الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: مسمى مرتكب الكبائر
عند السلف أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ولا يخرج العبد بارتكابه لشيء من الكبائر من الإسلام، واختلفوا في مسمى مرتكب الكبيرة إلى قولين:
القول الأول: إن مرتكب الكبيرة لا يستحق اسم مؤمن بإطلاق؛ لأن الإيمان وصف مدح وعد الله عليه الجنة في مثل قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
…
} التوبة 72.
ومرتكب الكبيرة ليس من أهل هذا الوعد المطلق، وقد نفى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان في أحاديث عديدة كقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
…
” 1.
فهذه الطائفة من السلف يسمونه مؤمناً ناقص الإيمان أو مسلماً 2.
وحكى المروزي عن الإمام أحمد أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
…
” فقال:“من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن، فهو مسلم ولا أسميه مؤمناً” 3.
وعند هذه الطائفة من السلف أن بين الإسلام والإيمان في إطلاق الشارع فرقاً، فالإسلام مرتبة دون مرتبة الإيمان، فالمسلم مرتبته دون مرتبة المؤمن، وأن المسلم يستحق وصف الإسلام بمجرد نطقه بالشهادتين، أما وصف مؤمن فهو يستحقه بالإتيان بالطاعات وترك المعاصي.
وممن ورد عنه التفريق بين الإسلام والإيمان الزهري رحمه الله حيث قال:
1 سيأتي تخريجه ص 83.
2 انظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/512-517) .
3 تعظيم قدر الصلاة (2/529) .
“الإسلام الكلمة والإيمان العمل”1
وورد عن حماد بن زيد أنه قال:“الإسلام عام، والإيمان خاص” 2
وورد عن الإمام أحمد التفريق بينهما، فقد ذكر عنه القاضي أبو يعلى روايات في ذلك منها: أنه قال في رواية حنبل:“الإيمان غير الإسلام” 3
وقال في رواية صالح:“قال ابن أبي ذئب الإسلام القول، والإيمان العمل، قيل: فما تقول أنت؟ قال: الإسلام غير الإيمان” 4
1أخرجه. د. في سننه (2/269)، وعبد الله في السنة (ص:91) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/507) . والذي يظهر أن مراد الزهري رحمه الله أن الإسلام الكلمة، بمعنى أنه يستحق الدخول في الإسلام ويسمى مسلماً من أتى بالشهادتين، أما الإيمان فلا يستحق الوصف به إلا بالإتيان بالعمل أو يكون قصد بالكلمة
الشهادتين وتوابعهما من الأعمال الظاهرة، انظر: مجموع الفتاوى (7/258) ، فتح الباري (1/76) .
2 أخرجه ابن منده في الإيمان (1/311) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/512)، وفسره ابن منده بأن قوله: الإسلام عام أي من ناحية معرفته، فإن الخلق يطلعون عليه، أما الإيمان فهو خاص من ناحية أن معرفته خاصة بالله دون خلقه. والذي يظهر لي أن معنى كلام حماد أن الإسلام عام من ناحية أهله؛ لأن كل من أتى بالشهادتين دخل في الإسلام فيكون مسلماً، أما الإيمان فهو خاص من ناحية أهله فلا يتحقق إلا بالعمل بالطاعات وترك المنهيات، والله أعلم.
3 السنة للخلال (3/602) .
4 السنة للخلال (3/604) وانظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (ص: 421) .
هذا ما ورد عن السلف ممن يرى الفرق بين مسمى الإسلام والإيمان، ومن العلماء من ذكر وجهاً آخر للتفريق بينهما، وهو أن الإسلام والإيمان بينهما تلازم فهما يجتمعان ويفترقان فحيث قرن بين الإسلام والإيمان في كلام الشارع فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل عليه السلام، وإذا افترقا دخل كل واحد منهما في الآخر، وذلك كما ورد في حديث وفد عبد القيس، فقد فسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، وكما في قوله تعالى {إن الدّين عند الله الإسلام} . آل عمران 19. وقد قال بهذا التفريق جمع من العلماء مثل الخطابي في معالم السنن انظره في (7/49) ، والنووي في شرحه على مسلم (1/148) ، والبغوي في شرح السنة (1/10) ، وشيخ الإسلام في الفتاوى (7/357) ، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص: 25) .
وممن قال بهذا القول وهو التفريق بين الإسلام والإيمان ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والزهري، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن أبي ذئب، ومالك، وشريك، وحماد بن زيد، والإمام أحمد، وابن جرير، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وغيرهم 1.
فهؤلاء يتوجه على قولهم أن الفاسق لا يصح وصفه وتسميته بالإيمان المطلق؛ لأنه أخل بواجباته، واعتبر هؤلاء العلماء وصف الإيمان المطلق وصف مدح لا يستحقه من فسق بارتكابه للمحرمات؛ لهذا كانوا يتحاشون من هذا الوصف عموماً ويرون الاستثناء فيه، فقد قال رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟ فقال: أرجو، فقال ابن مسعود:“أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ ” 2.
وفي رواية عنه أن رجلاً قال عنده: أنا مؤمن، فقال عبد الله: فقل:”إني في الجنة، ولكن آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله
…
” 3.
1 انظر: السنة للخلال (3/604-605) ، والسنة لعبد الله (1/311) ، وتفسير ابن جرير (9/26/89) ، اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/812)، الإبانة الصغرى لابن بطة (ص: 182) ، الإيمان لابن منده (1/311) ، الفتاوى لشيخ الإسلام (7/359) ، تفسير ابن كثير (4/419) .
2 أخرجه أبو عبيد في الإيمان (ص: 67) وهو منقطع بين الحسن وابن مسعود، كما ذكر ذلك الألباني في التعليق.
3 أخرجه أبو عبيد في الإيمان (ص: 67) وهو على شرط الشيخين كما قال الألباني في التعليق.
ونحو هذا ورد عن إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وطاووس وغيرهم 1.
القول الثاني: إن مرتكب الكبيرة يسمى مسلماً، ويسمى مؤمناً، وإن كان ذلك ليس على الكمال، لأنه لا يخرج من هذا المسمى بسبب ارتكابه لشيء من الكبائر؛ لأن أصل الإيمان معه فهو بالتالي لا يخرج منه إلا بارتكابه لما يناقض أصل الإيمان، فمن دخل في الإيمان والإسلام استحق هذا المسمى وإن لم يستكمله.
قال محمد بن نصر المروزي:“فمن صدق بالله فقد آمن به، ومن آمن بالله فقد خضع لله وقد أسلم لله، ومن صام، وصلى، وقام بفرائض الله، وانتهى عما نهى الله عنه، فقد استكمل الإيمان والإسلام المفترض عليه، ومن ترك من ذلك شيئاً فلن يزول عنه اسم الإيمان ولا الإسلام إلا أنه أنقص من غيره في الإسلام والإيمان من غير نقصان من الإقرار بأن الله وما قال حق لا باطل، وصدق لا كذب، ولكن ينقص من الإيمان الذي هو تعظيم للقدر، خضوع للهيبة والجلال، والطاعة للمصدق به وهو الله عز وجل، فمن ذلك يكون النقصان، لا من إقرارهم بأن الله حق وما قاله صدق” 2.
وقال في موضع آخر:“إن شاربة الخمر والسارقة مؤمنة في الحكم والاسم، لا مؤمنة مستكملة الإيمان، ومستحقة ثواب المؤمنين” 3.
وقد عزا المروزي هذا القول إلى جمهور أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث 4.
وهذا القول الذي ذكره المروزي رحمه الله ونصره من جواز تسمية
1 انظر: الروايات عنهم في الإيمان لأبي عبيد (ص:67)، والشريعة للآجري (ص:139) .
2تعظيم قدر الصلاة (2/543)
3تعظيم قدر الصلاة (2/542) .
4المصدر نفسه (2/529) .
مرتكب الكبيرة مؤمناً يلزم كل من لم ير فرقاً بين مسمى الإسلام والإيمان في الشرع، وإنما يرى أن الإسلام والإيمان شيء واحد.
وعلى هذا القول البخاري صاحب الصحيح وعزاه في الفتح إلى المزني صاحب الشافعي، وإليه ذهب ابن عبد البر، وعزاه إلى جمهور أهل السنة والحديث1.
فهذان القولان مأثوران عن أهل السنة في تسمية مرتكب الكبيرة، وأن منهم من لا يجيز تسميته مؤمناً وإنما يسميه مسلماً.
ومنهم من يرى أنه لا يجوز أن ننفي عنه اسم الإيمان؛ لأن الإسلام والإيمان سواء، بل يسمى مؤمناً ومسلماً.
والقولان متقاربان جداً؛ لأن من لا يرى جواز إطلاق اسم الإيمان على الفاسق لا يخرجه من الدّين، بل يرى أن معه إيمان به تصح أعماله، وبه تصح نسبته إلى هذا الدّين، إلا أن إيمانه نقص نقصاً لا يستحق معه إطلاق هذا المسمى عليه، ويجوز عنده أن يقال عنه إنه مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
ومن يرى أنه يجوز إطلاق اسم الإيمان على مرتكب الكبيرة لا يعتقد أنه على إيمان كامل، بل يرى أنه ناقص الإيمان غير مستكمل له، لكن لا يجوز أن نقول إنه غير مؤمن بإطلاق، وإنما يجوز أن نقول هو غير كامل الإيمان.
فمن هنا يتبين أن الخلاف بين القولين في المسمى؛ لأن كلاً منهما اعتبر أوجهاً شرعية رأى فيها ما يرى أنه الحق.
فأصحاب القول الأول الذين يرون عدم جواز إطلاق اسم الإيمان على مرتكب الكبيرة لاحظوا أن الشرع اعتبر اسم الإيمان اسم تزكية ومدح وثناء، ومرتكب الكبيرة ليس من أهلها.
1انظر: فتح الباري (1/114) ، التمهيد لابن عبد البر (3/226) .
أما أصحاب القول الثاني فلاحظوا أن الشارع أثبت هذا المسمى لمن وقع في بعض الكبائر كما في قوله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
…
} . فسماهم مؤمنين مع وقوع الاقتتال بينهم 1.
وقد أجاب عن ذلك أصحاب القول الأول: بأن هذا الإطلاق إنما هو على اعتبار أنهم مؤمنون في الأحكام والمواريث وليس في الإطلاق العام، وهم يقولون إن مرتكب الكبيرة يسمى مؤمناً على هذا الاعتبار.
روى الآجري بسنده عن سفيان الثوري أنه قال: “ الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل ونرجو أن نكون كذلك” 2.
وذكر شيخ الإسلام أن الشالنجي قال: سألت الإمام أحمد عمن قال: أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث، ولا أعلم ما أنا عند الله، قال: ليس بمرجئ.
قال شيخ الإسلام: وبه قال أبو خيثمة وابن أبي شيبة 3
قال أبو عبيد معللاً وجه الاستثناء في الإيمان عند السلف: مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهادتهم ومناكحتهم وجميع سننهم إنما هي على الإيمان 4.
فمن هذا يتضح أن القولين متقاربان إلا أن القول الأول وهو من يرى عدم جواز إطلاق اسم (مؤمن) على مرتكب الكبيرة أكثر التصاقاً بالنصوص
1 انظر: تعظيم قدر الصلاة (2/543) .
2 الآجري في الشريعة (ص:136) .
3 الفتاوى (7/253) .
4 الإيمان لأبي عبيد (ص:68) .
وإعمالاً لها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نفى الإيمان عن طائفة ممن عملوا السيئات وارتكبوا المحرمات كما في الحديث الصحيح “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن” 1.
وقوله “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن عهد له” 2 وقوله “والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه” 3.
فمن نفى الإيمان عن مرتكب الكبيرة إنما وافق هذه النصوص التي لا مدفع لها، ومن المعلوم أن نفي الإيمان عن أصحاب هذه الذنوب لا يعني إخراجهم من الإيمان ولا نفي التصديق الذي بقلوبهم، وإنما يعني نفي كماله الذي به يستحقون هذا الإطلاق وأما ما ورد من النصوص، وقد أطلق على أصحابها وصف الإيمان مع ارتكابهم للذنوب مثل قوله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
…
} الحجرات 49. ونحوها من النصوص.
فوجه هذا أنه سماهم بهذا الاسم الذي يصح إطلاقه عليهم على الاعتبار السابق الذكر عن سفيان والإمام أحمد وغيرهم وهو من طريق الأحكام في الدنيا وأنهم مؤمنون من ناحية المواريث والأحكام لا من ناحية الإطلاق العام، والله أعلم.
1انظر تخريجه ص 83.
2انظر تخريجه ص 83.
3انظر تخريجه ص 83.