الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: حكم الخروج على الحاكم الفاسق
يشترط العلماء شروطاً عدة لا بد من توفرها في الحاكم أو الخليفة أو إمام المسلمين، منها العدالة وهي أن يكون مراعياً لجانب الدّين قائماً بأوامر الله متجنباً لنواهيه؛ لأن من أعظم المصالح المقصود تحقيقها بالولاية والإمامة إقامة الدّين بين الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ورد المظالم وردع الظالم ونحو ذلك من المصالح الدينية والدنيوية 1.
والفاسق كما يقول شارح الطحاوية رحمه الله:“وهو من أظهر بدعة وفجوراً لا يرتب إمامًا للمسلمين فإنه يستحق التعزير فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً” 2.
فإذا كان فاقداً للعدالة في نفسه، فلن يقيم العدالة والحق في غيره، فلا يجوز عقد الولاية للفاسق ابتداءً 3.ولكن إذا تغلب على الحكم فاسق قد صارع في الأمر وقاتل حتى استطاع أن يغلب الناس ويتولى عليهم بالقوة 4، أو كان مستوراً حاله ثم ظهر فسقه وبان عن الدّين انحرافه فهل تسقط طاعته ويجوز
1 انظر: الأحكام السلطانية للماوردي (ص:6)، القاضي أبو يعلى وكتابه الأحكام السلطانية (ص:352) ، لوامع الأنوار البهية (ص:423) .
2 شرح الطحاوية (ص:423) .
3 فتح الباري (13/8) ، شرح النووي على مسلم (12/433) .
4 يرى العلماء صحة ولاية المتغلب وذلك دفعاً لشره، قال الإمام أحمد في رسالته إلى عبدوس (وأمير المؤمنين البر والفاجر من ولى الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن خرج عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين) .انظر طبقات الحنابلة (1/244)، "وقد اجمع الفقهاء على طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه". وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما في الدرر السنية (7/239) :الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء".
الخروج عليه؟
قد دلت الأدلة الشرعية على أنه تجب طاعته ويحرم الخروج عليه.
فمن الأدلة التي توجب طاعة الإمام ما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة” 1.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله وأن نقوم - أو نقول - بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ـ وفي رواية ـ إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان” 2.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك، ومكرهك، وأثرة عليك” 3.
فهذه أحاديث صريحة في وجوب السمع والطاعة لمن تولى أمر المسلمين ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
ولا يعني ذلك لا سمع ولا طاعة مطلقاً، وإنما يعني لا سمع ولا طاعة في معصية الله، فلا يطيع المسلم أحداً من الخلق في معصية الله تبارك وتعالى.
ومن المعلوم أن وجوب السمع والطاعة على المسلم لمن ولاه الله أمر المسلمين، يعني تحريم الخروج عليه، لأن الخروج عليه هو أعظم العصيان له.
1 أخرجه. خ كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، انظر فتح الباري (13/121) .و. م.كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (3/1469) .
2 أخرجه. خ.كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس، انظر فتح الباري (13/192) م. كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء (3/1470) .
3 أخرجه. م.كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (3/1467) .
ومع ذلك، فقد وردت أدلة خاصة، تبين تحريم الخروج على الحاكم إذا فسق وانحرف. منها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات ميتته جاهلية 1، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتله جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه” 2.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى من أميره شيئاً فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً 3 فمات فميتته جاهلية” 4.
وعن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية” 5.
1 قوله (ميتته جاهلية) بكسر الميم يعني: أن حالة موته كموت أهل الجاهلية على ضلال وليس له إمام مطاع، لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك فيموت بذلك الشخص عاصياً، انظر فتح الباري (13/7) .
2 أخرجه. م.كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة الجماعة (3/1477) .
3 قوله (فارق الجماعة شبراً) أي سعى في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق، انظر فتح الباري (13/7) .
4 أخرجه. خ.كتاب الفتن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أموراً تنكرونها، انظر فتح الباري (13/5) .م. كتاب الإمارة باب وجوب لزوم الجماعة (3/1477) .
5 أخرجه. م.الموضع السابق.
وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ”خيار أئمتكم الذي تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة” 1.
فهذه النصوص صريحة في تحريم الخروج على الإمام إذا فسق أو جار.
وقد تكاثرت النصوص عن العلماء في ذلك، فمنها:
قول الإمام أحمد: “والانقياد لمن ولاه الله عز وجل أمركم لا تنزع يداً من طاعته، ولا تخرج عليه بسيفك يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً، ولا تخرج على السلطان بل تسمع وتطيع، فإن أمرك السلطان بأمر هو لله عز وجل معصية، فليس لك أن تطيعه، وليس لك أن تخرج عليه، ولا تمنعه حقه، ولا تعن على فتنة بيد ولا لسان، بل كف يدك ولسانك وهواك، والله عز وجل المعين”2.
وقال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان رحمهما الله في عقيدتهما التي حكياها عن علماء الأمصار وجاء فيها:
“ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة”3.
وقال ابن بطة رحمه الله: “وقد أجمعت العلماء من أهل الفقه والعلم
1 أخرجه. م. كتاب الإمارة باب خيار الأئمة، انظره مع شرح النووي (12/447) .
2 السنة للإمام أحمد، انظر شذرات البلاتين (ص: 46) .
3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/177) .
والنساك والعباد والزهاد من أول هذه الأمة إلى وقتنا هذا: أن صلاة الجمعة والعيدين ومنى وعرفات والغزو مع كل أمير بر وفاجر
…
والسمع والطاعة لمن ولوه وإن كان عبداً حبشياً إلا في معصية الله تعالى، فليس لمخلوق فيها طاعة”1.
وقال النووي رحمه الله: “وأما الخروج عليهم _ يعني الولاة _ وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، ثم قال: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه”.
ونقل عن القاضي عياض قوله: “وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك، وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع، وقد رد عليه بعضهم هذا، بقيام الحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث.
وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق، بل لما غيرمن الشرع وظاهر من الكفر2.
1 الإبانة الصغرى (ص: 279) .
2 ليس هناك ما يدل على كفر الحجاج بن يوسف، ومن خرج على الأئمة من السلف المتقدمين ليس معهم في خروجهم دليل يدل على صحة ذلك منهم، وإنما النصوص على خلاف فعلهم، وإنما كانت لديهم رضي الله عنهم ورحمهم شبه واجتهاد ظنوا به جواز ما فعلوا، ونتيجة تلك المعارك كمعركة الحرة، وكربلاء، وفتنة ابن الأشعث تدل دلالة أكيدة على عظيم حكمة الشارع ورحمته حين أمر بالصبر على ظلم الولاة، فما حدث من سفك الدماء وإزهاق الأرواح وذهاب الممتلكات وانتشار الخوف والبلايا الكثيرة، أعظم بكثير من المفاسد التي كانت متوقعة من أولئك الولاة، والصبر على الوالي الظالم كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحمد عاقبة وأهدى سبيلاً.
وقيل: إن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منع الخروج1.
وقال الطحاوي رحمه الله: “ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة” 2.
فهذه نصوص العلماء صريحة في تحريم الخروج على الحاكم الظالم أو الفاسق وليس هذا إكراماً له، أو رضا بفعله أو تخفيفاً من شأن معصيته؛ لأن العصيان والفسق هو العصيان والفسق من كل أحد، وإنما الشارع الحكيم لاحظ ما يتحقق للناس فيه الخير ويندفع عنهم به الشر، أو يقل فمنع من الخروج على الوالي الفاسق؛ لأن الخروج عليه فتح لباب الشر على مصراعيه، ولا يتحقق للناس من وراء الخروج عليه ما يريدون، وإذا تحقق لهم ما يريدون فإنه لا يتحقق إلا بأضعاف مضاعفة من الشر الذي كانوا فيه قبل قيامهم على الوالي، والله أعلم.
1 شرح النووي (13/432) .
2 انظر: شرح الطحاوية (ص:428) .