الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الخبر وليس النهي1.
القول السابع: إن المراد به مستحل الزنا وشرب الخمر، وأن المنفي في ذلك هو الإيمان بالكلية 2.
فهذه أشهر الأقوال في معنى هذه الأحاديث، وظاهر منها أن الأقوال الأربعة الأولى متقاربة، وهي تؤكد أن الكبيرة والذنب عموماً يؤثر على الإيمان، إما بنفي كماله، أو نوره وما يكون به خضوع لهيبة الله وجلاله، أو بإخراجه من دائرة أهل الإيمان إلى مرتبة أدنى في الدين وهي الإسلام، وإما أن يترك اللفظ الشرعي كما ورد ولا يؤول ليكون أبلغ في الزجر، مع اعتقاد أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بذلك. وهي فيما أرى أرجح الأقوال في معنى هذه الأحاديث والله أعلم.
وبهذا يتبين أن الكبائر قد أزالت عن مرتكبها ذلك المسمى الذي هو الإيمان، وذلك الوصف الذي هو المؤمن، الذي وعد الله أهله بالنجاة من النيران والفوز بالجنان ورضى الرحمن في مثل قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} التوبة72. وتكون الكبائر جالبة للإنسان خسارة عظمى وبلية كبرى نسأل الله العافية.
1 انظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/641) ومعالم السنن للخطابي بهامش سنن أبي داود (7/54) .
2 تعظيم قدر الصلاة (2/644) .
ثانياً: النصوص التي ورد فيها وصف مرتكبي بعض الذنوب بالكفر:
كما وردت أحاديث تنفي عن مرتكب الكبيرة الإيمان، فقد وردت أحاديث تصف مرتكبي بعض الذنوب بالكفر، فمن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ” 3.
3 أخرجه م. الإيمان (1/79) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول لله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغي عن أبيه فهو كافر"1.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”سباب المسلم فسوق وقتاله كفر” 2.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت” 3.
وعن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول: ” أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم”. قال منصور: قد والله روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكني أكره أن يروى عني هاهنا بالبصرة 4.
فهذه الأحاديث ونحوها عند أهل السنة لا تدل على أن مرتكب ما ذكر فيها من ذنوب يكون كافراً خارجاً من الإسلام، وذلك أن الله تبارك وتعالى قد وصف بعض مرتكبي الذنوب بالإيمان، ولم يكفرهم، كما قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الحجرات9. فسماهم مؤمنين مع وجود الاقتتال.
وكذلك فإن الله تعالى قد أوجب الجلد على القاذف، والقطع على السارق، وجلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاني البكر وشارب الخمر وغير ذلك، فلو كان
1 أخرجه خ. الفرائض ب- من ادعى إلى غير أبيه (12/55) ، م. الإيمان (1/80) .
2 أخرجه خ. الإيمان ب -خوف المؤمن من أن يحبط عمله (1/ 135) ، م. الإيمان (1/81)
3 م. الإيمان (1/81) .
4 أخرجه م. الإيمان (1/83) د. الحدود. ب- الحكم فيمن ارتد رقم 4360. قال النووي: معنى قوله (قد والله روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكني أكره أن يروى
…
) فإني أكره أن أصرح برفعه في لفظ روايتي فيشيع عني في البصرة، التي هي مملوءة من المعتزلة والخوارج، الذين يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار، والخوارج يزيدون على التخليد، فيحكمون بكفره، ولهم شبهه في التخليد بظاهر هذا الحديث. شرح النووي على مسلم (2/247) .
هؤلاء كفاراً بارتكابهم للكبائر لوجب قتلهم لقوله صلى الله عليه وسلم “ لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ” 1.
وأجمع الصحابة على عدم كفر مرتكبي الذنوب، فقد روى أبو عبيد عن أبي سفيان أنه قال: “جاورت مع جابر بن عبد الله بمكة ستة أشهر فسأله رجل هل كنتم تسمون أحداً من أهل القبلة كافراً؟ فقال: معاذ الله! قال: فهل تسمونه مشركاً؟ قال: لا” 2.
فلهذا صرح أصحاب كتب العقائد بذلك في عقائدهم فقال الطحاوي رحمه الله: ”ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله” 3.
وقال الحكمي رحمه الله:
ولا نكفر بالمعاصي مؤمناً إلا مع استحلاله لما جنى4.
وقد أجاب العلماء عن معنى الكفر الوارد في الأحاديث السابقة وشبهها بعدة أجوبة:
الجواب الأول: أن الفعل الوارد فيه لفظ الكفر إنما ذكر هكذا لأنه يؤول
1 أخرجه م. القسامة (3/1302) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2 الإيمان لأبي عبيد ص98 قال الألباني في التعليق: إسناده صحيح على شرط مسلم وعزاه في مجمع الزوائد (1/107) إلى أبي يعلى والطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح، وانظر التمهيد لابن عبد البر (9/251) .
3 شرح العقيدة الطحاوية ص316. وقوله (بذنب ما لم يستحله) بين شارح الطحاوية رحمه الله أن قول الطحاوي رحمه الله ليس على إطلاقه، لأن من الذنوب ما يكون كفراً، كالسجود للصنم، والاستهزاء بالله، والسحر، وترك الصلاة عند كثير من السلف. فالصواب أن يقال: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب.
4 معارج القبول (2/300) .
بفاعله إلى الكفر، وذلك لأن المعاصي كما قالوا: بريد الكفر، ويخشى على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر.
الجواب الثاني: أنه أطلق عليه ذلك من باب المبالغة في التحذير والزجر عن الفعل1.
الجواب الثالث: أنه أطلق عليها ذلك لأنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركين.
الجواب الرابع: أنه محمول على المستحل لذلك.
الجواب الخامس: أن المراد به الكفر إلا أنه ليس الكفر المخرج من الملة، وإنما هو كفر دون كفر وهو من الكفر العملي الذي لا يخرج صاحبه من الإسلام.
وهذا الأخير أرجحها، لأن الأدلة قد دلت على أن لفظ الكفر ومثله الظلم والفسق والشرك قد وردت في الشرع على معنيين أكبر وأصغر، فمما ورد في الظلم ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما نزل قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} الأنعام 82. شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2.
فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن للظلم معنيان: ظلم أكبر: وهو الشرك، وظلم أصغر: وهو ظلم العبد لنفسه بالذنوب.
1 وقد سبق بيان ما في هذا القول من الخطأ انظر ص 87.
2 خ. الإيمان ب. ظلم دون ظلم، انظر فتح الباري (1/87) ، م. الإيمان. ب صدق الإيمان وإخلاصه (1/115) .
ومما ورد في الشرك ما روى محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء” 1.
فهنا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من الشرك نوع هو أصغر، أما الشرك الأكبر فهو عبادة غير الله.
ومثل ذلك ورد في الكفر أيضاً فقد ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ أُريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل أيكفرن بالله، قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى أحداهن قالت: ما رأيت منك خيراً قط ” 2.
فهنا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الكفر يرد شرعاً على غير الكفر بالله وهو دونه في الحكم.
ومثله ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة (44) .قال:“هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله”.
وفي رواية أنه قال:“كفر دون كفر”.
ومثله ورد عن عطاء وطاووس وغيره3.
فهذا يدل على أن الشارع أطلق الكفر على ما دون الكفر الأكبر وهو ما يسميه العلماء كفر دون كفر.
فيكون المقصود بما ورد في الشرع إطلاق اسم الكفر عليه من المعاصي
1 أخرجه. حم (5/428-429) ، وقال ابن حجر إسناده، حسن بلوغ المرام ص187.
2 خ. الإيمان ب. كفران العشير، وكفر دون كفر، انظر فتح الباري (1/83) .
3 انظر تفسير ابن جرير (10/ 354) تحقيق أحمد شاكر، التمهيد لابن عبد البر (4/237) السنة للخلال (4/159-161) .