المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: الشرك الأصغر - المفيد في مهمات التوحيد

[عبد القادر عطا صوفي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: تعريف ببعض المصطلحات

- ‌المسألة الأولى: في بيان معنى العقيدة

- ‌المسألة الثانية: في بيان بعض المسميات التى أطلقت على العقيدة الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الوقفة الأولى: مع مسمى "التوحيد

- ‌الوقفة الثانية: مع مسمى "أصول الدين

- ‌الوقفة الثالثة: مع مسمى "السنة

- ‌الوقفة الرابعة: مع مسمى "الفقه الأكبر

- ‌المسألة الثالثة: في بيان بعض المسميات التي أطلقت على حملة العقيدة الإسلامية

- ‌الوقفة الأولى: أهل السنة والجماعة

- ‌الوقفة الثانية: السلف

- ‌الوقفة الثالثة: أهل الحديث

- ‌المبحث الثاني: مصادر العقيدة الإسلامية

- ‌المبحث الثالث: ذكر بعض خصائص العقيدة الإسلامية

- ‌المسالة الأولى: من خصائص العقيدة الإسلامية: أنها توقيفية

- ‌المسألة الثانية: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها غيبية

- ‌المسألة الثالثة: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها شمولية

- ‌المسألة الرابعة: من خصائص العقيدة الإسلامية أنها وسطية

- ‌الباب الأول: التوحيد

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: أنواع التوحيد

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثالث: توحيد الألوهية

- ‌الفصل الثاني: دراسة بعض التفصيلات عن توحيد العبادة الإلهية

- ‌المبحث الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المطلب الأول: معنى لا إله إلا الله

- ‌المطلب الثاني: أركان "لا إله إلا الله

- ‌المطلب الثالث: شروط "لا إله إلا الله

- ‌المطلب الرابع: نواقض "لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: العبادة، وأنواعها، وأركانها

- ‌المطلب الأول: معنى العبادة في اللغة والاصطلاح

- ‌المطلب الثاني: مفهوم العبودية الشامل في ضوء النصوص الشرعية

- ‌المطلب الثالث: أنواع العبادة

- ‌المطلب الرابع: أركان العبادة وأصولها

- ‌الباب الثاني: ما يضاد هذا التوحيد أو ينافي كماله

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: الشرك، وأنواعه

- ‌المبحث الأول: معنى الشرك

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الشرك الأكبر

- ‌المطلب الثاني: الشرك الأصغر

- ‌المبحث الثالث: وسائل الشرك المنافية للتوحيد، أو لكماله

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: التوسل البدعي، والتوسل الشرعي، وأنواعه

- ‌المطلب الثاني: اتخاذ القبور مساجد، والبناء عليها، والصلاة إليها من الوسائل المفضية إلى الشرك

- ‌المطلب الثالث: الغلو في الأنبياء والصالحين، والتبرك بآثارهم من الوسائل المفضية إلى الشرك

- ‌المطلب الرابع: الأعياد والاحتفالات البدعية من الوسائل المفضية إلى الشرك

- ‌الفصل الثاني: الكفر، وأنواعه

- ‌المبحث الأول: معنى الكفر

- ‌المبحث الثاني: أنواع الكفر الأكبر

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: من أنواع الكفر الأكبر "كفر الجحود

- ‌المطلب الثاني: من أنواع الكفر الأكبر "كفر الإباء والاستكبار

- ‌المطلب الثالث: من أنواع الكفر الأكبر الكفر بدعوى علم الغيب

- ‌المبحث الثالث: أنواع الكفر الأصغر

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: من أنواع الكفر الأصغر كفر النعمة

- ‌المطلب الثاني: من أنواع الكفر الأصغر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت

- ‌المطلب الثالث: من أنواع الكفر الأصغر قتال المسلم

- ‌الفصل الثالث: النفاق، وأنواعه

- ‌المبحث الأول: معنى النفاق

- ‌المبحث الثاني: النفاق الأكبر الاعتقادي

- ‌المبحث الثالث: النفاق الأصغر العملي

- ‌الباب الثالث: عقيدة الولاء والبراء

- ‌الفصل الأول: نصوص الولاء والبراء في القرآن والسنة

- ‌أولا: من نصوص الولاء والبراء في القرآن الكريم

- ‌ثانيا: من نصوص الولاء والبراء في السنة النبوية

- ‌الفصل الثاني: مفهوم الولاء والبراء، ومنزلته في الدين

- ‌المبحث الأول: معنى الولاء والبراء في اللغة والشرع

- ‌المبحث الثاني: منزلة الولاء والبراء في الدين الإسلامي

- ‌الفصل الثالث: لمن يكون الولاء

- ‌الفصل الرابع: ممن يكون البراء

- ‌الفصل الخامس: حكم الولاء والبراء

- ‌فهرس المصادر والمراجع:

- ‌فهرس المحتويات:

الفصل: ‌المطلب الثاني: الشرك الأصغر

‌المطلب الثاني: الشرك الأصغر

أولا: تعريف الشرك الأصغر

يعرف الشرك الأصغر بأنه: مساواة غير الله بالله في هيئة الفعل وأقوال اللسان. أو: كل ما أطلل عليه الشرع وصف الشرك، لكنه لا يخرج من الملة1.

يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: وأما الشرك الأصغر؛ فهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك؛ كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله، وكيسير الرياء، ونحو ذلك2.

ثانيا: حكم الشرك الأصغر، مع دليله

1-

الشرك الأصغر من أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، ومعصية من أكبر المعاصي، لما فيه من تسوية غير الله بالله عز وجل.

2-

الشرك الأصغر لا ينقض التوحيد، بل يتنافى مع كماله.

3-

الشرك الأصغر لا يحبط جميع العمل، بل يحبط العمل المصاحب.

4-

الشرك الأصغر إن مات صاحبه عليه؛ فإنه يموت مسلما، ولكن شركه لا يغفر له -على الراجح من قولي العلماء، بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة3.

5-

صاحب الشرك الأصغر في الآخرة إن دخل النار لا يخلد فيها. والدليل على الشرك الأصغر: قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"4.

ثالثا: من أنواع الشرك الأصغر

ينقسم الشرك الأصغر إلى أنواع، سأذكر منها بإذن الله:

1 انظر: المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/ 27. والإخلاص والشرك الأصغر لعبد العزيز العبد اللطيف ص30.

2 انظر القول السديد شرح كتاب التوحيد لابن سعدي ص24.

3 انظر: الرد على البكري لابن تيمية ص146. وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص98.

والشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد ص188-189.

4 صحيح مسلم، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله.

ص: 127

أولا: يسير الرياء من أنواع الشرك الأصغر

أولا: تعريف الرياء لغة واصطلاحا: اليراء في اللغة مشتق من الرؤية، يقال: فعله رياء؛ أي ليراه الناس، فيحصل على الصيت والذكر1.

والرياء اصطلاحا: إظهار العبادة بقصد رؤية الناس. أو التصنع للمخلوق؛ كالمسلم الذي يعمل لله، ويصلي لله، ولكنه يحسن صلاته وعمله ليمتدحه الناس2.

ووجه المطابقة بين المعنيين: أن المرائي يقصد رؤية الناس لعمله.

ثانيا: حكم الرياء، مع الدليل

الرياء محرم بنص الكتاب والسنة. فمن الكتاب: قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: من الآية110]، ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل"3. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر؛ الرياء؛ يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء " 4. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك"5.

ملاحظة:

لاحظنا في الحديث الأول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى الرياء شركا خفيا، فما وجه التسمية؟

الجواب: لأن صاحبه يظهر أن عمله لله عز وجل، ويخفي في قلبه أنه لغيره. أو: لأن صاحبه يقع فيه، دون أن يلقي له بالا.

ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الملة أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء"6.

1 انظر: لسان العرب لابن منظور 2/ 203-204. والدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 379.

2 انظر: الدين الخالص لصديق خان 2/ 379. بيان الشرك ووسائله عند علماء الحنابلة للخميس ص18.

3 أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة. وحسنه الألباني في صحيح الجامع ح2607.

4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 248، 249. وصححه الألباني في صحيح الجامع ح1555.

5 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 126. والطبراني في الكبير 7/ 337. والحاكم في المستدرك 4/ 329، وصححه، كلهم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.

6 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 291، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وصحح أوله الألباني في صحيح الجامع ح3730.

ص: 128

ثانيا: السمعة من أنواع الشرك الأصغر:

أولا: تعريف السمعة لغة واصطلاحا

السمعة في اللغة مشتقة من السماع والإسماع. وهي ما يسمع به من صيت. يقال: فعل ذلك رياء وسمعة؛ أي ليراه الناس ويسمعوا به1.

والسمعة اصطلاحا: إظهار العبادة بقصد سماع الناس. أو تحدث الإنسان بأعماله التي عملها ليمدحه الناس بها. ويدخل فيه: أن يعمل العمل ليلا، ثم يحدث به الناس في النهار2.

والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء يتعلق بحاسة البصر والسمعة تتعلق بحاسة السمع3.

ثانيا: حكم السمعة، مع الدليل

السمعة محرمة بنص الكتاب والسنة؛ فمن الكتاب: قوله عز وجل:

{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: من الآية110]، ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به"4.

ثالثا: متى ينقلب حكم الرياء والسمعة من شرك أصغر إلى شرك أكبر

يدخل الرياء والسمعة تحت حكم الشرك الأكبر بأحد ثلاثة أمور:

1-

أن يرائي الإنسان، أو يسمع بأصل إيمانه؛ يظهر أمام الناس أنه مؤمن ليعصم دمه وماله.

2-

أن يغلب الرياء أو السمعة على أعمال الإنسان.

3-

أن يغلب على أعماله إرادة الدنيا؛ بحيث لا يريد بها وجه الله.

رابعا: حكم العبادة إذا اتصل بها رياء أو سمعة

إذا كان قصد العابد بعبادته مراءاة الناس من الأصل؛ فهذا مبطل للعبادة. أما إذا طرأ الرياء أو السمعة أثناء العبادة؛ فلا يخلو حال العبادة من أن يكون أولها مرتبطا بآخرها -كالصلاة مثلا، فتبطل جميع العبادة إذا لم يدافع الرياء أو السمعة وسكن إليهما، أما إذا لم يكن أول العبادة مرتبطا بآخرها -كالصدقة مثلا بمائة ريال؛ خمسون منها دخله الرياء- فيبطل منها ما خالطه الرياء أو السمعة5.

1 انظر: لسان العرب لابن منظور 2/ 203-204. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص450.

2 انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 379.

3 انظر فتح الباري لابن حجر 11/ 336.

4 صحيح البخاري، كتاب الرقائق، باب الرياء والسمعة -وهذا لفظه، وكتاب الأحكام، باب: من شاق شق الله عليه. وصحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله.

5 انظر فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين ص200-201.

ص: 129

ثالثا: إرادة الإنسان بعمله الدنيا من أنواع الشرك الأصغر:

أولا: المراد بهذا النوع

هو أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة مما يبتغي بها وجه الله عز وجل، يريد بها وجه الله عز وجل؛ ولكن خالط إرادته ونيته شيئا آخر، كإرادة الدنيا، إما لقصد المال أو الجاه؛ كالذي يجاهد، أو يتعلم العلم ليأخذ مالا، أو ليحتل منصبا؛ أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال1.

ثانيا: حكم هذا النوع، مع الدليل: إرادة الإنسان بعمله الدنيا محرم، والدليل

1-

من كتاب الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15-16] ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أن من كانت الدنيا همه وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء2.

2-

ومن السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله! رجل يريد الجهاد، وهو يبتغي عرضا من أعراض الدنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أجر له". فأعاد عليه ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا أجر له"3.

ثالثا: الفرق بين الرياء والسمعة وبين إرادة الإنسان بعمله الدنيا

العامل بهذه الأنواع يعمل العمل الصالح مما يبتغي به وجه الله؛ ولكن المرائي أو المسمع يريد رؤية الناس أو سماعهم، ويقصد من ذلك أن يمدحوه ويعظموه، ويطمع أن ينال الجلالة في أعينهم. أما من كان يريد بعمله الدنيانفهو يعمل لأجل الدراهم، أو لشيء من متاع الدنيا، فهو أعقل من الأول، وإن كان كلاهما خاسرا -والعياذ بالله4.

1 انظر بعض أنواع الشرك الأصغر للدكتور عواد بن عبد الله المعتق ص31.

2 انظر تفسير ابن كثير 2/ 439.

3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 290، والحاكم في المستدرك 2/ 85 وصححه، وأبو داود في السنن، كتاب الجهاد، باب في من يغزو ويلتمس الدنيا. وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 478.

4 انظر: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص534-535. وبعض أنواع الشرك الأصغر للدكتور المعتق ص31.

ص: 130

رابعا: أقسام الناس في العمل، وما يريدون به: ينقسمون إلى أقسام، منها:

1-

قسم يريدون بأعمالهم الدنيا فقط، ولا إرادة لديهم له، ولا هم لهم له، ولا طلب للآخرة. وهذا رياء محض، وهو شرك أكبر يقع فيه المنافقون1.

2-

قسم يريدون بأعمالهم الله عز وجل، ولكن يخالط إرادتهم ونيتهم شيئا آخر؛ كإرادة الناس -مثل يسير الرياء والسمعة، أو إرادة المال، أو المتاع مثل من يعمل العمل أمام ولي المرأة ليوافق على زواجه منها، أو يحفظ القرآن من أجل أن يعين إماما في المسجد.

وهذا من الشرك الأصغر2، وفاعله قد صار بإرادته لهذه الأشياء عبدا لها، وينطبق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة 3، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض"4.

3-

قسم يعمل بطاعة الله مخلصا له في ذلك؛ ولكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه من الإسلام5.

رابعا: الاستسقاء بالأنواء "النجوم" من أنواع الشرك الأصغر

أولا: المراد بالاستسقاء بالأنواء: الاستسقاء: طلب السقيا، والمراد نسبة مجيء المطر إلى الأنواء.

والأنواء: جمع، مفرده نوء. والأنواء هي منازل النجوم، وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل كل ثلاث عشرة ليلة منزلة منها. وسمي نوءا -من ناء ينوء نوءا، إذا نهض وطلع- لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب -مع طلوع الفجر- ناء -نهض وطلع- أخرى في

1 تقدمت الإشارة إلى هذا النوع ص120 من هذا الكتاب.

2 وهو هذا النوع الذي بين أيدينا.

3 القطيفة هي الخميلة، وهي ثوب له خمل من أي شيء كان. والخميصة هي ثوب خز أو صوف معلم.

"انظر: فتح الباري لابن حجر 11/ 254. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص539".

4 صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال.

5 انظر هذا القسم مع بقية الأقسام في: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص536-538.

وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص540-541. وبعض أنواع الشرك الأصغر للمعتق ص34.

ص: 131

مقابلها في المشرق، فتنقضي جميعا مع انقضاء السنة؛ "28×13=364"1.

وقد كانت العرب في الجاهلية تزعم أنه مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبون نزوله إليها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا2.

ثانيا: حكم هذا النوع، مع الدليل: الاستسقاء بالأنواء محرم، والدليل:

1-

من الكتاب: قول الله عز وجل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ؛ وتفسيرها: ما رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يقول: شكركم، {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} : تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا"3.

2-

من السنة: ما روي عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال:"هل تدرون ماذا قال ربكم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"4.

ثالثا: متى يكون الاستسقاء بالأنواء شركا أكبر، ومتى يكون شركا أصغر؟ المسألة فيها تفصيل:

1-

من اعتقد أن للنجم تأثيرا -بدون مشيئة الله، فينسب المطر إلى النجم نسبة إيجاد واختراع؛ فهذا من الشرك الأكبر.

2-

من اعتقد أن للنجم تأثيرا -بمشيئة الله، والله جعل هذا النجم سببا لنزول المطر، وأجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم؛ فهذا محرم -على الصحيح، وهو شرك أصغر.

1 انظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 129. وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص452.

وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص451.

2 انظر المراجع نفسها.

3 أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، كتاب التفسير، باب: ومن سورة الواقعة، وقال: حسن غريب صحيح. وأحمد في المسند 1/ 108، 131.

4 صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من يقول مطرنا بالنوء.

ص: 132

يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فلا يخلو؛ إما أن يعتقد أن له تاثيرا في نزول المطر، فهذا شرك كفر "أي أكبر"، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية؛ كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعا ويدفع عنهم ضرا.

أما إذا قال مطرنا بنوء كذا مثلا، مع اعتقاد أن المؤثر هو الله وحده؛ لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فالصحيح أنه يحرم"1، وهو شرك أصغر2؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل منه عز وجل ورحمة، يحبسه إذا شاء، وينزله إذا شاء3.

خامسا: الحلف بغير الله من أنواع الشرك الأصغر:

أولا: الأمثلة عليه: كقول الرجل: وحياتي، والنبي، وأبي، والكعبة، وتربة فلان إلخ.

ثانيا: حكمه، مع الأدلة: هو محرم، وهو شرك أصغر -أصغر في مقابل الأكبر؛ وإلا فهو لي بصغير؛ إذا هو أكبر من بقية الكبائر. وقد حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم لسد الطرق الموصلة إلى الشرك، ولحماية جناب التوحيد، فيجب على العبد التسليم والإذعان.

وقد دلت الأدلة الكثيرة على تحريمه، وعلى أنه من الشرك، ومن تلك:

1-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"4.

2-

جاء رجل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: احلف بالكعبة؛ فقال:

أحلف برب الكعبة، فإن عمر كان يحلف بأبيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تحلف بأبيك، فإنه من حلف بغير الله فقد أشرك"5.

1 الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 12-130، وانظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص455-456. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص454-455. والمجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/ 139-140.

2 انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص455.

3 انظر فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص459.

4 صحيح البخاري، كتاب الأيمان، باب لا تحلفوا بآبائكم.

5 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 69، 86. وأبو داود في السنن، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء. والترمذي في الجامع الصحيح، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وحسنه. والحاكم في المستدرك 1/ 18، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين.

ص: 133

3-

قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي اله عنه: "لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"1.

سؤال: لماذا فضل ابن مسعود رضي الله عنه الحلف بالله كاذبا على الحلف بغيره صادقا؟

أجاب الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله عن هذا السؤال بقوله: "لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله، فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك"2.

ثالثا: هل تنعقد يمين الحالف بغير الله عز وجل؟ العلماء مجمعون على أن اليمين لا تنعقد إلا إذا حلف الإنسان بالله عز وجل، أو بأسمائه وصفاته. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

وأما الحلف بغير الله؛ من الملائكة، والأنبياء، والمشايخ، والملوك، وغيرهم، فإنه منهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة فمن حلف بشيخه، أو بتربته، أو بحياته، أو بحقه على الله، أو بالملوك، أو بنعمة السلطان، أو بالسيف، أو بالكعبة، أو بأبيه، أو تربة أبيه، أو نحو ذلك، كان منهيا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين3.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: اعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله وصفاته، فلا يجوز القسم بمخلوق4.

رابعا: متى ينقلب الحلف بغير الله إلى شرك أكبر؟ ينقلب الحلف بغير الله إلى شرك أكبر:

إذا قام بقلب الحالف تعظيم من حلف به من المخلوقات مثل تعظيم الله عز وجل5.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: فإن قام بقلبه تعظيم لمن حلف به من المخلوقات مثل تعظيم الله، فهو شرك أكبر؛ فإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء، كل منهما يكون مشركا شركا أكبر6.

1 أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف 8/ 469. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 177، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح".

2 تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص594. وذكر أنه نقله من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 506.

4 أضواء البيان للشنقيطي 2/ 123.

5 انظر: الجواب الكافي لابن القيم ص235-236.

6 فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث 1/ 224.

ص: 134

سادسا: قول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر.

تمهيد:

من الشرك في الألفاظ: قول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، وحسبي الله وأنت، ونحو ذلك من الألفاظ التي تجري على ألسنة الناس، وفيها تسوية بين الخالق والمخلوق.

أولا: حكمه، مع الأدلة: هذا الأمر لا يجوز استعماله، ولا التهاون في النطق فيه؛ لأنه نوع من أنوع الشرك الأصغر؛ إذا حرف الواو يقتضي التشريك؛ فحين تقول: جاء أحمد وعلي تكون قد سويت بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم -وهو المجيء؛ لأن الواو وضعت لمطلق الجمع، وهي لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، ووجودها فيه تسوية بين الخالق والمخلوق.

ومعلوم أن التسوية بين الخالق والمخلوق شرك، والله عز وجل ذكر أن من أسباب ضلال المشركين كونهم يسوون الأنداد برب العالمين، قال تعالى حاكيا عنهم قولهم في النار:

{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 96-98] .

وقد دلت الأدلة الكثيرة على تحريم هذا النوع، وعلى أنه من الشرك، ومن تلك:

1-

قول الله عز وجل: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية22] . فسرها حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بقوله: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل. وهوأن تقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، هذا كله شرك"1.

2-

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده"2.

3-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت؛ ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت"3.

1 رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بإسناد جيد. "انظر فتح القدير للشوكاني 1/ 52. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص587.

2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 214، وقال أحمد شاكر رحمه الله 3/ 253: إسناده صحيح.

3 أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الكفارات، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه 1/ 362.

ص: 135

4-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان؛ ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان"1.

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله معلقا على هذا الحديث: هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيم} [التكوير: 28] ؛ فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض.

فوازن بين هذه الألفاظ وبني قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش!

يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعل لله ندا بها؛ فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء -بل لعله أن يكون له من أعدائه- ندا لرب العالمين"2.

ثانيا: كيف يتقى هذا الشرك؟ أفضل سبيل للوقاية من هذا الشرك، وعدم الوقوع فيه، هو التزام ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم من استبدال الواو بـ "ثم"؛ فنعدل عن الواو التي تقتضي تسوية المخلوق بالخالق، إلى"ثم" التي تقتضي الترتيب والتراخي؛ فمثلا: غذا قلنا: ما شاء وشئت -وعطفنا بالواو، اقتضى ذلك التسوية بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق.

أما إذا قلنا: ما شاء الله ثم شئت -وعطفنا بـ "ثم"- فإنه يقتضي تقديم مشيئة الله عز وجل، وأنها فوق مشيئة المخلوق3.

فإذا عطفنا مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق عز وجل بـ "ثم"، فرقنا بين المشيئتين، وقدمنا مشيئة الخالق سبحانه وتعالى على مشيئة خلقه.

كذا الحوادث: نسندها إلى الله عز وجل أولا، ثم إلى المخلوق؛ فمثلا إذا أردنا أن نقول: لولا وجود فلان لحصل كذان نقول: لولا الله، ثم وجود فلان لحصل كذا، مع الاعتقاد بأن الأسباب ليست مستقلة بذاتها في التأثير؛ وإنما يكون تاثيرها بقدرة الله ومشيئته4.

1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 384، 394، 398. وأبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب لا يقال خبثت نفسيز وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/ 940.

2 الجواب الكافي لابن القيم ص239-240. وانظر الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 312.

3 انظر دعوة التوحيد للشيخ محمد خليل هراس ص65، وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ ص595.

4 انظر بعض أنواع الشرك الأصغر للمعتق ص50.

ص: 136

سابعا: الرقى من أنواع الشرك الأصغر

أولا: تعريف الرقى

الرقى لغة جمع رقية، وهي العوذة. أو ما يعرف عند العامة بـ "العزيمة"، أو "التعويذة" التي يرقى بها صاحب الآفة -كالحمى والصرع، وتقرأ على المريض أو اللديغ أملا في شفائه1.

ولا يبعد المعنى الشرعي للرقية عن المعنى اللغوي كثيرا؛ فالرقية شرعا: ما يقرأ على المريض من الآيات القرآنية، أو الأدعية المشروعة، أو غيرها من الأدعية المباحة المجربة2.

ثانيا: نوعا الرقي

الرقى نوعان: شرعية، وبدعية "وتدخل فيها الشركية". وتوضيح هذين النوعين يمكن في الوقفتين التاليتين:

الوقفة الأولى: مع الرقى الشرعية

الرقى مشروعة بإجماع العلماء إذا تحققت فيها شروط معلومة.

شروط الرقية الشرعية:

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على جواز الرقى، عند اجتماع ثلاثة شروط:

أن يكون بكلام الله تعالى، وبأسمائه وصفاته.

وباللسان العربي، أو بما يعرف عناه من غيره.

وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بذات الله تعالى"3.

فالرقية الشرعية لا بد أن تكون:

1-

بشيء من كلام الله، أو توسلا بأسمائه عز وجل وصفاته، أو بأدعية مشروعة، أو مباحة.

2-

باللسان العربي، أو بما يعرف معناه من أية لغة أخرى.

3-

أن يكون فعلها صادرا عن عقيدة صحيحة بأن الشافي هو الله عز وجل، وأنه هو الضار والنافع سبحانه وتعالى؛ فلا يعتقد أنها تشفي بذاتها، فإذا اعتقد ذلك كان شكا أكبر، وإن اعتقد مقارنتها للشفاء -لا يحصل الشفاء إلا بوجودها- كان شركا أصغر.

1 انظر من كتب اللغة: المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده 6/ 309. ولسان العرب لابن منظور 13/ 332.

وتاج العروس للزبيدي 10/ 154.

2 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 182، 328، 10/ 195.

3 فتح الباري لابن حجر 10/ 166. وانظر أحكام الرقى والتمائم للدكتور فهد السحيمي ص36-41.

ص: 137

أدلة الرقية الشرعية:

دلت الأدلة الكثيرة على جواز الرقى إذا تحققت فيها الشروط السابقة.

ولكثرة هذه الأدلة صنفتها وفق موضوعها، واقتصرت على ذكر مثال أو مثالين لكل موضوع.

1-

إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لجماعة من أصحابه عرضوا عليه رقاهم؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟

فقال صلى الله عليه وسلم: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"1. وعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله: إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى، قال: فعرضوها عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أرى بأسا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه، فليفعل" 2.

2-

إقراره صلى الله عليه وسلم لفريق من الصحابة فعلوا الرقية؛ كإقراره صلى الله عليه وسلم للرهط الذين نزلوا بأحد أحياء العرب، فلدغ سيد الحي، فرقاه أحد الصحابة بسورة الفاتحة، وأخذ على ذلك جعلا، فقال صلى الله عليه وسلم:"وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا، واضربوا لي بسهم"3.

3-

فعله صلى الله عليه وسلم الرقية بنفسه؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات؛ فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيده نفسه لبركتها4. قال معمر -أحد رواة هذا الحديث: فسألت الزهري وهو شيخه في هذه الرواية: كيف ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه4.

4-

فعله صلى الله عليه وسلم الرقية بغيره؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشفه وأنت الشافي،

1 صحيح مسلم، كتاب السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك.

2 صحيح مسلم، كتاب السلم، باب استحباب الرقية من العين والحمة والنملة.

3 صحيح البخارين كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية، وكتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، وباب النفث في الرقية.

4 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات، وباب النفث في الرقية، وباب المرأة ترقي الرجل.

ص: 138

لا شفاء إلا شفاءك، شفاء لا يغادر سقما" 1. وعنها رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض:"بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفي سقيمنا، بإذن ربنا"1.

5-

أمره صلى الله عليه وسلم بالرقية؛ فعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة2؛ فقال: "استرقوا لها، فإن بها النظرة"3.

وعن أفعاله صلى الله عليه وسلم هذه مع الرقية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"كان صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه، وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه"4.

ملاحظة: لا يتنافى التداوي بالرقى؛ من كتاب الله عز وجل، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التوكل؛ لأن الله جل جلاله جعل الرقى سببا لدفع مكروهات كثيرة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تواتر فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للرقية بنفسه، وغيره، وأمره بها، وإقراره لصحابته على فعلها5. فالرقية مشروعة وهي من الأدوية الناجعة النافعة بإذن الله، إذا انضم إليها صدق القصد من جهة العليل، وقوة التوجه إلى الله من جهة المداوي، مع قوة القلب بالتقوى والتوكل على من يذهب البأس6.

الوقفة الثانية: مع الرقى البدعية: وتدخل فيها الشركية؛ لأن من البدع ما يكون شركا.

فالرقية الشركية هي كل رقية اشتملت على شرك؛ كالقسم بالمخلوقات من شمس، أو قمر، أوملائكة، أو جن، أو غير ذلك؛ أو الاستغاثة بالمخلوقات فيما لا يقدر عليه إلا الخالق سبحانه وتعالى؛ أو المشتملة على دعاء المخلوق من دون الله، ليكشف أمرا لا يكشفه إلا الله عز وجل، هذا كلها شرك، لا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتعاطاه7.

1 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، وباب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى.

2 السفعة: حمرة في الوجه يعلوها سواد، أو في وجهها موضع على غير لونه الأصلي "فتح الباري 10/ 202".

3 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب رقية العين.

4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 328.

5 انظر الرقى على ضوء قيدة أهل السنة والجماعة للدكتور علي العلياني ص33.

6 انظر: الجواب الكافي لابن القيم ص35. وفتح الباري لابن حجر 10/ 100.

7 انظر الرقى على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة للعلياني ص59-61.

ص: 139

ويدخل في الرقى البدعية: ما فقد شرطا من شروط الرقية الشرعية1، ومن ذلك2:

1-

إذا كانت الرقية سحرية؛ لأن الله حرم السحر، وبين أنه كفر، وأن الساحر لا يفلح أبدا قال تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] .

2-

إذا كانت الرقية بعبارات غير واضحة، ومعنى غير مفهوم، فهي رقية بدعية؛ فإن ما لا يعقل معناه، وما لا يفهم مبناه، لا يؤمن أن يكون منه شرك، وما كان مظنة الشرك، فلا يجوز تعاطيه أبدا -من باب سد الذرائع3.

3-

ويدخل في هذا: ما كان بعبارات محرمة؛ كالسب، والشتم، واللعن؛ فإن الله لم يجعل دواء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرمه عليها، يقول صلى الله عليه وسلم:"إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكم داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام" 4، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث5.

4-

ألا تكون الرقية على هيئة محرم؛ كأن يتقصد فعلها حال كونه جنبا، أو في مقبرة، أو حمام، أو وهو كاشف لعورته، أو غير ذلك.

5-

ألا يظن الراقي، أو المرقي أن الرقية تستقل بالشفاء، أو دفع المكروه وحدها.

فإذا اعتقد أنها تؤثر بذاتها، فهذا هو الشرك الأكبر؛ لأن الشافي هو الله وحده.

1 التي تقدم ذكرها في ص137 من هذا الكتاب.

2 انظر في ذلك: الرقى على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة للعلياني ص59-73.

3 النظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص168-169. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص166-167.

4 سنن أبي داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة.

5 مسند أحمد 2/ 305. وسنن أبي داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة. وجامع الترمذي، كتاب الطب، باب من قتل نفسه بسم أو غيره. وسنن ابن ماجه، كتاب الطب، باب النهي عن الدواء الخبيث. وصححه الألباني "انظر صحيح سنن أبي داود 2/ 733. وصحيح سنن ابن ماجه 2/ 255".

ص: 140

ثامنا: التمائم من أنواع الشرك الأصغر

أولا: تعريف التمائم

التمائم لغة جمع تميمة، وهي خرزات كان الأعراب يعلقونها على أولادهم لدفع العين بزعمهم. أو قطعة من الجلد أو الورق، يكتب عليها أدعية وأوراد، يعلقها بعض الناس على مرضاهم، بغرض دفع شر متوقع، أو الشفاء من مرض حاصل وقع1.

ويتضح من تعريف التميمية أنها كانت تتخذ لغرضين:

1-

دفع الشرك المتوقع؛ من مرض أو عين، قبل أن يحصل "كالذي يعلق على الصبيان، أو الفرس، أو المساكن، أو السيارات".

2-

دفع الشر الذي وقع بالفعل "وهذا الذي يعلق على المريض".

ثانيا: حكم تعليق التمائم

تعليق التمائم من باب شرك الأسباب، وهذا قد يكون أكبر، وقد يكون أصغر، حسب حال صاحبه، ولذلك ينظر في حال المتعلق، وفي حال المعلق.

يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى عن التمائم: قد تكون شركا أكبر إذا اعتقد معلق التميمة أنها تحفظه، أو تكشف عنه المرض، أو تدفع عنه الضرر، دون إذن الله ومشيئته2، ويقول رحمه الله في موضع آخر: والصواب أن تعليق التمائم ليس من الاستهزاء بالدين، بل من الشرك الأصغر، ومن التشبه بالجاهلية، وقد يكون شركا أكبر على حسب ما يقوم بقلب صاحب التعليق من اعتقاد النفع فيها، وأنها تنفع وتضر دون الله عز وجل، وما أشبه هذا الاعتقاد، أما إذا اعتقد أنها سبب للسلامة من العين أو الجن ونحو ذلك، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأن الله سبحانه لم يجعلها سببا، بل نهى عنها وحذر، وبين أنها شرك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لما يقوم بقلب صابحها من الالتفات إليها، والتعلق بها3.

فتعليق التمائم مع اعتقاد أنها سبب للسلامة من الشر الواقع أو المتوقع: شرك أصغر.

وتعليق التمائم مع اعتقاد أنها تنفع وتضر دون إذن الله ومشيئته: شرك أكبر.

1 انظر: فتح الباري لابن حجر 10/ 196. ولسان العرب لابن منظور 12/ 69-70.

2 مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 2/ 384.

3 قاله رحمه الله معلقا على حواشي الشيخ حامد الفقي على كتاب "فتح المجيد" حاشية رقم 133.

ص: 141

ثالثا: نوعا التمائم: التمائم نوعان؛ محرمة، ومختلف فيها.

النوع الأول: التمائم المحرمة

وهي التي جمعت أحد هذه الأمور "واحد يكفي كي تكون محرمة":

1-

ليست من الكتاب، ولا من السنة، بل هي من طلاسم اليهود، أو المشركين، أو مستخدمي الجن، ونحوهم.

2-

إذا كانت من الخرز، أو الأوتار، أو الحلق من الحديد وغيره كالأساور؛ فإن تعليقها محرم بلا ريب؛ إذ ليست من الأسباب المباحة، ولا الأدوية المعروفة1.

3-

إذا كان فيها شرك؛ كالاستغاثة بأحد غير الله عز وجل.

4-

إذا كان صاحبها أو حاملها يعتقد أنها تنفع بذاتها، وأنه إن رفعها بقي المرض2.

أدلة التمائم المحرمة: جاءت أدلة كثيرة بتحريم التمائم التي فيها أحد هذه الأمور السابقة، ومن هذه الأدلة:

1-

قول الله عز وجل: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] .

2-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلق تميمة فقد أشرك"3.

3-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرقى والتمائم والتولة 4 شرك"5.

4-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئا وكل إليه"6.

1 انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص152، 154، 156-162.

2 انظر: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 1/ 384 والتمائم في ميزان العقيدة للدكتور علي العلياني ص33.

3 أخرجه أحمد في المسند 4/ 156، والحاكم في المستدرك 4/ 219. ورواة أحمد ثقات، كما قال الهيثمي في مجمع الوائد 5/ 103، وصححه الألباني "السلسلة الصحيحة رقم 492".

4 التولة: شيء تصنع المرأة، تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر. "الدين الخالص 2/ 238".

5 أخرجه أحمد في المسند 1/ 381. والحاكم في المستدرك 4/ 217، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأبو داود وابن ماجه في السنن، كلاهما في كتاب الطب، باب في تعليق التمائم.

وصححه الألباني "السلسلة الصحيحة رقم331".

6 أخرجه أحمد في المسند 4/ 310-311. والترمذي في الجامع الصحيح، كتاب الطب، باب ما جاء في كراهية التعليق. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 208.

ص: 142

النوع الثاني: التمائم المختلف فيها وهي التي جمعت الشروط التالية 1

1-

أن تكون بشيء من القرآن الكريم، أو بالأدعية الصحيحة.

2-

أن تكون بلغة عربية مفهومة، أو بلغة أخرى يفهم معناها.

3-

أن تكون خالية من الطلاسم، والشركيات.

4-

أن يكون صاحبها على عقيدة صافية؛ بأنه لا يجلب النفع ولا يدفع الضر إلا الله.

حكم هذا النوع من التمائم:

هذا النوع من التمائم قد اختلف العلماء في حكمه، فرأى بعضهم جوازه، وبعضهم تحريمه. يقول الإمام أحمد:"التعليق كله يكره، والرقى ما كان من القرآن، فلا بأس به"2.

أدلة من قال بتحريم هذا النوع 3:

1-

عموم النهي الوارد في التمائم، دون تخصيص نوع منها؛ فقد جاء المنع من تعليق التمائم دون تفصيل. ولو كان تعليق التمائم مشروعا، لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بين الرقية وأذن فيها بقوله:"لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"4.

2-

إن القول بجواز تعليق التمائم المختلف فيها قد يعطل سنة الرقية المتفق عليها.

3-

إن القول بتعليق التمائم متردد بين الجواز والتحريم. وما كان كذلك فالأولى اجتنابه درءا للمفاسد، واتقاء للشبهات.

4-

تعليق التمائم وسيلة مفضية إلى الشرك؛ فقد يعتقد معلقها أنه لولا التمائم لحصل له كذا وكذا فيحصل فيها تعلق القلب، فيفضي إلى اعتقاد أنها مؤثرة بذاتها. وهذا شرك. وسد الذرائع واجب، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح5.

1 انظر أحكام الرقى والتمائم للدكتور فهد السحيمي ص243، 253.

2 مسائل الإمام أحمد برواية الكوسج 2/ 169.

3 انظر التمائم في ميزان العقيدة للدكتور علي العلياني ص46-50.

4 تقدم تخريج هذا الحديث ص138، ح"1".

5 انظر معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 1/ 382.

ص: 143

5-

يؤدي تعليقها إلى حمل القرآن ممن لا يفقه معناه، ولا يعرف منزلته، فلا يوقره، وقد يعرض آيات القرآن للامتهان؛ سيما إذا دخل إلى دورات المياه، أو الأماكن القذرة.

وقد تبقى عليه وهو جنب، كما أنها قد تعلق على الأطفال مع تلبسهم بالنجاسة.

6-

إن غالب من يتعاطاها صناعة واستعمالا لا يعرفون بصحة الإيمان، ولا بصلاح العمل.

7-

إن عمل التمائم قد صار نوعا من أنواع الاتجار بكتاب الله ودينه القويم؛ ففي القول بجوازها فتح الباب أما الدجالين والمشعوذين لعمل التمائم الشركية، والاتجار بها بحجة أنها من القرآن الكريم.

والقول بالمنع من تعليق التمائم هو الراجح والله أعلم، لما تقدم1. وعلى هذا القول عدد كبير من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين.

قال إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي "ت96هـ": كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن2. ومراده من قوله "كانوا": أي أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهم من سادات التابعين3.

تاسعا: التطير من أنواع الشرك الأصغر

أولا: تعريف التطير

التطير والطيرة: هي التشاؤم، وهو مصدر من تطير يتطير تطيرا وطيرة.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير، فيعتمدها؛ فجاء الشرع بالنهي عن ذلك4.

1 انظر المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن عثيمين 1/ 58.

2 المصنف لابن أبي شيبة 7/ 374.

3 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص176-177. وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ابن عبد الله ص174.

4 انظر: فتح الباري لابن حجر 10/ 212. وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص424.

ص: 144

وكانوا يسمونه السانح، والبارح؛ فالسانح ما ولاك ميامنه، بأن يمر عن يسارك إلى يمينك. والبارح بالعكس. وكانوا يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح؛ لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه. وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه.

وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له؛ إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله1.

ولم يقتصر التطير التطير على الطيور والحيوانات، بل انسحب هذا الاعتقاد على غير الطير؛ فلقد كانوا يتشاءمون ببعض الأشهر؛ كشهر صفر الذي كان يمتنع بعضهم عن الزواج فيه أو السفر.

كذلك كانوا يتشاءمون من المرضى، فيمتنعون عن مجالستهم، أو مآكلتهم.

وكذا كانوا يتشاءمون بذي العاهة؛ كالأعرج، والأعور، وغيرهما.

ثانيا: من الأدلة على تحريم التطير

1-

قول الله عز وجل عن آل فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] ؛ فآل فرعون كانوا إذا أصابهم بلاء وقحط تطيروا -تشاءموا- بموسى عليه السلام ومن معه، وقالوا: هذا بسبب موسى وأصحابه، أصابنا بشؤمهم. فأخبر عز وجل أن ما قضى عليهم وقدر لهم، إنما جاءهم من قبل كفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله2. ففي هذه الآية نهي عن التطير، ووعيد فيه3.

2-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة"4.

1 فتح الباري لابن حجر 10/ 212-213. وانظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 2/ 142-143.

2 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص424.

3 انظر فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص424.

4 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الطيرة. وصحيح مسلم، كتاب السلام، باب لا عدوى.

ص: 145

3-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة، وخيرها الفأل". قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم"1.

ما الفرق بين الطيرة وبين الفأل؟ الطيرة سوء ظن بالله عز وجل، وصرف شيء من حقوقه عز وجل لغيره، وتعلق للقلوب بمخلوق لا ينفع ولا يضر. والفأل حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم "إنما كان يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به عز وجل، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال"2.

4-

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة شرك، الطيرة شرك. وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل" 3، وزيادة:"وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل"، أي: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك؛ ولكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر، أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده4.

ثالثا: حكم الطيرة: الطيرة محرمة شرعا، وهي من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد، لما فيها من سوء الظن بالله، وتعلق القلوب بغيره، وصرف شيء من حقوقه لغيره.

وتنقلب إلى شرك أكبر إذا اعتقد أن هذه الأشياء التي تطير بها فاعلة بنفسها، أو سبب مؤثر في جلب النفع ودفع الضر. وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم:"الطيرة شرك".

رابعا: حصول التطير عند بعض المؤمنين، وعلاجه: الطيرة التي في الأفعال والأقوال تكون من بعض المؤمنين؛ فقد يقع في نفس الإنسان شيء من التطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل عليه.

1 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الطيرة، وباب الفأل. وصحيح مسلم، كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم.

2 فتح الباري لابن حجر 10/ 215. وانظر: حياة الحيوان الكبرى للدميري 2/ 98. وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص434-435. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للأطرم ص65.

3 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في الطيرة، والترمذي في جامعه، كتاب السير، باب ما جاء في الطيرة- وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه، كتاب الطب، باب من كان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة. وصححه الألباني "السلسلة الصحيحة رقم 429".

4 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص440.

ص: 146

فالتطير أمر قد يقع من الإنسان، كما قال ذلك الصحابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ومنا أناس يتطيرون. قال صلى الله عليه وسلم: "ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه؛ فلا يصدنكم" 1؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تأذي الإنسان وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده2.

والطيرة هي ما أمضاك، أو ردك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك"، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: "أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك"3.

وهذا من العلاج؛ فإن الإنسان إذا قال ذلك، وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت إليه، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداءا، لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه4.

فعلاج هذا التطير الذي يقع في نفس الإنسان، يكون بصدق التوكل على الله عز وجل، واعتقاد أنه وحده هو النافع والضار. ويضاف إلى صدق الالتجاء: الدعاء الذي علمناه الرؤوف بنا، الحريص علينا صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم:"اللهم لا خير إلا خيرك".

وكذلك الدعاء الآخر: "فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك"5؛ ففيه نفي تعليق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وهذا هو التوحيد، وهودعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعا، ولا تدفع ضرا6.

1 صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.

2 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص430.

3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 220. والطبراني في المعجم الكبير 5/ 105. وصححه الألباني السلسلة الصحيحة رقم 1065.

4 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص441.

5 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في الطيرة. وإسناده ضعيف كما ذكر الألباني في ضعيف الجامع رقم199.

6 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص438.

ص: 147