الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: التوحيد
تمهيد:
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف التوحيد.
المسألة الثانية: التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا، وفطرة، والشرك طارئ.
المسألة الأولى: تعريف التوحيد
سبق تعريف التوحيد لغة واصطلاحا1.
وقلنا في تعريفه اصطلاحا: إفراد الله بما تفرد به، وبما أمر أن يفرد به؛ فنفرده في ملكه وأفعاله فلا رب سواه ولا شريك له، ونفرده في ألوهيته فلا يستحق العبادة إلا هو، ونفرده في أسمائه وصفاته فلا مثيل له في كماله ولا نظير له.
المسألة الثانية: التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا وفطرة والشرك طارئ
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا.
الفرع الثاني: التوحيد هو الأصل في البشر فطرة.
الفرع الثالث: الشرك طارئ.
1 انظر ص10-11 من هذا الكتاب.
الفرع الأول: التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا
ثمة شبهة أثيرت، مفادها أن الأصل في الإنسان أنه مشرك، وأن التوحيد طارئ عليه.
وقد زعم أصحاب هذه المقولة أن الإنسان عرف الشرك وتعدد الآلهة أولا، ولم يعرف عقيدة التوحيد إلا بعد أن تطورت ومرت بعدة مراحل.
ويرد عليهم بأن التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا للأدلة التالية:
1-
إن الغاية من خلق آدم عليه السلام وذريته هي عبادة الله وحده، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
2-
آدم عليه السلام أبو البشر، وحواء أمهم كانا على التوحيد، وحين أكلا من الشجرة، علما أن لهما ربا يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، فتضرعا إليه قائلين:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: من الآية 23] .
3-
إن الله اصطفى آدم عليه السلام، وشرفه بذلك، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] ، ولا يكون الاصطفاء لمشرك. وقد أمر ملائكته بالسجود له، يقول عز وجل:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] .
4-
إن الله عز وجل قد أخذ العهد والميثاق على بني آدم، وهم في صلب أبيهم آدم عليه السلام أنه ربهم، وأشهدهم على أنفسهم، كما قال مولانا عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172-173] .
5-
إن ذرية آدم عليه السلام من بعده كانوا يدينون بالتوحيد الخالص طيلة عشرة قرون؛ حتى حدث الشرك في قوم نوح عليه السلام، كما سيأتي1؛ فبعث الله تعالى إليهم نوحا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده؛ يقول تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] .
6-
كلما انحرفت البشرية عن التوحيد، أرسل الله الرسل تدعو إلى عبادته وحده، ونبذ ما يعبد من دونه، كما قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .
الفرع الثاني: التوحيد هو الأصل في البشر فطرة
الفطرة على وزن فعلة، وهي مشتقة من فطر. يقال: انفطر الشيء، إذا انشق.
وفطر الأمر، إذا ابتدأه واخترعه وأنشأه. وفطر الله العالم، أوجده ابتداء. وفطر الخلق، خلقهم وبرأهم2.
والمراد بها ههنا: أصل الخلقة، وهي ما أوجد الله عليه الناس ابتداء من الإيمان به عز وجل وتوحيده.
وكما كان التوحيد هو الأصل في البشر تاريخا، فهو الأصل في البشر فطرة، للأدلة التالية:
1-
إن الله عز وجل منذ أوجد البشر فطرهم على التوحيد والإيمان به سبحانه وتعالى خالقا ومعبودا، وأخذ عليهم العهد والميثاق منذ كانوا في أصلاب آبائهم3. يقول تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [لأعراف: 172-173] .
1 في الفرع الثالث: الشرك طارئ، ص52 من هذا الكتاب.
2 انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص587، والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص694.
3 انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص16.
2-
إن الله عز وجل قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمته داخلة في الخطاب- أن يقيموا وجوههم، ويخلصوا دينهم له؛ لأن ذلك هو مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .
3-
قد أخبر مولانا عز وجل أنه خلق عباده حنفاء كلهم، موحدين، مسلمين، مستقيمين، منيبين لقبول الحق؛ لأن ذلك هو مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها، حين أخذ عليهم العهد في الذر1. يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:"وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" 2؛ فالعباد كلهم مفطورون على الإسلام، والإيمان الصحيح، ولكن للشياطين دور في مسخ الفطرة، وتشويهها، وجعلها تنحرف عن المسار السوي. فإذا طرأ على الفطرة ما يصرفها عن الصواب والحق، فإنها تحتاج إلى ما يصحح لها مسارها، ويردها عن الانحراف، وهذه مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
4-
أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم "أن كل مولود يولد مهيئا للإسلام" 3، في قوله:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. كما تنتج البيهمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟ ". ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث: واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]4. والفطرة التي يولد الإنسان عليها كما
1 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 197.
2 صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.
3 قاله النووي في شرحه على صحيح مسلم 16/ 208.
4 صحيح مسلم، كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة.
قال الإمام المازري: "هي ما أخذ عليهم في أصلاب آبائهم، وأن الولادة تقع عليها، حتى يحصل التغيير بالأبوين"1؛ فالإنسان لو ترك على أصل خلقته التي خلقه الله عليها؛ "الفطرة"، دون أن تتدخل المؤثرات الأخرى، لكان من المؤمنين المسلمين2.
والتحول عن الفطرة أساسا، إنما هو من فعل الشيطان، ووسوسته، وإغوائه.
5-
إن كل مولود في العالم يقر بأن الله خالقه وربه، ولو عبد غيره؛ كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] ؛ فالفطرة تدل على توحيد الربوبية.
6-
إن الفطرة تدل على توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فمن أيقن أن الله ربه وخالقه، فلا بد أن يصرف العبادة له وحده، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22] ؛ فالإنسان إذا آمن بأن الله عز وجل هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المعطي، المانع، الضار، النافع، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، فلا بد أن ينتهي به الأمر إلى أنه المعبود بحق وحده، لا شريك له؛ فيخضع قلبه له محبة، وإنابة، وذلا، وخوفا، وخشية، وتوكلا؛ إذ كيف يعبد، أو يخاف، أو يحب محبة عبادة، أو يتوكل على مخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
1 نقله عنه الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم 16/ 208.
2 انظر تفسير البغوي 6/ 270.
الفرع الثالث: الشرك طارئ على البشرية
فهمنا مما تقدم أن الشرك نوع من أنواع الانحراف عن جادة الحق والفطرة، وأنه ليس الأصل، كما زعم من زعم. والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1-
لقد كانت البشرية الأولى، أو ذرية آدم عليه السلام المولودة على الفطرة -والفطرة هي دين الإسلام الذي رضيه الله عز وجل وارتضاه لعباده1- كانت على الإسلام طيلة عشرة قرون2.
2-
يقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله الله سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة} [البقرة: من الآية 213] : "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام"3.
فالتوحيد هو أصل البشرية، منذ خلق الله آدم عليه السلام، حتى وقع الشرك في قوم نوح عليه السلام.
3-
أول شرك وقع في الخليقة هو شرك قوم نوح عليه السلام، وسبب كفرهم وتركهم دينهم هو غلوهم في الصالحين؛ فمعبوداتهم التي عكفوا عليها وتعصبوا لها، وقالوا عنها:{لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ، هي "أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا. فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم، عبدت"4، كما قال الحبر ابن عباس رضي الله عنهما.
فالشرك طارئ على البشرية، وأول ما وقع في قوم نوح عليه السلام، بعد ألف سنة من آدم عليه السلام.
4-
بعث الله عز وجل الرسل تترى؛ كلما ضلت أمة وانحرفت عن التوحيد، بعث إليها رسولا يعيدها إلى الجادة ويبصرها بضلالها، كي ترعوي، وتعود إلى الحق. قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية 36] .
1 انظر كلمات في الأخلاق الإسلامية للدكتور كمال محمد عيسى ص83.
2 انظر: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 2/ 678، وأضواء البيان للشيخ الشنقيطي 1/ 286.
3 أخرجه الطبري في تفسيره 2/ 334، والحاكم في المستدرك 2/ 442، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
4 صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب:{وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} .