجوز وقوع الكذب من الله تعالى جاز أن يكون هذا الخبر كذباً، فلا يكون مدعي النبوة نبياً، فتجويزكم عقلاً أن يقع الكذب من الله تعالى يلزمه أن لا تثبت نبوة محمد يكون لكم أن تحتجوا على نفي وقوعه بخبر؟ أجاب الأشعرية بأن دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة عادية، وذلك أن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقبها، قالوا:«فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكناً عقلاً فمعلوم انتفاؤه عادة» .
أقول: الذين شاهدوا المعجزات لم يوقنوا جميعاً بل بقي كثيرون منهم مرتابين، وفي القرآن كثيرة نصوص تصرح بذلك، وهذا يدفع أن يكون الله عز وجل أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقب المعجزة.
فإن قيل، الذين بقوا مرتابين إنما ارتابوا لعدم علمهم بأن ذلك فعل الله عز وجل بل جوزوا السحر.
قلت: فإذا لم يقع العلم بالصدق إلا لمن علم أن ذلك فعل الله عز وجل فهذا نظير المثال الذي ذكروه، فلوفرضنا فيه أن ذلك الجم الغفير كانوا يعتقدون أن الملك لا يبالي أصدق أم كذب ولا أَفَعَل ما تقتضيه الحكمة أم ما آتاه، لم يحصل لهم بقيامه