المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأولأطفال المشركين - أهل الفترة ومن في حكمهم

[موفق أحمد شكري]

الفصل: ‌المبحث الأولأطفال المشركين

‌الفصل الثالث

الملحقون بأهل الفترة

‌المبحث الأول

أطفال المشركين

والمقصود بأطفال المشركين: الذين ماتوا ولم يبلغوا الحلم، أي لم تكن لديهم القدرة على فهم شيء من الأحكام لكونهم في سن الصغر، والصغر يعتبر من العوارض التي تعترض أهلية التكليف، أي يجعل صاحبه غير مكلف بشيء ما والله أعلم.

وقد اختلف العلماء حول تكليف أطفال المشركين اختلافًا كثيرًا.

نورد هنا الأقوال المشهورة ثم ترجيح ما يتقوى بالدليل الصحيح:

1 -

إن أطفال المشركين في الجنة.

2 -

إن أطفال المشركين في النار.

3 -

إن أطفال المشركين يمتحنون في عرصات القيامة.

4 -

إن أطفال المشركين يجب التوقف في أمرهم.

القول الأول: أنهم في الجنة. وممن ذهب إلى هذا القول:

ص: 89

المحققون البخاري (1) والنووي (2) وابن الجوزي (3) وابن حزم (4). وهو قول لطائفة من المفسرين (5) -وقاله ابن حجر العسقلاني (6). وهو قول الجبائي (7) من المعتزلة (8).

أدلتهم: استدل القائلون بأن أطفال المشركين في الجنة بما يأتي:

1 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: "الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين"(9).

2 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين من يموت منهم صغيرًا فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"(10).

وجه الدلالة من هذين الحديثين الشريفين: عندما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين" هذا يعني إذا بلغوا وصاروا مكلفين، أما إذا لم يبلغوا فهم ليسوا بمكلفين فهم في الجنة.

(1) انظر (البخاري على الفتح: كتاب الجنائز، باب ما قيل في أطفال المشركين 3/ 245).

(2)

هو محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف، الشافعي، ولد سنة 631 هـ. كان رحمه الله يواجه الملوك الظلمة بالإنكار عليهم ويكتب لهم ويخوفهم بالله. له العديد من التصانيف توفي رحمه الله 676 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ 4/ 1470)، انظر:(النووي على صحيح مسلم: كتاب القدر، باب حكم موتى المشركين 16/ 207).

(3)

هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن، ولد سنة 510 هـ. كان رحمه الله علمًا في التفسير والحديث وله في كل علم مشاركة. توفي رحمه الله سنة 598 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ 4/ 1342) انظر زاد المسير.

(4)

الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 74.

(5)

طريق الهجرتين لابن القيم ص 680.

(6)

انظر (البخاري على الفتح كتاب الجنائز باب ما قيل في أطفال المشركين 3/ 245).

(7)

الجبائي: هو أبو علي محمَّد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي، أحد أئمة المعتزلة، كان إمامًا في علم الكلام ولد سنة 235 هـ، وتوفي سنة 303 هـ. انظر (وفيات الأعيان لابن خلكان 4/ 267).

(8)

شرح الأصول الخمسة ص 477.

(9)

أخرجه البخاري: انظر (الفتح كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين 3/ 245).

(10)

أخرجه مسلم. انظر (النووي كتاب القدر حكم موتى المشركين 16/ 207).

ص: 90

3 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء"(1).

وجه الدلالة من هذا الحديث الشريف: أن الله سبحانه وتعالى فطر خلقه على الإِسلام {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].

فإذا مات على تلك الفطرة أي قبل أن يهوِّده أو ينصِّره أو يمجِّسه أبواه مات مسلمًا ودخل الجنة.

4 -

عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي اللاهين من ذرية بني آدم أن لا يعذبهم فأعطانيهم"(2).

وجه الدلالة من هذا الحديث أن عدم تعذيبهم يدل على أنهم في الجنة.

5 -

عن سمرة (3) بن جندب أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وأنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما .... إلى أن قال فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء، وإذا حول الرجل أكثر ولدان رأيتهم قط ....

(1) أخرجه مسلم انظر (النووي كتاب القدر باب حكم موتى المشركين 16/ 207).

(2)

رواه أبو يعلى من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن المتوكل وهو ثقة انظر (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 7/ 219).

(3)

هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، أبا سليمان، كان من حلفاء الأنصار قدمت به أمه بعد موت أبيه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرض عليه غلمان الأنصار فعُرض عليه سمرة فردّه فقال له سمرة: رددتَني وأجزتَ فلانًا ولو صارعته لصرعته. فأجازه النبي -توفي سنة 60 هـ انظر: (الإصابة 2/ 78).

ص: 91

إلى أن قال: فأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة. قال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأطفال المشركين؟ قال: وأطفال المشركين" (1).

وجه الدلالة من هذا الحديث الشريف أنه صريح في دخول أطفال المشركين في الجنة.

6 -

قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

7 -

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].

وجه الدلالة من هاتين الآيتين الكريمتين: أن الله سبحانه وتعالى أخذ على نفسه أن لا يعذب أحدًا إلا بعد إرسال الرسل لينذروهم ويبلغوهم ما أمر الله به، والأطفال ليسوا محلًا للتبليغ لأنهم غير مكلفين، لذا فهم في الجنة. والله سبحانه وتعالى لا يظلم عباده إلا بعد صدور الظلم منهم، والأطفال لم يصدر منهم الظلم فكيف يعذبهم، فهم في الجنة.

8 -

قوله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90].

9 -

قوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].

10 -

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

11 -

وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76].

(1) أخرجه البخاري انظر (فتح الباري 12/ 247. كتاب التعبير -باب تعبير الرؤيا).

ص: 92

12 -

واستدلوا بالعقل: فقالوا لو كان يصح تعذيب أطفال المشركين لكان تعذيبهم:

أ- إما مع تكليفهم بالإِيمان.

ب- أو بدون تكليف.

فالأول: محال لاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل.

وأما الثاني: فيمتنع أيضًا للنصوص التي ذكرنا من أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه.

ثم لو كان تعذيب أطفال المشركين لعدم الإِيمان وهو المانع من العذاب لاشترك معهم أطفال المسلمين لاشتراكهم في عدم الإِيمان الفعلي علمًا وعملًا. ثم لو قيل بأن أطفال المسلمين تبع لآبائهم بخلاف أطفال المشركين قلنا إن الله لا يعذب أحدًا بذنب غيره قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

القول الثاني: أنهم في النار. قال به الأزارقة من الخوارج (1). واختاره القاضي أبو يعلى (2) وذكر أنه منصوص عن الإِمام أحمد وهو غلط عليه، وهو قول لجماعة من المتكلمين وأهل التفسير (3).

واستدلوا بما يأتي:

1 -

قوله تعالى: حكاية عن نوح عليه السلام {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى

(1) طريق الهجرتين ومفتاح السعادتين لابن القيِّم ص 683 والفصل في الملل والأهواء والنِحَل لابن حزم 4/ 72.

(2)

هو محمَّد بن الحسين بن محمَّد، ويكنى بأبي يعلى، ولد سنة 380 هـ، كان يسمع الحديث ولم يضيع شيئًا من وقته بل صرفه في طلب العلم، كان أصوليًا محدثًا جمع إمامة الصدق والفقه، له عدد من التصانيف توفي رحمه الله سنة 458 هـ. انظر (الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/ 245).

(3)

الفتاوى لابن تيمية 24/ 372. وطريق الهجرتين لابن القيِّم ص 677.

ص: 93

الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 36 - 37].

وجه الدلالة في هذه الآية الكريمة: أن الكافر لا يلد إلا كافرًا والكافر في النار فأطفال المشركين في النار.

وقد أجيب عن هذا الدليل بأنه لا حجة لهم فيه، لأن هذه الآية خاصة بقوم نوح عليه السلام وليس بكل كافر (1)، فعندما يئس نوح عليه السلام من إيمان القوم دعا عليهم بهذا الدعاء.

2 -

الحديث الذي ورد في مسند أحمد عن عبد الله (2) بن أحمد عن عثمان (3) بن أبي شيبة عن محمَّد (4) بن فضيل بن غزوان عن محمَّد (5) بن عثمان عن زاذان (6) عن علي (7) قال: سألت خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها في الجاهلية فقال: هما في النار. فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لو رأيت مكانهما أبغضتيهما. قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: في الجنة. قال ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المسلمين وأولادهم

(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 72.

(2)

هو عبد الله بن أحمد بن حنبل، ويكنى بأبي عبد الله، محدِّث العراق، ولد سنة 213 هـ وسمع من أبيه فأكثر وكان يشهد له بمعرفة الرجال ومعرفة أهل الحديث توفي سنة 290 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 2/ 965).

(3)

هو أبو الحسن بن محمَّد بن عثمان الكوفي قال عنه ابن معين: ثقة مأمون. توفي سنة 229 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 414).

(4)

محمَّد بن فضيل بن غزوان كان يُتتبع وكان حسن الحديث توفي سنة 94 هـ.

(5)

محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، حافظ بارع سمع أباه توفي سنة 297 هـ.

(6)

هو أبو عبد الله روى عن عمر وعلي وجمع من الصحابة، قال عنه ابن معين: ثقة. وقيل إنه كان كوفيًا انظر (التهذيب 3/ 303).

(7)

هو علي بن أبي طالب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، زوج فاطمة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، قتل في ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 40 هـ. انظر (الإصابة 2/ 507).

ص: 94

في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار (1). ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

3 -

حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولاد المشركين فقال: "إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار"(2).

وجه الدلالة من هذين الحديثين أنهما صريحان بدخول أطفال المشركين في النار.

وقد أجيب عن هذين الحديثين بما يلي:

1 -

إن حديث خديجة (3) رضي الله عنها لا يحتج به، وذلك لأنه معلول من وجهين:

أ- إن في سنده محمَّد بن عثمان وهو مجهول (4)، وقال عنه الهيثمي: محمَّد بن عثمان غير معروف (5).

ب- إن في سنده زاذان عن علي، وزاذان هذا لم يدرك عليًا (6).

2 -

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد ضعفه جمهور الأئمة

(1) يقول الهيثمي: هذا الحديث فيه محمَّد بن عثمان لا أعرفه وبقية رجال هذا الحديث رجال الصحيح انظر (مجمع الزوائد 7/ 217).

(2)

رواه أحمد وفيه أبو عقيل يحيى بن المتوكل ضعفه جمهور الأئمة أحمد وغيره ويحيى بن معين. انظر (مجمع الزوائد 7/ 217).

(3)

هي خديجة بنت خويلد، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أول من صدقت وآمنت به من النساء وآزرته، وكانت تقول له: والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك تصل الرحم، وكانت رضي الله عنها تشدّ من عزم الرسول صلى الله عليه وسلم حين يخذله قومه، توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات. انظر (الإصابة 4/ 281).

(4)

طريق الهجرتين لابن القيم ص 678.

(5)

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 217.

(6)

طريق الهجرتين لابن القيم 678.

ص: 95

ويحيى بن معين (1). وذكر ابن القيم أن شيخ الإِسلام ابن تيمية حكم ببطلانه (2)، وذلك لأن في سنده أبا عقيل يحيى بن المتوكل.

4 -

حديث احتجاج الجنة والنار الذي أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم. وقالت النار يعني أوثرت بالمتكبرين فقال الله عز وجل للجنة أنت رحمتي وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها قال فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدًا وأنه ينشىء للنار من يشاء فيُلقَون فيها فتقول هل من مزيد ثلاثًا فتمتلىء. ويضع بها قدمه ويرد بعضها إلى بعض وتقول قط قط قط (3).

وجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: "ينشىء للنار من يشاء فيلقون فيها" قال أصحاب هذا القول فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل. "فلأن يدخلها من ولد في الدنيا بين كافرين أولى (4) ".

وقد أجيب عن هذا الحديث بأنه قد حصل فيه قلب من عند الراوي، وهذا يحدث عند رواة الحديث. وقال أبو الحسن القابسي (5) المعروف في هذا الموضع "إن الله ينشىء للجنة خلقًا وأما النار فيضع فيها قدمه" ثم قال ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشىء للنار خلقًا إلا هذا (6). اهـ.

(1) هو يحيى بن معين سيد الحفاظ أبو زكريا البغدادي، ولد سنة 158 هـ، كان أبوه من نبلاء الكتب فخلف له ألف ألف درهم. قال عنه ابن المديني انتهى علم الناس إلى يحيى بن معين. توفي رحمه الله سنة 203 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 3/ 1079).

(2)

طريق الهجرتين لابن القيم ص 678.

(3)

أخرجه البخاري انظر (الفتح كتاب التوحيد باب إن الله قريب من المحسنين 13/ 434).

(4)

طريق الهجرتين لابن القيم ص 687.

(5)

هو علي بن محمَّد بن خلف، ولد سنة 324، وكان حافظًا للحديث والعلل، بصيرًا بالرجال، عارفًا بالأصلين، رأسًا بالفقه، له عدد من المصنفات، توفي رحمه الله سنة 403 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 3/ 1079).

(6)

انظر (فتح الباري كتاب التوحيد باب إن الله قريب من المحسنين 13/ 434).

ص: 96

قال ابن القيم رحمه الله: هذا غير محفوظ وهو ممن انقلب لفظه على بعض الرواة (1)، فإن هذه اللفظة وقعت غلطًا وقد بينها البخاري في الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم قال الله تبارك وتعالى للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فتقول قط قط قط، فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدًا، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشىء لها خلقًا آخر"(2).

فهذا الحديث روايته صحيحة وليس فيه قلب، أما الحديث الذي احتج به الفريق الثاني فكان مما غلط فيه بعض الرواة فرووه على غير الوجه الصحيح الذي ذكرنا آنفًا وبهذا فلا يكون حجة لهم. والله أعلم.

القول الثالث: إنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويُرسَل إليهم رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة؛ فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. وممّن قال بهذا القول واختاره: شيخ الإِسلام (3) ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم (4).

واستدلوا بما يلي:

1 -

حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أربعة يحتجون يوم القيامة" الحديث (5).

(1) طريق الهجرتين لابن القيم 687.

(2)

أخرجه البخاري انظر (الفتح كتاب التفسير باب وتقول هل من مزيد 8/ 595).

(3)

مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية ص 6266.

(4)

طريق الهجرتين لابن القيم ص 689.

(5)

سبق ذكره وتخريجه ص 78.

ص: 97

2 -

حديث أنس رضي الله عنه "يؤتى يوم القيامة بأربعة" الحديث (1).

3 -

حديث معاذ بن جبل، يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا" الحديث (2).

4 -

حديث أبي سعيد الخدري: "يؤتى الهالك بالفترة" الحديث (3).

وجه الدلالة من هذه الأحاديث السالفة الذكر بأن الأطفال يمتحنون في عرصات القيامة، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى بقي فيها.

القول الرابع: التوقف فيهم حيث لا يحكم أنهم بالجنة أو بالنار، وممن ذهب إلى هذا المذهب الإِمام أبو حنيفة (4) وأحمد في رواية وحماد (5) ابن سلامة وابن المبارك (6) وإسحاق بن (7) راهويه (8).

أدلتهم:

1 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه"(9).

ووجه الدلالة في هذا الحديث أنه دل على أن المولود يولد على

(1 ،2، 3) هذه الأحاديث سبق ذكرها وتخريجها ص 78 - 79.

(4)

هو أبو حنيفة فقيه العراق، النعمان بن ثابت الكوفي، ولد سنة 80 هـ، رأى أنس بن مالك غير مرة لما قدم عليهم في الكوفة، كان إمامًا ورعًا لا يقبل هدايا السلطان بل يتجر ويتكسب، توفي رحمه الله سنة 150 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 168).

(5)

هو حماد بن سلامة بن دينار، كان بارعًا في العربية، كان شديدًا على المواظبة على قراءة القرآن والعمل به، توفي رحمه سنة 267 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 402).

(6)

هو عبد الله بن المبارك التركي الأب الخوارزميّ الأم، ولد سنة 118 هـ، كان حاجًا مجاهدًا وتاجرًا، وكان ثقة. انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 274).

(7)

إسحاق بن راهويه، ولد سنة 166 هـ، وسمع ابن المبارك وتوفي سنة 238 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ ص 233).

(8)

تجريد التمهيد لابن عبد البر ص 326 - روح المعاني الألوسي 15/ 37.

(9)

أخرجه البخاري انظر (الفتح ج 3 ص 246 كتاب الجنائز -باب أطفال المشركين).

ص: 98

الفطرة، والفطرة هي معرفة الله والميل إلى الخير، وما دام أنه يولد على الفطرة فلا يُدرى ماذا سيعمل لو كبر، لذا يُتوقَّف فيه ويوكَل أمره إلى الله.

2 -

والحديث قالوا يا رسول الله: أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"(1).

3 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فسأله رجل قال: يا رسول الله، ما تقول في اللاهين؟ قال فسكت عنه رسول الله فلم يرد عليه بكلمة، فلما فرغ رسول الله من غزوة الطائف فإذا هو بغلام يبحث في الأرض، فأمر مناديه: أين السائل عن اللاهين؟ فأقبل الرجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله عن قتل الأطفال ثم قال: الله أعلم بما كانوا عاملين"(2).

ووجه الدلالة من هذين الحديثين أن قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يدل على التوقف في حكمهم.

وقد أجيب عن استدلالهم بما يأتي:

إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف في حكمهم، وإنما فوض علم ما كانوا عاملين لو عاشوا إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه قد سبق في علم الله سبحانه وتعالى إيمان المؤمن وكفر الكافر لو عاشوا، قال ابن القيم رحمه الله: (إن كلام النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" إنما خرج هذا الجواب منه من وجهين:

الأول: جواب لهم إذ سألوه عنهم ما حكمهم، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، وهو في هذا الوجه يتضمن أن الله سبحانه وتعالى يعلم من

(1) أخرجه البخاري انظر (الفتح ج 3 ص 246 كتاب الجنائز -باب أطفال المشركين).

(2)

رواه البزار، والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه هلال بن خباب، وهو ثقة بلا خلاف، وبقية رجال الحديث رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/ 218).

ص: 99

يؤمن منهم ومن يكفر بتقدير الحياة، وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: جواب لهم حين أخبرهم أنهم من آبائهم، فقالوا بلا عمل؟ فقال:"الله أعلم بما كانوا عاملين"، كما روى أبو داود (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت:"قلت يا رسول الله: ذراري المؤمنين؟ قال من آبائهم. قلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين"(2).

ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم، ولا يقتضي أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار، فإن الكلام في هذا الجنس سؤال وجواب، والجواب يدل على التفصيل، فإن قوله صلى الله عليه وسلم الله أعلم بما كانوا عاملين يدل على أنهم متباينون في التبعية، بحمسب نياتهم ومعلوم الله فيهم.

بقي أن يقال فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرها عليه، فقال:"الله أعلم بما كانوا عاملين".

ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه في الدنيا، وهذا الذي فهمته عائشة، وعائشة إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء، وأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه وتعالى يعلم منهم ما هم عاملوه ولم يقل لها أنه يعذبهم بمجرد علمه فيهم. وهذا ظاهر لا إشكال فيه (3).

(1) أبو داود: الإِمام الثبت سيد الحفاظ سليمان بن الأشعث بن الحق صاحب السنن، ولد سنة 202 هـ، سمع خلقًا كثيرًا منهم الطيالسي، حدث عنه الترمذي والنسائي وغيرهما، مات في البصرة سنة 275 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ 2/ 591).

(2)

رواه أبو داود في سننه كتاب السنة باب ذراري المشركين 5/ 85.

(3)

طريق الهجرتين ص 676 - ابن القيم.

ص: 100

الترجيح:

وبعد عرض الأقوال مع الأدلة ومناقشتها أرى أن القول الأول وهو أنهم في الجنة هو القول الراجح من تلك الأقوال، ولا ينافيه ما ورد من أن المولود يمتحن مع صاحب الفترة والمجنون والشيخ الهرم، كما سبق في أدلة القائلين بالامتحان لأنها عامة مجملة، خصصتها وبينتها النصوص التي دلت على أنهم في الجنة، كما سبق في أدلتهم.

ونكون بذلك عملنا بالأدلة من الجانبين "لأن إعمال الدليلين أولى من إسقاط أحدهما" ومن المتقرر في الأصول أن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور، والله أعلم.

ص: 101