المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة فيها بيان: لماذا نحب هذه الدعوة ولماذا نجحت واستمرت - المستطاب في أسباب نجاح دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

[عبد الرحمن بن يوسف الرحمة]

الفصل: ‌كلمة فيها بيان: لماذا نحب هذه الدعوة ولماذا نجحت واستمرت

‌كلمة فيها بيان: لماذا نحب هذه الدعوة ولماذا نجحت واستمرت

؟!!

هذا سؤال عريض لا بد من الإجابة عليه إجابة وافية المقصود، بينة العبارة، واضحة الأسلوب، حتى يتضح الصبح لكل ذي عينين: إن هذه الدعوة المباركة أحببناها ونجحت واستمرت لأنها تجديد لأصالة الدين، وروح الملة، ومعدن الشريعة، إنها رجوعٌ بالناس إلى رأس الأمر، وأصل النبع، وأساس النهر، وأول المسيرة، وهي إلغاء لطقوس الكهنة، ومصطلحات مشايخ الطرق، عبدة الجاه، وسدنة الناموس بين البرية.

أحببناها ونجحت لأنها دعوة لم يقم بها العسكر تحت رصاص البنادق، وزحف الدبابات، فهي لا تؤمن بالاختلاس والنهب، هي دعوة لم تتبنَّ حمايتها الأحزاب الخاسرة التي ترفع شعارات تؤمن بها في الأوراق، وتكفر بها في الميدان؛ ولأنها ليست دعوة سياسية صرفة مقصدها الوصول إلى كرسي الحاكم، وابتزاز عصا السلطان، وتصدر الجموع، إنها دعوة أصلها ثابت من الدليل الشرعي، والاقتداء بالمعصوم صلى الله عليه وسلم والدعوة على بصيرة، وفرعها في السماء من العطاء المبارك، والنفع العام، والأثر المحمود.

ص: 5

إن هذه الدعوة لم تدلف تحت هتافات الغوغاء، والشعارات الجوفاء، ولم تقم بأغلبية الأصوات، ونتائج صناديق الاقتراع، لم تفعل ذلك لأن هذه الدعوة توقد من شجرة الوحي المبارك، لا شرقية ولا غربية، بل سُنِّيّة سلفية ربّانية.

أحببناها واستمرت لأنها دعوة بدأت من المسجد، وانطلقت من المحراب، وهبّت من المآذن علنية، تعلن مبادئها على المنبر، وتشرح مواثقها في العامة، ليست سرية لها رموز لا يفكها إلا خاصة الخاصة، وليست غامضة لا يفهم مقاصدها إلا أساطينها؛ بل دعوة بينة بيان الحق، ساطعة سطوع الحقيقة، ظاهرة ظهور الفجر.

إنها بإيجاز تدعو لأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وتعبد الناس لخالقهم ورازقهم، لا ترى التقليد، ولكنها لا تجرح الأئمة، ولا تقر الجور، ولكنها لا تخرج على الحاكم المسلم، وترفع شعار الجهاد، ولكن لإعلاء كلمة الله.

ص: 6

نجحت واستمرت لأنها دعوة سهلة ميسرة، ومن ينظر في كتب الإمام المجدد، وأبنائه وأحفاده، وأئمة الدعوة، يلمس يسر الشريعة، وسماحة الملة، وسهولة الدين، وكذلك عمرت هذه الدعوة، وأينعت، وطاب قطافها، واستوت على سوقها؛ عملٌ بالكتاب والسنة، على فهم سلف الأمة - صحابة وتابعين - وتقديمٌ للدليل مع احترام أهل العلم، وتحاكم للنص مع عدم مصادرة جهود الخيرين، وبناء دولة مع تقديم الآخرة، وإصلاح القلب مع الاهتمام بالجسم، لم تحش أذهان أتباعها بزبد الخطابة المجردة، والعواطف المجنحة، ووجهات النظر، واستحسانات الفلاسفة، ورغوة علماء الكلام، وجدل المناطقة، ووله الشعراء.

ولم تضع وقت طلابها في مطاردة قصاصات مقالات الصحفيين، الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون.

ولا في تتبع أطروحات المفكرين الذين يتبعون الظنَّ وإن هم إلا يخرصون، ولا في حفظ حروز المتصوفة، الفارغين من النقل، الهائمين في أودية الخيال.

نجحت واستمرت لأن هذه الدعوة ربانية أولى وآخرة، دنيا ودولة، جسدٌ وروح، شكل ومضمون، رواية ودراية، خبر وإنشاء، قولٌ وعملٌ، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً.

ص: 7

إنها لم تأت بطرح صوفي يقدس عمامة الشيخ، ويتمسح بثوب الغوث والقطب، ويقبل تراب أقدام الأوتاد والأبدال.

لم تفد بمشروع خارجي يكفر بالكبيرة، ويعلن التمرد لمجرد مخالفة، ويستبيح دم المسلم بالمعصية ويدعو إلى الثورة عند الخطأ؛ ولم تبزغ بوجه رافضي يتبرأ من الصحابة، ويحمل الضغينة على الأبرار، ويأفك في المنهج، ويفتري على الله ورسوله، يضل في المعقول، ويجهل المنقول، يرفض الثوابت.

وصلت للناس كما يصل الماء العذب الرقراق إلى الشفاه، وكما يطلب نور الفجر على الآفاق، ومثلما يهبط الغيث من السماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، وإذا الناس بها يستبشرون.

ص: 8

لقد قامت قبلها ومعها وبعدها دعوات، وحركات، وشعارات، ولكنها لم تكن مثلها، ولم تفعل فعلها، ولم تؤثر أثرها، فهذه الدعوات: إما دعوة دموية مصادمة انتهت بقطع الرؤوس، وبحيرات الدم، وأعقبت الخوف، والتشريد، والتنكيل من الجلد، والحبس والإعدام، أو دعوة سلبت الإنسان حقه في الحياة، فحرمت عليه الطيبات، ومنعته من المناهج، وحشرته في زاوية، يهمهم ويتمتم، على أوراد بدعية، وأعمال شركية، يطوف بالقبر كالحمار بالرحى، ويتمرغ عند الضريح كالثور في المسناة، بهم تطمس إشراقات الملة، وبهم تنطفئ أنوار الشريعة.

أو دعوة بنيت على مذهب اللملمة، تقبل السلفي والرافضي والخارجي والاشتراكي والعلماني، بحجة رص الصف، وجمع الكلمة.

ص: 9

أما دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأجزل له الأجر والثواب وأدخله الجنة بلا حساب ولا عذاب - فهي دعوة واضحة المعالم، ثابتة الخطى، متميزة الطرح، بينة الخصائص قامت على التوحيد أصل الأصول، ودعوة الأنبياء، ومهمة الرسل، وأول الواجبات، وأعظم الفرائض، فدعت إليه قولاً وعملاً، ونصرها الله بسيف الشرع، وقوة العلم، وكتائب الجهاد، وأحفاد الفاتحين، فشرَّقت وغربَّت، وآتت أُكلها ضعفين بإذن ربها، كان من حسناتها - وهي حسنات كلها - الاهتمام بحِلق الذكر، ودروس المسجد، وبث الوعي، ونشر العلم، وهي سنة سنها رسول الله رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ثم أميت من قرون سلفت، فجاءت هذه الدعوة لبعثها من جديد وإحيائها.

وليت المساجد يعود لها ذاك الزخم المضيء النير في أيام دعوة المجدد، ليعي الناس أمر دينهم، لأن الدراسة المنهجية النظامية، وحدها لا تفي بمهمة المسجد، مع ضآلة ما قرر للدين من حصص، وما قطر لمادة التوحيد من محاضرات، مع هزال المدرس، ونعاس الطالب، وملل الرتابة، وكثرة الصوارف.

ص: 10

إن المكان المبارك لنشر عقيدة السلف الصالح، وميراث الرسول صلى الله عليه وسلم وتركته هو المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .

ويوم أصبحت عقيدة السلف تعلم بالكمبيوتر، وصار علم الشرع يؤخذ من القنوات الفضائية، صار الطرح باردًا، والذهن كالًا، والجيل عاطلًا، والعلم ممجوجًا.

ص: 11

الآن حصص الحق، ولكل نبأ مستقر، وأدرك العقلاء أن الدعوة التي تتقبلها القلوب، وتنشرح لها الصدور وتوافقها الفطر، وتصدقها العقول، هي الدعوة الموافقة لدعوة المعصوم صلى الله عليه وسلم المتبعة لا المبتدعة، الربانية لا النفعية، الأثرية لا المخالفة، الوسطية لا الغالية ولا الجافية، وهي دعوة عبرت القرون، واخترقت حاجز الزمن، ونفذت من بوابة الدهر، يحمل علمها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأئمة السلف كمالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ومع هذا الموكب المبارك نريد أن نسير، ومع هذه الطائفة المنصورة الناجية الباقية نتمنى أن نُحشر، ومع هذا النبع العبّ الثر نريد أن نعبَّ {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] .

وخاتمة للكمة أقول: اللهم إن هذا الشجن مما نفح به الخاطر، وشهد به القلب، وزكاة الضمير، لم يحاب فيه شخص، ولم يتزلف به إلى هيئة، وكلنها شهادة تؤدى يوم تكتب شهادتهم ويسألون، وعقيدة تعتنق، ومذهب يحب، وأمنية غالية، يلهج بها.

ص: 12

ذلكم مما نفث به القلم المصدور على عجل من أمره، وفي المطولات عن هذه الدعوة غنية وكفاية، ولكنها زكاة نصاب الواجب علي لهذه الدعوة، ولا يسعني السكوت، فإن لم يصبها وابل فطل:

ليت الكواكب كانت لي فأنظمها

عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

ص: 13