الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب الثاني: تمسكها بالسنة وحرصها على الاتباع:
إن التمسك بالسنة، دليل النجاة والصلاح، وعنوان السعادة والفلاح، وأمارة التوفيق والتسديد والنجاح، وعلامة الفوز والنصر والخير، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] .
وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] .
وهذه الدعوة المباركة حرصت كل الحرص على تعظيم السنة ونصرتها، وبيانها للناس، وإيضاح معالمها وصوابها للخلق، وجعلت ذلك منهجاً لها، وديدناً وطريقة تسير عليها، وتدعو لها، وتحث أتباعها وأنصارها على معرفتها وتعلمها وتعليمها ونشرها بين الحاضر والباد.
وتعظيم السنة الأمر مهم جداً، تحفد له همم أتباع الحق، وأنصار الهدى، وتسعى لبيانه ونشره قلوب المحبين لها، الذابين عن حياضها، المحاربين للبدعة والفتنة وبنيّات الطريق.
وإن أكبر مؤثر، وأعظم مؤشر، في نجاح هذه الدعوة؛ ووصولها إلى كل مكان، من مشارق الأرض ومغاربها، إنما هو التمسك بالسنة، والحرص التام على الاتباع، ومن المعلوم أن السنة واتباعها، والسير على لاحب صراطها، وواضح نهجها سبب حقيقي، ودافع أساسي، لشرح الصدر، ووضع الوزر ورفعة الذكر، كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1-4] .
وهذه الآية يدخل في عموم مقصدها، وحصول مقصودها كل متبع للسنة قولاً وفعلاً، وسلوكاً وحالاً، وكل ناصرٍ لها بياناً وحجة ومقالاً، كما أفاد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وفي ضوء ذلك يتبين للقارئ الكريم أن الاتباع للسنة مصدر عز الأمة وسعادتها، وصلاحها وهدايتها، وسلامتها وريادتها، وشواهد هذا الكلام تبدو جليّة في مسارات هذه الدعوة التي أعادت للأمة روحها وحياتها، وفلاحها وسيادتها لما تمسكت بنور الوحيين، واقتفت آثار النبوة، واهتدت بإسلامها الحق.
ومنهج هذه الدعوة في تمسكها بالسنة، قائم على عدة معالم:
المعلم الأول: الاتباع للكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، والتسليم لهما إذعاناً وانقياداً.
قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» [أخرجه الحاكم في المستدرك] .
المعلم الثاني: مرجعها عند التنازع والاختلاف:
إن مرجع هذه الدعوة السلفية الإصلاحية في تنازعها واختلافها سواء كان ذلك مع غيرها أو من ينتمي إليها، إنما هو الكتاب والسنة، ومنهج سلف الأمة، عملاً بقول الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .
ومرجعها في فهم نصوص الوحيين كتابًا وسنة، إنما هو فهم الصحابة - رضوان الله عليهم - إذ هم أبر الأمة قلوباً، وأحسنها هدياً، وأقلها تكلفاً، وأصدقها اتباعاً، وأفضلها فهماً، وهم الأمنة للأمة، والأمناء على الملة، ووزراء النبي صلى الله عليه وسلم.
المعلم الثالث: تقديمها لكلام الله وكلام رسوله على مجرد الأقوال والآراء:
فهذه الدعوة وأئمتها وأتباعها من ديدنهم ولاحب طريقتهم تقديم أقوال الوحيين ونصوصهما على أقوال الناس وآرائهم وزبالات أذهانهم، اتباعاً لقول الله تعالى:{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] . وترى جليًّا واضحًا في نصوص الإمام المجدد رحمه الله أن التقدم بين يدي الله ورسوله من القول على الله بغير علم، وأنه من اتباع الهوى، وتزيين الشيطان.
قلت: هذه معالم رئيسة تميزت بها هذه الدعوة في اتباعها وتمسكها بالسنة عن غيرها من دعوات وجماعات، فكان لها التمكين والسناء والنصرة:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] .
صورة عنايتها بالسنة:
لقد اعتنت دعوة الإمام المجدد رحمه الله عناية فائقة بالسنة النبوية وتمثلت عنايتها بذلك في عدة صور:
(أ) عنايتها بتصنيف التصانيف النافعة في أصولها، الماتعة في قواعدها، الرائعة في أبوابها، المتنوعة في بيان أحكامها وأحاديثها ودلالاتها، وللإمام المجدد رحمه الله قصب السبق، وقدم الصدق، في الاعتناء بذلك اعتناءً بيّناً واضحاً، ولعل أوضح مثال جمعه لكتاب "مجموعة الحديث النجدية" التي ضمنها طلائع مشرقة من السنة النبوية، والأحاديث الكريمة، كالأربعين النووية وعمدة الأحكام، وفي جمعه هذا إشارة لطيفة، ونكتة شريفة، إذ راعى في جمعه - كما هي عادته الحميدة - حاجة جماهير الناس وعوامهم إلى أحكام العبادات والمعاملات، ثم بيّن لهم بعد ذلك أهمية الاتباع، وخطورة الابتداع في كتابيه:"أصول الإيمان" و "فضل الإسلام"، ثم أوضح لهم خطورة الكبائر والفواحش وعظيم ضررها، وواضح أثرها السيئ على الأمة وذلك في كتابه:"الكبائر" ثم أردفه بنصيحة للمسلمين في: "الآداب الشرعية، والمقاصد السلوكية المرعية"، وهذا الترتيب العجيب، والنمط الفريد، إنما يدل على قوة علمية وعملية امتاز بها الإمام المجدد رحمه الله ومن سار على نهجه ونفسه في الدعوة إلى الله والعناية بإصلاح الناس، وإخراجهم من ظلمات التيه والغي إلى نور الله ودينه
القيم.
ثم جاء بكتاب: "الصلاة وحكم تاركها" للإمام ابن القيم رحمه الله وختم تلكم المجموعة الفريدة النفيسة بكتاب: "الوابل الصيب في شرح الكلم الطيب" لابن قيم الجوزية رحمه الله فتكون أمام القارئ خلاصة مهمة سديدة، وزبدة نافعة مفيدة، ملخصة من كتب السنة النبوية، يكون فيها على بصيرة في جميع أمور دينه توحيداً ومقصداً وعبادة ومعاملة وذكراً وفكراً - وهي لعمر الله - أصول السعادة الكلية.
(ب) قيام أئمة الدعوة بتدريسها وتعليمها في المساجد والحلقات العلمية، والمجالس الوعظية، ونشرها وبثها بين الناس في مجامعهم العامة، ومشاهدهم الخاصة، ودعوتهم إليها، وتقديمها على آرائهم الفردية، ونوازعهم الشخصية ومحاربتهم وإنكارهم على من يقدم رأيه وهواه على نصوصها ولهذا - وغيره - أُحيت السنة وأعلامها، واندرست البدعة وأربابها.
(ج) قيامها بمحاربة البدعة والفتنة، وتوضيح خطورتها وأثرها السيئ على الأمة، إذ البدعة - في ميزان الشرع - بريد الكفر، وعنوان الشقاء، وأمارة الضلال، وعلامة الفساد، والبدعة لا يتاب منها، وهي لذلك أحب إلى إبليس من المعصية، وهي تشريع لما لم يأذن الله به، والضلال مقرون بها، والخزي والافتراء من تداعياتها وأسبابها، وهي خبث في المقصد، وغبش في التصور، وغموض في الطريق، وضلال في الفكر والعقل.
ولهذا كان التحذير منها ومن وسائلها وأسبابها وذرائعها، من أهم الأمور لدى الأئمة - قديماً وحديثاً - ومن واجباتهم التي اضطلعوا بها بياناً للحق، ونصحاً للأمة، وبراءة للذمة، وهذا التحذير لم يقتصر على البدعة وضررها وخطورتها وأثرها؛ بل تعدى ذلك إلى أهلها وأصحابها المناصرين لها، السائرين ظلماً وعدواناً خلف ظلماتها وضلالاتها، تحذيراً واضح المقصود، بيّن المقول، يمتاز بالبيان الواضح، والعبارة المشرقة، والكلمة المسموعة المفهومة، حتى يعرف الناس خطورتهم، ويحذروا من أحابيلهم وألاعيبهم ومناهلهم العكرة الكاسدة، ولن تجد مع مثل هذه الباينات الواضحة، والتحذيرات الجلية، والردود القوية، شبههم رواجاً أو قبولاً.
وهذا الذي سبق ذكرهن هو ما حصل في أول الدعوة ووسطها وزمناً طويلاً من آخرها، حتى وصل الأمر بآخره إلينا، فضعف جانب الرد والتحذير، وقامت فئام ممن ينتحلون السنة بتلميع أهل البدع، وتزيين مصنفاتهم ومؤلفاتهم وأفكارهم وتقديس أشخاصهم، بحجة واهية، وشبهة داحضة، مردّها إلى العدل والإنصاف والموازنة - زعماً كاذباً وهوى متبعاً -.
فتفاقم الخطب، واشتد الكرب، وعظم الضرر منهم وبهم بل وأثرهم السيئ على الأمة عامة، وعلى الدعوة الإصلاحية وأهلها خاصة، مما نتج عن جرّاء ذلك خروج قبيل وجيل يعظم البدع ويدافع عن أهلها - بل ويقدسهم - ويقلل من شأن السنة ومنهاج السلف الصالح، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وفي الله خلف وهو المستعان.
أخي القارئ الكريم: هذه وتلك إشارات ومنارات في عناية دعوة الإمام المجدد رحمه الله بالسنة ونصرتها لها وتعظيمها واتباعها؛ سقتها شآبيب من القول متصلة بعضها برقاب بعض، حتى يتبين الصبح لكل ذي عينين، ويقطع الشك باليقين، في أهمية السنة ومكانتها الحميدة، ومنزلتها الرشيدة، عند أئمة الدعوة ومن نحا منحاهم، وسار على مثل سيرهم، من الدعوات السلفية التي تأثرت بها، وأثبتت نجاحها ووضوحها وسلامتها وحسن مقصدها، وجلاء مسيرتها وسيرها، وأما من اتبع الهوى وقدم العقل والظن على السنة {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] وهم مصابون بعظم الوزر، وضيق الصدر، وبتر الذكر {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] ؛ وجزاءهم في الأولى الفشل والزوال وفي الأخرى - عند الله عز وجل مصيرهم وأمرهم {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .