المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولتعريف أهل الفترة - أهل الفترة ومن في حكمهم

[موفق أحمد شكري]

الفصل: ‌الفصل الأولتعريف أهل الفترة

‌الفصل الأول

تعريف أهل الفترة

قال صاحب لسان العرب: الفترة في اللغة: الانكسار والضعف، وفتر الشيء والحر وفلان، يفتُر ويفتِر فتورًا وفتارًا: سكن بعد حدّة ولانَ بعد شدة، وفتره الله تفتيرًا وفتَّر هو.

وقيل: فتر أي أقام وسكن، وقيل فتّر المطر: فرغ ماؤه وكفّ وتحيّر. والفَتَر: هو الضعف، وفتر جسمه: لانت مفاصله، وتقول: أجد في نفسي فترة وهي كالضعفة، ويقال للشيخ الكبير: قد علته كبره وعرته فترة. وأفتره الداء: أي أضعفه، وجاء في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن كل مسكر ومفتِّر"(1) فالمسكر الذي يزيل العقل، والمفتِّر: هو الذي يفتِّر الجسم.

ويقال: ماء فاتر إذا سكن بعد حره، وطرْف فاتر: أي فيه فتور، أي ليس حادّ النظر (2).

(1) رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه ج 4 ص 90 كتاب الأشربة. وقال السيوطي: هو صحيح، انظر فيض القدير على شرح الجامع الصغير. وقال العراقي: إسناده صحيح.

(2)

لسان العرب -ج 5 ص 43 - ابن منظور.

ص: 57

والفِتر ما بين السبابة والابهام (1)، وفترُ الشيء قدره، وتقول افتراه الداء أي أضعفه، وأنشد ابن مقبل (2):

تأمّل خليلي هل ترى ضوء بارق

بيمان رمته ريح نجد ففترا (3)

وقال الأخطل (4):

وتجردت بعد الهدير وصرحت

شهباء ترمي ثوبها بفتار

والفترة: فعلة من قول القائل فتر هذا الأمر يفتر فتورًا، وذلك إذا هدأ وسكن، وتقول فتر الرجل عن علمه عما كان عليه من الجد فيه.

أما في الاصطلاح: هي ما بين كل نبيين، فقد ذكر ابن كثير (5) في تفسيره تعريف الفترة فقال: هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم (6)، وذكر السبكي (7) في تعريف الفترة: هي ما كانت بين رسولين لم يُرسل إليه الأول ولم يُدرِك الثاني (8).

(1) ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير ج 3 ص 244.

(2)

ابن مقبل: هو تميم بن أبي مقبل من بني عجلان، أبو كعب، شاعر جاهلي أدرك الإِسلام وأسلم، فكان يبكي أهل الجاهلية. عاش نيفًا ومائة سنة وعُدّ من المخضرمين، وكان يهاجي النجاشي الشاعر، توفي سنة 37 هـ./انظر (الأعلام ج 2 ص 71 - الزركلي).

(3)

أساس البلاغة 462 - الزمخشري.

(4)

الأخطل: هو غياث بن غوث ين الصلت بن عمر، ولد سنة 19 هـ، شاعر نصراني، اشتهر في عهد بني أمية وكان شاعرهم، وكان يتهاجى مع جرير والفرزدق، توفي سنة 90 انظر (الأعلام ج5 ص 318).

(5)

ابن كثير: هو إسماعيل بن عمر القرشي الشافعي أو البصروي الدمشقي. أبو الفداء، عماد الدين، حافظ مؤرخ فقيه مفسر، من أهم مصنفاته: تفسيره، والبداية والنهاية، وشرح البخاري ولم يكمله، توفي رحمه الله سنة 774/ انظر (الأعلام ج 1ص 317).

(6)

تفسير القرآن العظيم ج 2 ص 35.

(7)

السبكي: هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، السبكي، الشافعي، ولد سنة 727، وجرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله توفي سنة 771 هـ. انظر (الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/ 184).

(8)

جمع الجوامع ج 1ص 63.

ص: 58

وقد ذكر الألوسي (1) في تفسيره: أجمع المفسرون بأن الفترة هي انقطاع ما بين رسولين (2).

وقيل الفترة ما بين إسماعيل ومحمد عليهما السلام، وقد اختار الشربيني في حاشية جمع الجوامع أن أهل الفترة هم العرب من انقطاع رسالة سيدنا إسماعيل إلى زمن نبينا محمَّد (3).

وهذا القول فيه تخصيص أهل الفترة بالعرب، وهذا التخصيص ليس له دليل يستند إليه، والحق أن أهل الفترة من كانوا بين رسولين لم يُرسَل إليهم الأول ولم يدرِكوا الثاني (4)، وإنما هناك فترات. كالفترة التي حصلت بين نوح وإدريس (5)، والفترة التي حصلت بين عيسى ومحمد كما سبق عن ابن كثير والألوسي وغيرهما من العلماء، لذا نرى قوله تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] نراه يؤيد ما ذهبنا إليه من أن الفترة عامة، ولم تخصص بقوم من الأقوام ولا بزمن من الأزمان، فهذه الآية التي ذكرناها تخاطب أهل الكتاب واليهود خاصة، لأنها نزلت في المدينة، وحيث لا يوجد في المدينة من أصحاب الكتب السابقة إلا اليهود، ولو نظرنا إلى سبب نزول هذه الآية لعرفنا أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يرسَل إلى أهل الفترة من العرب فقط بل أرسل إلى العرب وغيرهم من أهل الكتاب وكل من لم تبلغه الدعوة.

(1) الألوسي: هو أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي، ولد بالكرخ سنة 1217 هـ. حفظ القرآن صغيرًا وكان محبًا للعلم، شغل منصب مفتي الحنفية ببغداد، كانت حياته مضطربة من حسد وسجن وفقر، له كثير من الآثار العلمية منها المطبوع والمخطوط/ انظر (الألوسي مفسرًا ص 66) الدكتور محسن عبد الحميد.

(2)

روح المعاني ج 6 ص 103 الألوسي.

(3)

جمع الجوامع 1/ 63 - السبكي.

(4)

المصدر السابق 1/ 63 - السبكي.

(5)

تفسير القرآن العظيم المسمى بالسراج المنير 2/ 289.

ص: 59

نزلت هذه الآية لتبين لأهل الكتاب الطريق الصواب بعد أن انحرفوا عن الحق واتبعوا هوى النفس والشيطان، وبعد ما فرطوا في أمور دينهم والخروج على القيم والأخلاق والآداب.

{يُبَيِّنُ لَكُمْ} هذا في الآية تفيد العموم، ويدخل فيه ما يبينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإِقامة الحجة عليكم، ولو لم يكن رسولًا من عند الله لما عرف ذلك، وحتى تقوم عليكم الحجة، وحتى لا تقولوا يوم القيامة {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (1).

وسبب نزول الآية كما ذكر ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإِسلام فرغّبهم فيه وحذّرهم فأبَوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة (2) وعقبة بن وهب (3): يا معشر يهود اتقوا الله فوالله لتعلمنّ أنه رسول الله وقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا؛ إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده. فأنزل الله هذه الآية للرد عليهم (4).

وأوضح الفترات وأبرزها لنا هي الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد عليهما السلام.

(1) تفسير المنار 6/ 319 محمَّد رشيد رضا.

(2)

سعد بن عبادة: هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الخزرجي الأنصاري، سيد الخزرج. يكنى بأبي ثابت، وأمه عمره بنت معوذ، ولها صحبة، شهد سعد العقبة وكان أحد النقباء، وكان يحمل راية الأنصار، توفي رضي الله عنه سنة 15 للهجرة. انظر (الإصابة 2/ 30).

(3)

عقبة بن وهب: ويقال ابن أبي وهب بن أبي ربيعة الأسدي، وهو أخو شجاع بن وهب، وكان قد شهد بدرًا، وذكر أنه كان مع أخيه في هجرة الحبشة وليس هذا بثابت - (الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 492).

(4)

لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص 88.

ص: 60

اختلاف الناس في الفترة:

وقد اختلف الناس في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد عليهما السلام إلى أقوال هي:

الأول: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة، وقال به مقاتل (1).

الثاني: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستون سنة وخمسمائة، وهو قول قتادة (2).

الثالث: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وهو قول الضحاك (3).

الرابع: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة.

وكان بعد عيسى عليه السلام أربعة من الرسل، ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب (4)، لما ورد في طبقات ابن سعد (5) عن هشام بن محمَّد بن السائب (6) عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "كان بين موسى بن

(1) مقاتل: هو مقاتل بن سليمان الأسدي، من المفسرين توفي سنة 150 هـ انظر (الأعلام 8/ 206).

(2)

قتادة: هو ابن دعامة أبو الخطاب الدوسي، حافظ قال عنه الإِمام أحمد: قتادة أحفظ أهل البصرة، وكان قد دلس في الحديث، مات بواسط بالطاعون سنة 118 (الوفيات 4/ 80).

(3)

الضحاك: هو ابن مزاحم البلخي، وكان مؤدبًا للأطفال وله مدرسة للأطفال توفي سنة 105 هـ انظر (الأعلام 3/ 310 الزركلي).

(4)

زاد المسير 2/ 319 ابن الجوزي.

(5)

انظر (طبقات ابن سعد 1/ 59) ابن سعد: هو محمَّد بن سعد الهاشمي. صاحب الطبقات وأحد الحفاظ، توفي سنة 230 تهذيب التهذيب 9/ 182.

(6)

محمَّد بن السائب: ويكنى بالكلبي، قال البخاري: الكلبي تركه يحيى، وقال ابن حبان: مذهبه متروك، ووضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، كان سبئيًا ويقول إن عليًا لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا يملؤها عدلًا. ميزان الاعتدال: 3/ 558 - الذهبي.

ص: 61

عمران وعيسى ابن مريم ألف سنةٍ وستعمائة سنة ولم تكن بينهما فترة، وأنه أُرسل بينهما ألفا نبي من بني إسرائيل سوى من أُرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمَّد عليهما السلام خمسمائة وتسع وستون سنة، فبعث في أولها ثلاثة أنبياء، وما ورد بشأن خالد بن سنان "ذلك نبي ضيّعه قومه" وقال:"بنت نبي ضيّعه قومه"(1).

وهذا القول -أي الرابع- يناقض الحديث الصحيح الذي ورد في البخاري (2) من أنه ليس هناك نبوة بين عيسى ومحمد عليهما السلام فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي"(3) وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على أنه لم يبعث بين عيسى ومحمد عليهما السلام نبي. لا من بني إسرائيل ولا من العرب، كما ورد في طبقات ابن سعد.

والحديث الذي أورده ابن سعد ليس صحيحًا، ففي سنده محمَّد بن السائب وهو كذاب، أما ما ورد بشأن خالد بن سنان، فهي أحاديث ضعيفة وهي معارضة لما في الصحيح من حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري.

وذكر ابن كثير أن هذه مرسلات لا يحتجّ بها هاهنا، وقال الهيثمي (4): وهذا الحديث معارض لما في الصحيح "أنا أولى الناس

(1) انظر (الأحاديث الضعيفة للألباني 297 - 298).

(2)

البخاري: هو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم، ولد سنة 194، نشأ يتيمًا، وله من المصنفات: الجامع الصحيح، والتاريخ، توفي رحمه الله سنة 256 انظر (التذكرة 2/ 555).

(3)

رواه البخاري/ انظر فتح الباري ج 6 ص 477 - كتاب الأنبياء باب "فضائل عيسى".

(4)

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/ 214 الهيثمي: هو علي بن أبي بكر، نور الدين، أبو الحسن، ولد سنة 735 هـ، وكان شديد الإنكار على المنكر، محبًا للغرباء وأهل الدين والعلم، وله مصنفات عديدة منها:"مجمع الزوائد"، (ذيل تذكرة الحفاظ ص 429).

ص: 62

بعيسى بن مريم والأنبياء إخوة لعلات وليس بيني وبينه نبي".

والراجح من هذه الأقوال الأربعة الآنفة الذكر القول الأول. الذي قال به مقاتل عن ابن عباس، لما أيده البخاري في صحيحه، فقد جاء في الصحيح:"أن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة"(1).

والله أعلم.

(1) أخرجه البخاري/ انظر فتح الباري ج 7 ص 277، كتاب مناقب الأنصار باب إسلام سلمان.

ص: 63