المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الرابع: في عقيد السلف وعدة مسائل - القائد إلى تصحيح العقائد

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الباب الرابع: في عقيد السلف وعدة مسائل

‌الباب الرابع: في عقيد السلف وعدة مسائل

من تدبر القرآن وتصفح السنة والتأريخ علم يقيناً أنه لم يكن بين يدي السلف مأخذ يأخذون منه عقائدهم غير المأخذين السلفيين، وأنهم كانوا بغاية الثقة بهما والرغبة عما عداهما، وإلى ذلك دعاهم الشرع حتى لا تكاد تخلوا آية من آيات القرآن من الحض على ذلك. وهذا يقضي قضاء باتاً بأن عقائدهم هي العقائد التي يثمرها المأخذان السلفيان، يقطعون بما يفيدان فيه عندهم القطع، ويظنون ما لا يفيد أن فيه إلا الظن، ويقفون عما عدا ذلك، وهذا هو الذي تبينه الأخبار المنقولة عنهم كما تراها في التفاسير السلفية وكتب السنة، وهو الذي نقله أصاغر الصحابة عن اكبارهم، ثم نقله أعلم التابعين بالصحابة وأخصهم بهم واتبعهم لهم عنهم، ثم نقله صغار التابعين عن كبارهم، وهكذا نقله عن التابعين أعلم أتباعهم بهم، وأتبعهم لهم، وهلم جرا.

وهذا قول السلفيين في عقيدة السلف، ويوافقهم عليه أكابر النظار، صرح بذلك من لم ينصب نفسه منصب المدافع عن الدين والمحامي عن عقائد المسلمين كابن سينا وابن رشد وأشار إليه من نصب نفسه ذاك المنصب كما يأتي في مسألة الجهة. وأما من دون هؤلاء فمضطربون فمنهم من يقف، ومنهم من يزعم أن السلف كانوا واقفين في غالب العقائد التي اختلف فيها من بعدهم يطلقون بألسنتهم ما يوافق ظاهر النصوص غير جازمين بأنه على ظاهره أو على غير ظاهره، ومنهم من ينتحل السلف، فمن أتباع الأشعرية من يقول كانت عقيدة السلف هي عقيدة

ص: 199

الأشعرية نفسها! فكانوا يرون بطلان ظواهر النصوص التي يقول الأشعرية ببطلانها! إلا أنهم لم يكونوا يخوضون في بيان معانيها الأخرى، فكانوا يعتقدون أن الله عز وجل غير مباين للعالم ولا محايث له ولا ولا، ومع ذلك أنهم يطلقون أنه تعالى على عرشه فوق سماواته، معتقدين بطلان ظاهر هذا ساكتين عن معناه الذي يرونه صحيحاً! وهذا القول الأخير شهره المتعمقون حتى لا يكاد يخلوا عنه كتاب من كتب الخلف في أي فن كان.

ويمكن أن يتشبثوا في الانتصار له بأن يقول: لا نزاع أن السلف كانوا أفضل الأمة

وخيرها وأعلمها بالدين وأثبتها على الحق، وكان أسلافنا من المتعمقين علماء خياراً صالحين، يعرفون فضل السلف، فلم يكونوا ليخالفوهم.

فيقال لهؤلاء إن أسلافكم ذهبوا إلى أنه لا يحتج بالعقائد بالكتاب ولا السنة ولا أقول السلف، بل كان المتبعون منهم من أجل خلق الله بالسنة، وأقول السلف، وإنما استقروا عقائدهم من النظر العقلي المتعمق فيه، ثم اعتراض بعض نصوص القرآن التي تخالف راية ورأي أشياخه من المتعمقين، فحاول صرفها عن معانيها، مع أنه في مواضع آخر يقرر أن مثل ذلك الصرف لا يسوغ وأن الخبر إذا كان صريحاً في معنى أو ظاهراً فيه ولا قرينة صحيحة تصرف عنه، فزعم أن ذاك المعنى غير واقع تكذيب للخبر وإن زعم أن المخبر تأول في نفسه معنى آخر كما تقدم إيضاحه غير مرة، وهكذا تصدى بعضهم لنصوص السنة التي تخالف راية ورأي أشياخه فرد بعضها زاعماً أنها مخالفة للعقل، وحاول صرف بعضها عن تلك المعاني كما صنعوا في نصوص القرآن، ولعلهم بظهور سخافتهم فيما يرتكبونه يحاولون ترويجه بأمرين:

الأول: زعمهم أن الملجئ لهم إلى ذلك احتياجهم إلى الدفاع عن الدين، لئلا يلزم من مجيئه بتلك النصوص بطلانه!

الثاني: عيب أئمة المؤمنين الذين يصدقون الله ورسوله، والسخرية منهم بأنهم لا

ص: 200

يعقلون ولا يفهمون، ويسمونهم «الحشوية» وغير ذلك من الأسماء المنفردة - كما صنع ابن الجويني المدعو إمام الحرمين في رده على كتاب «الإبانة» للحافظ أبي نصر السجزي، وذلك قبل أن يرجع ابن الجويني ويتمنى الموت على دين عجائز نيسابور، وكما صنع ابن فورك في كتابه (مشكل الحديث) ، وإني والله ما آسى على ابن فورك وإنما آسى على مسحوره البيهقي الذي امتلأ من تهويلات ابن فورك وغيره رعباً فاستسلم لهم وانقاد ورائهم. (1) وكان عبد الرزاق ابن همام الصنعاتي قد أخذ عن جعفر بن سليمان الضبعي طرفاً من التشيع، فشنعوا عليه بذلك حتى قال محمد بن أبي بكر المقدمي، فقدت عبد الرزاق، ما أفسد جعفر بن سليمان غيره، وليت شعري لوكان ابن فورك والبيهقي أدركا المقدمي ما عسى كان يقول فيها. فأما ما يعترضهم من كلام السلف، فإنهم يصرحون بقلة حياء بأن تلك الأقوال تجسيم كما صنعوا فيما صح عن كبار أئمة التابعين من تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له وقد مر ذلك في الباب الثالث. فإذا كان أشياخهم يردون القرآن والسنة ويجهلون أئمة السلف فكيف تظنون بهم أنهم لا يخالفون السلف؟

(فإن قيل) حاصل هذا أنهم كانوا يعتمدون النظر العقلي، وعلى هذا فما أثبته العقل فهو حق لا ريب فيه، وإذا كان حقاً فلن يكون الكتاب والسنة مخالفين له، ولن تكون عقيدة السلف إلا موافقة له، لأنهم خير الأمة وأفضلها وأعلمها بالحق وأولاها به.

قلت: قد مر في الباب الأول كلمة «العقل» وقع فيها التدليس، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه، وهو الذي أعده الله تعالى ليبنى عليه الشرع والتكليف وهو الذي كان حاصلاً للأمم التي بعث الله تعالى فيها رسله وأنزل فيها كتبه، وهو الذي كان حاصلاً للصحابة ومن لعدهم من السلف، فهذا هو

(1) يعني أن البيهقي سحر بتأويلات فورك وانبهر بها فأخذته عن السير في طريق الصحابة وكبار التابعين وتابعيهم إلى السير وراء ابن فورك كما تجد كثيراً من ذلك في كتابه «الأسماء والصفات» . م ع.

ص: 201

الذي يسوغ أن يقال: إن ما أثبته قطعاً فهو حق، ودون ذلك نظر متعمق فيه، مبني على تدقيق وتخرص ومقاييس يلتبس فيها الأمر في الإلهيات ويشتبه ويكثر الخطأ واللغط، ويطول النزاع والمناقضة والمعارضة على ما أوضحناه في الباب الأول. فهذا هو الذي اعتمده أشياخكم مع اعترافهم بوهنه، ولذلك رجع بعض أكابرهم عنه كما سلف.

فإن قالوا: وكيف يجوز أن يعتمد أولئك الأجلة على ما يسوغ الاعتماد عليه.

قلت: لم يكونوا معصومين، وقد اختلفوا، وخالفهم من هو مثلهم وأعرف منهم بالنظر وبحسبكم أن أكابرهم رجعوا في أو اخر أعمارهم كما مر.

هذا وما منا إلا من يعتز بآبائه وأشياخه، ويعز عليه أن يتبين أنهم كانوا على باطل، ولكن أقل ما يجب علينا أن نعلم أن آباءنا وأشياخنا لم يكونوا معصومين، وهب أنه يبعد عندنا جداً أن يكونوا تعمدوا الباطل، فما الذي يبعد أن يكونوا غلطوا وأخطأو ا؟ وعلى كل حال فليسوا إلا أفراداً من المسلمين وقد اختلف المسلمون، في الفرق الأخرى أئمة وأكابر إن لم يكونوا أفضل من آبائنا وأشياخنا فلم يكونوا دونهم، وإذا راجعت نفسك علمت أنك لست بأحق من مخالفك بالقناعة بما مضى عليه الآباء الأشياخ، وأنه كما يحتمل أن يكون آباؤه وأشياخه هم المبطلين عمداً أو خطأ فمن المحتمل أن يكونوا هم المحقين، بل الحق أنه لك ولا له في التضحية بالنفس والدين في سبيل التعصب الفارغ الذي يعود بالخسران المبين، وبالضرر على الآباء والأشياخ أنفسهم، كما مر في أو ائل الرسالة. فدع الآباء والأشياخ، والتمس الحق من معدنه، ثم إن شيءت فاعرض عليه مقالة آبائك وأشياخك فما وافقه حمدت الله تعالى على ذلك، وما خالفه التمست لهم العذر، برجاء أن يكونوا لم يعتمدوا الباطل، ولم يقصروا تقصيراً لا يسعه عفوالله تبارك وتعالى، بل قد ثبت رجوع بعض أكابرهم كما مر (1) في الباب الأول، ولعل

(1) في وصية الرازي وإمام الحرمين عند موته. م ع.

ص: 202