المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌[مؤيدات هذا الهدف]

ويقول " إدوارد سعيد ": " ولقد أظهر مؤرخون عديدون أن أقدم الباحثين الأوربيين في شؤون الإسلام كانوا من أهل الجدل في القرون الوسطى، ممن كتبوا لتبديد تهديد الحشود الإسلامية وتهديد الارتداد، وبطريقة أو بأخرى تواصل هذا المزيج من الفزع والعداء حتى يومنا هذا في الانتباه البحثي وغير البحثي المنصب على إسلام يرى منتميا إلى جزء من العالم (هو الشرق) يوضع موقع النقيض ضد أوروبا والغرب على الصعيد التخييلي والجغرافي والتاريخي "(1) .

[مؤيدات هذا الهدف]

مؤيدات هذا الهدف: والذي يؤيد وجود هذا الهدف عدة عوامل مهمة، ومن أبرزها:

- أن أساس العلاقة بين الشرق والغرب قد قامت على العداء الديني، ورفض الإسلام بديلا للنصرانية في الشرق وغيره، بما في ذلك حماية النصارى الشرقيين من الإسلام، والتأثير على الأرثوذوكس في الشرق واستقطابهم للكنيسة الكاثوليكية في الغرب (2) .

(1) إدوارد سعيد: تعقيبات على الاستشراق - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996 م - ص 119.

(2)

سعيد عبد الفتاح عاشور: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته - القاهرة: عالم الكتب، 1987 م - ص 7 - 46، وعلي حسني الخربوطلي: المستشرقون والتاريخ الإسلامي - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م - ص 31 - 34، (سلسلة تاريخ المصريين 15) .

ص: 16

- وأن هذا الشعور قد " ولد " شعورا بالاستعلاء والفوقية الغربية على بقية أمم الأرض، بما فيها المسلمون، وأن هذا الشعور بالفوقية قد انطلق من الكنيسة الغربية باحتقار كل ما هو غير بابوي النحلة والهوى، وقد تسرب هذا الشعور " رويدا بتأثير وعاظ الكنائس والقسس والرهبان، فخلق فيهم حالة نفسية استعلائية، صبغت العقلية الغربية والفكر الغربي في القرون الوسطى "(1) وقد صدق المستشرقون هذه النظرة " ولم يكلفوا أنفسهم تبديلها مع عيشهم الطويل بين المسلمين أو من زياراتهم المتكررة واطلاعهم على القرآن الكريم والحديث الشريف "(2) . فاستمر شعورهم العميق بتفوق ما لديهم، إن حقا وإن باطلا، في الوقت الذي رأوا فيه بطلان ما لدى غيرهم لعدم اتفاقه مع ما لديهم من دين وثقافة وفكر.

- أن طلائع المستشرقين من النصارى كانوا ذوي مناصب دينية، وأنهم قد انطلقوا من الكنائس والأديرة، ويعود هذا إلى النصف الثاني من القرن

(1) قاسم السامرائي: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية - الرياض: دار الرفاعي، 1403 هـ - 1983 م - ص 50.

(2)

قاسم السامرائي: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية - المرجع السابق - ص 51.

ص: 17

الرابع الهجري، القرن العاشر الميلادي، (1) مع أن التبادل الثقافي والعلمي بين المسلمين ونصارى أوربا قد بدأ قبل ذلك بكثير، لا سيما في عهد الخليفة العباسي " هارون الرشيد "(ت 182 هـ)، و " المأمون:(ت 230 هـ)(2) .

- وأن كثيرا من المستشرقين قد بدأوا حياتهم العلمية بدراسة اللاهوت قبل التفرغ لميدان الدراسات الاستشراقية (3) وكان همهم إرساء نهضة الكنيسة وتعاليمها، لا سيما في العصور الوسطى (4) أي أن هدفهم كان تنصيريا واضحا، فكأن الاستشراق إنما قام ليغذي التنصير بالمعلومة المنقولة بلغة المنصر، رغم محاولات تعميم اللاتينية لغة للتنصير (5) .

(1) ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية - 2 ج - مالطا: مركز دراسات العالم الإسلامي، 1991 م - ص 37 - 48.

(2)

علي بن إبراهيم النملة: مراكز الترجمة القديمة عند المسلمين - الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1412 هـ.

(3)

نبيه عاقل: المستشرقون وبعض قضايا التاريخ - دراسات تاريخية ع 9 - 10 (1 1403 هـ - 10 1982 م) - ص 168 - 199.

(4)

عدنان محمد وزان: الاستشراق والمستشرقون، وجهة نظر - مكة المكرمة: رابطة العالم الإسلامي، 1404 هـ - 1984 م - ص 17، (سلسلة دعوة الحق 24) .

(5)

يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين - تعريب: عمر لطفي العالم - دمشق: دار قتيبة، 1417 هـ - 1996 م - 368 ص، إذ يتحدث عن طلائع المستشرقين على أنهم منصرون.

ص: 18

- وأن أوائل المطبوعات الغربية باللغة العربية قد ركزت على الكتب الدينية النصرانية، وأن أول ما طبعته لايدن من الكتب كان الإنجيل (1569 - 1573 م) ويذكر " العقيقي " أن أول كتاب عربي طبع في هولندا كان الحروف الأبجدية والمرموز الخمسين تجربة لها (1595 م)(1) .

- وأن التنصير قد اتكأ كثيرا على الاستشراق في الحصول على المعلومات عن المجتمعات المستهدفة، لا سيما الإسلامية في موضوعنا هذا، وخاصة عندما اكتسب مفهوم التنصير معنى أوسع من مجرد الإدخال في النصرانية إلى تشويه الإسلام والتشكيك في الكتاب والسنة والسيرة وغيرها (2) فكان فرسان في هذا التطور في المفهوم هم المستشرقين (3) .

- وأن من مقاصد الاستشراق الرئيسة، التي انطلق منها، التعرف على

(1) نجيب العقيقي: المستشرقون - مراجع سابق - 2: 302.

(2)

أحمد عبد الرحيم السايح: الاستشراق في ميزان نقد الفكر الإسلامي - القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1417 هـ - 1996 م - ص 17.

(3)

علي بن إبراهيم النملة: الاستشراق في خدمة التنصير واليهودية - مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - ع 3 (رجب 1410هـ فبراير 1990 م) - ص 237 - 273.

ص: 19

مصادر النصرانية من اللغة العبرية، وقد ساقتهم دراسة اللغة العبرية إلى تعلم اللغة العربية، وتعلم اللغة العربية قاد إلى الاستشراق، فاللغة العربية هي لغة دين وثقافة وفكر جاء ليحل محل الدين النصراني والثقافة والفكر المنبثقين عن الدين النصراني، فأوجد هذا نزعة التعصب التي قادت إلى استخدام اللغة العربية والعبرية في هذا المنحى " الاستشراقي الذي اتجه إلى الإسلام والعربية، وقد قيل: إنك لا تكاد تجد مستشرقا إلا أجاد اللغة العبرية والعربية معا "(1) .

- وأن البداية. " الرسمية " للاستشراق قد انطلقت من مجمع فينا الكنسي سنة 712 هـ 1312 م، الذي نعرف الآن أنه قد أوصى بإنشاء عدة كراسي للغات، ومنها اللغة العربية، ولا سيما التشريع الحادي عشر الذي قضى فيه البابا " إكليمنس الخامس " بتأسيس كراسي لتدريس العبرية واليونانية والعربية والكلدانية (السريانية، الآرامية) في الجامعات الرئيسية (2) وكانت

(1) محمد عزت إسماعيل الطهطاوي: التبشير والاسشتراق، أحقاد على النبي - محمد صلى الله عليه وسلم وبلاد الإسلام - القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1411 هـ 1991م - ص 45.

(2)

إدوارد سعيد الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء - ط 2 - ترجمة: كمال أبو ديب - قم: دار الكتاب الإسلامي، 1984 م - ص 328.

ص: 20

هذه التوصية قائمة على دعوة " ريموند لول "(1) لإنشاء كراسي للغة العربية في أماكن مختلفة. وينقل عبد اللطيف الطيباوي عن " رادشل " في كتاب له عنوانه: الجامعات في أوربا في القرون الوسطى أن " الغرض من هذا القرار كان تنصيريا صرفا وكنسيا لا علميا "(2) .

- وأن الاستشراق قد استشرى ونال رعاية الكنيسة ومباركتها عندما ثبت فشل الحروب العسكرية من خلال انحسار المد الغربي الصليبي بعد جهود قرنين من الزمان، فاتجهت الكنيسة الغربية إلى التنصير من خلال الفكر والثقافة والعلم، فكان التوجه إلى ما نسميه اليوم بالغزو الفكري في تحقيق ما فشل فيه سلاح الغزو الحربي (3) . هذا الغزو الذي اتخذ من الاستشراق منطلقا له، سعى من خلاله إلى تشويه الإسلام بطرق شتى، لا تتعدى كونها جملة من الإسقاطات التي نالت حظا طيبا من النقاش والرد، في زمان

(1) سيأتي الحديث عن " ريموند لول " في القسم الثاني من هذه الدراسة.

(2)

عبد اللطيف الطيباوي: المستشرقون الناطقون بالإنجليزية، دراسة نقدية - ترجمة وتقديم: قاسم السامرائي - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عمادة البحث العلمي، 1411 هـ - 1991 م - 183.

(3)

سعيد عبد الفتاح عاشور: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته - مرجع سابق - ص 12.

ص: 21

إطلاقها وبعده، من كثير من المسلمين (1) .

وكان الهدف من هذه الدعوة هو أن تؤتي محاولات التنصير ثمارها بنجاح من خلال تعلم لغات المسلمين (2) وقد عبر عن هذه الثمار في دعوة " لول " بارتداد العرب إلى النصرانية من الإسلام، كما كان " غريغوري العاشر " يأمل في ارتداد المغول إلى النصرانية، وقبله كان " الإخوة الفرنسيسكان " قد توغلوا في أعماق آسيا يدفعهم حماسهم التنصيري، ومع أن آمالهم لم تتحقق في وقتها إلا أن الروح التنصيرية قد تنامت منذئذ (3) .

وهذا يعني بتعبير أوضح " إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين النصراني "(4) وهذا مما أدى إلى الاستنتاج أن

(1) انظر مثلا: شوقي أبو خليل: أضواء على مواقف المستشرقين والمبشرين - طرابلس: جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، 1991 م - 264 ص، ففيه حوالي عشرين إسقاطا تولى المؤلف مناقشتها والرد عليها.

(2)

محمود حمدي زقزوق: " الإسلام والاستشراق " - في: الإسلام والاستشراق - تأليف نخبة من العلماء المسلمين - جدة: عالم المعرفة، 1405 هـ - 1985 م - ص 71 - 102.

(3)

إدوارد سعيد: الاستشراق - مرجع سابق - ص 328.

(4)

محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري - ط 2 - القاهرة: دار المنار، 1409 هـ - 1989 م - ص 35.

ص: 22

التنصير هو الأصل الحقيقي للاستشراق، " وليس العكس صحيحا كما يذهب أغلب الباحثين "(1) . والدلائل التي ذكرت في ثنايا هذه الدراسة تؤيد ذلك وتدعمه.

ومن هذا المنطلق يفهم التوجه إلى تعريف المستشرقين بأنهم " الذين يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، ويقدمون الدراسات اللازمة للمبشرين، بغية تحقيق أهداف التبشير، وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار "(2) .

وقد انتظم الاستشراق في الفاتيكان وانتشر واستمر على أيدي البابوات والأساقفة والرهبان، فكان رجال الدين النصراني " - ومجمعهم الفاتيكان يومئذ - يؤلفون الطبقة المتعلمة في أوربا، ولا سبيل إلى إرساء نهضتها إلا على أساس من التراث الإنساني الذي تمثلته الثقافة العربية، فتعلموا العربية، ثم اليونانية، ثم اللغات الشرقية للنفوذ منها إليه. . . "(3) وكذلك لمقارعة فقهاء المسلمين واليهود والرد عليهم، وتدريب أدلاء يتخاطبون بالعربية

(1) ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية - مرجع سابق - ص 44.

(2)

عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير - الاستشراق - الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه - ط 4 - دمشق: دار القلم، 1405 هـ - 1985 م - ص 50.

(3)

نجيب العقيقي: المستشرقون - مرجع سابق - 1: 104.

ص: 23

للقيام على خدمة مرتادي بيت المقدس من النصارى، ويطلق عليهم " الحجاج "، فأسس البابا جمعية الجوالين سنة 648 هـ - 1250 م، وطبعت بعد ذلك أدلة الحج، وفيها الأبجدية العربية وطريقة النطق بها، وخريطة لمدينة القدس، ورسوم للزي العربي، لا سيما اللبناني، يقول نجيب العقيقي في هذا:" فكان أول ما عرفت أوربا من الطباعة العربية "(1) .

وقد أضحى هذا المنحى في الرؤية إلى نشأة الاستشراق مما يتفق عليه معظم الباحثين المسلمين في ظاهرة الاستشراق (2) لا سيما أولئك الذين لا يسعون إلى الاعتذار للمستشرقين بخاصة، وللغرب بعامة، وقد عد الاستشراق أقرب الطرق وأسهلها للتنصير (3) .

على أني لحظت أن هناك من يرى التداخل بين التنصير والاستعمار في الإفادة من الاستشراق، بحيث يقال إن الهدف من الاستشراق هو " التمهيد للاستعمار الزاحف. . . حتى يمكن للمستعمرين التعامل مع الشعوب المغلوبة

(1) نجيب العقيقي: المستشرقون - المرجع السابق - 1: 104.

(2)

عمر فروخ: " الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة " - في: الإسلام والمستشرقون - مرجع سابق - ص 125 - 143.

(3)

محمد علوي المالكي الحسني: " المستشرقون بين الإنصاف والعصبية " - في: الإسلام والمستشرقون - مرجع سابق - ص 159 - 187.

ص: 24

المنهوبة على ضوء ما عرفوه عنها " (1) وفي هذا شيء من الاقتصار على هدف من أهداف الاستشراق يخدم مجال الباحث في بحثه دون النظر إلى الأهداف الأخرى، ويؤدي هذا إلى قصر الأهداف على الهدف الديني التنصيري، الأمر الذي ينبغي ألا يكون.

ومن المهم هنا النظرة إلى التداخل في الأهداف مع القدرة على التمييز بينها، وأن هذه الأهداف إنما تسعى إلى الإفادة من بعضها في تحقيق غاياتها، فالهدف الديني، ومنه التنصير، للاستشراق يتداخل مع الأهداف الأخرى كالاستعمار والهدف السياسي، بل والهدف الاقتصادي والتجاري، ثم الهدف العلمي، وذلك لتعذر التخلي عن الخلفية الثقافية القائمة على الدين في النظر إلى الثقافات الأخرى. وهذا ما جعل بعض المستشرقين ينظر إلى الشرق نظرة فوقية مدعيا أن علو الغرب إنما يعود إلى الديانة النصرانية، بينما يعود تخلف الشرق وبالتالي دونيته لتمسكه بالإسلام.

وقد استمرت هذه النظرة الفوقية المنبعثة من الدين، وغذتها كذلك النظرة العرقية، إلى وقتنا الحاضر، ويذكر " خير الله سعيد " أن " جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية، ثم

(1) عبد العظيم الديب: "المستشرقون والتاريخ " - في: الإسلام والمستشرقون - مرجع سابق - ص 275 - 287.

ص: 25

إن هذا الاستشراق في تناميه وفي تاريخه اللاحق قد عمق هذا التمييز، بل أعطاه صلابة وثباتا " (1) .

وربما كان هذا الشعور أحد مسوغات الاستعمار الذي جثم على الدول المستعمرة ردحا من الزمن، بحجة عدم قدرة الشعوب الشرقية على حكم نفسها، فاحتاجت إلى الوصاية الغربية عليها، وهذا ما يشير إليه تقرير " سكاربرو "(2) كما يشير إليه " هاملتون جب " في الاتجاهات الحديثة في الإسلام (3) .

(1) خير الله رشك سعيد: الاستشراق - دراسات عربية مج 26 ع 9 (يوليو 1990 م) - ص 104 - 123، نقلها عنه مازن بن صلاح مطبقاني في: الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي - مرجع سابق - ص 46.

(2)

مازن بن صلاح مطبقاني: الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي - مرجع سابق - ص 46. وسكاربرو هو رئيس اللجنة الحكومية التي أعدت التقرير في لندن سنة 1947 م، وقد دعا التقرير إلى استعمار البلاد العربية والإسلامية، وأكد على أن " الدراسات الاستشراقية لكي تكون مثمرة يجب أن - تتعامل مع العالم الحقيقي، وليس فقط بآليات الكتابة والحديث ".

(3)

هاملتون جب: الاتجاهات الحديثة في الإسلام - ترجمة: هاشم الحسيني - بيروت، 1966 - ص 31 - 32.

ص: 26