الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: في أقوال أهل العلم في بيان معنى النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة
أولاً: النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب بعض الذنوب
…
المبحث الثالث: في أقوال أهل العلم في بيان معنى النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة، أو تصفه بالكفر، أو قال فيه “ليس منا” ونحوها
مما يجمع عليه السلف أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بسبب ارتكابه لشيء من الكبائر، وقد وردت نصوص في الشرع قد يفهم منها غير المطلع على كلام أهل العلم خلاف ذلك، فنبين إن شاء الله كلام أهل العلم في معناها.
أولاً: النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب بعض الذنوب:
وردت نصوص في الشرع نفي فيها الإيمان عن مرتكبي بعض الذنوب.
وذلك مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن” 1.
وعن شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه” 2.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له” 3.
1 أخرجه خ. المظالم ب. النهي بغير إذن صاحبه (2/279) ، م. في الإيمان 01/76) .
2 أخرجه خ. الأدب. ب. أثم من لا يؤمن جاره بوائقه انظره مع الفتح (10/457) . حم. (2/288) .
3 أخرجه حم. (3/135، 154) ، والبغوى في شرح السنة (1/75) وحسنة، وابن أبي شيبة في الإيمان ص5، وحسنة الألباني في التعليق على الإيمان لابن أبي شيبة، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/495) ..
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان” 1.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه الأحاديث إلى أقوال عدة، وذلك بعد أن أجمعوا على أن المعاصي لا يخرج صاحبها من الدين ولا يكون بها كافراً خلافاً للخوارج والمعتزلة 2.
القول الأول: أن المراد بذلك أن الإيمان يرتفع عنه حال المعصية، ثم إذا أقلع وتاب رجع إليه إيمانه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق.
وممن قال بهذا ابن عباس. فقد روي عنه أنه كان يقول لغلمانه: ”من أراد منكم الباءة زوجناه لا يزني منكم زان إلا نزع منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده عليه رده عليه، وإن شاء أن يمنعه منعه” 3.
وبه قال أبو هريرة أيضاً فقد روي عنه أنه قال: “الإيمان نزه فمن زنا فارقه الإيمان فإن لام نفسه وراجع رجع إليه الإيمان” 4.
وبه قال الإمام أحمد، فقد روي الخلال أن حنبل قال: “قلت لأبي عبد الله: إذا أصاب الرجل ذنباً من زنا أو سرق يزايله إيمانه؟ قال: هو ناقص الإيمان فخلع منه الإيمان كما يخلع الرجل قميصه فإذا تاب وراجع عاد إليه إيمانه” 5
1 أخرجه. د. في السنة. ب. الإرجاء (2/270) والحاكم في المستدرك الإيمان (1/22) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصحح الحديث السيوطي. انظر فيض القدير (1/367) ، وكذلك الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/22) .
2 سبقت الإشارة إلى قول الخوارج والمعتزلة في الهامش.
3 أخرجه الآجري في الشريعة ص114، وابن أبي شيبة في الإيمان ص32، وابن بطة في الكبير (2/715) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/504) .
4 الآجري في الشريعة ص115، السنة لعبد الله ص91.
5 السنة للخلال (3/607) وانظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص319.
وبهذا قال عطاء وطاووس والحسن رحمهم الله 1.
ومن قال بهذا القول لا يعني أن إيمان العاصي زال عنه بالكلية بحيث خرج من الدين بالكلية فهذا ليس قولاً لأهل السنة، وإنما هو قول الخوارج والمعتزلة، وإنما المقصود زال عنه نوره الذي يدفعه للخير ويحجزه عن الشّرّ، وبقي له من الإيمان اسم لا يدفع عنه العقوبة يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام في حديث أبي هريرة: قوله “خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة” دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية، فإن الظلة تظل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط - ثم بين رحمه الله، أن التصديق الذي يفرق بين المسلم والكافر، والذي يمنع الخلود في النار وترجى به الشفاعة والمغفرة ويستحق به المناكحة والموارثة لم ينعدم من مرتكب الكبيرة، إنما زال عنه الإيمان الذي ينال به النجاة من العذاب وتكفير السيئات وكرامة الله ومثوبته ويكون به محموداً مرضياً، وبين أيضاً، أن الزاني ونحوه لفرط شهوته، أو لغفلته عن التحريم، وعظمة الرب، غمر مقتضى إيمانه، ومنعه من التأثير وذلك مثل عقل السكران، فإن عقل السكران مستور بسبب سكره فلو قال قائل: السكران ليس بعاقل، فإذا صحا عاد عقله إليه كان صادقاً، مع العلم بأنه ليس بمنزلة البهيمة إذ أن عقل السكران مستور وعقل البهيمة معدوم، فكذلك معنى الحديث أصل إيمانه موجود، ولكن الإيمان الذي يمنع ارتكاب المنكرات ويبلغ أعلى الدرجات في الجنة معدوم2.
القول الثاني: إنه بارتكابه للكبائر يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وذلك أن الإيمان مرتبة عالية والإسلام دونها، فارتكابه للذنوب ووقوعه في القبائح يتنافى
1 التمهيد لابن عبد البر (9/255) .
2 انظر مجموع الفتاوى (7/ 670-676) وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/573) .
مع الرتبة العالية في الدين، وهي الإيمان، فيخرج منها إلى المرتبة التي دونها وهي الإسلام، ولا يعني ذلك أنه لم يبق في قلبه شيء من الإيمان، وإنما معه إيمان ينجيه من الخلود في النار، وقد قال بهذا أبو جعفر الباقر وهو قول للإمام أحمد 1.
القول الثالث: أن المنفي في هذه الأحاديث هو الكمال الواجب الذي يعاقب تاركه، قال أبو عبيد القاسم بن السلام رحمه الله: “فكلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت تعبيرها 2 قيل ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين، ولا الأمارات التي يعرف بها أنه الإيمان، فنفت عنهم حينئذ حقيقته ولم يزل عنهم اسمه”. فإن قال قائل كيف يجوز أن يقال: ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً، وإنما وقع معناها هاهنا على نفي التجويد لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم وغير عامل في الإتقان 3.
وهو قول للإمام أحمد، وأخذ به القاضي أبو يعلى، ورجحه بقوة المروزي وقال به النووي، وابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والسفاريني 4.
1 انظر سنن الترمذي (5/16) ، المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/506) ، الآجري في الشريعة ص113، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (ص320) ، الفتاوى (7/244) .
2 يقصد بذلك الآيات التي وصفت المؤمنين بالصفات الكاملة مثل قوله تعالى {قد أفلح المؤمنون
…
} ، {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
…
} ونحوها.
3 الإيمان لأبي عبيد ص90. وانظر نحوه عند المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/409- 516) .
4 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص319، شرح النووي على مسلم (2/41-42) . مجموع الفتاوى (7/524) ، الانتصار في الرد على المعتزلة (3/701) ، التمهيد لابن عبد البر (9/243) ، لوامع الأنوار البهية (1/416) ، تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/535) .
القول الرابع: إن أحاديث الوعيد كلها تمر كما جاءت ولا تفسر، وأنها على التأكيد والتشديد.
وممن روي عنه ذلك الزهري حيث سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم “ليس منا من لطم الخدود” وما أشبهه، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: “من الله عز وجل العلم وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم”. 1
وهو قول للإمام أحمد، وعزا شيخ الإسلام إلى عامة علماء السلف أنهم يقرون هذه الأحاديث ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك عزا ابن حجر إلى كثير من السلف إطلاق لفظ الأخبار في الوعيد، وعدم التعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر. 2
القول الخامس: قول من يرى أن أحاديث الوعيد عموماً خرجت مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر عن المعاصي، وعزا هذا القول ابن حجر إلى الطيبي، وقد استنكر هذا القول أبو عبيد وقال عنه: أفظع ما تأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب، لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكناً في العقوبات كلها3.
القول السادس: إن الحديث ليس خبراً، وإنما هو نهي فيكون معناه “لا يزني الزاني وهو مؤمن
…
“، أي لا ينبغي للمؤمن أن يزني تنزيهاً للإيمان وتعظيماً له، وقال بهذا الضحاك وكذلك الخطابي، وقد رده العلماء: بأن الحديث صريح
1 السنة للخلال (3/579) ، مجموع الفتاوى (7/674) .
2 انظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص317، مجموع الفتاوى (7/674) ، فتح الباري (13/24) .
3 الإيمان لأبي عبيد ص88. الانتصار في الرد على القدرية (3/701) ، فتح الباري (12/60) .