المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وهو رابع ثلاثينهم: - المختصر في أخبار البشر - جـ ٣

[أبو الفداء]

فهرس الكتاب

- ‌وقتلهم وحصر الفرنج دمشق:

- ‌ذكر غير ذلك:

- ‌ذكر غير ذلك:

- ‌ذكر غير ذلك

- ‌وبين عماد الدين زنكي:

- ‌ذكر غير ذلك من الحوادث

- ‌وأسر الخليفة وقتله:

- ‌ذكر غير ذلك:

- ‌وهو حادي ثلاثينهم

- ‌ذكر غير ذلك:

- ‌ومقتله:

- ‌ذكر غير ذلك من الحوادث

- ‌وحال مملكة بني باديس

- ‌ذكر غير ذلك من الحوادث:

- ‌وولاية الظافر:

- ‌ذكر غير ذلك من الحوادث:

- ‌بن محمد بن ملكشاه وملك ملكشاه ومحمد، ابني محمود:

- ‌وهزيمة السلطان سنجر منهم، وأسره:

- ‌وأخبار بني منقذ أصحاب شيزر إلى أن ملك نور الدين شيزر:

- ‌ذكر غير ذلك من الحوادث:

- ‌وما كان منه إلى أن قتل

- ‌خلافة المستنجد

- ‌حرسها الله تعالى:

- ‌وقتل شاور

- ‌وفاة المستنجدخلافة المستضيء

- ‌وهو ثالث ثلاثينهم:

- ‌ذكر وفاة المستضيءخلافة الإمام الناصر

- ‌وهو رابع ثلاثينهم:

- ‌ذكر غير ذلك:

- ‌ذكر غير ذلك:

- ‌خلافة الظاهر

- ‌خلافة المستنصر

- ‌وأخبار الذين تملكوا بعده

- ‌ذكر غير ذلك

- ‌صاحب اليمن ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب:

- ‌نائب الملك الأشرف بخلاط وقتله:

- ‌الاستيلاء على حماةذكر استيلاء الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد على حماة:

- ‌ذكر غير ذلك

- ‌ذكر استيلاء الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر

- ‌غير ذلك من الحوادث:

- ‌ملك بلاد الروم:

- ‌ووفاته، وما يتعلق بذلك:

- ‌ذكر غير ذلك

- ‌والقبض على أخيه الملك العادل صاحب مصر، وملك الملك الصالح أيوب ديار

- ‌وغيرها

- ‌وهي والدة الملك العزيز:

- ‌المستعصم بالله

- ‌ذكر غير ذلك من الحوادث

- ‌على القصب واستيلاء الصالح أيوب على بعلبك:

- ‌ونزول الملك الصالح أشمون طناخ:

- ‌ذكر غير ذلك

- ‌ذكر مسير السلطان الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الديار المصرية

- ‌ذكر غير ذلك

- ‌صاحب الشام ابن الملك العزيز:

- ‌ذكر غير ذلك من الحوادث

- ‌وانقراض الدولة العباسية:

- ‌الدولة الإسلامية بعد بني العباسذكر الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر

- ‌ذكر وفاة الناصر داود

- ‌ذكر وفاة الصاحبة غازية خاتونوالدة الملك المنصور صاحب حماة:

- ‌ذكر غير ذلك من الحوادث

- ‌ذكر وفاة بدر الدين صاحب الموصل

- ‌منازلة الملك الناصر يوسف صاحب الشام والكرك

- ‌ذكر سلطنة قطز

- ‌ذكر مولد الملك المظفر محمودبن الملك المنصور صاحب حماة:

- ‌ذكر قصد هولاكو الشام

- ‌ذكر ما كان من الملك الناصر عند قصد التتر حلب

- ‌ذكر استيلاء التتر على حلب وعلى الشام جميعهومسير الملك الناصر عن دمشق، ووصول عساكره إلى مصر، وانفراد الملك الناصر

- ‌ذكر غير ذلك من أحوال حماةوأحوال الملك الناصر بعد أخذ حلب:

- ‌ذكر استيلاء التتر على قلعة حلبوالمتجددات بالشام:

- ‌ذكر استيلاء التتر على ميافارقينوقتل الملك الكامل صاحبها:

- ‌ذكر اتصال الملك الناصر بالتترواستيلائهم على عجلون وغيرها من قلاع الشام:

- ‌ذكر غير ذلك

- ‌ذكر هزيمة التتر وقتل كتبغا

- ‌ذكر عود الملك المظفر قطز إلى جهة الديار المصريةمقتله:

- ‌ذكر سلطنة بيبرس البندقداري المذكور

- ‌ذكر إعادة عمارة قلعة دمشق

- ‌ذكر سلطنة الحلبي بدمشق

- ‌ذكر قبض عسكر حلب على الملك السعيدابن صاحب الموصل وعود التتر إلى الشام:

- ‌ذكر كسرة التتر على حمص

- ‌ذكر القبض على سنجر الحلبيالملقب بالملك المجاهد

- ‌ذكر خروج البرليعن طاعة الملك الظاهر بيبرس واستيلائه على حلب:

- ‌ذكر مقتل الملك الناصر يوسف

- ‌ذكر مبايعة شخص بالخلافة وإثبات نسبه

- ‌ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام

- ‌ذكر حضور الملك المغيث صاحب الكركوقتله واستيلاء الملك الظاهر بيبرس على الكرك:

- ‌ذكر الإغارة على عكا وغيرها

- ‌ذكر القبض على من يذكر

- ‌ذكر وفاة الأشرف صاحب حمص

الفصل: ‌وهو رابع ثلاثينهم:

‌ذكر وفاة المستضيء

خلافة الإمام الناصر

‌وهو رابع ثلاثينهم:

في هذه السنة ثاني ذي القعدة، توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد، وأمه أم ولد أرمنية، وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر. وكان مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكان عادلاً حسن السيرة، وكان قد حكم في دولة ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر، المعروف بابن العطار، بعد قتل عضد الدين الوزير، فلما مات المستضيء، قام ظهير الدين بن العطار، وأخذ البيعة لولده، الإمام الناصر لدين الله، ولما استقرت البيعة للإمام الناصر، حكم أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل، فقبض في سابع ذي القعدة على ظهير الدين بن العطار، ونقل إلى التاج، وأخرج ظهير الدين المذكور ميتاً على رأس حمال، ليلة الأربعاء، ثاني عشر ذي القعدة، فثارت به العامة، والقوه عن رأس الحمال، وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد، وكانوا يضعون في يده مغرفة، يعني أنها قلم، وقد غمس تلك المغرفة في العذرة، ويقولون وقع لنا يا مولانا، هذا فعلهم به، مع حسن سيرته فيهم، وكفه عن أموالهم، ثم خلص منهم ودفن.

وفي هذه السنة في ذي القعدة، نزل توران شاه أخو السلطان عن بعلبك، وطلب عوضها الإسكندرية، فأجابه السلطان صلاح الدين إلى ذلك، وأقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، فسار إليها فرخشاه، وسار شمس الدولة توران شاه إلى الإسكندرية، وأقام بها إلى ن مات بها.

ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة.

ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل

في هذه السنة ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، والديار الجزرية، وكان مرضه السل، وطال، وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وكانت ولايته عشر سنين ونحو ثلاثة شهر، وكان حسن الصورة مليح الشباب، تام القامة أبيض اللون، عاقلاً عادلاً، عفيفاً شديد الغيرة، لا يدخل بيته غير الخدم إذا كانوا صغاراً، فإذا كبر أحدهم منعه، وكان عفيفاً عن أموال الرعية، مع شح كان فيه، وحين حضره الموت، أوصى بالمملكة بعده إلى أخيه عز الدين مسعود بن مودود، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجرشاه بن غازي، فاستقر ذلك بعد موته حسبما قرره، وكان مدير الدولة والحاكم فيها مجاهد الدين قيماز.

وفي هذه السنة، سار السلطان صلاح الدين إلى جهة قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان، صاحب بلاد الروم، ووصل إلى رعبان، ثم اصطلحوا. فقصد صلاح الدين بلاد ابن ليون الأرمني، وشن فيها الغارات، فصالحه ابن ليون على مال حمله، وأسرى أطلقهم.

وفيها توفي شمس الدولة توران شاه بن أيوب، أخو

ص: 62

صلاح الدين الأكبر، بالإسكندرية، وكان له معها أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون إليه الأموال من زبيد وعدن وغيرهما، وكان أجود الناس وأسخاهم كفاً، يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن، ودخل الإسكندرية، ومع هذا، فلما مات، كان عليه نحو مائتي ألف دينار مصرية، ديناً عليه، فوفّاها أخوه صلاح الدين عنه، لما وصل إلى مصر، ووصل السلطان صلاح الدين إلى مصر في هذه السنة، في شعبان، واستخلف بالشام ابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة في هذه السنة، عزم البرنس صاحب الكرك، على المسير إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، وسمع ذلك عز الدين فرخشاه، نائب عمه السلطان صلاح الدين بدمشق، فجمع وقصد بلاد الكرك، وأغار عليها وأقام في مقابلة البرنس، ففرق البرنس جموعه، وانقطع عزمه عن الحركة. وفيها وقع بين نواب توران شاه باليمن بعد موته اختلاف، فخشي السلطان صلاح الدين على اليمن، فجهز إليه عسكراً مع جماعة من أمرائه، فوصلوا إلى اليمن واستولوا عليه، وكان نواب توران شاه على عدن، عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وعلى زبيد، حطان بن كامل بن منقذ الكناني، من بيت صاحب شيزر.

ذكر وفاة الملك الصالح صاحب حلب في هذه السنة في رجب، توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب حلب، وعمره نحو تسع عشرة سنة، ولما اشتد به مرض القولنج، وصف له الأطباء الخمر فمات ولم يستعمله، وكان حليماً عفيف اليد والفرج واللسان، ملازماً لأمور الدين، لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الشباب، ووصى بملك حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل، فلما مات سار مسعود ومجاهد الدين قيماز من الموصل إلى حلب، واستقر في ملكها. ولما استقر مسعود بن مودود في ملك حلب، كاتبه أخوه عماد الدين زنكي بن مودود، صاحب سنجار، في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجار، فأشار قيماز بذلك، فلم يمكن مسعود إلا موافقته، فأجاب إلى ذلك، فسار عماد الدين إلى حلب وتسلمها، وسلّم سنجار إلى أخيه مسعود، وعاد مسعود إلى الموصل.

وفي هذه السنة في شعبان توفي أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد النحوي، المعروف بابن الأنباري، ببغداد، وله تصانيف حسنة في النحو، وكان فقيها.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.

ذكر مسير السلطان صلاح الدين إلى الشام في هذه السنة خامس المحرم، سار السلطان صلاح الدين عن مصر إلى الشام، ومن عجيب الإتفاق، أنه لما برز من القاهرة، وخرجت أعيان الناس لوداعه، أخذ كل منهم يقول شيئاً

ص: 63

في الوداع وفراقه، وفي الحاضرين معلم لبعض أولاد السلطان، فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد:

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

فتطير صلاح الدين وانقبض بعد انبساطه، وتنكد المجلس على الحاضرين، فلم يعد صلاح الدين بعدها إلى مصر مع طول المدة، وسار السلطان صلاح الدين وأغار في طريقه على بلاد الفرنج، وغنم، ووصل إلى دمشق في حادي عشر صفر من هذه السنة، ولما سار السلطان إلى الشام، اجتمعت الفرنج قرب الكرك، ليكونوا على طريقه، فانتهز فرخشاه ابن أخي السلطان صلاح الدين ونائبه بدمشق الفرصة، وسار إلى الشقيف بعساكر الشام، وفتحه، وغار على ما يجاوره من بلاد الفرنج، وأرسل إلى السلطان وبشره بذلك.

ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن في هذه السنة سير السلطان أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن ليملكهما، ويقطع الفتن منها، وكان بها حطان بن منقذ الكناني، وعز الدين عثمان الزنجيلي، وقد عادا إلى ولايتهما، فإن الأمير الذي كان سيره السلطان نائباً إلى اليمن، تولى وعزلهما، ثم توفي، فعادت بين حطان وعثمان الفتن قائمة، فوصل سيف الإسلام إلى زبيد، فتحصن حطان في بعض القلاع، فلم يزل سيف الإسلام يتلطف به حتى نزل إليه، فأحسن صحبته، ثم إن حطان طلب دستوراً ليسير إلى الشام، فلم يجبه إلا بعد جهد، فجهز حطان أثقاله قدامه ودخل حطان ليودع سيف الإسلام، فقبض عليه وأرسل واسترجع أثقاله، وأخذ جميع أمواله، وكان في جملة ما أخذه سيف الإسلام من حطان، سبعين غلاف زردية مملوءة ذهباً عيناً، ثم سجن حطان في بعض قلاع اليمن، فكان آخر العهد به، وأما عثمان الزنجيلي فإنه لما جرى لحطان ذلك، خاف وسار نحو الشام، وسيّر أمواله في البحر، فصادفهم مراكب أصحاب سيف الإسلام، فأخذوا كل ما لعثمان الزنجيلي، وصفت بلاد اليمن لسيف الإسلام.

ذكر غارات السلطان الملك صلاح الدين وما استولى عليه من البلاد في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين من دمشق، في ربيع الأول، ونزل قرب طبرية، وشن الإغارة على بلاد الفرنج، مثل بانياس وجينين والغور، فغنم وقتل وعاد إلى دمشق، ثم سار عنها إلى بيروت وحصرها، وأغار على بلادها، ثم عاد إلى دمشق، ثم سار من دمشق إلى البلاد الجزرية، وعبر الفرات من البيرة، فصار معه مظفر الدين كوكبوركي بن زين الدين علي بن بكتكين، وكان حينئذ صاحب حران، وكاتب السلطان صلاح الدين ملوك تلك الأطراف واستمالهم، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، وصار معه، ونازل السلطان الرها وحاصرها وملكها، وسلمها إلى مظفر الدين

ص: 64

كوكبوري صاحب حران، ثم سار السلطان إلى الرقة وأخذها من صاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، فسار ينال إلى عز الدين مسعود صاحب الموصل.

ثم سار صلاح الدين إلى الخابور، وملك قرقيسيا وماكسين وعربان والخابور، واستولى على الخابور جميعه، ثم سار إلى نصيبين وحاصرها، وملك المدينة، ثم ملك القلعة، ثم أقطع نصيبين أميراً كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، ثم سار عن نصيبين وقصد الموصل، وقد استعد صاحبها عز الدين مسعود ومجاهد الدين قيماز للحصار، وشحنوها بالرجال والسلاح، فحصر الموصل وأقام عليها منجنيقاً، فأقاموا عليه من داخل المدينة تسعة مناجنيق، وضايق الموصل، فنزل السلطان صلاح الدين محاذاة باب كندة، ونزل صاحب حصن كيفا على باب الجسر، ونزل تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين على باب العمادي، وجرى القتال بينهم، وكان ذلك في شهر رجب من هذه السنة، فلما رأى أن حصارها يطول، رحل عن الموصل إلى سنجار وحاصرها وملكها، واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أتز، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة، ومعنى، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى حران وعزل في طريقه عن نصيبين أبا الهيجاء السمين.

ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولاً في بحر إيلة، وساروا في البحر فرقتين، فرقة أقامت على حصن إيلة يحصرونه، وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في السواحل، وبغتوا المسلمين في تلك النواحي، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجاً قط، وكان بمصر الملك العادل أبو بكر نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين، فعمر أسطولاً في بحر عيذاب، وأرسله مع حسام الدين الحاجب لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، وكان مظفراً فيه، وشجاعاً، فسار لؤلؤ مجداً في طلبهم، وأوقع بالذين يحاصرون إيلة، فقتلهم وأسرهم، ثم سار في طلب الفرقة الثانية، وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز ومكة والمدينة، حرسهما الله تعالى، وسار لؤلؤ يقفو أثرهم، فبلغ رابغ، فأدركهم بساحل الحورا، وتقاتلوا أشد قتال، فظفر الله تعالى بهم، وقتل لؤلؤ أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها، وعاد بالباقين إلى مصر، فقتلوا عن آخرهم.

وفي هذه السنة توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب بعلبك، وكان ينوب عن صلاح الدين بدمشق، وهو ثقته من بين أهله، وكان فرخشاه شجاعاً كريماً فاضلاً، وله شعر جيد، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين، وهو في البلاد الجزرية، فأرسل إلى دمشق شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم، ليكون بها، وأقر بعلبك على بهرام شاه بن فرخشاه المذكور.

وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفاعي من سواد واسط، وكان صالحاً ذا قبول عظيم عند الناس، وله من

ص: 65

التلامذة ما لا يحصى.

وفيها توفي بقرطبة خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الخزرجي الأنصاري، وكان من علماء الأندلس، وله التصانيف المفيدة، ومولده في سنة أربع وتسعين وأربعمائة.

وفيها توفي بدمشق مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، الفقيه الشافعي، ولد سنة خمس وخمسمائة، وهو الملقب قطب الدين، وكان إماماً فاضلاً في العلوم الدينية، قدم إلى دمشق وصنف عقيدة للسلطان صلاح الدين، وكان السلطان يقريها أولاده الصغار.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة.

ذكر ما ملكه السلطان صلاح الدين من البلاد في هذه السنة، ملك السلطان صلاح الدين حصن آمد، بعد حصار وقتال، في العشر الأول من المحرم، وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، ثم سار إلى الشام، وقصد تل خالد من أعمال حلب وملكها، ثم سار إلى عينتاب وحصرها، وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي، وكان قد سلم نور الدين عينتاب إلى إسماعيل المذكور، فبقيت معه إلى الآن، فحاصرها السلطان وملكها تسليم صاحبها إليه، فأقره السلطان عليها، وبقي في خدمة السلطان، ومن جملة أمرائه، ثم سار السلطان إلى حلب وحصرها، وبها صاحبها عماد الدين زنكي بن ودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، وطال الحصار عليه، وكان قد كثر اقتراحات أمراء حلب وعسكرها عليه، وقد ضجر من ذلك وكره حلب لذلك، فأجاب السلطان ملاح الدين إلى تسليم حلب، على أن يعوض عنها بسنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، واتفقوا على ذلك، وسلم حلب إلى السلطان في صفر من هذه السنة، فكان أهل حلب ينادون على عماد الدين المذكور يا حمار بعت حلب بسنجار، وشرط السلطان على عماد الدين المذكور الحضور إلى خدمته، بنفسه وعسكره إذا استدعاه، ولا يحتج بحجة عن ذلك، ومن الاتفاقات العجيبة، أن محي الدين بن الزكي قاضي دمشق، مدح السلطان بقصيدة منها:

وفتحكم حلباً بالسيف في صفر

مباشر بفتوح القدس في رجب

فرافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان في جملة من قتل على حلب، تاج الملوك بوري بن أيوب، أخو السلطان الأصغر، وكان كريماً شجاعاً، طعن في ركبته، فانفكت، فمات منها.

ولما استقر الصلح، عمل عماد الدين زنكي المذكور دعوة للسلطان، واحتفل لها، فبينما هم في سرورهم، إذ جاء إنسان فأسر إلى السلطان بموت أخيه بوري، فوجد عليه في قلبه وجداً عظيماً، وأمر تجهيزه سرا، ولم يعلم السلطان في ذلك الوقت أحداً ممن كان في الدعوة بذلك لئلا يتنكد عليهم ما هم فيه، وكان يقول السلطان ما وقعت حلب علينا رخيصة بموت بوري، وكان هذا من السلطان من الصبر العظيم، ولما ملك السلطان حلب، أرسل إلى حارم وبهما

ص: 66

سرخك الذي ولاه الملك الصالح ابن نور الدين، في تسليم حارم، وجرت بينهما مراسلات، فلم ينتظم بينهما حال، وكاتب سرخك الفرنج، فوثب عليه أهل القلعة وقبضوا عليه، وسلموا حارم إلى السلطان فتسلمها، وقرر أمر حلب وبلادها، وأقطع إعزاز أميراً يقال له سليمان بن جندر.

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قبض عز الدين مسعود، صاحب الموصل، على نائبه مجاهد الدين قيماز، وفيها لما فرغ السلطان من تقرير أمر حلب، جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي، وسار إلى دمشق وتجهز منها للغزو، فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من هذه السنة. فأغار على بيسان وحرقها، وشن الغارات على تلك النواحي، ثم تجهز السلطان إلى الكرك، وأرسل إلى نائبه بمصر، وهو أخوه الملك العادل، أن يلاقيه إلى الكرك، فسارا واجتمعا عليها، وحصر الكرك وضيق عليها، ثم رحل عنها في منتصف شعبان، وسار معه أخوه العادل، وأرسل السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر إلى مصر، نائباً عنه. موضع الملك العادل، ووصل السلطان إلى دمشق وأعطى أخاه أبا بكر العادل مدينة حلب وقلعتها وأعمالها، وسيره إليها في شهر رمضان من هذه السنة، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق.

وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، توفي محمد بن بختيار بن عبد الله الشاعر المعروف بالأبله. وفي هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين وخمسمائة في أواخرها، توفي شاهرمن سكمان ابن ظهير الدين إبراهيم بن سكمان القطبي صاحب خلاط، وقد تقدم ذكر ملك شاهرمن المذكور في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وكان عمر سكمان لما توفي أربعاً وستين سنة، ولما مات سكمان كان بكتمر مملوكه بميافارقين، فلما سمع بكتمر بموته سار من ميافارقين ووصل إلى خلاط، وكان أكثر أهلها يريدونه، وكان مماليك شاهرمن متفقين معه، فأول وصوله استولى على خلاط وتملكها، وجلس على كرسي شاهرمن، واستقر في مملكة خلاط حتى قتل في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، حسبما نذكره إن شاء الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة.

ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب، إلى بلاد الأندلس، وعبر البحر في جمع عظيم من عساكره، وقصد بلاد الفرنج، فحصر شنترين من غرب الأندلس، وأصابه مرض فمات منه، في ربيع الأول، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية، وكانت مدة مملكته اثنتين وعشرين سنة وشهوراً، وكان حسن السيرة، واستقامت له المملكة لحسن تدبيره، ولما مات بايع الناس ولده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكنيته أبو يوسف، وملكوه عليهم في الوقت الذي مات فيه أبوه، لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم، لقربهم من العدو، فقام يعقوب بالملك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة.

ص: 67

ذكر غزو السلطان الكرك في هذه السنة في ربيع الآخر، سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزو، وكتب إلى مصر، فسارت عساكرها إليه، ونازل الكرك وحصره وضيق على من به وملك ربض الكرك، وبقيت القلعة، وليس بينها وبين الربض غير خندق خشب، وقصد السلطان صلاح الدين طمه فلم يقدر، لكثرة المقاتلة، فجمعت الفرنج فارسها وراجلها، وقصدوه، فلم يمكن السلطان إلا الرحيل، فرحل عن الكرك وسار إليهم، فأقاموا في أماكن وعرة، وأقام السلطان قبالتهم، وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك، فعلم بامتناعه عليه، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى فأكثر، ثم سار إلى صبصطية وبها مشهد زكريا، فاستنقذ ما بها من أسرى المسلمين، ثم سار إلى جنبتين ثم عاد إلى دمشق.

ذكر وفاة صاحب ماردين

في هذه السنة مات قطب الدين أيلغازي بن نجم الدين ألبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، أقول إنه قد تقدم في سنة سبع وأربعين وخمسمائة ذكر ملك ألبي ولد أيلغازي المذكور، وبقي ألبي في ملك ماردين حتى مات، وملك بعده ابنه أيلغازي المذكور، ولم يقع لي وفاة ألبي، وملك أيلغازي المذكورين متى كان لأثبته، ولما مات أيلغازي المذكور، كان له أولاد أطفال، فأقيم في الملك بعده ولده حسام الدين بولق أرسلان، وقام بتدبير المملكة وترتيبها مملوك والده نظام الدين البقش، حتى كبر بولق أرسلان، وكان به هوج وخبط، فمات بولق أرسلان وأقام البقش بعده أخاه الأصغر ناصر الدين أرتق أرسلان بن قطب الدين أيلغازي، ولم يكن له حكم، بل الحكم إلى البقش وإلى مملوك للبقش اسمه لؤلؤ، كان قد تغلب على أستاذه البقش، بحيث كان لا يخرج البقش عن رأي لؤلؤ المذكور، ولم يكن لناصر الدين أرتق أرسلان صاحب ماردين من الحكم شيء، وبقي الأمر كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمرض النظام البقش وأتاه ناصر الدين صاحب ماردين يعوده، فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه ناصر الدين بسكين فقتله، ثم عاد إلى البقش فقتله وهو مريض، واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين من غير منازع.

وفي هذه السنة توفي شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعيد أحمد، وكان قد سار من عند الخليفة إلى السلطان صلاح الدين في رسالة، ومعه شهاب الدين بشير الخادم، ليصلحا بين السلطان صلاح الدين وبين عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلم ينتظم حال، واتفق أنهما مرضا بدمشق وطلبا المسير إلى العراق، وسارا في الحر فمات بشير بالسخنة ومات صدر الدين شيخ الشيوخ بالرحبة، ودفن بمشهد البوق، وكان أوحد زمانه، قد جمع بين رئاسة الدين والدنيا.

وفيها في المحرم أطلق عز الدين مسعود صاحب الموصل مجاهد الدين قيماز من الحبس، وأحسن إليه.

ثم دخلت

ص: 68

سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.

ذكر حصار السلطان صلاح الدين الموصل في هذه السنة حصر السلطان صلاح الدين الموصل، وهو حصاره الثاني، فأرسل إليه عز الدين مسعود صاحب الموصل والدته، وابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي، وغيرهما من النساء، وجماعة يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم، فردهم، واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين، لا سيما وفيهن بنت نور الدين محمود، وحاصر الموصل وضايقها، وبلغه وفاة شاهرمن، صاحب أخلاط، في ربيع الآخر من هذه السنة، فسار عن الموصل إلى جهة أخلاط فاستدعى أهلها ليملكها.

ذكر وفاة صاحب حصن كيفا في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب الحصن، وآمد، وملك بعده ولده سقمان، ولقبه قطب الدين، وكان صغيراً فقام بتدبيره القوام ابن سماقا الأشعردي وحضر سقمان إلى السلطان صلاح الدين وهو نازل على ميافارقين، فأقره على ما كان بيد ولده نور الدين محمد، وأقام معه أميراً من أصحاب أبي سقمان المذكور.

ذكر ملك السلطان صلاح الدين ميافارقين لما سار السلطان عن الموصل إلى أخلاط جعل طريقه على ميافارقين، وكانت لصاحب ماردين الذي توفي، وفيها من حفظها من جهة شاهرمن صاحب أخلاط المتوفي، فحاصرها السلطان وملكها في سلخ جمادى الأولى، ثم إن السلطان رجع عن قصد أخلاط إلى الموصل، فجاءته رسل عز الدين مسعود يسأل في الصلح، واتفق حينئذ أن السلطان صلاح الدين مرض، وسار من كفر زمار عائداً إلى حران، فلحقته رسل صاحب الموصل بالإجابة إلى ما طلب، وهو أن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان صلاح الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب، وأن يخطب للسلطان صلاح الدين على جميع منابر الموصل، وما بيده، وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتسلم السلطان ذلك واستقر الصلح، وأمنت البلاد، ووصل السلطان إلى حران، وأقام بها مريضاً واشتد به المرض حتى أيسوا منه، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ولما اشتد مرض السلطان سار ابن عمه محمد بن شيركوه بن شاذي صاحب حمص إلى حمص، وكاتب بعض أكابر دمشق في أن يسلموا إليه دمشق إذا مات السلطان.

ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة ليلة عيد الأضحى، شرب بحمص صاحبها ناصر الدين محمد بن شيركوه

ص: 69

بن شاذي، فأصبح ميتاً. قيل إن السلطان صلاح الدين دس عليه من سماه سماً، لما بلغه مكاتبته أهل دمشق في مرضه، ولما مات أقر السلطان حمص وما كان بيد محمد على ولده شيركوه ابن محمد، وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف صاحب حمص شيئاً كثيراً من الدواب والآلات وغيرها، فاستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عودته من حران، وأخذ أكثرها، ولم يترك إلا ما لا خير فيه.

وفيها توفي الحافظ محمد بن عمر بن أحمد الأصفهاني المدني المشهور، وكان إمام عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث وعلومه تواليف مفيدة، وله كتاب الغيث في مجلد كمل به كتاب الغريبين للهروي، واستدرك فيه عليه مواضع وهو كتاب نافع، وكان مولده سنة إحدى وخمسمائة.

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.

ذكر نقل الملك العادل أخي السلطان من حلب وإخراج الملك الأفضل ابن السلطان من مصر إلى دمشق في هذه السنة أحضر السلطان ولده الأفضل من مصر، وأقطعه دمشق، وسببه أن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان، كان نائب عمه بمصر، وكان معه الملك الأفضل. فأرسل تقي الدين يشتكي من الأفضل، أني لا أتمكن من استخراج الخراج، فإني إذا أحضرت من عليه الخراج، وأردت عقوبته، يطلقه الملك الأفضل، فأرسل السلطان، وأخرج ابنه الملك الأفضل من مصر، وأقطعه دمشق، وتغير السلطان على تقي الدين عمر في الباطن، فإنه ظن أنه إنما أخرج ولده من مصر ليتملك مصر، إذا مات السلطان، ثم أحضر أخاه العادل من حلب، وجعل معه ولده العزيز عثمان ابن السلطان نائباً عنه بمصر، واستدعى تقي الدين عمر من مصر، فقيل أنه توقف عن الحضور، وقصد اللحاق بمملوكه قراقوش، المستولي على بعض بلاد إفريقية وبريقة من المغرب، وبلغ السلطان ذلك، فساءه، وأرسل يستدعي تقي الدين عمر ويلاطفه، فحضر إليه، ولما حضر تقي الدين عند السلطان، زاده على حماة منبج والمعرة وكفر طاب وميافارقين وجبل جور بجميع أعمالها، واستقر العادل والعزيز عثمان في مصر، ولما أخذ السلطان حلب من أخيه العادل، أقطعه عوضها حران والرها.

ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزل في هذه السنة في أولها، توفي البهلوان محمد بن الدكز، صاحب بلد الجبل، همذان والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلاً حسن السيرة، وملك البلاد بعده أخوه قزل أرسلان، واسمه عثمان، وكان السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل

ص: 70

بن محمد بن ملكشاه السلجوقي مع البهلوان، وله الخطابة في بلاده، وليس له من الأمر شيء، فلما مات البهلوان، خرج طغريل عن حكم قزل، وكثر جمعه، واستولى على بعض البلاد، وجرت بينه وبين قزل حروب.

ذكر غير ذلك في هذه السنة غدر البرنس صاحب الكرك، وأخذ قافلة عظيمة من المسلمين وأسرهم، فأرسل السلطان يطلب منه إطلاقهم، بحكم الهدنة التي كانت بينهم على ذلك، فلم يفعل، فنذر السلطان أنه إن ظفره الله به قتله بيده.

وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري، المصري، الإمام في علم النحو واللغة، اشتغل عليه جماعة وانتفعوا به، ومن جملتهم أبو موسى الجزولي، صاحب المقدمة الجزولية في النحو، وكانت وفاته بمصر، وولد بها في سنة تسع وتسعين وأربعمائة.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.

ذكر غزوات السلطان الملك الناصر صلاح الدين وفتوحاته في هذه السنة جمع السلطان العساكر، وسار بفرقة من العسكر وضايق الكرك، خوفاً على الحجاج من صاحب الكرك، وأرسل فرقة أخرى مع ولده الملك الأفضل، فأغاروا على بلد عكا وتلك الناحية، وغنموا شيئاً كثيراً، ثم سار السلطان ونزل على طبرية، وحصر مدينتها وفتحها عنوة بالسيف، وتأخرت القلعة، وكانت طبرية للقومص صاحب طرابلس، وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته، فأرسلت الفرنج إلى القومص المذكور القسوس والبطرك، ينهونه عن موافقة السلطان ويوبخونه، فصار معهم واجتمع الفرنج لملتقى السلطان.

ذكر وقعة حطين وهي الوقعة العظيمة التي فتح الله بها الساحل وبيت المقدس

لما فتح السلطان مدينة طبرية، اجتمعت الفرنج في ملوكهم بفارسهم وراجلهم، وساروا إلى السلطان، فركب السلطان من عند طبرية وسار إليهم، يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، والتقى الجمعان، واشتد بينهم القتال، ولما رأى القومص شدة الأمر، حمل على من قدامه من المسلمين، وكان هناك تقي الدين صاحب حماة، فأفرج له وعطف عليهم، فنجا القومص ووصل إلى طرابلس، وبقي مدة يسيرة ومات غبناً، ونصر الله المسلمين وأحدقوا بالفرنج من كل ناحية، وأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في جملة من أسر ملك الفرنج الكبير والبرنس

ص: 71

أرنلط صاحب الكرك، وصاحب جبيل، وابن الهنفري، ومقدم الداوية، وجماعة من الإسبتارية، وما أصيبت الفرنج من حين خرجوا إلى الشام، وهي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن بمصيبة مثل هذه الوقعة، ولما انقضى المصاف جلس السلطان في خيمته، وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه، وكان الحر والعطش به شديداً، فسقاه السلطان ماء مثلوجاً، وسقى ملك الفرنج منه البرنس أرنلط صاحب الكرك.

فقال له السلطان: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني، فيكون أماناً له، ثم كلم السلطان البرنس ووبخه وفزعه على غدره، وقصده الحرمين الشريفين، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه، فارتعدت فرائص ملك الفرنج، فسكن جأشه.

ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان، ثم سار إلى عكا وحاصرها وفتحها بالأمان، ثم أرسل أخاه الملك العادل فنازل مجد اليابا وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره، ففتحوا الناصرة، وقيسارية، وهيفا، وصفورية، ومعلثا، والفولة، وغيرها من البلاد المجاورة لعكا، بالسيف، وغنموا وقتلوا وأسروا أهل هذه الأماكن، وأرسل فرقة إلى نابلس فملكوا قلعتها بالأمان.

ثم سار الملك العادل بعد فتح مجد اليابا إلى يافا وفتحها عنوة بالسيف، ثم سار السلطان إلى تبنين ففتحها بالأمان، ثم سار إلى صيدا فأخلاها صاحبها وتسلمها السلطان ساعة وصوله، لتسع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم سار إلى بيروت فحصرها وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بالأمان، وكان حصرها مدة ثمانية أيام، وكان صاحب جبيل من جملة الأسرى، فبذل جبيل في أن يسلمها ويطلق سراحه، فأجيب إلى ذلك. وكان صاحب جبيل ابن أعظم الفرنج، وأشدهم عداوة للمسلمين، ولم تك عاقبة إطلاقه حميدة، وأرسل السلطان فتسلم جبيل وأطلقه.

وفيها حضر المركيس في سفينة إلى عكا وهي للمسلمين، ولم يعلم المركيس بذلك، واتفق هجوم الهواء فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكا، يقترح أمراً بعد آخر، والملك الأفضل يجيب المركيس إلى ذلك، إلى أن هب الهواء فأقلع المركيس إلى صور، واجتمع عليه الفرنج الذين بها، وملك صور، وكان وصول المركيس إلى صور وإطلاق الفرنج الذين يأخذ السلطان بلادهم بالأمان، ويحملهم إلى صور من أعظم أسباب الضرر التي حصلت، حتى راحت عكا وقوي الفرنج بذلك، ثم سار السلطان إلى عسقلان وحاصرها أربعة عشر يوماً وتسلمها بالأمان، سلخ جمادى الآخرة.

ثم بث السلطان عسكره ففتحوا الرملة، والداروم، وغزة، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنطرون. وغير ذلك.

ثم سار السلطان ونازل القدس، وبه من النصارى عدد يفوت الحصر، وضايق السلطان السور بالنقابين، واشتد القتال، وغلقوا السور، فطلب الفرنج الأمان فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، وقال: لا آخذها إلا بالسيف، مثلما أخذها الفرنج من المسلمين، فعاودوه في الأمان، وعرفوه ما هم عليه من الكثرة، وأنهم إن أيسوا

ص: 72

منه من الأمان، قاتلوا خلاف ذلك، فأجابهم السلطان إليه بشرط أن يؤدي كل من بها عشرة الدنانير عشرة الدنانير من الرجال، يؤدي النساء خمسة خمسة، ويؤدوا عن كل طفل دينارين، وأي من عجز عن الأداء كان أسيراً، فأجيب إلى ذلك، وسلمت إليه المدينة يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب، وكان يوماً مشهوداً، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسرار المدينة، ورتب السلطان على أبواب البلد من يقبض منهم المال المذكور، فخان المرتبون في ذلك ولم يحملوا منه إلا القليل، وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب، وتسلق المسلمون وقلعوه، فسمع لذلك ضجة لم تعهد مثلها من المسلمين للفرح والسرور، ومن الكفار بالتفجع والتوجع، وكان الفرنج قد عملوا في غربي الجامع الأقصى هرباً ومستراحاً، فأمر السلطان بإزالة ذلك وإعادة الجامع إلى ما كان عليه.

وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبراً بحلب قد تعب عليه مدة، وقال: هذا لأجل القدس، فأرسل السلطان صلاح الدين وأحضر المنبر من حلب وجعله في الجامع الأقصى، وأقام السلطان بعد فتوح القدس بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان، يرتب أمور البلد وأحوالها، وأمر بعمل الربط والمدارس الشفعوية.

ثم رحل السلطان إلى عكا ورحل منها إلى صور وصاحبها المركيس، وقد حصنها بالرجال، وحفر خندقها، ونزل السلطان على صور تاسع شهر رمضان وحاصرها وضايقها، وطلب الأسطول، فوصل إليه في عشرة شوان، فاتفق أن الفرنج كبسوهم في الشواني وأخذوا خمسة شواني ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا، وأخذ الباقون وطال الحصار عليها، فرحل السلطان عنها في آخر شوال، وكان أول كانون الأول، وأقام بعكا وأعطى العساكر الدستور، فسار كل واحد إلى بلده، وبقي السلطان بعكا في حلقته، وأرسل إلى هوبين ففتحها بالأمان.

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار شمس الدين محمد بن عبد الملك، عرف بابن المقدم، بعد فتح القدس، حاجاً، وكان هو أمير الحاج الشامي، ليجمع بين الغزوة وزيارة القدس والخليل عليه السلام، والحج في عام واحد، فسار ووقف بعرفات، ولما أفاض، أرسل إليه طاشتكين أمير الحاج العراقي يمنعه من الإفاضة قبله، فلم يلتفت إليه، فسار العراقيون واتقعوا مع الشاميين، ففتل بينهم جماعة، وابن المقدم يمنع أصحابه من القتال، ولو أمكنهم لانتصفوا من العراقيين، فجرح ابن المقدم ومات شهيداً ودفن بمقبرة المعلى.

وفيها قوي أمر السلطان طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن السلطان محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وملك كثيراً من البلاد، وأرسل قزل ابن الدكز إلى الخليفة يستنجده ويخوفه عاقبة أمر طغريل.

وفيها سار شهاب الدين الغوري وغزا

ص: 73

بلاد الهند. وفيها قتل الخليفة الناصر أستاذ داره مجد الدين أبا الفضل بن الصاحب، ولم يكن للخليفة معه حكم، وظهر له أموال عظيمة، فأخذت جميعاً.

وفيها استوزر الخليفة الناصر لدين الله، أبا المظفر عبيد الله بن يونس، ولقبه جلال الدين، ومشى أرباب الدولة في ركابه، حتى قاضي القضاة، وكان ابن يونس من جملة الناس، فكان يمشي ويقول لعن الله طول العمر. وفيها توفي قاضي القضاة الدامغاني، وكان قد ولى القضاء للمقتفي.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة.

ذكر فتوحات السلطان صلاح الدين وغزواته شتى السلطان هذه السنة في عكا، ثم سار بمن معه وقصد كوكب وجعل على حصارها أميراً يقال له قيماز النجمي، وسار منها في ربيع الأول، ودخل دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى الأطراف باجتماع العساكر، وأقام في دمشق تقدير خمسة أيام، وسار من دمشق في منتصف ربيع الأول من هذه السنة، ونزل على بحيرة مقدس غربي حمص، وأتته العساكر بها، فأولهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار ونصيبين، ولما تكاملت عساكره رحل ونزل تحت حصن الأكراد، وشن الغارات على بلاد الفرنج، وسار من حصن الأكراد فنزل على أنطرطوس، سادس جمادى الأولى، فوجد الفرنج قد أخلوا أنطرطوس، فسار إلى مرقية، فوجدهم قد أخلوها أيضاً، فسار إلى تحت المرقب، وهو للإستبتار فوجده لا يرام، ولا لأحد فيه مطمع، فسار إلى جبلة ووصل إليها ثامن جمادى الأولى، وتسلمها حالة وصوله، فجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الدالة صاحب شيزر، ثم سار السلطان إلى اللاذقية، ووصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، ولها قلعتان، فحصر القلعتين وزحف إليهما، فطلب أهلهما الأمان فأمنهم، وتسلم القلعتين، ولما ملك السلطان اللاذقية سلمها إلى ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أبوب، فعمرها وحصن قلعتها، وكان تقي الدين عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة عليها، كما فعل بقلعة حماة.

ثم رحل السلطان عن اللاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى إلى صهيون وحاصرها، وضايقها، فطلب أهلها الأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس، فيما يؤدونه، فأجابوه إلى ذلك، وتسلم السلطان قلعة صهيون وسلمها إلى أمير من أصحابه يقال له ناصر الدين منكورس، صاحب قلعة أبي قبيس. ثم فرق عسكره في تلك الجبال، فملكوا حصن بلادنوس وكان الفرنج الذين به قد هربوا منه وأخلوه، وملكوا حصن العبد وحصن الجماهدبين، ثم سار السلطان من صهيون ثالث جمادى الآخرة، ووصل إلى قلعة بكاس، فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشغر، فحصرها ووجدها منيعة، وضايقها فأرمى الله في قلوب أهلها الرعب وطلبوا الأمان، وتسلمها يوم

ص: 74

الجمعة سادس جمادى الآخرة بالأمان، وأرسل السلطان ولده الملك الظاهر غازي صاحب حلب، فحصر سرمينية وضايقها وملكها، واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم، وهدم الحصن، وعفى أثره، وكان في هذا الحصن وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة.

ثم سار السلطان من الشغر إلى برزية ورتب عسكره ثلاثة أقسام وداومها بالزحف، وملكها بالسيف في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وسبى وأسر وقتل أهلها.

قال مؤلف الكامل ابن الأثير: كنت مع السلطان في مسيره وفتحه هذه البلاد طلباً للغزوة، فنحكي ذلك من مشاهدة.

ثم سار السلطان فنزل على جسر الحديد، وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه أياماً حتى تلاحق به من تأخر من العسكر، ثم سار إلى دربساك ونزل عليها ثامن رجب من هذه السنة، وحاصرها وضايقها وتسلمها بالأمان، على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط، وتسلمها تاسع عشر رجب. ثم سار من دربساك إلى بغراس. وحصرها وتسلمها بالأمان، على حكم أمان دربساك، وأرسل بيمند صاحب أنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجابه السلطان إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر، وكان صاحب أنطاكية حينئذ أعظم ملوك الفرنج في هذه البلاد، فإن أهل طرابلس سلموا إليه طرابلس بعد موت القومص صاحبها، على ما ذكرناه، فجعل بيمند صاحب أنطاكية ابنه في طرابلس.

ولما فرغ السلطان من أمر هذه البلاد والهدنة، سار إلى حلب، فدخلها ثالث شعبان، وسار منها إلى دمشق، وأعطى عماد الدين زنكي بن مودود دستوراً، وكذلك أعطى غيره من العساكر الشرقية، وجعل طريقه لما رحل من حلب على قبر عمر رضي الله عنه ابن عبد العزيز، فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكريا المغربي، وكان مقيماً هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة، وكان مع السلطان أبو فليتة الأمير قاسم بن مهنا الحسيني، صاحب مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، شهد معه مشاهده وفتوحاته، وكان السلطان يتبرك برؤيته، ويتيمن بصحبته، ويرجع إلى قوله، ودخل السلطان دمشق في شهر رمضان المعظم، فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا، فقال السلطان: إن العمر قصير، والأجل غير مأمون، وكان السلطان لما سار إلى البلاد الشمالية، قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها، وخلا أخاه الملك العادل في تلك الجهات يباشر ذلك، فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان، فأمر الملك العادل المباشرين لحصارها بتسلمها، فتسلموا الكرك والشوبك، وما بتلك الجهات من البلاد، ثم سار السلطان من دمشق في منتصف رمضان، وسار إلى صفد فحصرها وضايقها وتسلمها بالأمان ثم سار إلى كوكب وعليها قيماز النجمي يحاصرها، فضايقها السلطان وتسلمها بالأمان، في منتصف ذي القعدة، وسير أهلها إلى صور، وكان اجتماع أهل

ص: 75

هذه القلاع في صور من أعظم أسباب الضرر على المسلمين، ظهر ذلك فيما بعد، ثم سار السلطان إلى القدس، فعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار إلى عكا فأقام بها حتى انسلخت السنة.

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أرسل قزل بن الدكز يستنجد بالخليفة الإمام الناصر، على طغريل بن أرسلان بن طغريل السلجوقي، ويحذره عاقبة أمره، فأرسل الخليفة عسكراً إلى طغريل، والتقوا ثامن ربيع الأول من هذه السنة قرب همذان، فانهزم عسكر الخليفة، وغنم طغريل أموالهم، وأسر مقدم العسكر جلال الدين عبيد الله وزير الخليفة.

وفيها توفي محمد بن عبد الله الكاتب المعروف بابن التعاويذي، الشاعر المشهور، وقصائده في الغزل والنسيب مشهورة، وله في غير ذلك أشياء حسنة أيضاً، وقد صودر ببغداد جماعة من الدواوين، من جملة قصيدته:

يا قاصدا بغداد جز عن بلدة

للجور فيها زجرة وعتاب

إن كنت طالب حاجة فارحع فقد

سدت على الراجي لها الأبواب

والناس قد قامت قيامتهم فلا

أنساب بينهم ولا أسباب

والمرء يسلمه أبوه وعرسه

ويخونه القرباء والأحباب

لا شافع تغني شفاعته ولا

جان له مما جناه متاب

شهدوا معادهم فعاد مصدقا

من كان قبل ببعثه يرتاب

جسر وميزان وعرض جرائد

وصحائف منشورة وحساب

ما فاتهم من يوم ما وعدوا به

في الحشر إلا راحم وهاب

ومولد ابن التعاويذي المذكور في سنة تسع عشرة وخمسمائة.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين ونزل بمرج عيون، وحضر إليه صاحب شقيف أرنون، وبذل إليه تسليم الشقيف، بعد مدة ظهر بها خديعة منه، فلما بقي للمدة ثلاثة أيام استحضره السلطان، وكان اسم صاحب الشقيف أرنلط، فقال له السلطان في التسليم، فقال: لا يوافقني عليه أهلي وأهل الحصن، فأمسكه السلطان وبعثه إلى دمشق فحبس ذكر حصار الفرنج عكا كان قد اجتمع بصور، أهل البلاد التي أخذها السلطان بالأمان، فكثر جمعهم حتى صاروا في عالم لا تحصى كثرتهم، وأرسلوا إلى البحر يبكون ويستنجدون، وصوروا صورة المسيح، وصورة عربي يضرب المسيح، وقد أدماه. وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح، فخرجت النساء من بيوتهن، ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة، وساروا إلى عكا من صور، ونازلوها في منتصف رجب من هذه السنة، وضايقوا عكا وأحاطوا بيوتها من

ص: 76

البحر إلى البحر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فسار إليهم السلطان ونزل قريب الفرنج، وقاتلهم في مستهل شعبان، وباتوا على ذلك، وأصبحوا، فحمل تقي الدين عمر صاحب حماة من ميمنة السلطان على الفرنج، فأزالهم عن موقعهم، والتزق بالصور، وانفتح الطريق إلى المدينة يدخل المسلمون ويخرجون، وأدخل السلطان إلى عكا عسكراً نجدة، فكان من جملتهم أبو الهيجاء السمين، وبقي المسلمون يغادون القتال ويراوحونه إلى العشرين من شعبان، ثم كان بين المسلمين وبينهم وقعة عظيمة، فإن الفرنج اجتمعوا وضربوا مع السلطان مصافاً، وحملوا على القلب، فأزالوه وأخذوا يقتلون في المسلمين، إلى أن بلغوا إلى خيمة السلطان، فانحاز السلطان إلى جانب، وانضاف إليه جماعة، وانقطع مدد الفرنج، واشتغلوا بقتال الميمنة، فحمل السلطان على الفرنج الذين خرقوا القلب، وانعطف عليهم العسكر فأفنوهم قتلاً، فكانت قتلى الفرنج نحو عشرة آلاف نفس، ووصل المنهزمون من المسلمين بعضهم إلى طبرية، وبعضهم وصل إلى دمشق، وجافت الأرض بعد هذه الوقعة، ولحق السلطان مرض، وحدث له قولنج، فأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الموضع، فوافقهم ورحل من عكا رابع عشر رمضان من هذه السنة، إلى الخروبة، فلما رحل تمكن الفرنج من حصار عكا، وانبسطوا في تلك الأرض، وفي تلك الحال وصل أسطول المسلمين في البحر مع حسام الدين لؤلؤ، وكان شهماً، فظفر ببطشة للفرنج، فأخذها ودخل بها إلى عكا، فقوى قلوب المسلمين، وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر وبالسلاح إلى أخيه السلطان، فقويت قلوب المسلمين بوصوله.

ذكر غير ذلك فيها توفي بالخروبة الفقيه عيسى، وكان مع السلطان، وهو من أعيان عسكره، وكان جندياً فقيهاً شجاعاً، وكان من أصحاب الشيخ أبي القاسم البرزي. وفيها توفي محمد بن يوسف بن محمد بن قائد، الملقب موفق الدين الأربلي، الشاعر المشهور، وكان إماماً مقدماً في علم العربية، وكان أعلم الناس بالعروض، وأحذقهم بنقد الشعر، وأعرفهم بجيده من رديئه، واشتغل بعلوم الأوائل، وحل كتاب إقليدس، وهو شيخ أبي البركات بن المستوفي صاحب تاريخ أربل، ورحل ابن القائد المذكور إلى شهرزور وقام بها مدة، ثم رحل إلى دمشق ومدح السلطان صلاح الدين يوسف، ومن شعره قصيدة مدح بها زين الدين يوسف صاحب أربل منها:

رب دار بالحمى طال بلاها

عكف الركب عليها فبكاها

كان لي فيها زمان وانقضى

فسقى الله زماني وسقاها

قل لجيران مواثيقهم

كلما أحكمنها رثت قواها

ص: 77

كنت مشغوفاً بكم إذ كنتم

شجراً لا يبلغ الطير ذراها

وإذا ما طمع أغرى بكم

عرض اليأس لنفسي فثناها

فصبابات الهوى أولها

طمع النفس وهذا منتهاها

لا تظنوا لي إليكم رجعة

كشف التجريب عن عيني عماها

إن زين الدين أولاني يداً

لم تدع لي رغبة فيما سواها

وهي طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر، وكان أبوه محمد تاجراً يتردد إلى البحرين لتحصيل اللآلئ من المغاصات.

وفيها توفي محمود بن علي بن أبي طالب بن عبد الله الأصبهاني، المعروف بالقاضي، صاحب الطريقة في الخلاف، وصنف فيه التعليقة، وهى عمدة المدرسين في إلقاء الدروس، ومن لم يذكرها فإنما هو لقصور فهمه عن إدراك دقائقها، وكان متفنناً في العلوم، وله في الوعظ اليد الطولى.

ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة في هذه السنة بعد دخول صفر رحل السلطان صلاح الدين عن الخروبة، وعاد إلى قتال الفرنج على عكا، وكان الفرنج قد عملوا قرب سور عكا ثلاثة أبرجة، طول البرج ستون ذراعاً، جاؤوا بخشبها من جزائر البحر، وعملوها طبقات، وشحنوها بالسلاح والمقاتلة، ولبسوها جلود البقر، والطين بالخل، لئلا يعمل فيها النار، فتحايل المسلمون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح، ثم أحرقوا الثاني والثالث، وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة، ووصل إلى السلطان العساكر من البلاد، وبلغ المسلمين وصول ملك الألمان، وكان قد سار من بلاد وراء القسطنطينية بمائة ألف مقاتل، واهتم المسلمون لذلك، وآيسوا من الشام بالكلية، فسلط الله تعالى على الألمان الغلاء والوباء فهلك أكثرهم في الطريق، ولما وصل ملكهم إلى بلاد الأرمن نزل في نهر هناك يغتسل فغرق، وأقاموا ابنه مقامه، فرجع من عسكره طائفة إلى بلادهم، وطائفة خامرت ابن الملك المذكور فرجعوا أيضاً ولم يصل مع ابن ملك الألمان إلى الفرنج الذين على عكا غير تقدير ألف مقاتل، وكفى الله المسلمين شرهم، وبقي السلطان والفرنج على عكا يتناوشون القتال إلى العشرين من جمادى الآخرة، فخرجت الفرنج من خنادقهم بالفارس والراجل، وأزالوا الملك العادل عن موضعه، وكان معه عسكر مصر، فعطفت عليه المسلمون وقتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً، فعادوا إلى خنادقهم، وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمة صغيرة، ولولا ذلك لكانت الفيصلة، ولكن إذا أراد الله أمرا فلا مرد له.

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، لما قوي الشتاء واشتدت الرياح، أرسل الفرنج المحاصرون عكا مراكبهم إلى صور، خوفاً عليها أن تنكسر، فانفتحت الطريق إلى عكا في البحر، وأرسل البدل إليها،

ص: 78

فكان العسكر الذين خرجوا منها أضعاف الواصلين إليها. فحصل التفريط بذلك لضعف البدل.

وفيها في ثامن شوال توفي زين الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك صاحب أربل وكان مع السلطان في عسكره، ولما توفي أقطع السلطان صلاح الدين أربل أخاه مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك، وأضاف إليه شهرزور وأعمالها، وارتجع ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها، وسار مظفر الدين إلى أربل وملكها.

وفيها استولى الخليفة الناصر لدين الله على حديثة عانة بعد حصرها مدة. وفيها أقطع السلطان ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها وسمساط والموزر، الملك المظفر تقي الدين عمر، زيادة على ما بيده، وهو ميافارقين، ومن الشام حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس ومكرابيك.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

ذكر استيلاء الفرنج على عكا:

واستمر حصار الفرنج لعكا إلى هذه السنة، وكانوا قد أحاطوا بها من البحر إلى البحر، وحفروا عليهم خندقاً، فلم يتمكن السلطان من الوصول إليهم، وكانوا محاصرين لعكا، وهم كالمحصورين من خارجهم من السلطان، واشتد حصارهم لعكا وطال وضعف من بها عن حفظ البلد، وعجز السلطان صلاح الدين عن دفع العدو عنهم، فخرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب من عكا، وطلب الأمان من الفرنج على مال وأسرى يقومون به للفرنج، فأجابوهم إلى ذلك، وصعدت أعلام الفرنج على عكا ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، واستولوا على البلد بما فيه، وحبسوا المسلمين في أماكن من البلد، وقالوا إنما نحبسهم ليقوموا بالمال والأسرى وصليب الصليوت، وكتبوا إلى السلطان صلاح الدين بذلك، فحصل ما أمكن تحصيله من ذلك، وطلب منهم إطلاق المسلمين، فلم يجيبوا إلى ذلك، فعلم منهم الغدر، واستمر أسرى المسلمين بها.

ثم قتل الفرنج من المسلمين جماعة كثيرة واستمروا بالباقين في الأسر، وبعد استيلاء الفرنج على عكا وتقرير أمرها، رحلوا عنها مستهل شعبان نحو قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف، أزالوا المسلمين عن موقفهم، ووصلوا إلى سوق المسلمين، فقتلوا من السوقية وغيرهم خلقاً كثيراً، ثم سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون، فملكوها، ثم رأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة، لئلا يحصل لها ما حصل لعكا، فسار إليها وأخلاها وخربها، ورتب الحجارين في تفليق أسوارها وتخريبها، فدكها إلى الأرض، فلما فرغ السلطان من تخريب عسقلان رحل عنها ثاني شهر رمضان إلى الرملة، فخرب حصنها وخرب كنيسة لد.

ص: 79

ثم سار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالتظرون، ثامن شهر رمضان، ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الإنكتار، ويكون للملك العادل القدس، ولامرأته عكا، فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن يتنصر الملك العادل، فلم يتفق بينهم حال، ثم رحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، وبقي في كل يوم يقع بين المسلمين وبينهم مناوشات، فلقوا من ذلك شدة شديدة، وأقبل الشتاء وحالت الأوحال بينهم، ولما رأى السلطان ذلك وقد ضجرت العساكر، أعطاهم الدستور وسار إلى القدس، لسبع بقين من في القعدة، ونزل داخل البلد واستراحوا مما كانوا فيه، وأخذ السلطان في تعمير القدس وتحصينه، وأمر العسكر بنقل الحجارة، وكان السلطان ينقل الحجارة بنفسه على فرسه، ليقتدي به العسكر فكان يجتمع عند العمالين في اليوم الواحد ما يكفيهم لعدة أيام.

ذكر وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر كان الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قد سار إلى البلاد المرتجعة من كوكبوري، التي زاده إياها عمه السلطان من وراء الفرات، وهي حران وغيرها، فامتدت عين الملك المظفر إلى بلاد مجاوريه، واستولى على السويداء وحاني، واتقع مع بكتمر صاحب خلاط فكسره وحصره في خلاط، وتملك على معظم البلاد، ثم رحل عنها ونازل ملازكرد، وهي لبكتمر، وضايقها، وكان في صحبته ولده الملك المنصور محمد بن الملك المظفر عمر المذكور، فعرض للملك المظفر مرض شديد، وتزايد به حتى توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان من هذه السنة، أعني سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فأخفى ولده الملك المنصور وفاته، ورحل عن ملازكرد ووصل به إلى حماة، ودفنه بظاهرها، وبنى إلى جانب التربة مدرسة، وذلك مشهور هناك، وكان الملك المظفر شجاعاً شديد البأس، ركناً عظيماً من أركان البيت الأيوبي، وكان عنده فضل وأدب، وله شعر حسن، واتفق أن في ليلة الجمعة التي توفي فيها الملك المظفر، توفي فيها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين، وأمه ست الشام بنت أيوب أخت السلطان، فأصيب السلطان في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته.

ولما مات الملك المظفر، راسل ابنه الملك المنصور، السلطان صلاح الدين، واشترط شروطاً نسبه السلطان فيها إلى العصيان، وكاد أمره يضطرب بالكلية، فراسل الملك المنصور عمه الملك العادل في استعطاف خاطر السلطان، فما برح الملك العادل بأخيه السلطان يراجعه ويشفع في الملك المنصور، حتى أجابه السلطان، وقرر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم، وارتجع السلطان البلاد الشرقية وما معها، وأقطعها أخاه الملك العادل، بعد أن شرط السلطان أن الملك العادل ينزل عن كل ما له من الإقطاع بالشام، خلا الكرك والشوبك

ص: 80

والصلت والبلقاء ونصف خاصه بمصر، وأن يكون عليه في كل سنة ستة آلاف غرارة، تحمل من الصلت والبلقاء إلى القدس، ولما استقر ذلك، سار الملك العادل إلى البلاد الشرقية لتقرير أمورها، فقررها وعاد إلى خدمة السلطان في آخر جمادى الآخرة من السنة القابلة، أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ولما قدم الملك العادل على السلطان، كان الملك المنصور صاحب حماة صحبته، فلما رأى السلطان الملك المنصور بن تقي الدين، نهض واعتنقه وغشيه البكاء وأكرمه وأنزله في مقدمة عسكره.

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في شعبان، قتل قزل أرسلان، واسمه عثمان بن الدكز، وهو الذي ملك أذربيجان وهمذان وأصفهان والري بعد أخيه محمد البهلوان، وكان قد قوي عليه السلطان طغريل السلجوقي، وهزم عسكر بغداد كما تقدم ذكره، ثم إن قزل أرسلان تغلب واعتقل السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل في بعض البلاد، وسار قزل أرسلان بعد ذلك إلى أصفهان، وتعصب على الشفعوية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة، ودخل لينام على فراشه، وتفرق عنه أصحابه، فدخل عليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله.

وفيها قدم معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى السلطان صلاح الدين، وسببه أن والده فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية، ثم تغلب بعض إخوته على والده وألزمه بأخذ ملطية من أخيه المذكور، فخاف من ذلك، فسار إلى السلطان ملتجئاً إليه فأكرمه السلطان وزوجه بابنة أخيه الملك العادل، وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة، وقد انقطعت أطماع أخيه منه قال ابن الأثير لما ركب السلطان صلاح الدين ليودع معز الدين قيصر شاه المذكور، ترجل معز الدين له، فترجل السلطان صلاح الدين، ولما ركب السلطان صلاح الدين عضده قيصر شاه وركبه، وكان علاء الدين بن عز الدين مسعود، صاحب الموصل، مع السلطان إذ ذاك، فسوى ثياب السلطان أيضاً. فقال بعض الحاضرين في نفسه: ما بقيت تبالي يا ابن أيوب بأي موتة تموت، يركبك ملك سلجوقي، ويسوي قماشك ابن أتابك زنكي.

وفيها قتل أبو الفتح يحيى بن حنش بن أميرك، الملقب شهاب الدين السهوردي، الحكيم الفيلسوف، بقلعة حلب، محبوساً، أمر بخنقه الملك الظاهر غازي، بأمر والده السلطان صلاح الدين، قرأ المذكور الأصولين والحكمة بمراغة، على مجد الدين الجيلي، شيخ الإمام فخر الدين، ثم سافر السهروردي المذكور إلى حلب، وكان علمه أكثر من عقله، فنسب إلى انحلال العقيدة، وأنه يعتقد مذهب الفلاسفة، فأفتى الفقهاء بإباحة دمه لما ظهر من سوء مذهبه، واشتهر عنه، وكان أشدهم عليه في ذلك، زين الدين ومجد الدين ابنا جهبل حكى الشيخ

ص: 81

سيف الدين الآمدي قال: اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض. فقلت له من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر. فقلت: لعل يكون اشتهار علمك، وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ووجدته كثير العلم قليل العقل، وكان عمره لما قتل ثمانياً وثلاثين سنة، وله عدة مصنفات في الحكمة، منها: التلويحات والتنقيحات، والمشارع والمطارحات، وكتاب الهياكل وحكمة الإشراق، وكان ينتسب إلى أنه يعرف السيمياء وله نظم حسن فمنه:

أبداً تحن إليكم الأرواح

ووصالكم ريحانها والراح

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم

وإلى لذيذ لقائكم ترتاح

وارحمتا للعاشقين تكلفوا

ستر المحبة والهوى فضاح

وإذا هم كتموا يحدث عنهم

عند الوشاة المدمع السحاح

لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى

كتمانهم فنمى الغرام وباحوا

وهي قصيدة طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة فيها سار الفرنج إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها في المحرم، والسلطان بالقدس. وفيها قتل المركيس صاحب صور، لعنه الله تعالى، قتله بعض الباطنية، وكانوا قد دخلوا في زي الرهبان إلى صور.

ذكر عقد الهدنة مع الفرنج، وعود السلطان إلى دمشق وسبب ذلك أن ملك الأنكتار مرض، وطال عليه البيكار، فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، ثم اتفق رأي الأمراء على ذلك لطول البيكار، وضجر العسكر. ونفاد نفقاتهم، فأجاب السلطان إلى ذلك واستقر أمر الهدنة، في يوم السبت ثامن عشر شعبان، وتحالفوا على ذلك في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، ولم يحلف ملك الأنكتار بل أخذوا يده وعاهدوه، واعتذر بأن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك، وحلف الكندهري ابن أخيه وخليفته في الساحل، وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج، ووصل ابن الهنفري وباليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين، وأخذوا يد السلطان على الصلح، واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان، والملك الأفضل، والظاهر، ابني السلطان، والملك المنصور صاحب حماة، محمد بن تقي الذين عمر، والملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص، والملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه صاحب بعلبك، والأمير بدر الدين أيلدرم الباروقي صاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيرز، والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وغيرهم من المقدمين الكبار، وعقدت هدنة عامة في البحر والبر وجعلت مدتها ثلاث

ص: 82

سنين وثلاثة أشهر. أولها أيلول الموافق لحادي وعشرين من شعبان.

وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها، وقيسارية وعملها، وأرسوف وعملها، وحيفا وعملها، وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خراباً، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الفرنج دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن يكون لد والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك.

ثم رحل السلطان إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله وأمر بتشييد أسوار، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصندحنة، يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم، ثم صارت في الإسلام دار علم قبل أن يتملك الفرنج بالقدس، ثم لما ملك الفرنج القدس في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة، أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة، وفوض تدريسها ووقفها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد. ولما استقر أمر الهدنة أرسل السلطان مائة حجار لتخريب عسقلان، وأن يخرج من بها من الفرنج، وعزم على الحج والإحرام من القدس، وكتب إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن بذلك، ثم فنده الأمراء وقالوا: لا نعتمد على هدنة الفرنج خوفاً من غدرهم، فانتقض عزمه عن ذلك، ثم رحل السلطان عن القدس لخمس مضين من شوال إلى نابلس، ثم سار إلى بيسان، ثم إلى كوكب، فبات بقلعتهما، ثم رحل إلى طبرية ولقيه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وقد خلص من الأسر، وكان قد أسر بعكا لما أخذها الفرنج مع من أسر، فسار قراقوش مع السلطان إلى دمشق، ثم سار منها قراقوش إلى مصر.

ثم سار السلطان إلى بيروت ووصل إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية يوم السبت حادي وعشرين شوال، فأكرمه السلطان وفارقه غد ذلك اليوم، وسار السلطان إلى دمشق ودخلها يوم الأربعاء لخمس بقين من شوال وفرح الناس به لأن غيبته كانت عنهم مدة أربع سنين، وأقام العدل والإحسان بدمشق، وأعطى السلطان العساكر الدستور، فودعه ولده الملك الظاهر وداعاً لا لقاء بعده، وسار إلى حلب، وبقي عند السلطان بدمشق ولده الملك الأفضل، والقاضي الفاضل، وكان الملك العادل قد استأذن السلطان وسار من القدس إلى الكرك لينظر في مصالحه، ثم عاد الملك العادل إلى دمشق طالباً البلاد الشرقية التي صارت له بعد تقي الدين، فوصل إلى دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى لقائه.

وفي يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، توفي الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب بنابلس، وكانت إقطاعه، فوقف السلطان ثلث نابلس على مصالح القدس، وأقطع الباقي للأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب، وأميرين معه.

ص: 83

ذكر وفاة السلطان عز الدين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم وأخبار الذين تولوا بعده في هذه السنة، أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة في منتصف شعبان، توفي السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطالوش بن أرسلان يبغو بن سلجوق. وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكان ذا سياسة حسنة، رهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة، وكان له عشرة بنين، قد ولى كل واحد منهم قطراً من بلاد الروم، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه بن قليج أرسلان المذكور، وكان قد أعطاه أبوه سيواس، فسولت له نفسه القبض على أبيه وإخوته والانفراد بالسلطنة، وساعده على ذلك صاحب أرزنكات، فسار قطب الدين ملكشاه وهجم على والده قليج أرسلان بمدينة قونية. وقبض عليه، وقال لوالده وهو في قبضته: أنا بين يديك أنفذ أوامرك. ثم إنه أشهد على والده بأنه قد جعله ولي عهده. ثم مضى ملكشاه المذكور إلى حرب أخيه نور الدين سلطان شاه، صاحب قيسارية، ووالده في القبضة معه، وهو يظهر أن ما يفعله إنما هو بأمر والده، فخرج عسكر قيسارية لحربه، فوجد أبوه عز الدين قليج أرسلان عند اشتغال العسكر بالقتال فرصة، فهرب إلى ولده سلطان شاه صاحب قيسارية، فأكرمه وعظمه كما يجب عليه، فرجع قطب الدين ملكشاه إلى قونية وخطب لنفسه بالسلطنة، وبقي أبوه قليج أرسلان يتردد في بلاده بين أولاده، كلما ضجر منه واحد منهم ينتقل إلى الآخر، حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب برغلو فقوى أباه قليج أرسلان، وأعطاه وجمع له وحشد وسار معه إلى قونية، فملكها وأخذها من ابنه ملكشاه، ثم سار إلى أقصرا، فاتفق أن عز الدين قليج أرسلان مرض ومات في التاريخ المذكور، فأخذه ولده كيخسرو وعاد به إلى قونية فدفنه بها. واتفق موت ملكشاه بعد موت أبيه قليج أرسلان بقليل، فاستقر كيخسرو في ملك قونية وأثبت أنه ولي عهد أبيه قليج أرسلان.

ثم إن ركن الدين سليمان أخا غياث الدين كيخسرو قوي على أخيه كيخسرو، وأخذ منه قونية، فهرب كيخسرو إلى الشام مستجيراً بالملك الظاهر صاحب حلب، ثم مات ركن الدين سليمان سنة ستمائة، وملك بعده ولده قليج أرسلان بن سليمان، فرجع غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان إلى بلاد الروم، وأزال ملك قليج أرسلان بن سليمان وملك بلاد الروم جميعها، واستقرت له السلطنة ببلاد الروم، وبقي كذلك إلى أن قتل، وملك بعده ابنه عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو، ثم توفي كيكاؤوس وملك بعده أخوه السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو، وتوفي علاء الدين كيقباذ سنة أربع وثلاثين وستمائة،

ص: 84

وملك بعده ولده غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، كسره التتر سنة إحدى وأربعين وستمائة، وتضعضع حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم، ثم مات غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، وانقضى بموت كيخسرو المذكور سلاطين بلاد الروم في الحقيقة لأن من صار بعده لم يكن له من السلطنة غير مجرد الاسم، وخلف كيخسرو المذكور صبيين هما: ركن الدين، وعز الدين. فملكا معاً مدة مديدة، ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة وهرب أخوه عز الدين إلى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدين، معين الدين البرواناه، والبلاد في الحقيقة للتتر، ثم إن البرواناه قتل ركن الدين، وأقام ابناً لركن الدين يخطب له بالسلطنة والحكم للبرواناه، وهو نائب التتر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة غزا شهاب الدين الغوري الهند فغنم وقتل ما لا يحصى وفيها خرج السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل من الحبس، بعد قتل قزل أرسلان بن الدكز، وكان قزل قد اعتقله حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

وفيها توفي راشد الدين سنان بن سليمان بن محمد، وكنيته أبو الحسن، صاحب دعوة الإسماعيلية بقلاع الشام، وأصله من البصرة.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة.

ذكر وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شادي، وشيء عن أخباره دخلت هذه السنة والسلطان بدمشق، على أكمل ما يكون من المسرة، وخرج إلى شرقي دمشق متصيداً، وغاب خمسة عشر يوماً، وصحبة أخوه الملك العادل. ثم عاد إلى دمشق وودعه أخوه الملك العادل وداعاً لا لقاء بعده، فمضى إلى الكرك وأقام فيه حتى بلغه وفاة السلطان، وأقام السلطان بدمشق، وركب في يوم الجمعة خامس عشر صفر وتلقى الحجاج، وكان عادته ألا يركب إلا وهو لابس كزاغند، فركب ذلك اليوم، وقد اجتمع بسبب ملتقى الحجاج وركوبه عالم عظيم، ولم يلبس الكزاغند، ثم ذكره وهو راكب، فطلب الكزاغند فلم يجده، وقد حملوه معه، ولما التقى الحجاج استعبرت عيناه كيف فاته الحج، ووصل إليه مع الحجاج ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن. ثم عاد السلطان بين البساتين إلى جهة المنيبع، ودخل إلى القلعة على الجسر إليها، وكانت هذه آخر ركباته، فلحقه ليلة السبت سادس عشر صفر كسل عظيم، وغشيه نصف الليل حمى صفراوية، وأخذ المرض في التزايد، وقصده

ص: 85

الأطباء في الرابع، فاشتد مرضه، وحدث به في التاسع رعشة، وغاب ذهنه وامتنع من تناول المشروب، واشتد الإرجاف في البلد، وغشي الناس من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن حكايته، وحقن في العاشر حقنتين، فحصل له راحة، وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً، ثم لحقه عرق كثير حتى نفذ من الفراش، واشتد المرض ليلة الثاني عشر من مرضه، وهي ليلة السابع والعشرين من صفر، وحضر عنده الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده في القلعة، بحيث إن احتضر بالليل ذكره الشهادة، وتوفي السلطان في الليلة المذكورة، أعني في الليلة المستقرة عن نهار الأربعاء السابع والعشرين من صفر، بعد صلاة الصبح، من هذه السنة، أعني سنة تسع وثمانين وخمسمائة.

وبادر القاضي الفاضل بعد صلاة الصبح فحضر وفاته، ووصل القاضي بهاء الدين بن شداد بعد موته وانتقاله إلى رحمة الله وكرامته، وغسله الفقيه الدولعي خطيب دمشق، وأخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء المذكور في تابوت مسجى بثوب، وجميع ما احتاجوا من الثياب في تكفينه أحضره القاضي الفاضل من جهة حل عرفه، وصلى عليه الناس ودفن في قلعة دمشق، في الدار التي كان مريضاً فيها، وكان نزوله إلى جدثه وقت صلاة العصر من النهار المذكور، وكان الملك الأفضل ابنه قد حلف الناس له قبل وفاة والده عندما اشتد مرضه، وجلس للعزاء في القلعة، وأرسل الملك الأفضل على الكتب بوفاة والده إلى أخيه العزيز عثمان بمصر، وإلى أخيه الظاهر غازي بجلب، وإلى عمه الملك العادل أبي بكر بالكرك. ثم إن الملك الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع، وكانت داراً لرجل صالح، ونقل إليها السلطان يوم عاشورا سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ومشى الملك الأفضل بين يدي تابوته، وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد، وأدخل الجامع ووضع قدام الستر وصلى عليه القاضي محيط الدين بن القاضي زكي الدين، ثم دفن وجلس ابنه الملك الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، وأنفقت ست الشام بنت أيوب أخت السلطان في هذه النوبة أموالاً عظيمة.

وكان مولد السلطان صلاح الدين بتكريت، في شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، فكان عمره قريباً من سبع وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه للديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وملكه الشام قريباً من تسع عشرة سنة، وخلف سبعة عشر ولدا ذكراً، وبنتاً واحدة، وكان أكبر أولاده الملك الأفضل نور الدين علي بن يوسف، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان العزيز عثمان أصغر منه بنحو سنتين، وكان الظاهر صاحب حلب أصغر منهما، وبقيت البنت حتى تزوجها ابن عمها الملك الكامل صاحب مصر، ولم يخلف السلطان صلاح الدين في خزانته غير سبعة وأربعين درهماً، وحرم واحد صوري، وهذا من رجل له الديار المصرية والشام وبلاد الشرق واليمن، دليل قاطع على فرط كرمه، ولم يخلف داراً ولا عقاراً. قال العماد

ص: 86

الكاتب: حسبت ما أطلقه السلطان في مدة مقامه بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش، فكان اثني عشر ألف رأس، وذلك غير ما أطلقه من أثمان الخيل المصابة في القتال، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو مرهوب، أو موعود به، ولم يؤخر صلاة عن وقتها، ولا صلى إلا في جماعة، وكان إذا عزم على أمر توكل على الله، ولا يفضل يوماً على يوم، وكان كثير سماع الحديث النبوي، قرأ مختصراً في الفقه تصنيف سليم الداري، وكان حسن الخلق صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب صحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه، وكان يوماً جالساً، فرمى بعض المماليك بعضاً بسر موزة، فأخطأته ووصلت إلى السلطان فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها، وكان طاهر المجلس فلا يذكر أحد في مجلسه إلا بالخير، وطاهر اللسان، فما يولع بشمتم قط.

قال العماد الكاتب: مات بموت السلطان الرجال، وفات بوفاته الأفضال، وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي، وانقطعت الأرزاق، وادلهمت الآفاق، وفجع الزمان بواحده وسلطانه، ورزئ الإسلام بمشيد أركانه.

ذكر ما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان لما توفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين، استقر في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها، ولده الملك الأفضل نور الدين علي وبالديار المصرية العزيز عماد الدين عثمان. وبحلب الملك الظاهر غياث الدين غازي. وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب. وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر. وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي. وبيد الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين بصرى، وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل، وبيد جماعة من أمراء الدولة بلاد وحصون، منهم سابق الدين عثمان بن الداية، بيده شيزر، وأبو قبيس، وناصر الدين بن كورس بن خمار دكين بيده صهيون وحصن برزية. وبدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر. وعز الدين أسامة بيده كوكب وعجلون. وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدم بيده بعرين وكفر طاب وفامية. والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان والمعهود إليه بالسلطنة، واستوزر الملك الأفضل ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير مصنف المثل السائر، وهو أخو عز الدين بن الأثير مؤلف التاريخ المسمى بالكامل، فحسن للملك الأفضل طرد أمراء أبيه، ففارقوه إلى أخويه العزيز والظاهر.

قال العماد الكاتب: وتفرد الوزير في توزره، ومد الجزري في جزره، ولما اجتمعت أكابر الأمراء بمصر حسنوا

ص: 87

للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، ووقعوا في أخيه الأفضل، فمال إلى ذلك، وحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز.

وفي هذه السنة بعد موت السلطان قدم الملك العادل من الكرك إلى دمشق، وأقام فيها وظيفة العزاء على أخيه، ثم توجه إلى بلاده التي وراء الفرات.

ذكر حركة عز الدين مسعود صاحب الموصل إلى البلاد الشرقية التي بيد الملك العادل وعوده وموته

في هذه السنة لما مات السلطان صلاح الدين، كاتب عز الدين مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب ملوك البلاد المجاورين للموصل يستنجدهم ولذلك اتفق مع أخيه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي صاحب سنجار، وسار إلى جهة حران وغيرها، فلحق عز الدين مسعود إسهال قوي وضعف فترك العسكر مع أخيه عماد الدين وعاد إلى الموصل، وصحبته مجاهد الدين قيماز، فحلف العسكر عز الدين لابنه أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وقوي بعز الدين مسعود المرض، وتوفي في السابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، فكانت مدة ما بين وفاته ووفاة السلطان صلاح الدين نصف سنة، وكانت مدة ملك عز الدين مسعود للموصل ثلاث عشرة سنة وستة أشهر، وكان ديناً خيراً كثير الإحسان، وكان أسمر مليح الوجه خفيف العارضين، يشبه جده عماد الدين زنكي، واستقر في ملك الموصل بعده ولده أرسلان شاه، وكان القيم بأمره، مجاهد الدين قيماز.

ذكر قتل بكتمر صاحب أخلاط في هذه السنة في أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر صاحب أخلاط، وكان بين قتله وبين موت السلطان صلاح الدين شهران ولما بلغ بكتمر موت السلطان صلاح الدين، سرف في إظهار الشماتة بموت السلطان، وضرب البشائر ببلاده، وفرح فرحاً كثيراً، وعمل تختاً يجلس عليه، ولقب نفسه السلطان المعظم صلاح الدين، وكان اسمه بكتمر، فسمى نفسه الملك العزيز، فلم يمهله الله تعالى، وكان هذا بكتمر من مماليك ظهير الدين شاهرمن، وكان له خشداش اسمه هزار ديناري، وكان قد قوي وتزوج ابنة بكتمر، وطمع في الملك، فوضع على بكتمر من قتله، ولما قتل ملك بعده هزار ديناري خلاط وأعمالها، واسم هزار ديناري المذكور أقسنقر، ولقبه بدر الدين، جلبه تاجر جرجاني اسمه علي إلى أخلاط، فاشتراه منه شاهرمن سكمان بن إبراهيم، وأعجب به شاهرمن، فجعله ساقياً له، ولقبه هزار ديناري، وبقي على ذلك برهة من الزمان، فلما تولى بكتمر على مملكة أخلاط، بقي المذكور من أكبر الأمراء، وتزوج ببنت بكتمر عينا خاتون، فلما قتل بكتمر خلف ولداً، فأخذ

ص: 88

هزار ديناري المذكور ولد بكتمر وأمه، واعتقلهما بقلعة أرزاس بموش، وكان عمر ابن بكتمر إذ ذاك نحو سبع سنين، واستمر بدر الدين أقسنقر هزار ديناري في مملكة أخلاط حتى توفي في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وحسبما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر غير ذلك في هذه السنة شتى شهاب الدين الغوري في برشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة إلى بلاد الهند، ففتح وغنم وعاد منصوراً مؤيداً. وفيها توفي سلطان شاه بن أرسلان بن أطسز ابن محمد بن أنوشتكين، وكان قد ملك مرو وخراسان، ولما مات انفرد أخوه تكش بالمملكة، وقد تقدم ذكرهما في سنة ثمان وستين وخمسمائة.

وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هاشم أمير مكة، وما زالت إمارة مكة له تارة، ولأخيه مكثر تارة، حتى مات.

ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة.

ذكر قتل طغريل وملك خوارزم شاه الري كان طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل السلجوقي، قد حبسه قزل أرسلان بن الدكز، وخرج طغريل من الحبس في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وملك همذان وغيرها وجرى حرب بينه وبين مظفر الدين أزبك بن البهلوان محمد ابن الدكز، وقيل بل هو قطلغ إينانج أخو أزبك المذكور، فانهزم ابن البهلوان، ثم إن ابن البهلوان بعد هزيمته استنجد بخوارزم شاه علاء الدين تكش، فخاف منه، فلم يجتمع بخوارزم شاه، فسار خوارزم شاه تكش وملك الري، وذلك في سنة ثمان وثمانين.

وبلغ تكش أن أخاه سلطان شاه قد قصد خوارزم، فصالح طغريل السلجوقي وعاد تكش إلى خوارزم، وبقي الأمر كذلك حتى مات سلطان شاه في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فتسلم تكش مملكة أخيه سلطان شاه وخزانته، وولى ابنه محمد بن تكش نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه بن تكش مرو.

ولما دخلت سنة تسعين سار تكش إلى حرب طغريل السلجوقي، فسار طغريل إلى لقائه قبل أن يجمع عساكره، والتقى العسكران بالقرب من الري، وحمل طغريل بنفسه. فقتل، وكان قتله في الرابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وحمل رأس طغريل إلى تكش، فأرسله إلى بغداد، فنصب بها عدة أيام، وسار تكش فملك همذان وتلك البلاد جميعها، وسلم بعضها إلى ابن البهلوان، وأقطع بعضها لمماليكه، ورجع إلى خوارزم.

وهذا طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، هو آخر السلاطين السلجوقية الذين ملكوا بلاد العجم، وقد تقدم ذكر ابتداء الدولة السلجوقية في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وأول من ملك منه العراق وأزال دولة بني بويه، طغريل بك ابن ميكائيل

ص: 89

بن سلجوق. ثم ملك بعده ابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل ثم ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان ثم ابنه محمود بن ملكشاه، وكان طفلاً، فقامت بتدبير المملكة أم محمود تركان خاتون، ومات محمود وهو ابن سبع سنين، وملك أخوه بركيارق بن ملكشاه. ثم أخوه محمد بن ملكشاه. ثم ابنه محمود بن محمد المذكور. ثم ابنه داود بن محمود ابن محمد المذكور مدة يسيرة. ثم عمه طغريل بن محمد. ثم أخوه مسعود بن محمد. ثم ابن أخيه ملكشاه بن محمود بن محمد أياماً يسيرة، ثم أخوه محمد بن محمود، ثم بعد محمد المذكور اختلفت العساكر وقام من بني سلجوق ثلاثة، أحدهم ملكشاه بن محمود أخو محمد المذكور، والثاني سليمان شاه بن محمد ابن السلطان ملكشاه، وهو عم محمد المذكور، والثالث أرسلان شاه بن طغريل بن محمد ابن السلطان ملكشاه. وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان شاه المذكور، فقوي عليهما سليمان شاه واستقر في همدان في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ثم قبض سليمان شاه وقتل، وكذلك سم ملكشاه بن محمود المذكور ومات بأصفهان في السنة المذكورة، أعني سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وانفرد بالسلطنة أرسلان شاه بن طغريل ربيب الدكز، ثم ملك بعده ابنه طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل المذكور، في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وجرى له ما ذكرناه حتى قتله تكش في هذه السنة، أعني سنة تسعين وخمسمائة، وانقرضت به الدولة السلجوقية من تلك البلاد.

ذكر غير ذلك في هذه السنة أرسل الخليفة الإمام الناصر، عسكراً مع وزيره مؤيد الدين محمد بن علي، المعروف بابن القصاب، إلى خورستان، وهي بلاد شملة وأولاده من بعده، وكان قد مات صاحبها ابن شملة، فاختلفت أولاده، فوصل عسكر الخليفة إلى خورستان وملكوا مدينة تستر في المحرم سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغيرها من البلاد وكذلك ملكوا قلعة الناطر، وقلعة كاكرد، وقلعة لاموج وغيرها من القلاع والحصون، فأنفذوا بني شملة أصحاب بلاد خورستان إلى بغداد.

وفي هذه السنة أعني سنة تسعين وخمسمائة، استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز والأفضل ابني السلطان صلاح الدين، فسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق، فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين، ورجع العزيز إلى مصر، ورجع كل ملك إلى بلده، وأقبل الملك الأفضل بدمشق على شرب الخمر وسماع الأغاني والأوتار ليلاً ونهاراً، وأشاع ندماؤه أن عمه الملك العادل حسن له ذلك، وكان يعمله بالخفية فأنشده العادل:

ص: 90

فلا خير في اللذات من دونها ستر

فقبل وصية عمه وتظاهر بذلك، وفوض أمر المملكة إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري يدبرها برأيه الفاسد. ثم إن الملك الأفضل أظهر التوبة عن ذلك، وأزال المنكرات، وواظب على الصلوات، وشرع في نسخ مصحف بيده.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وفيها سار ابن القصاب وزير الخليفة بعد ملك خورستان إلى همذان، فملكها وملك غيرها من بلاد العجم، وأخذ يستولي على سائر البلاد للخليفة، فتوفي مؤيد الدين بن القصاب المذكور في أوائل شعبان، سنة اثنين وتسعين وخمسمائة.

وفيها غزا ملك الغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس، وجرى بينهم مصاف عظيم، انتصر فيه المسلمون، وقتل من الفرنج ما لا يحصى وولوا منهزمين، وغنم المسلمين منهم ما لا يحصى.

وفيها جهز الخليفة الإمام الناصر عسكراً مع مملوك له يقال له سيف الدين طغريل، فاستولوا على أصفهان. وفيها قدم مماليك البهلوان عليهم مملوكاً من البهلوانية، يقال له كلجا، فعظم أمر كلجا واستولى على الري وهمذان.

وفيها عاود الملك العزيز عثمان صاحب مصر قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل، فسار ونزل الغوار من أرض السواد من بلاد دمشق، فاضطرب بعض عسكر العزيز عليه، وهم طائفة من الأمراء الأسدية، وفارقوه، فبادر العزيز العود إلى مصر بمن بقي معه من العسكر، وكان الملك الأفضل قد استنجد بعمه الملك العادل لما قصده أخوه العزيز.

فلما رحل العزيز عائداً إلى مصر، رحل الملك الأفضل وعمه العادل ومن انضم إليهما من الأسدية، وساروا في إثر العزيز طالبين مصر، فساروا حتى نزلوا على بلبيس وقد ترك فيها العزيز جماعة من الصلاحية، وقصد الملك الأفضل مناجزتهم بالقتال فمنعه العادل عن ذلك، فقصد الأفضل المسير إلى مصر والاستيلاء عليهما، فمنعه عمه العادل أيضاً عن ذلك، وقال: مصر لك متى شئت، وكاتب العادل العزيز في الباطن، وأمره بإرسال القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين، وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابستهم لما رأى من فساد أحوالهم، فدخل عليه الملك العزيز وسأله، فتوجه القاضي الفاضل من القاهرة إلى عند الملك العادل، واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين، فأصلحا بينهما، وأقام الملك العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته، وعاد الأفضل إلى دمشق.

وفيها كان بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب، وبين الفرنج بالأندلس شمالي قرطبة حروب عظيمة، انتصر فيها يعقوب، وانهزم الفرنج.

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة فيها سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة إلى بلاد الهند، وفتح قلعة عظيمة تسمى بهنكر بالأمان، ثم سار إلى قلعة كوكير وبينهما نحو خمسة أيام، فصالحه أهلها على مال حملوه إليه، ثم سار في بلاد الهند فغنم وأسر وعاد إلى غزنة.

وفيها قتل صدر الدين محمد بن عبد اللطيف بن محمد

ص: 91

الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان، وهو الذي سلم أصفهان إلى عسكر الخليفة، قتله سنقر الطويل شحنة للخليفة، بسبب منافرة جرت بينهما.

وفيها نقل الملك الأفضل أباه السلطان صلاح الدين من قلعة دمشق إلى التربة بالمدينة، في صفر، فكان مدة لبثه بالقلعة ثلاث سنين، ولزم الملك الأفضل الزهد والقناعة، وأموره مفوضة لوزيرة ضياء الدين بن الأثير الجزري، وقد اختلفت الأحوال به وكثر شاكوه وقل شاكروه.

ذكر انتزاع دمشق من الملك الأفضل

لما بلغ الملك العادل في مصر والملك العزيز، اضطراب الأمور على الملك الأفضل، اتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق، وأن يسلمها العزيز إلى العادل، لتكون الخطبة والسكة للعزيز بسائر البلاد، كما كانت لأبيه، فخرجا وسارا من مصر، فأرسل الأفضل إليهما ذلك الدين، وهو أحد أمرائه، وكان فلك الدين أخاً الملك لعادل لأمّه، واجتمع فلك الدين بالملك العادل فأكرمه وأظهر الإجابة إلى ما طلبه، أتم العادل والعزيز السير حتى نزلا على دمشق، وقد حصنها الملك الأفضل، فكاتب بعض الأمراء من داخل البلد، الملك العادل، وصاروا معه، وأنهم يسلمون المدينة إليه، فزحف الملك العادل والملك العزيز ضحى يوم الأربعاء السادس والعشرين من رجب من هذه السنة، فدخل الملك العزيز من باب الفرج، والملك العادل من باب توما، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة، وانتقل منها بأهله وأصحابه، وأخرج وزيره ضياء الدين بن الأثير مختفياً في صندوق خوفاً عليه من القتل، وكان الملك ظافر خضر ابن السلطان صلاح الدين صاحب بصرى مع أخيه الملك الأفضل ومعاضداً له، فأخذت منه بصرى أيضاً، فلحق بأخيه الملك الظاهر، فأقام عنده بحلب، وأعطى الملك الأفضل صرخد، فسار إليها بأهله واستوطنها، ودخل الملك العزيز إلى دمشق يوم الأربعاء رابع شعبان، ثم سلم دمشق إلى عمه الملك العادل على حكم ما كان وقع عليه الاتفاق بينهما، وتسلمها الملك العادل، ورحل الملك العزيز من دمشق عشية يوم الاثنين تاسع شعبان، وكانت مدة ملك الملك الأفضل لدمشق ثلاث سنين وشهراً، وأبقى الملك العادل السكة والخطبة بدمشق للملك العزيز، ولما استقر الملك الأفضل بصرخد، كتب إلى الخليفة الإمام الناصر يشكو من عمه العادل أبي بكر، وأخيه العزيز عثمان، وأول الكتاب:

مولاي إن أبا بكر وصاحبه

عثمان قد غصبا بالسيف حق عليّ

فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي

من الأواخر ما لاقى من الأول

فكتب الإمام الناصر جوابه:

وافا كتابك يا ابن يوسف معلناً

بالصدق يخبر أن أصلك طاهر

غصبوا علياً حقه إذ لم يكن

بعد النبي له بيثرب ناصر

ص: 92

فاصبر فإن غداً عليه حسابهم

وأبشر فناصرك الإمام الناصر

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة في هذه السنة توفي ملكشاه بن تكش بنيسابور، وكان أبوه خوارزم شاه تكش، قد جعله فيها وجعل له الحكم على تلك البلاد، وجعله ولي عهده، وخلف ملك شاه ولداً اسمه هندوخان، فلما مات ملكشاه، جعل تكش فيها عوضه ولده الآخر قطب الدين محمد، وهو الذي ملك بعد أبيه، وغير لقبه عن قطب الدين، وجعله علاء الدين، وكان بين الأخوين ملكشاه وقطب الدين عداوة مستحكمة.

ذكر وفاة سيف الإسلام في هذه السنة في شوال، توفي سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب صاحب اليمن، ولما مات سيف الإسلام، كان ولده الملك العزيز إسماعيل بالسمرين، فبعث إليه جمال الدولة كافور، جماعة من الجند، فعرفوه بوفاة ولده ومضوا به إلى ممالك أبيه، فسلموها إليه، وكانت وفاة سيف الإسلام بزبيد، وكان شديد السيرة، مضيقاً على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء، وجمع من الأموال ما لا يحصى، حتى أنه كان يسبك الذهب وجعله كالطاحون ويدخره.

ثم دخلت. سنة أربع وتسعين وخمسمائة في هذه السنة في المحرم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب سنجار والخابور والرقة، وكان حسن السيرة متواضعاً يحب أهل العلم، إلا أنه كان بخيلاً شديد البخل، وملك بعده ولده قطب الدين حمد بن زنكي، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين بزنقش مملوك أبيه.

وفيها في جمادى الأولى سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل إلى نصيبين، فاستولى عليها وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي، فأرسل قطب الدين محمد واستنجد بالملك العادل، فسار الملك العادل إلى البلاد الجزرية، ففارق نور الدين أرسلان شاه نصيبين وعاد إلى الموصل، فعاد قطب الدين محمد بن زنكي وتسلم نصيبين.

وفيها سار خوارزم شاه تكش إلى بخارى، وهي للخطا، وحاصرها وملكها، وكان تكش أعور، فأخذ أهل بخارى في مدة الحصار كلباً أعور وألبسوه قباً وقالوا للخوارزمية: هذا سلطانكم، ورموه بالمنجنيق إليهم، فلما ملكها خوارزم شاه تكش، أحسن إلى أهل بخارى وفرق فيهم أموالاً، ولم يؤاخذهم بما فعلوه في حقه.

وفيها وصل جمع عظيم من الفرنج إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، وسار الملك العادل ونزل بتل العجول، وأتته النجدة من مصر، ووصل إليه سنقر الكبير صاحب القدس، وميمون القصري صاحب نابلس، ثم سار الملك العادل إلى يافا وهجمها بالسيف وملكها، وقتل الرجال المقاتلة، وكان هذا الفتح، ثالث فتح لها، ونازلت الفرنج تبنين، فأرسل الملك العادل إلى الملك العزيز صاحب مصر، فسار الملك العزيز بنفسه بمن بقي عنده من عساكر مصر،

ص: 93

واجتمع بعمه الملك العادل على تبنين، فرحل الفرنج على أعقابهم إلى صور خائبين، ثم عاد الملك العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه العادل، وجعل إليه أمر الحرب والصلح، ومات في هذه المدة سنقر الكبير، فجعل الملك العزيز أمر القدس إلى صارم الدين قطلق، مملوك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، ولما عاد الملك العزيز إلى مصر في هذه المدة، مدحه القاضي ابن سنا الملك بقصيدة منها:

قدمت بالسعد وبالمغنم

كذا قدوم الملك المقدم

قميصك الموروث عن يوسف

ما جاء إلا صادقاً في الدم

أغثت تبنين وخلصتها

فريسة من ماضغي ضيغم

شنشنة تعرف من يوسف

في النصر لا تعرف من أخزم

مقدمه صار جمادى به

كمثل ذي الحجة ذا موسم

ثم طاول الملك العادل الفرنج، فطلبوا الهدنة، واستقرت بينهم ثلاث سنين، ورجع الملك العادل إلى دمشق، ثم سار الملك العادل من دمشق إلى ماردين وحصرها، وصاحبها حينئذ يولق أرسلان بن أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي ابن أرتق، وليس ليولق أرسلان من الحكم شيء، وإنما الحكم إلى مملوك والده البقش.

ذكر أخبار ملوك خلاط وفيها توفي صاحب خلاط بدر الدين أقسنقر هزارديناري، وقد تقدم ذكر ملكه الخلاط في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، ولما توفي هزارديناري استولى على خلاط بعده خشداشه قتلغ وكان مملوكاً أرمني الأصل من سناسنة، فملك خلاط نحو سبعة أيام، ثم اجتمع عليه الناس وأنزلوه من القلعة، ثم وثبوا عليه فقتلوه، فلما قتل قتلغ، اتفق كبراء الدولة فأحضروا محمد بن بكتمر من القلعة التي كان معتقلاً فيها، واسمها أرزاس، وأقاموه في مملكة خلاط ولقبوه الملك المنصور، وقام بتدبير أمره شجاع الدين قتبز الدوادار، وكان قتلغ المذكر قفجاقي الجنس، دوادار الشاهر من سكمان بن إبراهيم، واستقر ابن بكتمر كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة، فقبض على أتابكه قتلغ المذكور وحبسه، ثم قتله، فخرج عليه مملوك شاهرمن يقال له عز الدين بلبان فاتفق العسكر مع بلبان المذكور وقبضوا على محمد بن بكتمر وحبسوه، ثم خنقوه ورموه من سور القلعة إلى أسفل وقالوا: وقع، واستمر بلبان في مملكة خلاط، دون سنة، وقتله بعض أصحاب طغريل بن قليج أرسلان شاه صاحب أرزن، وقصد طغريل المذكور أن يتسلم خلاط، فلم يجبه أهلها إلى ذلك، وعصوا عليه، فعاد إلى أرزن، ثم وصل الملك الأوحد أيوب ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وتسلم خلاط، وملكها قريب ثمان سنين، حسبما ذكر

ص: 94

ذلك في سنة أربع وستمائة إن شاء الله تعالى.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة.

ذكر وفاة العزيز صاحب مصر

في هذه السنة في منتصف ليلة السابع والعشرين من المحرم، توفي الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان قد طلع إلى الصيد، فركض خلف ذئب، فتقنطر وحم، سابع المحرم، في جهة الفيوم، فعاد إلى الأهرام وقد اشتدت حماه، ثم توجه إلى القاهرة فدخلها يوم عاشوراء، وحدث به يرقان وقرحة في المعا، واحتبس طبعه، فمات في التاريخ المذكور. وكانت مدة مملكته ست سنين إلا شهراً، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة وأشهراً، وكان في غاية السماحة والكرم والعدل، والرفق بالرعية، والإحسان إليهم. ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة، وكان الغالب على دولة الملك العزيز، فخر الدين جهاركس، فأقام في الملك ولد الملك العزيز، الملك المنصور محمد، واتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب ليقوم بالملك، وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل، فأشار بالملك الأفضل، وهو حينئذ بصرخد، فأرسلوا إليه فسار محثاً، ووصل إلى مصر على أنه أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك لمنصور حينئذ تسع سنين وشهوراً، وكان مسير الملك الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر، في تسعة عشر نفراً، متنكراً، خوفاً من أصحاب عمه الملك العادل، فإن غالب تلك البلاد كانت له، فوصل بلبيس خامس ربيع الأول. ثم سار الملك الأفضل إلى القاهرة، فخرج الملك المنصور بن العزيز للقائه، فترجل له عمه الملك الأفضل ودخل بين يديه إلى دار الوزارة، وهي كانت مقر السلطنة، ولما وصل الملك ة فضل إلى بلبيس، التقاه العسكر، فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه، وتبعه عدة من العسكر، وساروا إلى الشام وكاتبوا الملك العادل، وهو محاصر ماردين، أرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل، وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، وبلغ الملك العادل مسيره إلى دمشق، فترك على حصار ماردين ولده الملك الكامل، وسار العادل وسبق الأفضل ودخل دمشق قبل نزول الأفضل عليها بيومين، ونزل الملك الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان من هذه السنة، وزحف من الغد على البلد، وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره مدينة، حتى وصل إلى باب البريد، ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر صاحب حلب، فعاد إلى مضايقة دمشق، ودام الحصار عليها، وقلت الأقوات عند الملك العادل، وعلى أهل البلد، وأشرف الأفضل والظاهر على

ص: 95

ملك دمشق، وعزم العادل على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين، الأفضل والظاهر، من الخلف، وخرجت السنة وهم على ذلك، وكان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر استيلاء الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة على بارين وفي شهر رمضان من هذه السنة، قصد الملك المنصور صاحب حماة بارين، وبها نواب عز الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم، وحاصرها، وكان عز الدين إبراهيم مع الملك العادل، محصوراً معه بدمشق، ونصب الملك المنصور عليها المجانيق، وانجرح الملك المنصور حال الزحف، ثم فتحها في التاسع والعشرين من ذي القعدة، وأقام ببارين مدة حتى أصلح أمورها.

ذكر وفاة يعقوب ملك الغرب في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى، توفي أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، بمدينة سلا، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك وعمره ثمان وأربعون سنة، وتلقب يعقوب المذكور بالمنصور، ولما مات يعقوب ملك بعده ابنه محمد بن يعقوب، وتلقب محمد بالناصر، ومولد محمد المذكور سنة ست وسبعين وخمسمائة، وعبد المؤمن وبنوه جميعهم كانوا يسمون بأمير المؤمنين، وفي هذه السنة رحل عسكر الملك العادل مع ابنه الملك الكامل عن حصار ماردين.

ذكر الفتنة بفيروزكوه

في هذه السنة كانت فتنة عظيمة في عسكر غياث الدين ملك الغورية، وهو بفيروزكوه، وسببها أن الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي، الإمام المشهور، كان قد قدم إلى غياث الدين وبالغ في إكرامه واحترامه، وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع، فعظم ذلك على الكرامية، وهم كثيرون بهراة، ومذهبهم التجسيم والتشبيه، وكان الغورية كلهم كرامية، فكرهوا فخر الدين لأنه شافعي، وهو يناقض مذهبهم، فاتفق أن فقهاء الكرامية والحنفية والشافعية حضروا بفيروزكوه عند غياث الدين للمناظرة، وحضر فخر الدين الرازي، والقاضي عبد المجيد بن عمر، المعروف بابن القدوة، وهو من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لتزهده وعلمه، فتكلم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة وطال الكلام، فقام غياث الدين، فاستطال فخر الدين الرازي على ابن القدوة وشتمه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيده على أن يقول: لا يفعل يا مولانا إلا وأخذ الله، فصعب

ص: 96

على الملك ضياء الدين، وهو ابن عم غياث الدين، وزوج ابنته، وشكى إلى غياث الدين وذم فخر الدين الرازي، ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة، فلم يصغ إليه غياث الدين فلما كان الغد، وعظ الناس ابن عمر بن القدرة بالجامع وقال: بعد حمد الله والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيه، وبكى وبكى الكرامية، واستغاثوا، وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعة سكنوا الناس ووعدهم إخراج فخر الدين الرازي من عندهم، وتقدم عليه بالعود إلى هراة فعاد إليها.

وفي هذه السنة: في ربيع الأرل، توفي مجاهد الدين قيماز بقلعة الموصل، وهو الحاكم في دولة زور الدين أرسلان صاحب الموصل، وقيماز المذكور هو الذي كان حاكماً على مسعود والد أرسلان حتى قبض عليه مسعود، ثم أخرجه بعد مدة، وكان قيماز عاقلاً أديباً فاضلاً في الفقه، على مذهب أبي حنيفة، وبنى عدة جوامع وربط ومدارس.

وفيها فارق غياث الدين ملك الغورية مذ هب الكرامية، وصار شافعي المذهب. وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن زهر الأندلسي الإشبيلي، وكان فاضلاً في الأدب، وكان طبيباً، وكان جده زهر وزيراً وفيلسوفاً، وتوفي زهر المذكور في سنة خمس وعشرين وخمسمائة بقرطبة، وزهر بضم الزاي المعجمة وسكون الهاء، وقد قيل في ابن زهر:

قل للوباء أنت وابن زهر

قد جزتما الحد في النكايه

ترفقا بالورى قليلاً

في واحد منكما كفايه

ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة والملكان الأفضل والظاهر محاصران لمدينة دمشق، واتفق وقوع الخلف بين الأخوين الأفضل والظاهر، وسببه أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أيبك ففقد، ووجد عليه الملك الظاهر وجداً عظيماً، وتوهم أنه دخل دمشق، فأرسل من تكشف خبره وأطلع الملك العادل وهو محصور على القضية، فأرسل إلى الظاهر يقول له: إن محمود بن الشكري أفسد مملوكك وحمله إلى الأفضل أخيك، فقبض الظاهر على ابن الشكري، فظهر المملوك عنده، فتغير الظاهر على أخيه الأفضل، وترك قتال العادل، وظهر الفشل في العسكر، فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق، وأقاما بمرج الصفر إلى أواخر صفر. ثم سارا إلى رأس الماء ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء، ثم انثنى عزمهما وسار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب، على القريتين. ولما تفرقا، خرج الملك العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل إلى مصر، ولما وصل الأفضل إلى مصر

ص: 97

تفرقت عساكره في بلادهم لأجل الربيع، فأدركه عمه العادل، فخرج الأفضل بمن بقي عنده من العسكر وضرب معه مصافاً بالسائح، فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة، ونازل العادل القاهرة ثمانية أيام، فأجاب الأفضل إلى تسليمها، على أن يعوض عنها ميافارقين وحاني وسميساط، فأجابه العادل إلى ذلك، ولم يف له به، وكان دخول العادل إلى القاهرة في الحادي والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، وقال ابن الأثير: كان دخول العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الأخر.

فيها وتوفي القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، في سابع عشر ربيع الآخر، وقيل إن مولد القاضي الفاضل سنة ست وعشرين وخمسمائة، فكان عمره نحو سبعين سنة.

ثم سافر الملك الأفضل إلى صرخد، وأقام العادل بمصر، على أنه أتابك الملك المنصور محمد ابن العزيز عثمان مدة يسيرة، ثم أزال الملك المنصور محمد المذكور، واستقل العادل في السلطنة، ولما استقرت المملكة للملك العادل، أرسل إليه الملك المنصور صاحب حماة يعتذر إليه، مما وقع منه بسبب أخذه بعرين من ابن المقدم، فقبل الملك العادل عذره، وأمره برد بعرين إلى ابن المقدم، فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماة، ونزل عن منبج وقلعة نجم لابن المقدم عوضاً عن بعرين، فرضي ابن المقدم بذلك، لأنهما خير من بعرين بكثير، وتسلمهما عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، وكان له أيضاً فامية وكفر طاب وخمس وعشرون ضيعة من المعرة، وكذلك كاتب الملك الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل وصالحه، وخطب له بحلب، وبلادها، وضرب السكة باسمه، واشترط الملك العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل، كلما خرج إلى البيكار، والتزم صاحب حلب بذلك، وقصر النيل في هذه السنة تقصيراً عظيماً، حتى أنه لم يبلغ أربعة عشر ذراعاً.

ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة في العشرين من رمضان، توفي خوارزم شاه تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين صاحب خوارزم، وبعض خراسان والري، وغيرها من البلاد الجبلية، بشهرستانة. وولي الملك بعده ابنه محمد بن تكش، وكان لقب محمد، قطب الدين، فغيره إلى علاء الدين، وكان تكش عادلاً حسن السيرة، يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة، والأصول، ولما بلغ غياث الدين ملك الغورية موت خوارزم شاه، ترك ضرب نوبته ثلاثة أيام وجلس للعزاء مع ما كان بينهما من العداوة المستحكمة، وهذا خلاف ما فعله بكتمر من الشماتة بالسلطان صلاح الدين، ولما استقر محمد بن تكش في المملكة، هرب ابن أخيه هندوخان بن ملكشاه بن تكش إلى غياث الدين ملك الغورية يستنصره على

ص: 98

عمه، فأكرمه غياث الدين ووعده النصر.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة لما دخلت هذه السنة، كان بالديار المصرية الملك العادل، وعنده ابنه الملك الكامل محمد، وهو نائبه بها، وبحلب الملك الظاهر، وهو مجد في تحصين حلب خوفاً من عمه الملك العادل، وبدمشق الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل، نائب أبيه بها، وبالشرق الملك إبراهيم ابن الملك العادل، وبميافارقين، الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل.

وفي هذه السنة توفي عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، وصارت البلاد بعده، وهي منبج وقلعة نجم وفامية وكفر طاب، لأخيه شمس الدين عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، ولما استقر شمس الدين عبد الملك بمنبج، سار إليها الملك الظاهر صاحب حلب وحصرها، وملك منبج، وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة، فحصره، ونزل عبد الملك بالأمان، فاعتقله الملك الظاهر، وملك قلعة منبج، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم، وبها نائب ابن المقدم، فحصرها وملكها في آخر رجب من هذه السنة، وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم، على أن يصير معه على الملك العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين التي في عنقه للملك العادل، فلما أيس الملك الظاهر منه، سار إلى المعرة وأقطع بلادها، واستولى على كفر طاب، وكانت لابن المقدم، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، وأرسل الملك الظاهر وأحضر عبد الملك بن المقدم من حلب، وكان معتقلاً بها، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم فامية، فامتنع قراقوش، فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم، فضرب ضرباً شديداً، وبقي يستغيث، فأمر قراقوش فضربت النقارات على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلم القلعة، فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان من هذه السنة، ونزل شمالي البلد، وشعث التربة التقوية وبعض البساتين، وزحف من جهة الباب الغربي، وقاتل قتالاً شديداً، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان، وجرى فيه قتال شديد، وخرج الملك الظاهر بسهم في ساقه، واستمرت الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض، صالح الملك المنصور على مال يحمله إليه، قيل أنه ثلاثون ألف في ينار صورية.

ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم ابن الملك العادل، فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل، وانضم إليهما فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس، ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر، أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل، ثم يسيران ويأخذان مصر من الملك العادل، ويتسلمها الملك الأفضل وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب، بحيث تبقى مصر

ص: 99

للملك الأفضل، ويصير الشام جميعه للملك الظاهر.

وكان قد تخلف من أكابر الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس، وزين الدين قراجا، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجا، ونقل الملك الأفضل والدته وأهله إلى حمص عند شيركوه، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين دمشق، فخرج بعساكر مصر وأقام بنابلس، ولم يجسر على قتالهما، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق، وتعلق النقابون بسورها، فلما شاهد الملك الظاهر صاحب حلب ذلك، حسد أخاه الملك الأفضل على دمشق وقاله له: أريد أن تسلم إلي دمشق الآن. فقال له الأفضل: إن حريمي حريمك، وهم على الأرض، وليس لنا موضع نقيم فيه، وهب هذه البلد لك، فاجعله لي إلى حين تملك مصر وتأخذه، فامتنع الظاهر من قبول ذلك، وكان قتال العسكر والأمراء الصلاحية إنما كان لأجل الأفضل، فقال لهم الأفضل: إن كان قتالكم لأجلي فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل، وإن كان قتالكم لأجل أخي الملك الظاهر، فأنتم وإياه، فقالوا إنما قتالنا لأجلك، وتخلوا عن القتال، وأرسلوا وصالحوا الملك العادل، وخرجت السنة وهم محاصرون دمشق، وقد تفرقت العساكر، فرحل الملك الظاهر عن دمشق في أول المحرم، سنة ثمان وتسعين، وسار الأفضل إلى حمص.

وفي هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين، توفي عماد الدين الكاتب محمد بن عبد الله بن حامد الأصفهاني، وكان فاضلاً في الفقه والأدب والخلاف والتاريخ، وله النظم البديع، والنثر الفائق، وكتب لنور الدين ولصلاح الدين، وله التصانيف الحسنة، منها: البرق الشامي، وخريدة القصر، وكان مولده سنة تسع عشر وخمسمائة وكان عمره نيفاً وسبعين سنة.

ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة سار الملك غياث الدين ملك الغورية بعساكره، وأرسل استدعى أخاه شهاب الدين من عرنة، فلحقه بعساكره أيضاً، وسار غياث الدين إلى خراسان واستولى على ما كان لخوارزم شاه بخراسان، ولما ملك غياث الدين مرو، سلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزمشاه تكش، الذي كان هرب من عمه محمد إلى غياث الدين ثم استولى غياث الدين على سرخس وطوس ونيسابور وغيرها، ولما استقرت هذه البلاد لغياث الدين عاد إلى بلاده وتوجه أخوه شهاب الدين إلى بلاد الهند، فغنم وفتح نهروالة وهي من أعظم بلاد الهند.

وفي هذه السنة: في رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان، ثم سار ركن الدين إلى أرزن الروم، وكانت للملك محمد بن صليق وهو من بيت قديم، ملكوا أرزن الروم مدة طويلة، فطلع صاحب أرزن الروم المذكور ليصالح ركن الدين، فقبض عليه

ص: 100

وأخذ البلد منه، وكان هذا محمد آخرالملوك من أهل بيته.

وفيها توفي سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب آمد وحصن كيفا، سقط من سطح جوسق كان له بحصن كيفا، فمات، وكان له أخ اسمه محمود بن محمد، وكان سقمان. يبغضه، فأبعده إلى حصن منصور، وكان قد جعل سقمان ولي عهده مملوكه إياس، وكان يحبه حباً شديداً، وأوصى له بالملك بعده، فلما مات سقمان، استولى إياس على البلاد، فلم ينتظم له حال، وكاتبوا أخاه محموداً فحضر وملك بلاد أخيه سقمان.

وفيها كان بمصر غلاء شديد بسبب نقص النيل.

وفيها كان بالجزيرة والشام والسواحل زلزلة عظيمة فهدمت مدناً كثيرة.

وفيها في رمضان توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي الواعظ المشهور وتصانيفه مشهورة، وكان كثير الوقيعة في العلماء، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة.

ثم دخلت سنه ثمان وتسعين وخمسمائة في هذه السنة بعد رحيل الملك الأفضل، والظاهر عن دمشق كما ذكرنا، قدم إليها الملك العادل، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه إعزاز.

وفيها خرب الملك الظاهر قلعة منبج خوفاً من انتزاعها منه، وأقطع منبج بعد ذلك عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب.

وفيها أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن مقدم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسليم فامية، بشرط أن يعطي شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعاً يرضاه، فأقطعه الملك الظاهر الراوندان وكفر طاب ومفردة المعرة، وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة، وتسلم فامية، ثم إن عبد الملك بن المقدم، عصى بالراوندان، فسار إليه الملك الظاهر واستنزله منها. وأبعده، فلحق ابن المقدم بالملك العادل، فأحسن إليه.

وفيها سار الملك العادل من دمشق ووصل إلى حماة، ونزل على تل صفرون، وقام الملك المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه، وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب، فاستعد للحصار بحلب، وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه، ووقعت بينهما مراسلات، ورقع الصلح، وانتزعت منه مفردة المعرة، واستقرت للمللث المنصور صاحب حماة وأخذت من الملك الظاهر أيضاً قلعة نجم، وسلمت إلى الملك الأفضل وكانت له سروج وسميساط، وسلم الملك العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى، وسيره إلى الشرق، وكان بميافارقين الملك الأوحد بن الملك العادل، وبقلعة جعبر الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل، ولما استقر الصلح بين الملك العادل والظاهر، رجع الملك العادل إلى دمشق وأقام بها، وقد انتظمت المماليك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها، وضربت السكة فيها باسمه.

ص: 101

ذكر غير ذلك في هذه السنة عاد خوارزم شاه محمد بن تكش واسترجع البلاد التي أخذها الغورية من خراسان إلى ملكه.

وفيها توفي هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت المنستيري - بضم الميم وفتح النون وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ومنستير بليدة بإفريقية. وكان هبة الله المذكور عالي الإسناد، ولم يكن في عصره من هو في درجته، سمع إبراهيم بن حاتم الأسدي، وسمع جماعة من الأكابر وسمع الناس على هبة الله المذكور، وسافروا إليه من البلاد لعلو إسناده، وكان جده مسعود قد قدم من منستير إلى بوصير، فعرف هبة الله المذكور بالبوصيري، وكانت ولادته سنة ست وخمسمائة.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة والملك العادل مقيم بدمشق. وفيها في المحرم توفي فلك الدين سلطان أخو الملك العادل لأمه، وهو الذي تنسب إليه المدرسة الفلكية بدمشق.

ذكر الحوادث باليمن كان قد تملك اليمن الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام بن طغتكين بن أيوب وكان فيه هوج وخبط، فادعى أنه قرشي، وأنه من بني أمية، ولبس الخضرة، وخطب بنفسه، ولبس ثياب الخلافة في ذلك الزمان، وكان طول الكم نحو عشرين شبراً، وخرج عن طاعته جماعة من مماليك أبيه واقتتلوا معه، وانتصر عليهم، ثم اتفق معهم جماعة من الأمراء الأكراد وقتلوا المعز إسماعيل وأقاموا في مملكة اليمن أخاً له صغيراً، وسموه الناصر، وبقي مدة، وأقام بأتابكيته مملوك والده وهو سيف الدين سنقر، ثم مات سنقر بعد أربع سنين، وتزوج أم الناصر أمير من أمراء الدولة يقال له غازي بن جبرئل، وقام بأتابكية الناصر ثم سمّ الناصر في كوز فقاع على ما قيل، وبقي غازي متملكاً للبلاد، ثم قتله جماعة من العرب بسبب قتله للناصر بن طغتكين، وبقيت اليمن خاليه بغير سلطان، فتغلبت أم الناصر المذكور على زبيد، وأحرزت عندها الأموال، وكانت تنتظر وصول أحد من بني أيوب لتتزوج به وتملكه البلاد، وكان للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولد اسمه سعد الدين شاهنشاه، وكان له ابن اسمه سليمان، فخرج سليمان بن شاهنشاه بن عمر فقيراً يحمل الركوة على كتفه، ويتنقل مع الفقراء من مكان إلى مكان، وكان قد أرسلت أم الناصر بعض غلمانها إلى مكة حرسها الله تعالى في موسم الحاج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد غلمانها سليمان المذكور، فأحضروه إلى اليمن، فاستحضرته أم الناصر وخلعت عليه وملكته اليمن، فملأ اليمن ظلماً وجوراً وأطرح زوجته التي ملكته البلاد، وأعرض عنها، وكتب إلى السلطان الملك العادل وهو عم جده كتاباً جعل في أوله أنه من سليمان، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم،

ص: 102

فاستقل الملك العادل عقله، ثم كان من سليمان المذكور ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفي هذه السنة أرسل السلطان الملك العادل إلى ولده الملك الأشرف وأمره بحصار ماردين، فحصرها وضايقها، ثم سعى الملك الظاهر إلى الملك العادل في الصلح، فأجاب إلى أن يحمل إليه صاحب ماردين مائة ألف وخمسين ألف دينار، ويخطب له ببلاده، ويضرب السكة باسمه، ويكون بخدمته متى طلبه، فأجاب إلى ذلك واستقر الصلح عليه.

وفيها أخرج الملك العادل، الملك المنصور محمد بن العزيز من مصر إلى الشام، فسار بوالدته وإخوته وأقام بحلب عند عمه الملك الظاهر.

وفيها سار الملك المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطاً للفرنج، وأقام بها، وكتب الملك العادل، إلى صاحب بعلبك وإلى صاحب حمص بإنجاده فأنجده، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرها، وقصدوا الملك المنصور ببعرين، واتقعوا معه في ثالث شهر رمضان من هذه السنة، واقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل وأسر من خيالتهم جماعة، وكان يوماً مشهوداً، وفي ذلك يقول بهاء الدين أسعد بن يحيى السنجاري قصيدة من جملتها:

ما لذة العيش إلا صوت معمعة

ينال فيها المنى بالبيض والأسل

يا أيها الملك المنصور نصح فتى

لم يلوه عن وفاء كثرة العذل

أعزم ولا تترك الدنيا بلا ملك

وجد فالملك محتاج إلى رجل

يا أوحد العصر يا خير الملوك ومن

فاق البرية من حاف ومنتعل

ثم خرج من حصن الأكراد والمرقب الإسبتار، وانضم إليهم جموع سن السواحل واتقعوا مع الملك المنصور صاحب حماة، وهو نازل ببعرين في الحادي والعشرين من شهر رمضان من هذه السنة، بعد الوقعة الأولى بثمانية عشر يوماً، فانتصر ثانياً، وانهزمت الفرنج هزيمة شنيعة، وأسر الملك المنصور وقتل منهم عدة كثيرة، ومدح المالك المنصور بسبب هذه الوقعة، سالم بن سعادة الحمصي بقصيدة منها:

أمر اللواحظ أن تفوق أسهماً

ريم برامة ما رنا حتى رما

فتنة بالسحر بل فتاكة

ما جار قاضيهن حين تحكما

ومنها:

أصبحت فيها مغرماً كمحمد

لما غدا بالأريحية مغرما

ومنها:

وشننت منتقماً بساحل بحرها

جيشاً حكى البحر الخضم عرمرما

أسدلت في الآفاق من هبواته

ليلاً وأطلعت الأسنة أنجما

وفي هذه السنة ولد الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور محمد صاحب

ص: 103

حماة، من ملكة خاتون بنت السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وسمي عمر، وإنما سمي محموداً بعد ذلك، وكانت ولادته بقلعة حماة ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان من هذه السنة.

وفي هذه السنة أرسل الملك العادل وانتزع ما كان بيد الملك الأفضل، وهي رأس عين وسروج وقلعة نجم، ولم يترك بيده غير سميساط فقط، فأرسل الملك الأفضل والدته فدخلت على الملك المنصور صاحب حماة، ليرسل معها من يشفع في الملك الأفضل عند الملك العادل في إبقاء ما كان بيده، وتوجهت أم الملك الأفضل، وتوجه معها من حماة القاضي زين الدين ابن الهندي إلى الملك العادل، فلم يجبها الملك العادل، ورجعت خائبة، قال عز الدين ابن الأثير مؤلف الكامل، وقد عوقب البيت الصلاحي بمثل ما فعله والدهم السلطان صلاح الدين، لما خرجت إليه نساء بيت الأتابك، ومن جملتهن بنت نور الدين الشهيد، يشفعن في إبقاء الموصل على عز الدين مسعود فردهن ولم يجب إلى سؤالهن، ثم ندم رحمه الله تعالى على ردهن، فجرى للملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين مع عمه مثل ذلك، ولما جرى ذلك قام الملك الأفضل بسميساط، وقطع خطبة عمه الملك العادل، وخطب للسلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب بلاد الروم.

ذكر وفاة غياث الدين ملك الغورية وفي هذه السنة في جمادى الأولى، توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام بن الحسين الغوري صاحب غزنة، وبعض خراسان، وغيرها، وكان أخوه شهاب الدين بطوس عازماً على قصد خوارزم، وخلف غياث الدين من الولد، ابناً اسمه محمود، ولقب غياث الدين بلقب والده، ولم يحسن شهاب الدين الخلافة على ابن أخيه ولا على غيره من أهله، وكان لغياث الدين زوجة يحبها، وكانت مغنية، فقبض عليها شهاب الدين بعد موت أخيه غياث الدين وضربها ضرباً مبرحاً، وأخذ أموالها، وكان غياث الدين مظفراً منصوراً، لم ينهزم له راية قط، وكان له دهاء ومكر، وكان حسن الاعتقاد كثير الصدقات، وكان فيه فضل غزير وأدب مع حسن خط وبلاغة، وكان ينسخ المصاحف بخطه ويوقفها في المدارس التي بناها، وكان على مذهب الكرامية، ثم تركه وصار شافعياً.

ذكر غير ذلك وفي هذه السنة استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان، ونهبوها وقتلوا أهلها، وكانت هي وجميع أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان، وكان مشغولاً ليلاً ونهاراً بشرب الخمر، ولا يلتفت إلى تدبير مملكته، ووبخه أمراؤه ونوابه على ذلك فلم يلتفت.

وفيها توفيت زمرد أم الخليفة الإمام الناصر، وكانت كثيرة المعروف.

ثم دخلت سنة ستمائة

ص: 104

والملك العادل بدمشق. وفيها كانت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج. وفيها نازل ابن لاوون ملك الأرمن أنطاكية فتحرك الملك الظاهر صاحب حلب ووصل إلى حارم، فرحل ابن لاورن عن أنطاكية على عقبه.

وفيها خطب قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار للملك العادل ببلاده، وانتمى إليه، فصحب على ابن كمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، وقصد نصيبين وهي لقطب الدين، واستولى على مدينتها، فاستنجد قطب الدين بالملك الأشرف ابن العادل، فسار إليه واجتمع معه أخوه الملك الأوحد صاحب ميافارقين، والتقى الفريقان بقرية يقال لها بوشرة، فانهزم نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل هزيمة قبيحة، ودخل إلى الموصل وليس معه غير أربعة أنفس، وكانت هذه الواقعة أول ما عرفت من سعادة الملك الأشرف بن الملك العادل، فإنه لم ينهزم له راية بعد ذلك، واستقرت بلاد قطب الدين محمد بن زنكي عليه، ووقع الصلح بينهم في أول سنة إحدى وستمائة.

وفيها اجتمع الفرنج لقصد بيت المقدس، فخرج السلطان الملك العادل من دمشق وجمع العساكر ونزل على الطور في قبالة الفرنج، ودام ذلك إلى آخر السنة. وفيها استولت الفرنج على قسطنطينية وكانت قسطنطينية بيد الروم من قديم الزمان، فلما كانت هذه السنة اجتمعت الفرنج وقصدتها في جموع عظيمة، وحاصروها فملكوها، وأزالوا يد الروم عنها، ولم تزل بأيدي الفرنج إلى سنة ستين وستمائة، فقصدتها الروم واستعادوها من الفرنج.

وفيها توفي السلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطومش بن يبغو أرسلان بن سلجوق، سلطان بلاد الروم، في سادس ذي القعدة حسبما قدمنا ذكره في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وكان مرضه بالقولنج، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية، وهي أنقرة، وكان ركن الدين المذكور يميل إلى مذهب الفلاسفة، ويحسن إلى طائفتهم ويقدمهم، ولما مات ركن الدين، ملك ولده قليج أرسلان ابن سليمان، وكان صغيراً، فلم يستثبت أمره، وكان ما سنذكره إلى شاء الله تعالى.

وفيها كان بين خوارزم شاه محمد بن تكش وبين شهاب الدين ملك الغورية قتال، انتصر فيه ملك الغورية، واستنجد خوارزم شاه بالخطا، فساروا واتقعوا مع شهاب الدين ملك الغورية. فهزموه، وشاع ببلاده أن شهاب الدين قتل، فاختلفت مملكته وكثر المفسدون، ثم إنه ظهر ووصل إلى غزنة واستقر في ملكه، وتراجعت الأمور إلى ما كانت عليه.

وفيها قتل كلجا مملوك البهلوان، وكان قد ملك الري وهمدان وبلاد الجبل، قتله خشداشه أيدغمش مملوك البهلوان، وتملك موضعه، وأقام أيدغمش ابن أستاذه أزبك بن البهلوان في الملك، وليس لأزبك غير الاسم، والحكم لأيدغمش.

وفيها استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري

ص: 105

على طفار ومرباط وغيرهما من حضرموت. وفيها خرج أسطول للفرنج فاستولوا على مدينة فوه من الديار المصرية فنهبوها خمسة أيام.

وفيها كانت زلزلة عظيمة، عمت مصر والشام والجزيرة وبلاد الروم وصقلية وقبرس والعراق وغيرها، وخربت سور مدينة صور.

ثم دخلت سنة إحدى وستمائة: في هذه السنة كانت الهدنة بين الملك العادل والفرنج، وسلم إلى الفرنج يافا، ونزل عن مناصفات لد والرملة، ولما استقرت الهدنة، أعطى العساكر دستوراً، وسار الملك العادل إلى مصر وأقام بدار الوزارة.

وفيها أغارت الفرنج على حماة ووصلوا إلى قرب حماة، إلى قرية الرقيطا، وامتلأت أيديهم من المكاسب، وأسروا من أهل حماة شهاب الدين بن البلاعي، وكان فقيهاً شجاعاً تولى بر حماة مرة، وسلمية أخرى، وحمل إلى طرابلس، فهرب وتعلق بجبال بعلبك ووصل إلى أهله بحماة سالماً، ثم وقعت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج.

وفيها بعد الهدنة توجه الملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وكان عنده استشعار من السلطان الملك العادل، فلما وصل إليه بالقاهرة أحسن إليه إحساناً كثيراً وأقام في خدمته شهوراً، ثم خلع عليه وعلى أصحابه وعاد إلى حماة.

وفيها ملك السلطان غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان بلاد الروم، وكان لما تغلب أخوه ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان على البلاد قد هرب كيخسرو المذكور إلى الملك الظاهر صاحب حلب، ثم تركه وسار إلى قسطنطينية، فأحسن إليه صاحبها، وأقام بالقسطنطينية إلى أن مات أخوه ركن الدين سليمان، وتولى ابنه قليج أرسلان، فسار كيخسرو من قسطنطينية وأزال أمر ابن أخيه، وملك بلاد الروم واستقر أمره.

وفيها كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسيني أمير مكة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة، وكانت الحرب بينهما سجالاً.

ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة والملك العادل بالديار المصرية والممالك بحالها.

ذكر قتل ملك الغورية شهاب الدين في هذه السنة أول ليلة من شعبان قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام بن الحسين الغوري ملك غزنة، وبعض خراسان، بعد عوده من لهاوور بمنزل يقال له دمبل، قبل صلاة العشاء، وثب عليه جماعة وهو بخركاته، وقد تفرق الناس عنه لأماكنهم فقتلوه بالسكاكين، قيل أنهم من الكوكير، وهم طائفة من أهل الجبال، مفسدون، كان شهاب الدين قد فتك فيهم، وقيل أنهم من الإسماعيلية، فإن شهاب الدين أيضاً كان كثير الفتك فيهم، واجتمع حرس شهاب الدين فقتلوا أولئك الذين قتلوا شهاب الدين عن آخرهم، وكان شهاب الدين شجاعاً كثير الغزو، عادلاً في الرعية، وكان الأمام فخر الدين الرازي يعظه في داره، فحضر يوماً ووعظه وقال في آخر كلامه: يا سلطان لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي،

ص: 106

فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس، ولما قتل شهاب الدين كان صاحب باميان بهاء الدين سام بن شمس الدين محمد بن مسعود عم غياث الدين، وشهاب الدين المذكور، فسار بهاء الدين سام ليتملك غزنة، ومعه ولداه علاء الدين محمد، وجلال الدين، ابنا سام بن محمد ابن مسعود بن الحسيني، فأدركت بهاء الدين سام الوفاة قبل أن يصل إلى غزنة، وعهد بالملك إلى ابنه علاء الدين محمد، فأتم علاء الدين وأخوه جلال الدين السير إلى غزنة ودخلاها وتملكها علاء الدين، وكان لغياث الدين ملك الغورية مملوك يقال له تاج الدين يلدز، وكانت كرمان إقطاعه، وهو كبير في الدولة، ومرجع الأتراك إليه، فسار يلدز إلى غزنة وهزم عنها علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام، وأخاه جلال الدين، واستولى يلدز على غزنة ثم إن علاء الدين وجلال الدين ولدي بهاء الدين سام، سارا إلى باميان وجمعا العساكر وعادا إلى غزنة، فقاتلهما يلدز، فانتصرا عليه وانهزم يلدز إلى كرمان، واستقر علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ومعه بعض العسكر في ملك غزنة، وعاد أخوه جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، ثم إن يلدز لما بلغه مسير جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، وتأخر علاء الدين بغزنة، جمع العساكر من كرمان وغيرها وسار إلى غزنة، وبلغ علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ذلك، فأرسل إلى أخيه جلال الدين وهو بباميان يستنجده، وسار يلدز وحصر علاء الدين بغزنة، وسار جلال الدين فلما قارب غزنة رحل يلدز إلى طريقه، واقتتلا، فانهزم عسكر جلال الدين وأخذه يلدز أسيراً، فأكرمه يلدز واحترمه، وعاد إلى غزنة فحصر علاء الدين بها، وكان عنده بغزنة هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش فاستنزلهما يلدز بالأمان، ثم قبض على علاء الدين وعلى هندوخان، وتسلم غزنة، وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد، ملك الغورية، فإنه لما قتل عمه شهاب الدين، كان ببست، فسار إلى فيرزكوه وتملكها وجلس في دست أبيه غياث الدين، وتلقب بألقابه، وفرح به أهل فيروزكوه، وسلك طريقة أبيه في الإحسان والعدل، ولما استقل يلدز بغزنة، وأسر جلال الدين وعلاء الدين ابني سام، كتب إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام بن الحسين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى.

ذكر غير ذلك في هذه السنة توفي الأمير مجير الدين طاشتكين أمير الحاج، وكان قد ولاه الخليفة على جميع خورستان، وكان خيراً صالحاً، وكان يتشيع.

وفيها تزوج أبو بكر بن البهلوان بابنة ملك الكرج، وذلك لاشتغاله بالشرب عن تدبير المملكة، فعدل إلى المصاهرة والهدنة، فكف الكرج عنه.

ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة في هذه السنة سار الملك العادل من مصر إلى الشام، ونازل في طريقه عكا فصالحه أهلها على إطلاق جمع من الأسرى، ثم

ص: 107