الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قول: أنا مؤمن إن شاء الله
جاء عن بعض السلف كراهية أن يقول الرجل: «أنا مؤمن حقاً» والأمر بأن يقول: «أنا مؤمن إن شاء الله» (1) وكذلك كانوا يقولون، وقال البخاري في (كتاب الإيمان) من (صحيحه) : «باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخاف النفاق عن نفسه، ما منهم أحد يقول: أنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن (البصري) : ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق
…
» .
وفي (فتح الباري) أن مقالة الحسن صحيحة من طرق، وأن في رواية المعلى بن زياد:«سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا آله إلا هو ما مضى مؤمن قط وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق. وفي رواية هشام: سمعت الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخالف النفاق، ولا أمنة إلا منافق إلا» .
واقتبس البخاري أول الترجمة من قول الله تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» . أول (الحجرات) .
(1) راجع الآثار الواردة في ذلك في «كتاب الإيمان» لابن أبي شيبة الذي سبقت الإشارة إليه قريبا كتاب، واستعن على ذلك بـ «فهرس الآثار» الذي وضعناه في آخره. ن
والمؤمن لا تحبط أعماله، قال الله تعالى:«وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً» طه: 112.
وقال تعالى: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . التوبة: 102.
وإنما تحبط أعمال الكافر، قال الله تعالى:«وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» . المائدة: 5
وأقرأ من آل عمران: 22، والأنعام: 88، والأعراف: 77، والتوبة: 17، و69، وإبراهيم: 18، والكهف: 105، والفرقان: 23، والزمر: 65، والقتال: 32 - 34،.
وقد قال تعالى: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . الحجرات: 14.
فإذا كان حال هؤلاء فما الظن بحال من قد آمن واستقر الإيمان في قلبه؟
فأما قوله تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» . هو د: 15 - 16.
فهي في سياق الكلام في الكفار فهي ورادة فيهم ويدخل فيهم المنافقون، وللمؤمنين المخلصين في بعض أعمالهم المرائين في بعضها نصيب من الآية بالنظر إلى ما وقع فيه الرثاء دون غيره.
وأما قوله سبحانه: «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» البقرة: 200 - 202.
فالفريق الأول هم الذين يكون جميع دعائهم وعبادتهم لطلب الدنيا فقط ولا شأن لهم بالآخرة، وهذا أنما يكون ممن لا يؤمن بالآخرة إيماناً صادقاً، ومن لا يؤمن بها فليس بمؤمن، فأما المؤمن فإنه لا بد أن يهتم بالآخرة، فالمؤمن لا يحبط عمله حتى دعاؤه لطلب حاجته المباحة
من الدنيا، فإنه قد لا يقضي الله عز وجل له بعض تلك الحوائج، ولا يعوضه في الدنيا، بل يدخر له ثواب دعائه في الآخرة، كما ورد في أحاديث تفسير استجابة الدعاء، وقد اتفق الأمة فيما أعلم على أن المؤمن لا تحبط أعماله التي أخلص فيها واستمر على إخلاصه، ومن قال من المعتزلة: إن الكبيرة تحبط الأعمال هم الذين يقولون أن ارتكاب الكبيرة يبطل الإيمان.
وروى الخطيب بسنده إلى محمود بن غيلان «حدثنا وكيع قال سمعت الثوري يقول نحن المؤمنون، وأهل القبلة عندنا مؤمنون في المناكحة والمواريث والصلاة والإقرار، ولنا ذنوب، ولا ندري ما حالنا عند الله، قال وكيع: وقال أبوحنيفة: من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شرك، نحن المؤمنون هنا وعند الله حقاً. قال وكيع: ونحن نقول بقول سفيان، وقول أبوحنيفة عندنا جرأة» .
وذكر الكوثري في (تأنيبه) ص 34 هذه الرواية، ثم ذكر عن كتاب ابن أبي العوام بسنده إلى عبيد بن يعيش قال:«حدثنا وكيع قاتل كان سفيان الثوري إذا قيل أمؤمن أنت؟ قال: نعم، فإذا قيل له: عند الله؟ قال: أرجو. وكان أبوحنيفة يقول: أنا مؤمن هنا وعند الله. قال وكيع: قول سفيان أحب إلينا» .
وقال الكوثري ص 67: «لكن الإيمان الشرعي إنما يتحقق عند تحقق الجزم المنافي لتجويز النقيض فمن يقول: أنا مؤمن، ولا أدري ما حالي عند الله، أو: أنا مؤمن إن شاء الله، فإن كان مراد بذلك إن الخاتمة مجهو لة وأرجوالله أن يختم لي بخير فليس ذلك من منافاة الجزم في شيء، وأما إن كان مراده بذلك القول أنا مؤمن هنا ولا أدري ما إذا كان ما اعتقده إيماناً هنا إيماناً عند الله فهو شاك غير جازم بل جوز بتلك الإرادة أن يكون الإيمان خلاف ما يعتقده، فهو ليس من
الإيمان في شيء، لأنه ليس من اليقين على شيء، فتبين من هذا البيان أنه لا يتصور تفاوت أصلاً بين إيمان المؤمنين من جهة الجزم ويكون النقص عن مرتبه اليقين كفراً» .
أقول: مسألة الزيادة والنقصان قد سلف النظير فيها.
فأما المسألة الأخرى فتحريرها أن هناك ثلاث قضايا:
الأولى: اعتقادك ثبوت كل أمر من الأمور التي ترى اعتقاد ثبوت جميعها هو الإيمان الذي لا بد منه.
الثانية: اعتقادك أنك جازم بكل واحد من تلك الأمور الجزم الكافي عند الله عز وجل.
الثالثة: اعتقادك أنك وافٍ بجميع الأمور الضرورية للإيمان في نفس الأمر، من اعتقاد وفعل وترك.
فمن قيل له: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو، أو: إن شاء الله، فهذا يتعلق بالقضية الثالثة كما لا يخفى، ولا يجب تعلقه بالثانية، فأما الأولى فبعيد عنها.
وقد دلت آيات الحجرات السابقة على أن المؤمن قد يزول إيمانه وهو لا يشعر فكيف يسوغ ذلك مع هذا أن تجزم بالقضية الثالثة فتقول: أنا عبد الله مؤمن حقاً، اللهم ألا أن تريد بالإيمان معنى هذا كمجرد النطق بالشهادتين، أو مجرد الاعتراف اللساني بربوبية الله عز وجل.
وتدبر آيات الحجرات، وتأمل معاملتك للنصوص الشرعية التي تخالفها في العقائد والإيمان والفقه زاعماً أنك تخالف ظواهرها، وأنعم النظر في ذلك ألا تخشى أن يكن في معاملتك لها ما هو قديم بين يدي الله ورسوله ورفع لصوتك خلاف صوته وجهر له بالقول كما تجهر لمخالفيك ودون جهرك لأئمتك في الكلام والفقه بكثير؟ !
وتدبر قوله تعالى: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُون» إلى قوله: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» إلى قوله: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . النساء - 59 - 65
وانظر أين أنت منها، ففي هذا الإجمال كفاية، وبها يتضح ما في عبارة الكوثري من المغالطة، فإنها توهم أن قول القائل: أرجو، أو: إن شاء الله، ينافي الجزم بما في القضية الأولى، فإن قول الكوثري في تفسير ذلك «ولا أدري ما إذا كان ما اعتقده إيماناً هنا، إيماناً عند الله» يصدق بأن تكون الإشارة إلى الإيمان بما في القضية الأولى، كأنه قال:
لا أدري هل الإيمان بنبوة محمد إيمان عند الله؟ وهكذا في بقية الأمور، وقول الكوثري:«بل جوز بتلك الإرادة أن يكون الإيمان خلاف ما يعتقده» كالصريح فيما ذكر من الإيهام.
فإن قلت: إذا كان الرجل جازماً بوجود الله تعالى وبروبيته وتفرده بالألوهية ونبوة محمد وغير ذلك من أمور الإيمان التي تتضمنها القضية الأولى فما الذي يشككه في القضية الثانية أي في أنه جازم في تلك الأمور؟ ثم ما الذي يشككه في الثالثة أي في أنه عند الله تعالى مؤمن حقاً؟
قلت: قد مر ما يكفي لوتدبرته، وأزيده إيضاحاً:
تقدم في المسألة السابقة أن الجزم يتفاوت، فإذا ثبت ذلك ولم يكن عندك برهان واضح على أن القدر الذي عندك منه كاف عند اله تعالى، فمن أين يتهيأ لك أن تجزم بذلك؟ وهب أن الجزم الأول لا يتفاوت فمن أبن لك أن تجزم بأن جزمك مسار لجزم جبريل ومحمد عليهما السلام؟ فإن منتك نفسك ذلك فأنظر إن كنت من إتباع المتكلمين في النصوص المصرحة بأن الله تعالى في السماء فوق سماواته على عرشه، والنصوص الدالة على أنه سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وإنه يجيء
يوم القيامة، وغير ذلك مما خالفت فيه السلفيون، ثم تأمل في جزمك بأن محمداً رسول الله صادق في كل ما أخبر به عن الله واستحضر ما تقدم عن أئمتك في مسألة الجهة وفي الباب الثالث: فإن زعمت أنك جازم، فوازن بين ذاك الجزم وبين جزمك بأن الثلاثة أقل من الستة.
وانظر إن كنت فقيهاً في الأحاديث الذي اشتهر أن إمامك يخالفها، وتفكر فيما تعاملها به، وانظر هل تقع منك تلك المعاملة وأنت جازم بأن محمداً رسول الله صادق بكل ما أخبر به عن الله، وأنك محكم له فيما وقع فيه الاختلاف، مسلم لحكمه تسليماً لا تجد في نفسك جرحاً مما قضى؟
وانظر، وانظر، وأعم ذلك أن تنظر في عملك اعمل من يوقن بأن محمداً رسول الله صادق في كل ما أخبر به من التكليف والحساب والجزاء والجنة والنار؟ وهل عملك مساوأو مقارب لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفاضل أصحابه وخيار التابعين؟
وأما القضية الثالثة: فإنك إن تدبرت وجدت شأنها أوضح فأن الأمة اختلفت في أمور الإيمان، فمن الناس من يشترط الجزم بثبوت بعض ما تنفيه أنت أو ينفي بعض ما تثبته، أو يعد منها ما لا تعده.
ومن أهل السنة من يشترط المحافظة على الصلوات المكتوبة، والمعتزلة والخوارج يشترطون المحافظة على الفرائض والسلامة من الكبائر، وليس جزمك بخطأ هؤلاء في جميع ما يخالفونك فيه كجزمك بأن الثلاثة أقل من الستة، أفلا تخشى أن يكون من أقوالهم ما هو حق في نفس الأمر، وتكون أنت مقصراً تقصيراً لا تعذر فيه؟ !
وقد اختلف الفقهاء في كثير من أحكام الصلاة فلعل كثيراً من صلواتك يقول بعض مخالفيك أنها باطلة، فلعلك غير معذور في مخالفته فيكون حكمك حكم من ترك تلك الصلوات. ولعل فيما تسامح نفسك ما يكون فريضة في نفس
الأمر، وفيما تسامح نفسك بفعله ما يكون كبيرة في نفس الأمر، ولعلك لا تستح عذر الجاهل أو المخطئ.
وأشد من ذلك أن رأس أمور الإيمان شهادة ألا آله إلا الله، فهل حققت معنى الألوهية، أفلا تخشى أن يكون في اعتقاداتك وأعمالك ما هو تأليه وعبادة لغير الله عز وجل، وقد قال تعالى:«وما يؤمن أكثرهم بالله وهم مشركون» . يوسف - 106 وقال سبحانه: «اتخذوا أحباركم ورهبانهم أرباباً من دون الله» . التوبة - 31
وفي حديث: «أتقوالشرك فأنه أخفى من دبيب النمل» ، ذكرت طرقه في كتاب (العبادة) وأوضحت أنه على ظاهره. وبسيط هذا المطلب في ذاك الكتاب.
وبالجملة فمن تدبر علم أنه لا يمكنه أن يجزم غير مجازف أنه عند الله مؤمن حقاً إلا أن يريد بقوله «مؤمن» معنى ناطق بالشهادتين وإن لم يعرف معناها تحقيقاً، ولا التزم مقتضاهما تفصيلاً، بل قد يكن مصراً على بعض ما ينافيهما، ولاحول ولا قوة إلا بالله.