الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
خصوصية دعوة الرسل الذين سبقوا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم
-
الرسالات التي سبقت رسالة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم كانت رسالاتٍ خاصةً بأقوامٍ معينين وبزمان معين. وكان كل رسول يدعو قومه إلى توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به، ونبذ عبادة الأصنام، ويرغبهم بمغفرة الله عز وجل وبثوابه إن هم أطاعوه واتبعوا دعوته وساروا على منهاج الله المستقيم، وينذرهم ويخوِّفهم من عذاب الله وعقابه إذا هم ظلّوا على ما هم عليه من الكفر والتكذيب بدعوة الله عز وجل.
إذن فكان كل رسول من رسل الله عز وجل يبين لقومه طريق الهداية وطريق الضلال، ويعرفهم أن الله سبحانه وتعالى إله، واحد أحد، فرد صمد، خالق، رازق، محيي ومميت، هو وحده يجب أن يُفرد بالعبادة (1).
والله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه حق العبادة، لا يريد منهم رزقًا ولا طعامًا. يقول تعالى في محكم التنزيل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
(1) العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. انظر (العبودية: شيخ الإِسلام ابن تيمية/ ص 38).
لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58].
فالأمر بالتوحيد وإخلاص العبودية لله عز وجل رسالة كل رسول أرسله الله إلى الأرض لا ينقص منها ولا يزيد عليها، بل يبلِّغها -كما أمره الله عز وجل لقومه ويأمرهم باتباعها وتطبيق ما جاء فيها.
قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65].
وقال تعالى حكاية عن صالح عليه السلام {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73].
وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85].
إذن فالتوحيد هو الأساس الذي قامت عليه دعوات الرسل جميعًا من عهد آدم إلى محمَّد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وأما الشرك بالله -فهو أمر طارئ وحادث، لأن الله سبحانه وتعالى خلق الناس على الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. وفي الحديث: "كل مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه أو ينصِّرانه".
وجاء عن ابن عباس (1) رضي الله عنهما وغير واحد من العلماء في التفسير (وكان أوّل ما عُبدت الأصنام أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى
(1) هو: عبد الله بن العباس، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، توفي رسول =
قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادًا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسمّوها بأسماء أولئك الصالحين: ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، فلما تفاقم الأمر بانتشار الشرك وعبادة الأوثان بعث الله سبحانه وتعالى -وله الحمد والمِنّة- رسوله نوحًا عليه السلام فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له) (1).
فجاء نوح عليه السلام يدعوهم إلى التوحيد، توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان والأصنام.
قال تعالى في شأن سيدنا نوح عليه السلام {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
وبعد أن دعى نوح عليه السلام قومه إلى التوحيد وترك ما يعبدون من الأصنام، واجه ردًّا قاسيًا وعنيفًا من قومه ووصفوه بالضلال المبين. قال تعالى حكاية عن قومه:{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60].
فردّ نوح عليه السلام مقالتهم تلك، وأعلمهم بأن ما وصفتموني به من الضلال ليس بصحيح، وإنما أنا مبلِّغ ومرسَل إليكم مِن الله عز وجل أبلِّغكم ما أمرني الله به، وأنصح لكم وأبيِّن لكم أن الذي أنتم عليه سبب في سخط الله عليكم وعقابه. وسوف يعاجلكم بالعقوبة.
قال تعالى حكاية عن نوح: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي
= الله صلى الله عليه وسلم وعمره آنذاك ثلاث عشرة سنة، كان يسمى بالحبر والبحر ربانيّ هذه الأمة. ودعى له النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"اللهم علَّمه التأويل". مات رضي الله عنه سنة 68 هـ أيام ابن الزبير. انظر: (الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 933).
(1)
تفسير ابن كثير: 2/ 223.
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 61 - 62].
وقال تعالى حكاية عن تكذيب قومه لرسالته، وإنجائه مَن آمن معه، وإغراقه مَن كذّب برسالته ولم يؤمن به:{فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64].
ثم يأتي بعد نوح عليه السلام هود عليه السلام لينذر قومه وما لاقاه منهم. ويدعوهم إلى التوحيد بعد أن انحرفوا وأشركوا بالله وعبدوا أصنامًا مِن صنع أيديهم وسمّوها بأسماء مِن عند أنفسهم. قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65].
فبعد أن خاطبهم بكلمة التوحيد، وأنه لا يجوز أن تكون العبادة إلا لله وحده لا شريك له؛ جابهوه بالردِّ الشديد. وهذه سنة الله سبحانه وتعالى، وأنه لابد أن يكون للدعوة إلى الله أعداء يقفون لها بالمرصاد ويتربّصون بها الدوائر ويحاولون إسقاطها وتكذيبها. فاتّهموا هودًا عليه السلام بالكذب والسفه. قال تعالى:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66].
فرد هود عليه السلام على مقالتهم وأخبرهم بأنه رسول رب العالمين، وإنه ليس سفيهًا كما يدّعون -وحاشا لنبي مرسَل مِن عندِ اللهِ أن يكون سفيهًا- وإنما أنا نذير وناصح لكم أبلِّغكم ما أُمرت به من الله عز وجل دون زيادة أو نقص. قال تعالى:{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 67 - 68].
ولكن قومه استمروا في عنادهم وتكذيبهم للحق الذي جاء به، بل وصل بهم الأمر إلى مطالبته بأن يأتيهم بالذي أنذرهم به.
قال تعالى حكاية عنهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70].
فأجابهم هود عليه السلام {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 71 - 72].
فجاءهم ما توعّدهم به هودٌ عليه السلام من العذاب، ونجّى الله هودًا والذين آمنوا معه.
وها هو نبي الله صالح عليه السلام يأتي قومه فيدعوهم إلى ما دعت إليه الرسل الذين دعوا أقوامَهم إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك والوثنيات التي كانوا يعيشونها ويعتقدون بها. فجاء نبي الله صالحُ يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وجاء عليه السلام بآية لكي تكون حجةً على صدق ما يدعو إليه وأنه الحق، وأنه من الله. وكان عليه السلام يذكِّرهم بنعمة الله عليهم، ولكن قومه كذبوه ولم يصدِّقوا قوله ورفضوا دعوته، فأخذ عليه السلام يحذِّرهم من عذاب الله وعقابه إن هم أصروا على تكذيبه، وإن هم مسّوا الناقة بسوء التي هي حجة عليهم، ولكنهم لم يعتبروا بكلامه عليه السلام. وتمادوا في طغيانهم وكفرهم وعنادهم، فكفروا بصالح وبدعوته وعقروا الناقة، فأتاهم الله بعذاب من عنده، إلا الذين آمنوا مع نبي الله صالح فنجّاهم من العذاب الذي لحق بالذين كفروا. قال تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73].
وقال تعالى حكاية عن قومه: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا
بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:75 - 78].
وعلى نفس الطريق وبنفس الدعوة التي دعا بها نوح وهود وصالح عليهم السلام جاء نبي الله لوط عليه السلام ودعاهم إلى عبادة الله وحده وتركِ ما هم عليه من الكفر والشرك -وقد كان قوم لوط عليه السلام يأتون الرجالَ شهوةً مِن دون النساء فحذّرهم عليه السلام من عاقبة هذا الفعل الخبيث والمرض الفتاك، والمخالف لسنن الفطرة، لكنهم لم يلتفتوا لقوله ولم يأبهوا له ووقفوا منه موقف المعارض والمكابر والمستهزىء بدعوة الله ورسله. ونتيجة لأفعالهم المنكرة وعدم رجوعهم إلى طريق الحق والصواب عاقبهم الله عقابًا شديدًا وخسف بهمُ الأرض ليكونوا عبرة لمن يعتبر. قال تعالى:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 80 - 84].
ويُفتح الستار عن نبي الله شعيب عليه السلام ونرى دعوته مع قومه الذين أشركوا بالله وجعلوا لله ندًّا، واتبعوا شياطينهم وكانوا يبخسون الميزان والمكيال، وكانوا من المطفِّفين. فجاءهم نبي الله شعيب ناصحًا لهم ومحذِّرًا، ينصحهم بأن يتركوا الإِشراك بالله، وأن عليهم أن يوحِّدوه ويفردوه بالعبادة، وناهيًا لهم ومحذِّرًا مِن بخسِ المكيال والميزان وتطفيفهما لأن هذا إفساد في الأرض، والله سبحانه وتعالى لا يرضى هذا وهو عز وجل لا يحب المفسدين. ويترتب على إصرارهم على الكفر وعمل المعاصي عقابٌ شديد من الله عز وجل.
وفعلًا ظلُّوا على ما هم عليه فعاجلهم الله بالعقوبة. وهذا شأن كل مستكبر ضالٍّ عن الطريق السويّ لا يأتمر بأوامر الله ولا ينتهي بالنواهي.
ولكن قوم شعيب لم يتركوا شعيبًا ومن آمن معه، بل هددوهم بإخراجهم من القرية أو أن يعودوا إلى دين آبائهم وأجدادهم، ولكن شعيبًا عليه السلام والذين آمنوا معه بِعُلُوِّ إيمانهم وإخلاصهم لله لم يُلقوا لهم بالًا ولم يستمعوا لما يقولون، واستمروا على إيمانهم غير مبالين بما يفعلون. قال تعالى:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 88 - 89].
وهكذا حال مَن كفر برسل الله، فإن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لكل من يقف موقف المعادي للرسل والرسالات السماوية. قال تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91].
ثم بعد هؤلاء الأنبياء أرسل الله سبحانه وتعالى كَلِيمَه ورسولَه إلى بني إسرائيلَ، أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه الذينِ كانوا تحت حكم فرعون وسلطانه. فجاء موسى عليه السلام إلى فرعون يبيِّن له بأنه مرسَل مِن رب العالمين الأحد الفرد الصمد الخالق الرازق المحيي المميت، وهو رب كل شيء ومليكُه. ثم بيَّن موسى عليه السلام لفرعونَ بأنه جاء ببيِّنة وحجة دالّة ومصدِّقة على أنه مرسَل من الله سبحانه وتعالى. لذا عليك أن
ترسل معي بني إسرائيل -أي أطلق سراحهم من أمرك وعبادتك وتسلُّطك عليهم إلى عبادة الله الواحد الأحد.
فكان من أمر فرعون أنه كذّبه وكذب ما جاء به من الحق، وطلب منه أن يظهر الدليل على صدقه، وأنه رسول من رب العالمين.
فأظهر موسى عليه السلام الدليل على صدقه، وهي إلقاء العصا فتنقلب ثعبانًا، وإدخال يده في جيبه فتخرج بيضاء متلألئة من غير سوء. ولكن فرعون وقومه استمروا في طغيانهم واستكبروا عن طاعة رسول الله، بل ونسبوا إليه السحر.
وكان الملأ من قوم فرعون يحرضون فرعون على موسى وقومه، وأنهم يعيثون في الأرض فسادًا وتركوا عبادتك وتمرّدوا على سلطانك، فقرر فرعون تقتيل الأبناء واستحياء النساء؛ أبناء المؤمنين ونساؤهم، قال تعالى:{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
فأخذ موسى عليه السلام يحثّ قومه ويأمرهم بالصبر والاستعانة بالله حتى يفرِّج الله سبحانه وتعالى عنهم ما هم فيه من البلاء ويجعل لهم مخرجًا {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
فأجابه قومه بأنهم كانوا يؤذَون من قبل مجيئه ومن بعد مجيئه والآن نحن نذل ونهان. وموسى عليه السلام رغم كل هذا يصبِّرهم ويواسيهم في مصيبتهم وأن نصر الله قريب منهم.
قال تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
ولكن فرعون وقومه ظلوا مكابرين معاندين حتى سلط الله عليهم الجوع وقلة الزروع والثمار، وكانوا يطَّيّرون بموسى ومن معه؛ فإذا جاءتهم حسنة ومكرمة قالوا لنا هذه بما نستحق، وإذا أصابهم قحط وجدب اطَّيّروا بموسى وقومه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعر اف: 130 - 131].
ولكن تمرُّد فرعون وقومه وإصرارهم على الباطل جعلهم يتهكّمون بموسى {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 132 - 136].
ثم أرسل سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام -خاتمة أنبياء بني
إسرائيل -يدعوهم بدعوة الرسل، دعوة التوحيد الخالص وإخلاص العبادة لرب العباد، لأن العبودية لغيره من أكبر الكبائر وأظلم الظلم، إذ هي شرك بالله وصرفُ خالص حقه لغيره. قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وعندما أُرسل عيسى عليه السلام إلى قومه جاء ببينة وحجة على صدقه في قوله وصحة رسالته ونبوته، لأن كل رسول لابد له من آيات تدلّ على صدقه. وكانت آيته عليه السلام: إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص. قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49].
وفي موضعِ آخر يقول تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} [آل عمران: 50، 51].
جاء في الحديث الشريف: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء أخوة لعلات، وإن أَولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي"(1).
وهذا الدين هو الإِسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإِسلام.
قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ
(1) (انظر (صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ج 6/ 477 كتاب الأنبياء، باب فضائل عيسى عليه السلام.
قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71 - 72].
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة:130 - 131].
وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84].
وقال تعالى عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
وقال تعالى عن حواريي عيسى عليه السلام: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111].
قال الشيخ: (فالإِسلام هو الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره عن عبادته كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته وحده وطاعته وحده)(1).
فهذا التوحيد الذي جاءت به الرسل يُخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وتبين لنا أن دعوة كل نبي هي دعوة التوحيد مِع اختلاف الشرائع، وصدق الله إذ يقول:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
…
(1)(الرسالة التدمرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية/ 10).