الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: هجر أهل المعاصي والفسق
اتفق السلف على أنه لا يجوز هجر المسلم فوق ثلاث لحظ من حظوظ النفس والهوى وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام” 1.
كما اتفق السلف على جواز هجران أهل المعاصي والفسق واستدلوا لذلك بعدة أدلة:
منها قوله تعالى {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} هود:113.
قال القرطبي رحمه الله في بيان المقصود بالذين ظلموا قيل: أهل الشرك، وقيل: عامة فيهم وفي العصاة نحو قوله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية2.
ومنها: قصة كعب ابن مالك رضي الله عنه وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وجاء فيها قول كعب رضي الله عنه “ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة” 3.
قال النووي في بيان فوائد الحديث: استحباب هجران أهل البدع والمعاصي وترك السلام عليهم ومقاطعتهم تحقيراً لهم وزجراً 4.
قال ابن حجر: قال الطبري: قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل
1 أخرجه. خ.كتاب الأدب باب الهجرة، انظر فتح الباري (10/492) .
2 تفسير القرطبي (9/108) .
3 أخرجه. خ.كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك. انظره مع الفتح (8/115) ، و. م.كتاب التوبة باب حديث توبة كعب وصاحبيه، انظره مع شرح النووي (17/92) .
4 شرح النووي على مسلم (17/100) .
المعاصي1.
قال ابن عبد البر: في شرحه لحديث “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث” 2 وهذا الحديث وإن كان ظاهره العموم، فهو -عندي- مخصوص بحديث كعب بن مالك، حيث أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهجروه ولا يكلموه هو وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع لتخلفهم عن غزوة تبوك، حتى أنزل الله عز وجل توبتهم وعذرهم، فأمر رسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يراجعوهم الكلام. وفي حديث كعب هذا دليل على أنه جائز أن يهجر المرء أخاه إذا بدت منه بدعة أو فاحشة يرجو أن يكون هجرانه تأديباً له، وزجراً عنها3.
ومنها ما روى عن عائشة رضي الله عنها: "أن صفية بنت حيي رضي الله عنها اعتل جملها وكان عند زينب بنت جحش رضي الله عنها فضل ظهر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا زينب افقري أختك صفية جملاً فقالت: أنا أفقر يهوديتك، وفي رواية: أنا أعطي تلك اليهودية فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك منها، فهجرها، فلم يكلمها حتى قدم مكة وأيام منى في سفره حتى رجع إلى المدينة والمحرم وصفر فلم يأتها ولم يقسم لها ويئست منه، فلما كان شهر ربيع الأول دخل عليها” 4.
ومن الأدلة فعل الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يخذف، فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف 5 أو كان يكره الخذف وقال: إنه لا يصاد به الصيد،
1 فتح الباري (10/497) .
2 سبق تخريجه ص56.
3 التمهيد (6/117-118) .
4 ذكرته هنا مختصراً وهو بأطول من ذلك، وقد أخرجه حم (6/338) د. السنة. باب ترك السلام على أهل الأهواء (4/199) .
5 الخذف كالضرب، رميك بحصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك فترمي بها، انظر القاموس المحيط (ص:1037) ، تاج العروس (6/80) .
ولا يُنكأ به عدو، ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له:“أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف، أو كره الخذف، وأنت تخذف؟ لا أكلمك كذا وكذا”، وفي رواية مسلم “لا أكلمك أبداً” 1.
قال ابن حجر:“وفي الحديث جواز هجران من خالف، وترك كلامه”2.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد” فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن، فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا، قال: فما كلمه عبد الله حتى مات3.
فهذه أدلة صريحة تدل على هجر العاصي زجراً له وتأديباً، لعله يرتدع وينزجر عن فعله.
قال القاضي أبو يعلى:“فأمروا بهجر العاصي تنفيراً عنه وإذلالاً له وكسراً لقلبه فربما ارتدع بذلك عن غيه 4.
1 أخرجه. خ.كتاب الذبائح باب الخذف والبندقة، انظره مع الفتح (9/607) .و. م.في الصيد (3/1548) .
2 فتح الباري (9/608) .
3 حم (2/36) .قال محقق المسند (8/527) :"إسناده صحيح. رجاله ثقات، وأخرجه الطيالسي (1903) ، وأبو عوانة (2/8د)، وقال الحافظ في الفتح (2/405) :وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، وإلا فلو قال مثلاً: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره، لكان يظهر أن لا منكر عليه.
وقال: في قوله: (فما كلمه عبد الله حتى مات) .هذا إن كان محفوظاً يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير.
4 انظر المسائل العقدية من كتاب الروايتين والوجهين (ص:121) .
أما ما ورد في هجر المبتدعة فهو أمر مشتهر عن السلف أنهم هجروا المبتدعة وأمروا بهجرهم ونهوا عن مجالستهم والسلام عليهم وحضور جنازتهم.
أما الفساق فإن الأدلة السابقة صريحة في هجرهم ويخصص بها عموم النصوص الواردة في تحريم هجر المسلم لأخيه المسلم فوق ثلاثة أيام، فإن هذا الهجر المحرم هو فيما إذا كان الهجر لحظ النفس وهواها، أما إذا كان الهجر لله فإنه يجوز حتى يتوب المهجور ولو طال ذلك كما كان الأمر بالنسبة لكعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه، فقد هجرهم المسلمون بأمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة، وهجر النبي صلى الله عليه وسلم زوجه زينب رضي الله عنها ثلاثة أشهر تقريباً ومدة الهجر مرتبطة بأن يظهر العاصي توبة صحيحة لما ورد عن الإمام أحمد أنه قال في عاص: يهجر حتى يظهر توبة صحيحة 1.
ومما ينبغي التنبه له أن العاصي الذي يهجر هو من أظهر فسقه وجاهر بارتكابه للمحرم، أما المستتر بمعصيته فلا يهجر، وإنما ينصح سراً إذا اطلع إنسان على حاله لعله يتوب، ولا يجوز فضحه.
قال الخلال: أبو عبد الله هجر أهل المعاصي ومن قارف الأعمال الردية وكاشف بها، أما من سكر أو شرب أو فعل فعلاً من هذه الأشياء المحظورة ولم يكاشف بها فالكف عن أعراضهم 2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:“من فعل شيئاً من المنكرات كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة، فإن كان الرجل مستتراً بذلك وليس معلناً له أنكر عليه سراً وستر عليه، إلا أن يتعدى ضرره، والمتعدي لا بد من كف عدوانه، وإذا نهاه المرء سراً فلم ينته فعل ما
1 انظر: المسائل العقدية من كتاب الروايتين والوجهين (ص:122) .
2 نقلها عنه القاضي أبو يعلى في كتاب الروايتين والوجهين، انظر المسائل العقدية منه (ص:124) .
ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين”.
وقال أيضاً:“فإذا أظهر المنكر وجب الإنكار عليه بحسب القدرة ويهجر ويذم على ذلك، بخلاف من كان مستتراً بذنبه مستخفياً فإن هذا يستر عليه لكن ينصح سراً، ويهجره من عرف حاله حتى يتوب”1.
وقال الذهبي:“فإذا كان الجار صاحب كبيرة فلا يخلو: إما أن يكون مستتراً بها يغلق بابه عليه، فليعرض عنه، ويتغافل عنه، وإن أمكن أن ينصحه في السر ويعظه فحسن. وإن كان متظاهراً بفسقه، مثل مكاس أو مرابي فهجره هجراً جميلاً، وكذا إن كان تاركاً للصلاة في كثير من الأوقات فمره بالمعروف وانهه عن المنكر مرة بعد أخرى، وإلا فاهجره في الله تعالى، لعله أن يرعوي ويحصل له انتفاع بالهجرة، من غير أن تقطع عنه كلامك وسلامك وهديتك، فإن رأيته متمرداً عاتياً بعيداً عن الخير فأعرض عنه” 2.
كما يحسن التنبيه على أمر آخر مهم في هذا: وهو أن الهجر من العقوبات الشرعية التي ثبتت بالشرع، وهي من الزواجر عن ارتكاب الذنوب، إلا أن هذا الزاجر وهذه العقوبة تستخدم حيث تنفع ويتحقق المقصود الشرعي منها، وهو تقليل الشر وتكثير الخير، أما إذا كانت تؤدي إلى خلاف ذلك من تكثير الشر وتقليل الخير فإن الأولى أن يسعى المسلم إلى الوصول إلى المطلب الشرعي بأوصل الطرق إليه.
قال ابن عبد البر رحمه الله:“ولا هجرة إلا لمن ترجو تأديبه بها أو تخاف من شره في بدعة أو غيرها” 3.
1 مجموع الفتاوى (28/217، 220) مختصراً.
2 حق الجار (ص:46-47) نقلاً عن الهجر من الكتاب والسنة (ص:188) .
3 التمهيد (6/119) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الهجر:“فهذا من نوع العقوبات، فإذا كان يحصل بهذا الهجر حصول معروف أو اندفاع منكر فهي مشروعة، وإن كان يحصل بها من الفساد ما يزيد على فساد الذنب فليست مشروعة” 1.
وقال أيضاً:“الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى ترك المنكرات، والثاني بمعنى العقوبة عليها ـ ثم قال عن الثاني ـ وهو: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات، يهجر حتى يتوب منها.
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كانوا أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدّين وتطهيرهم من الذنوب، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.
وجواب الأئمة أحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة
1 مجموع الفتاوى (28/217) .
والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه”1.
وبه يتبين أهمية أن يستخدم المسلم الحكمة في أمر الهجر، لأن المسلم قد يخالط من هو مرتكب للمنكرات، إلا أنه حاكماً أو سيداً مطاعاً في قومه، أو من يكون تعلقت به مصالح العبد، فإن هجره له لا يؤثر فيه بالارتداع والانزجار بل قد يتمادى تكبراً وغطرسة، وقد يوصل إلى الهاجر الضرر، إما الجسدي، وإما المالي.
وكذلك فإن من الأمور التي ابتلي بها أهل زماننا كثرة العصاة وتنوع عصيانهم، وظهور أنواع من المنكرات تواطأ الناس على فعلها فصارت من عادات بعض الناس، وأعرافهم التي لا يستنكرون فعلها كحلق اللحى وشرب الدخان ونحو ذلك، مما لو هجر المسلم بسببه لصرم الناس إلا قليلاً منهم، وفيهم أهله وأقرباؤه وذوي رحمه، وهؤلاء بهجره لهم لا يرتدعون ولا ينزجرون، فمن هنا أرى أن دعوتهم وتذكيرهم ووعظهم والإنكار عليهم بالرفق واللين واستعمال التأليف لهم بالهدية ونحوها مع القصد الصالح في دعوتهم ووعظهم، فلعل هذا يكون من الجنس الذي بين العلماء فيما نقلت عنهم كابن عبد البر، وشيخ الإسلام والذهبي أنه أنفع وأحرى في تحقق المقصود مع أنه في الحقيقة هو الأمر الممكن للإنسان في هذه الأزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أعلم وأحكم.
1 مجموع الفتاوى (18/204-208) .