الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: لعن مرتكب الكبيرة
اللعن في اللغة: الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء 1.
مما يتفق عليه أهل العلم جواز اللعن المطلق لمرتكبي بعض المحرمات التي ورد في الشرع لعن مرتكبيها 2 مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده” 3.
وقوله عليه الصلاة والسلام “لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من آوى محدثاً ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض” 4.
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء” 5. ونحو ذلك من الأحاديث.
واختلفوا في المعين من مرتكبي الكبائر هل يجوز لعنه أم لا؟ إلى أربعة أقوال: القول الأول: جواز لعن العاصي المعين مطلقاً، وقال بهذا ابن الجوزي وطائفة من أصحاب الإمام أحمد 6 والسراج البلقيني 7.
1 لسان العرب (5/4044)، المعجم الوسيط (ص:829) .
2 انظر: تفسير القرطبي (2/190) .
3 أخرجه. خ.كتاب الحدود باب لعن السارق إذا لم يسم فتح الباري (21/81) .و. م.كتاب الحدود، انظره بشرح النووي (11/186) من حديث أبي هرير ة رضي الله عنه.
4 أخرجه. م.كتاب الأضاحي. انظره: بشرح النووي (13/142) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
5 أخرجه. م.كتاب المساقاة، انظره بشرح النووي (11/28) .
6 منهاج السنة النبوية (4/569) .
7 فتح الباري (12/86) .
واحتج من أجاز ذلك بالأحاديث التي ورد فيها لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل بعض المحرمات بالأحاديث السابقة، وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح” 1.
فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن وذكر كذلك لعن الملائكة لمن يستحق اللعن فيستوي فيه المعين وغيره 2.
القول الثاني: أنه يجوز لعن المعين ما لم يقم عليه الحد، فإذا أقيم عليه الحد فلا يجوز لعنه، وقال بهذا ابن بطال 3.
وقد استدل من قال ذلك بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله ” 4.
قال الحافظ في الفتح: وفي رواية “فوالله ما علمت أنه ليحب الله ورسوله” وتكون ما زائدة 5.
فقالوا: إن النهي هنا إنما كان بعد إقامة الحد لا قبله.
القول الثالث: أن لعن المعين لا يجوز إلا أن يكون مجاهراً، ذكر هذا القول
1 أخرجه. خ.كتاب النكاح باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، انظر فتح الباري (9/293) .
2 انظر: فتح الباري (12/76) .
3 فتح الباري (12/81) ، تفسير القرطبي (2/189) .
4 أخرجه. خ. كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر، انظر فتح الباري (12/75) .
5 فتح الباري (12/78) .
الحافظ في الفتح 1.
القول الرابع: أن لعن المعين لا يجوز مطلقاً، وبه قال النخعي، فقد روى الخلال بسنده عنه أنه سئل: ما ترى في لعن الحجاج وضَرْبهِ من الناس؟ فقال: لا تسمع إلى قوله تعالى {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 2.
وبه قال الإمام أحمد، فقد روى ابنه صالح أنه قال له: الرجل يذكر عنده الحجاج أو غيره فيلعنه، قال: لا يعجبني لو عبر، فقال:{أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .
وبه قال الخلال وعزاه إلى الحسن وابن سيرين 3، وعزاه شيخ الإسلام إلى أبي بكر عبد العزيز من أصحاب الإمام أحمد 4.
وبه قال البخاري حيث بوب (باب لعن السارق إذا لم يسم) 5، وكذلك القاضي عياض، والنووي، وابن العربي، وحكى فيه الاتفاق 6، وهو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا الصنعاني، والشوكاني 7.
وقد استدل من قال بهذا بالحديث السابق وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن لعن الذي حده في شرب الخمر وقال: “لا تلعنوه”، وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام: ”لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم” 8، مع أنه عليه الصلاة
1 فتح الباري (12/76) .
2 السنة للخلال (3/523) .
3 المصدر السابق.
4 منهاج السنة النبوية (4/569) .
5 انظر: فتح الباري الحدود (12/81) .
6 انظر: تفسير القرطبي (2/189) .
7 منهاج السنة النبوية (4/573) ، سبل السلام (3/144) ، ونيل الأوطار (6/209) .
8 أخرجه. خ.كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، انظره: مع الفتح (12/75) .
والسلام قد لعن شارب الخمر، فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله عز وجل لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومستقيها ” 1.
فقالوا: إن حديث عمر في نهيه عن لعن شرب الخمر يحمل على المعين، أما حديث ابن عباس فهو في لعن غير المعين ولعن الشارب عموماً 2.
واستدلوا أيضاً بحديث “لعن المؤمن كقتله” 3.
قال النووي رحمه الله: أن اللعن من المعاصي الشديدة القبح
…
وقد قال صلى الله عليه وسلم “لعن المؤمن كقتله”. واتفق العلماء على تحريم اللعن فإنه في اللغة: الإبعاد والطرد. وفي الشرع: الإبعاد من رحمة الله تعالى، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحدٍ بعينه مسلماً كان أو كافراً أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس 4.
وقد استدل بهذا الحديث الإمام أحمد في إنكاره للعن يزيد بن معاوية، فقد روى الخلال أن أبا طالب قال: سألت أبا عبد الله من قال لعن الله يزيد بن
1 حم (1/316) ، وأخرج نحوها. ت.عن أنس كتاب البيوع، باب النهي عن أن يتخذ الخمر خلاً (3/589) ، جه. كتاب الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه (2/1121) عن أنس وابن عمر رضي الله عنهما.
2 منهاج السنة النبوية (4/573) .
3 أخرجه. خ.كتاب الأدب، باب ما نهى عن السباب واللعن، انظره مع الفتح (10/465) .وم. كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، انظره مع شرح النووي (2/119) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4 شرح النووي على مسلم (2/67) .
معاوية؟ قال: لا أتكلم في هذا، قلت: ما تقول فإن الذي تكلم به رجل لا بأس به، وأنا صائر إلى قولك، فقال أبو عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ”لعن المؤمن كقتله” فأرى الإمساك أحب إليَّ 1.
وقد أجاب من منع لعن الفاسق المعين عن استدلال المجيزين لذلك بحديث أبي هريرة الذي ورد فيه لعن الملائكة للمرأة التي تأبى على زوجها، بأن ما ورد في الحديث هو الإخبار عن لعن الملائكة، وهو أمر موجه إليهم، وليس إلينا، كما أخبرنا أن الله لعن شارب الخمر إلا أنه لم يأمرنا بلعنه2.
فعليه فالراجح فيما أرى عدم جواز لعن الفاسق المعين، وإنما يلعن الوصف كأن يقال لعنة الله على شارب الخمر وآكل الربا والواصلة ونحو ذلك مما ورد في الأحاديث، وذلك لأن لعن المعين معناه طرده وإبعاده من رحمة الله فيكون بهذا من جنس القطع له بالنار والخلود فيها، وهذا خلاف عقيدة أهل السنة وخلاف الحق الذي دلت عليه النصوص، ثم إنا لا ندري ما يختم للإنسان، فلا نقطع بذلك على مسلم، مع ما ورد من الأحاديث من النهي عن اللعن عموماً كما في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار”3.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“ليس المؤمن بالطعّان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء” 4. والله أعلم.
1 السنة للخلال (3/521) .
2 انظر: سبل السلام للصنعاني (4/144) .
3 أخرجه. ت.كتاب البر باب ما جاء في اللعنة، وقال: حديث حسن صحيح (4/350) .
4 أخرجه. ت.الموضع السابق، وقال: حسن غريب.