الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب التاسع: سلوكها لفقه المقاصد الشرعية، المبني على القواعد المرعية:
إن النظرة الفاحصة الدقيقة إلى الشريعة مقصداً وفقهاً مطلوبة جداً، لما فيها من التوازن بين الأمور المتداخلة والترجيح بين الأقوال المتعارضة، والتمييز بين الأحوال المتشابهة، ولهذا فإن فقه المقاصد الشرعية في الدعوة والعلم والعمل، لا بد منه حتى تستوي الثمرة الدعوية، وتؤتي أُكلها، ويعظم أثرها وتلكم الدعوة الإصلاحية المباركة، راعت هذه المسألة رعاية تامة، لما حبا الله أئمتها وعلمائها من فقه سديد ورأي ثاقب، وعقل رزين، ودين متين؛ فاستطاعوا رحمهم الله الموازنة بين المصالح والمفاسد، والترجيح بين القضايا المتشابهة وسلوك اليسر والحكمة واللين في مواضعه وأماكنه وعدم الاندراج تحت العاطفة العقلية الغالبة على المصلحة ذات النص الشرعي.
ولعل من أهم مقومات هذه النظرة الفقهية المبنية على المقاصد الشرعية عدة أمور:
(1)
المراعاة والتدرج سواء كان ذلك في أول مناحي الدعوة أو وسطها أو آخرها أو في مسالك العلم والفتيا أو في مسالك العمل والنصح والوعظ أو في غير ذلك وهذه المراعاة مراعاة للطبائع والعادات والعوائد الشخصية ومراعاة للأفهام من قلة العلم أو اختلاف البيئة أو استحكام العادات القبلية، فليس كل علم ينشر ويبذل ويقال.
ومراعاة للمقاصد والنيات، من صور الاتفاق والاختلاف والتحليل والتحريم والإكراه والنسيان والتأويل والإعذار بالزلة اللامقصودة، والأخذ بالقرائن والأحوال والسابقة في الفضل والعلم، وعدم التعجل في الأحكام أو التجرؤ في اتهام النيات.
ومراعاة للأحوال الخاصة من النصائح والوصايا والرسائل والمعاملة الكريمة، والتوجيه المنفرد، وحب الخير للغير ومراعاة للأعراف والعوائد العامة، وذلك لا يتم إلا بالضوابط الشرعية، والقواعد المرعية، المبنية على لزوم الحكمة وكتمان العلم للمصلحة، والحرص على معرفة العوائد والعادات والأعراف الموافقة للشريعة ومدحها والالتزام بها، لكي تكون الدعوة مقبولة محببة للقلوب مقنعة للعقول، مناسبة للأحوال والظروف.
(2)
البداءة بالأهم فالمهم: وهذا المقصود به معرفة مراتب الأعمال وتقديمها ووضعها في مواضعها، فإن لكل عمل قدراً فالبداءة بالتوحيد أهم المهمات، وأوجب الواجبات، وكذلك تقديم الأصول على الفروع، والفرائض على النوافل، وفروض الأعيان على فروض الكفايات، وفروض الكفايات المتروكة المهجورة تقديمها والعمل بها، وهذا الفقه ملاحظة ومعلوم لمن شدا شيئاً من العلم والنظر في كتب أئمة الدعوة وما نراه اليوم من تخبط وجهالة، إنما هو للبعد عن مثل هذه القواعد السديدة الرشيدة، والركون إلى مستنقعات آسنة من الهوى والجهل وزبالات الأذهان والآراء الجوفاء.
(3)
المصالح والمفاسد: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل"[أعلام الموقعين (3 / 3) ] .
سقت هذا الكلام لابن قيم الجوزية رحمه الله حتى يعلم القارئ الكريم أن المراد بالمصالح والمفاسد، ما كان تحت حكم الشرع الحنيف ودائرته الواسعة، وليس كل مصلحة أو مفسدة تدخل تحت إطاره وسياجه المتين، كما يقرره بعض من لا خلاق لهم من العلم النبوي والميراث المحمدي، من تقديم لبواعث نفوسهم الكامنة على الهوى؛ وملائمة طباعهم لها وعدم نفورها عنهم، فتلك أهواء وآراء وقانا الله شرها وكفانا ضرها.
إن الدعوة السلفية نظرت إلى المصالح والمفاسد نظرة شرعية مبنية على الدليل واتباعه مقترنة بالتقوى الصادقة، والبصيرة العلمية النافذة، والمعرفة بواقع المسائل معرفة واسعة، ولذا علموا يقيناً أن الشريعة المحمدية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وتدفع شر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وترتكب أخف الضررين لدفع أعلاهما، فساروا على هذا الفقه الدقيق العميق في حياتهم العلمية والعملية والدعوية، فنفع الله بها واهتدى كثيرون إليها، لما اشتملت عليه من فقه المسائل وتنزيلها منازلها الصحيحة، إننا ننصح كل داعية على هذا المنهج السوي أن يكثر من النظر، ويعمل الفكر، ويجد في البحث العميق، ليقف على المصالح وطرق جلبها، ويعرف المفاسد وطرق دفعها، مع الإدراك التام للمتعلقات التي تتبع أقواله وأعماله وأفعاله وأحواله من فقه المصلحة والمفسدة.
ومما سار عليه أئمتنا - أئمة الدعوة - من منهج سوي في باب المصالح، ترك المصالح المتوهمة، والمنافع المظنونة المخالفة للدليل الشرعي، فإذا خالف لديهم أمرٌ من الأمور الدليل الشرعي فلا اعتبار لهذا الأمر لديهم البتة، بل الاعتبار بما دل عليه الدليل؛ لأنه لو فُتِح هذا الباب فإنه مدخل للشيطان، وباب للهوى، وطريق للخذلان، وقد يكون نفعه مقتصراً على ساعة أو لحظة، ولكنه مر العواقب، سيئ الثمرات.
هذه بعض الأمور الواضحة والمعالم البارزة، في سلوك أئمة الدعوة للقواعد الشرعية الفقهية، ومطابقتها للمقاصد الشرعية المرعية، ما أحوجنا إلى احتذاءها والسير على منوالها مراعاة للمصالح العامة للأمة، وبُعداً عن المفاسد وأضرارها السيئة؛ حتى تكون الدعوة مباركة طيبة نافعة مقبولة، وبذلك ينصر الحق ويكبت الباطل والله المستعان، وعليه التكلان {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] .