الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
" حكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين
"
قبل أن نبدأ في البحث لابد لنا من تمهيد نبين فيه الحكم الشرعي وما يترتب عليه من تعريف المكلف وشروطه.
اتفق العلماء على أن جميع الأحكام التكليفية والوضعية، مصدرها الكتاب والسنة، والله سبحانه وتعالى هو الحاكم {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
فالحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين (1). والتكليف في اللغة: إلزام ما فيه كلفة، يقال: كلفت هذا الأمر وتكلفته، والكلفة ما تكلفت به من أمر في نائبة أو حق (2).
(1) إرشاد الفحول -الشوكاني ص 6.
(2)
لسان العرب -ابن منظور- 9: 307.
جاء في الحديث الشريف الذي يرويه عمر رضي الله عنه (1) يقول: "نهينا عن التكلف"(2).
والمكلَّف في الاصطلاح: هو الشخص الذي تعلق حكم الشارع بفعله (3).
شروط المكلَّف:
1 -
أن يكون قادرًا على فهم الدليل، لأن التكليف خطاب. وخطاب من لا عقل ولا فهم له محال، والقدرة على الفهم تكون بالعقل، لأن العقل هو أداة الفهم والإِدراك، وبه يمكن الامتثال، ولما كان العقل من الأمور الخفية، ربط الشارع التكليف بأمر ظاهر منضبط يدرك بالحس، وهو البلوغ، بأن يكون عاقلًا، ويعرف ذلك بما يصدر عنه من الأقوال والأفعال، بحسب المألوف بين الناس، فمن بلغ الحلم ولم يظهر خلل في قواه العقلية والفعلية والقولية صار مكلفًا (4).
2 -
أن يكون أهلًا للتكليف، والأهلية هي الصلاحية. قال تعالى:{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26].
والأهلية تتحق بالعقل والفهم.
3 -
أن يكون عالمًا بما كُلِّف به أو متمكنًا من العلم، ليستطيع الفعل والترك (4) ، لأن التكليف بالمستحيل، والتكليف بما لا يقدر عليه المكلف محال.
(1) هو عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي، أبو حفص أسلم قبل الهجرة، وهو أول من وضع للعرب التاريخ الهجري، ولقب بالفاروق، قتله أبو لؤلؤة المجوسي سنة 23 هـ بطعنة خنجر مسمومة. انظر (الاستيعاب، لابن عبد البر، 3: 1144).
(2)
أخرجه البخاري، انظر (فتح الباري 13: 265).
(3)
الوسيط في الفقه الإسلامي، للزحيلي، 165.
(4)
نظرية التكليف، للجبائي، تحقيق عبد الكريم عثمان ص 307.
أقسام أهل الفترة وتحرير محل النزاع:
ينقسم أهل الفترة إلى قسمين:
القسم الأول: من بلغته الدعوة.
القسم الثاني: من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة.
ويشمل القسم الأول نوعين هما:
1 -
من بلغته الدعوة، ووحّد ولم يشرك.
2 -
من بلغته الدعوة ولكنه غيّر وأشرك.
فمن وحّد ولم يشرك بالله شيئًا كقس بن ساعدة (1) الأيادي، الذي ذكره ابن كثير في بدايته، وقسّ هذا له خطبة مشهورة من كلماتها "أقسم قسٌّ قسمًا لاريب فيه أن لله دينًا هو أرضى لكم من دينكم"(2).
وكذلك "زيد بن عمرو بن نفيل"(3) الذي كان يقول: "اللهم إني لو أعلم أحبَّ الوجوه إليك عبدتك، ولكني لا أعلم -ثم يسجد على راحلته"(4).
وكان يقوِل:
أربًّا واحدًا أم ألفُ رَبٍّ
…
أدين إذا تقسّمت الأمور (5)
وقد أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، وكان يتحنث في غار حراء، وكان لا
(1) هو قسّ بن ساعدة بن عمرو بن مالك بن إياد، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم كان أسقف نجران. ويقال: إنه أول عربي خطب على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه "أما بعد" أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وسئل عنه بعد البعثة فقال:"يُحشر أمة وحده" توفي سنة 23 قبل الهجرة. انظر (الأعلام 6: 39).
(2)
البداية والنهاية -ابن كثير، 2:230.
(3)
هو زيد بن عمرو بن نفيل أحد حكماء العرب، وكان يكره عبادة الأوثان، رحل إلى الشام باحثًا عن دين، ثم عاد إلى مكة ليعبد الله على دين إبراهيم، كان عدوًّا لدودًا لوأد البنات، وهو والد سعيد بن زيد الصحابي الجليل انظر (الأعلام 3/ 100).
(4)
البداية والنهاية -ابن كثير- 2/ 237.
(5)
الأعلام للزركلي: 3/ 100.
يأكل مما ذبح على النصب، فذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة فقال:"غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم"(1).
وهذا النوع ليس محلًا للنزاع وذلك لورود النصوص التي تدل على أنهم ماتوا على التوحيد.
والنوع الثاني: بلغته الدعوة ولكنه أشرك وغيّر ولم يوحد، وأمثلة ذلك كثيرة منها:
1 -
عمرو بن لحي (2): فهو أول من سن عبادة الأصنام؛ فبحّر البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي (3) قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن لحي بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار (4).
وهذا محمول على أنه غير وبدل وأشرك بعد أن بلغته الدعوة.
2 -
وكما ورد في عبد الله بن جدعان (5).
"فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: لا، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"(6).
(1) انظر (فتح الباري: 7/ 147).
(2)
هو عمرو بن لحي بن عامر الأزدي، أوّل من غيّر في دين إسماعيل، قدم الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام وأعجب بها، فأخذ منها وأتى مكة ودعا الناس إلى عبادتها، وكان آنذاك سيد قومه انظر (الأعلام للزركلي 5: 257).
(3)
الحاوي للفتاوي -السيوطي- 2: 392.
(4)
أخرجه مسلم -انظر (النووي- 17: 188 كتاب الجنة باب الصفات).
(5)
هو عبد الله بن جدعان التميمي القرشي أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكانت له جفنة يأكل منها الطعام القائم والراكب. انظر (الأعلام 4: 204).
(6)
أخرجه مسلم، انظر (النووي 3: 86 باب من مات على الكفر لا ينفعه عمل).
3 -
ما ورد في أبي (1) الرسول صلى الله عليه وسلم، الحديث الذي أخرجه مسلم "أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا دعاه فقال له: إن أبي وأباك في النار"(2).
وأما ما ورد بشأن أمه (3) صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي"(4). فهذا الحديث يحتمل أنها بلغتها الدعوة ويحتمل أنها لم تبلغها الدعوة، وهذا النص ليس بصريح لأن النهي عن الاستغفار لها حيث أنها لم تمت على التوحيد سواء بلغتها الدعوة أم لم تبلغها، والله أعلم.
وهذا النوع ليس محلًا للنزاع لورود النصوص التي تفيد بأن الدعوة قد بلغتهم.
وقد ذكر السيوطي في الحاوي أن الله سبحانه وتعالى أحيا له أبويه فأسلما على يديه ثم ماتا (5).
وقد نقل السيوطي ذلك عن الخطيب البغدادي في اللاحق والسابق والسهيلي في الروض الأنف (6)، والقرطبي في التذكرة (7).
وقد تناقلت هذا الكلام بعض كتب السيرة وغيرها من كتب التاريخ التي تحمل الغث والسمين.
مع أن هذا الكلام لا دليل على صحته إطلاقًا، وإنما هو من التخرصات التي تنتشر عند عوام الناس.
(1) وهو عبد الله بن عبد المطلب، توفي والرسول صلى الله عليه وسلم في بطن أمه. انظر "الطبقات- لابن سعد 99:1).
(2)
أخرجه مسلم، انظر (النووي 3: 79 باب من مات على الكفر).
(3)
وهي آمنة بنت وهب توفيت عنه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنوات، انظر (الطبقات 1: 99).
(4)
أخرجه مسلم، انظر (النووي 7: 45 باب استئذان النبي لقبر أمه).
(5)
الحاوي للفتاوي 2/ 353 السيوطي.
(6)
الروض الأنف 2/ 185 السهيلى.
(7)
التذكرة 1/ 14 القرطبي.
وشيخ الإِسلام ابن تيمية يرد على هذه التخرصات التي تناقلتها بعض الكتب فيقول: "لم يصح ذلك عن أهل الحديث، بل أهل العلم متفقون على أن ذلك كذب مختلق، ولو كان صحيحًا لتناقلته كتب الصحاح لأنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة لما فيه من إحياء للموتى والإِيمان بعد الموت، وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة والإِجماع. قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. فبيّن الله سبحانه وتعالى أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وجاء في صحيح مسلم أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أين أبي؟ فقال: إنه في النار، فلما قفا دعاه، فقال له: إن أبي وأباك في النار"(1). وكذلك حديث الاستغفار، فلو كان الاستغفار -جائزًا بحقهما، لم ينهه عن ذلك -أي الاستغفار- فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنًا فإن الله يغفر له. ولا يكون الاستغفار ممتنعًا. أما زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأمه، فإنها كانت بطريقه بالحجون (بمكة) أما أبوه فقد دفن بالشام، فكيف أحياه له، ولو كان أبواه مؤمنين لكانا أحق بالشهرة من عميه الحمزة والعباس (2) والله أعلم.
القسم الثاني: (من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة من هذا كله).
وأكثر أهل الجاهلية من هذا النوع، قال تعالى:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3].
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ
(1) أخرجه مسلم، انظر (النووي 3: 79 باب من مات على الكفر).
(2)
الفتاوى -لابن تيمية- 4: 324.
رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46].
وهذا القسم هو محل نزاع بين العلماء.
أقوال العلماء في حكم هذا القسم:
للعلماء في عاقبة هؤلاء ومصيرهم أقوال ثلاثة هي:
1 -
من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجيًا.
2 -
من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار.
3 -
من مات ولم تبلغه الدعوة فإنه يمتحن بنار في عرصات يوم القيامة.
والقول الأول: قال به الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، وبعض الشافعية من الفقهاء (1).
واستدل هؤلاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجيًا وعاقبته الجنة بالأدلة الآتية:
1 -
قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ} [الإسراء: 15].
ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يعذب أحدًا قبل بعثة الرسل، وأهل الفترة لم يبعث إليهم رسول، فدل على أنهم لا يعذَّبون وأنهم في الجنة.
2 -
قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
(1) الحاوي -للسيوطي- 2: 353.
ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قطع الحجة على الناس بإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين حتى لا يعتذروا يوم القيامة بأنه لم يأتهم رسول ولا نذير ينذرهم من هذا اليوم، وأهل الفترة لم يأتهم نذير ولا بشير، فالحجة قائمة معهم فدلت الآية على أنهم لا يعذبون فهم في الجنة.
3 -
قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 - 9].
وجه الدلالة أن التوبيخ الذي وجهته خزنة النار لأهل النار بقولهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} يدل هذا على أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، وأهل الفترة لم ينذَروا فدل على أنهم لا يعذبون فهم في الجنة.
4 -
ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن خزنة جهنم يوبخون الكفار بعدما سيقوا إليها، ويسألونهم عن مجيء الرسل إليهم، وكان جواب هؤلاء الكافرين إليهم، بلى. وأهل الفترة لم تأتهم رسل، لذا فهم غير مؤاخذين فهم في الجنة.
5 -
ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى خاطب خلقه من الجن والإِنس
بعد أن أشهدهم على أنفسهم، وقد أقروا بتلك الشهادة واعترفوا أن الله سبحانه وتعالى أرسل إليهم رسلًا يبلغونهم آيات ربهم وينذرونهم لقاءه يوم القيامة، وأهل الفترة لم تأتهم رسلٌ لذا فهم في الجنة.
6 -
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا من خلقه، فلا يمكن أن يعذب أمة دون أن يرسل إليها رسولًا فتكذبه فتكون ظالمة بهذا التكذيب؛ وعندئذ تستحق عقاب الله تعالى لها بإهلاكها.
وأهل الفترة لم تأتهم رسل ولم يكذبوا الرسل، لذا فهم معذورون ولا يستحقون عقاب الله، فهم في الجنة.
7 -
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19].
ووجه الدلالة، أن الله سبحانه وتعالى أخبر أهل الكتاب بأنه قد أرسل إليهم رسولًا يبيِّن لهم أمور دينهم ويحذِّرهم. من عقابه إن عصوه، وقد قامت الحجة عليهم. وأهل الفترة معذورون حيث لم يأتهم رسول لذا فهم غير مؤاخذين، فهم في الجنة.
ومن الأدلة التي استدلوا بها أن كلمة "كلما" التي في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} تفيد العموم.
يقول أبو حيان (1) في البحر المحيط: "إن لفظة (كلما) تدل على
(1) هو محمد بن يوسف بن حيان، الإمام أبو حيان الأندلسي، ولد بمطقشاش "مدينة قريبة من غرناطة" سنة 654 هـ ومات في القاهرة سنة 745 هـ نحوي لغوي مفسر محدث مؤرخ، =
عموم الأزمان والإِلقاء، فتعمّ الملقون الذين جاءتهم الرسل" (1).
8 -
جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب".
وفي رواية أخرى: "وما أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، وما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"(2).
ووجه الدلالة في هذا الحديث الشريف أن الله سبحانه وتعالى يقبل العذر من عباده، لذا أرسل الرسل إليهم منذرين ومبشِّرين وأنزل الكتب ليقطع الحجة عليهم.
وأهل الفترة معذورون لعدم إرسال الرسل إليهم، لذا فهم في الجنة.
والقول الثاني: وهو أن من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار.
قال به المعتزلة (3) وجماعة من الحنفية الماتوريدية (4) -قالوا بأنهم مكلفون وإن لم يرسَل إليهم رسول، وعليهم أن يستدلوا بعقولهم، فما استحسنه العقل فهو حسن، وما قبحه العقل فهو قبيح. وإن الله سبحانه يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسَل إليه رسول لقيام الحجة عليه بالعقل، وهذا يدل على أن هناك ثوابًا وعقابًا قبل بلوغ الدعوة وبعثة الرسل.
= روي أنه سمع النحو من أربعمائة شخص، له من المصنفات العديد وأهمها البحر المحيط. انظر (طبقات المفسرين للداوودي 2: 286).
(1)
البحر المحيط 8/ 296 أبو حيان.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب لا شخص أغير من الله 13/ 399.
(3)
جمع الجوامع -السبكي- 1/ 62.
(4)
جمع الجوامع -السبكي- 1/ 62.
أدلتهم:
واستدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه بما يلي:
1 -
قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18].
ووجه الدلالة في الآية الكريمة: أن من يموت كافرًا فهو في النار سواء أُنذر أم لم ينذر، وأهل الفترة في النار لأنهم ماتوا على الشرك.
2 -
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91].
ووجه الدلالة أن الكافر معذَّب لا محالة في ذلك، وأهل الفترة الذين ماتوا على الشرك كفار، فهم في النار.
3 -
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
ووجه الدلالة أن الله سبحانه أخبر أن الشرك غير مغفور وأما غيره فهو تحت المشيئة، وأهل الفترة مشركون، فلا يغفر لهم، فهم في النار.
4 -
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161].
ووجه الدلالة أن من مات على الكفر فهو مبعد عن رحمة الله وأهل الفترة ماتوا على الشرك فهم في النار.
5 -
ومن الأدلة التي استدلوا بها ما ورد في صحيح مسلم (1) من
(1) هو أبو الحسين النيسابوري، أجمعت الأمة على قبول صحيحه، أخذ العلم عن مشاهير =
أحاديث تدل على أن أهل الفترة لا يُعذرون وإن لم يأتهم نذير، ومن هذه الأحاديث:
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استأذنتُ ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي"(1).
ووجه الدلالة في هذا الحديث الشريف أن عدم الإِذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه يدل على أنها في النار. وهي من أهل الفترة؛ فدلّ على أن من مات من أهل الفترة على الشرك فهو في النار.
ب- وحديث أنس أن رجلًا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار" (2).
وجه الدلالة من هذا الحديث الشريف: أن الكافر في النار، وأهل الفترة كفار فهم في النار.
6 -
واستدلوا بالعقل، واحتجوا بما أخبر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام. قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً (2) إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74].
وكذلك استدلاله عليه السلام بالنجوم ومعرفة الله بها قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78].
واحتجوا كذلك بمحاجّة الرسل لأقوامهم قال تعالى على لسان رسله بما يرشدهم بالعقل {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
= الرجال في الحديث، وكان رحمه الله حرّ الضمير واللسان، دافع عن البخاري بكل ما أوتى من قوة، توفي سنة 261 هـ انظر (تذكرة الحفاظ- الذهبي 2: 588).
(1)
أخرجه مسلم -انظر (النووي -7: 45 باب استئذان النبي لقبر أمه/ القشيري).
(2)
صحيح مسلم على النووي -باب من مات على الكفر فهو في النار ج 3 ص 75.
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10]. وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
فلو أنهم انتفعوا بعقولهم بمعرفة الخالق سبحانه وتعالى قبل ورود الشرع لم يعبدوا الأوثان ولكنهم لم ينتفعوا فعبدوا الأوثان فدل على أنهم في النار.
والقول الثالث: وهو أن أهل الفترة يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله سبحانه وتعالى بدخولها، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها فقد عصى الله تعالى، فيدخله الله فيها.
وهذا القول قال به السلف وجمهور الأئمة واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية (1)، وتلميذه العلامة الإِمام ابن القيم (2)، والإِمام ابن كثير (3)، والإِمام ابن حجر العسقلاني (4). وحكاه أبو الحسن الأشعري (5) عن أهل السنة والجماعة. وقال به الإِمام أبو محمد بن حزم رحمه الله (6)، واختاره الشيخ محمد أمين الشنقيطي (7) في أضواء البيان (8).
(1) انظر (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح -ابن تيمية- 1: 312).
(2)
انظر (طريق الهجرتين -ابن القيم- ص 689).
(3)
انظر (تفسير القرآن العظيم -ابن كثير- 3: 35).
(4)
انظر (فتح الباري -ابن حجر- 3: 445).
(5)
هو علي بن أبي البشر، ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري، ولد سنة 260 هـ، كان إمامًا للمعتزلة ثم شرح الله صدره للإِسلام وخلع الاعتزال واتبع الحديث، وله العديد من المصنفات توفي سنة 339 هـ، انظر (طبقات الشافعية -السبكي- 3: 347).
(6)
انظر (الفصل في الملل والأهواء والنحل -ابن حزم 4: 74).
(7)
هو محمد الأمين محمد المختار المعروف بالحبنكي، ولد سنة 1305 هـ، كان رحمه الله فقيهًا أصوليًا محدِّثًا أديبًا مفسِّرًا، عمل في التدريس بالجامعة الإسلامية وتولى القضاء في المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة، توفي رحمه الله سنة 1393 هـ.
(8)
انظر (أضواء البيان -الشنقيطي- ج 3 ص 483).
أدلتهم:
استدل هؤلاء الأئمة على ما ذهبوا إليه بما يلي:
1 -
الحديث الذي أورده أحمد (1) في مسنده عن الأسود بن سريع (2)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة. فأما الأصم فيقول: رَبِّ، قد جاء الإِسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب، قد جاء الإِسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإِسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني كتاب ولا رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا"(3).
2 -
الحديث الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة، بالمولود وبالمعتوه وبمن مات في الفترة وبالشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار ابرزي، فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلًا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، قال: ويقول لهم ادخلوا هذه، ويقول من كتب عليه الشقاء: أنى ندخلها ومنها كنا نفر؟! فيقول الله: فأنتم لرسلي أشد تكذيبًا. قال: وأما من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها، فيدخل
(1) هو الإمام أحمد بن حنبل الشيباني المروزي البغدادي، شيخ الإسلام، ولد سنة 164 هـ وقال عنه الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت رجلًا أعلم ولا أفضل من أحمد بن حنبل، توفي رحمه الله سنة 241 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ الذهبي -2: 431).
(2)
هو الأسود بن سريع التميمي، كان شاعرًا وكان في أول الإِسلام قصاصًا، توفي في عهد معاوية، وقيل مات سنة 42 هـ. انظر (الإِصابة -ابن حجر- 1: 24).
(3)
رواه الطبراني بنحوه، وذكر بعده إسنادًا إلى أبي هريرة قائلًا بمثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره "فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن لم يدخلها سحب إليها" هذا لفظ أحمد ورجاله من طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال الصحيح -انظر (مجمع الزوائد -للهيثمي- 7: 216).
هؤلاء الجنة وهؤلاء إلى النار" (1).
3 -
عن أبي سعيد الخدري (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول، ويقول المعتوه: أي رب، لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًا، ويقول المولود: لم أدرك العمل قال: فيرفع لهم النار فيقال، رِدوها، أو قال: ادخلوها. فيدخلها من كان في علم الله سعيدًا أن لو أدرك العمل، قال: ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًا أن لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى:"إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب؟ "(3).
4 -
عن معاذ بن جبل (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرًا، فيقول الممسوخ عقلًا: يا رب، لو آتيتني عقلًا ما كان من آتيته عقلًا بأسعد مني، ويقول الهالك بالفترة: يا رب، لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه عهد بأسعد بعبده مني، ويقول الهالك صغيرًا: لو آتيتني عمرًا ما كان من آتيته عمرًا بأسعد مني. فيقول الرب إن آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك، فيقول اذهبوا إلى النار. فلو دخلوها ما ضرتهم. فيخرج عليهم قوابس (5) يظنون أنها أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعًا فيقولون: خرجنا يا رب
(1) رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وفيه الليث بن أبي سليم وهو مدلس وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح. انظر:(مجمع الزوائد -الهيثمي- 7: 216).
(2)
هو أبو سعيد الخزرجي الأنصاري، كان من الحفاظ المكثرين وأخباره تشهد له، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق وهو ابن خمس عشرة سنة، مات رحمه الله سنة أربع وسبعين هجرية، انظر (الاستيعاب -ابن عبد البر- 4: 89).
(3)
رواه البزار وفيه عطية وهو ضعيف وبقية رجاله رجال الصحيح، انظر (مجمع الزوائد -الهيثمي- 7: 216).
(4)
هو معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي، الإِمام المقدم في علم الحلال والحرام، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وكتب إلى أهلها إني أرسلت إليكم خير أهلي، كانت وفاته بالطاعون بالشام سنة 17 هـ انظر (الإصابة 3: ص).
(5)
قوابس جمع قبس وهي القطعة من النار.
نريد دخولها فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيأمرهم ثانية فيرجعون كذلك، فيقولون مثل قولهم، فيقول تبارك وتعالى قبل أن تخلقوا علمتُ ما أنتم عاملون وإلى علمي تصيرون. فتأخذهم النار" (1).
المناقشة والترجيح:
وبعد التأمل والنظر أرى أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو القول الثالث وهو أن أهل الفترة يُمتحنون، ولا ينافيه ما استدل به أهل الفريقين الأول والثاني.
أما ما استدل به الفريق الأول بما يفيد نفي العذاب عن أهل الفترة، فهذه الأدلة لا تدل على أنهم ناجون وأنهم في الجنة. وأما أهل الفترة فلا تشملهم هذه النصوص لأن هناك نصوص أخرى دلت على أنهم يُمتحنون في عرصات القيامة، وهي النصوص التي استدل بها أهل الفريق الثالث. والله أعلم.
وأما ما استدل به الفريق الثاني من نصوص تفيد أنهم في النار فيُجاب عنها بأن هذه النصوص عامة ولم تخصص، وأما أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة فقد وردت فيهم نصوص تخصهم فيخرجون من هذا العموم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمعلوم أن الحجة تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه من القرآن دون ما لم يبلغه، فكيف فيمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب فهذا من باب أولى"(2).
وأما الأحاديث التي احتجوا بها كحديث "استأذنتُ ربي" وحديث:
(1) رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه عمرو بن واقد، وهو متروك، قال عنه البخاري وغيره: رُمي بالكذب. وبقية رجال الحديث رجال الصحيح. انظر (مجمع الزوائد - 7: 217)
(2)
الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح ج 1 ص 310.
"إن أبي وأباك في النار" فهذه نصوص لا يحتجّ بها لأنها في غير محل النزاع، ولأنها محمولة على أن الدعوة قد بلغتهم، ومحل النزاع عندنا هو فيمن لم تبلغه الدعوة والله أعلم.
وأما استدلالهم بالعقل فلا يصحّ لأن العقل لا يدرك به التكليف على انفراده. يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: "والصواب أن معرفته بالسمع واجبة -التكليف- وأما بالعقل فقد يعرف وقد لا يعرف وليست معرفته بالعقل ممتنعة ولا هي واجبة"(1).
وبعد عرضنا لأدلة كل فريق ومناقشتها يظهر لنا ترجيح القول الثالث بأن أهل الفترة يمتحنون، وهو اختيار أهل التحقيق من العلماء. قال الإِمام أبو محمَّد بن حزم رحمه الله: "إن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه، وأنه تعالى لا يعذب أحدًا حتى يأتيه رسول من عند الله، فصحّ بذلك أن من لم يبلغه الإِسلام أصلًا فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوقد لهم نارًا يقال لهم ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا (2).
ويقول ابن القيم رحمه الله: "إن العذاب يستحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بموجبها.
والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة العمل بموجبها.
فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله سبحانه وتعالى التعذيب عنه حتى تقوم الحجة بإرسال الرسل" (3).
ويقول ابن حجر: "فقد صحت مسألة الامتحان في حق من مات
(1) المصدر السابق ج 1 ص 310.
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 60 ابن حزم.
(3)
طريق الهجرتين 5/ 7 ابن القيم.
في الفترة والمجنون" (1).
ويقول الشيخ الشنقيطي: "والجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف لأن إعمار الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع إلا بهذا وهو القول بالعذر والامتحان"(2).
التكليف في الآخرة:
تنبني على هذه المسألة -مسألة امتحان أهل الفترة في الآخرة- مسألة أخرى وهي: هل الآخرة دار تكليف أم لا؟.
للعلماء في هذه المسألة قولان:
الأول: ذهب كل من شيخ الإِسلام ابن تيمية (3)، وتلميذه الإِمام العلامة ابن القيم (4)، والإِمام ابن حجر العسقلاني (5)، والإِمام ابن كثير (6)، والإِمام أبو محمَّد بن حزم (7)، وغيرهم من العلماء إلى إثبات التكليف في الآخرة وأن كون الآخرة دار جزاء لا يتنافى ذلك من أن يكون تكليف في عرصاتها.
الثاني: ذهب ابن عبد البر (8) وجماعة من المالكية إلى أنه لا تكليف في الآخرة وأن الآخرة دار جزاء لا دار تكليف (9).
(1) فتح الباري ج 3 ص 246 كتاب الجنائز باب ما قيل في أطفال المشركين.
(2)
مراقي أبي السعود ص 88 الشيخ محمَّد أمين الشنقيطي.
(3)
مختصر الفتاوى المصرية 646 ابن تيمية.
(4)
طريق الهجرتين 695 ابن القيم.
(5)
فتح الباري ج 3 ص 486 ابن حجر.
(6)
تفسير القرآن العظيم ج 3 ص 35 ابن كثير.
(7)
الفصل في الملل والأهواء والنحل ابن حزم ج 4 ص 60.
(8)
هو ابن عبد البر أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي، ولد سنة 318 هـ، وطلب العلم والحديث وافتتن به، وكان مع تقدمه بعلم الأثر وتبصره بالفقه فقد تولى قضاء لشبونه، له العديد من المصنفات منها الاستيعاب، التمهيد، توفي رحمه الله سنة 463 هـ انظر (تذكرة الحفاظ للذهبي ج 3 ص 1128).
(9)
تجريد التمهيد 326 ابن عبد البر.
أدلة الفريق الأول القائلين بالتكليف:
استدل الفريق الأول بما يلي:
أ- حديث الأسود بن سريع: "أربعة يحتجون يوم القيامة"(1).
ب- حديث أنس (2) رضي الله عنه: "يؤتى بأربعة يوم القيامة"(3).
ب- حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا"(4).
د- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "يأتي الهالك بالفترة"(5).
هـ - قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43].
وجه الدلالة في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه يدعو أقوامًا إلى السجود يوم القيامة، وهذا تكليف.
و- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا"(6).
(1) ورد ذكر الحديث وتخريجه ص 78 من الرسالة.
(2)
أنس: هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم، خادم رسول الله، وأحد المكثرين من الرواية، جاءت به أمه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعمره عشر سنين، وخرج في معركة بدر مع رسول الله، ولكنه لم يقاتل، وشهد الفتوح، ثم سكن في البصرة حتى مات فيها، وقيل هو آخر من مات من الصحابة توفي سنة 90 هـ انظر (الإصابة 1/ 71).
(3)
انظر ص 78 من الرسالة.
(4)
انظر ص 79 من الرسالة.
(5)
انظر ص 79 من الرسالة.
(6)
أخرجه البخاري انظر (الفتح كتاب التفسير -باب يوم يكشف عن ساق ج 8 ص 663).
ز- عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم .... فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك يجمع الله الناس فيقول من كان يعبد شيئًا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر ويتبع من كان يعبد الطاغوت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم ربهم في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فيتبعونه، ويُضرب جسر جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون أول من يجيز ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم منهم الموبق (1) بعمله، ومنهم المخردل (2) ثم ينجو. حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يُخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله أمر ملائكته أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود فيخرجونهم قد امتحشوا (3) فيُصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول يا رب قد قشبني (4) ريحها، وأحرقني ذكاؤها (5)، فاصرف وجهي عن النار فلا يزال يدعو الله فيقول لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره فيقول لا وعزتك، لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلى باب الجنة، فيقول أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فلا يزال يدعو فيقول لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره؟
(1) الموبق: الهالك.
(2)
المخردل: الهاوي.
(3)
امتحشوا: احترقوا.
(4)
القشب: السم.
(5)
ذكاؤها: لهيبها.
فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي الله ما شاء من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنة، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول: رب ادخلني الجنة. ثم يقول أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول، فإذا دخل فيها قيل له: تمنَّ من كذا، فيتمنى، ثم يقال له: تمنَّ من كذا فيتمنى حتى تنقطع به الأماني، فيقول له هذا لك ومثله معه" (1).
ووجه الدلالة في هذا الحديث الشريف أن الله سبحانه وتعالى عندما أخذ العهود والمواثيق عليه ألا يسأله غير الذي يعطيه، فخالف تلك العهود والمواثيق وغدر بها، بسؤاله بعد ذلك.
فإن الله تعالى قد كلف هذا العبد وذلك بأخذ المواثيق والعهود منه وهذا تكليف واضح.
ح- وحديث الصراط الذي هو جسر جهنم أحدّ من السيف وأدقّ من الشعرة، يمر المؤمنون عليه كل حسب عمله، فمنهم كالبرق وكالريح المرسلة وأجاويد الخيل والراكب منهم والساعي، ومنهم المكدوش ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا (2).
يقول ابن عباس: "هو يوم كرب عظيم"(3)، وذكر القرطبي في التذكرة:"هو مقام هائل يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب"(4)، ويقول الطيبي (5): "لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء، والآخرة دار جزاء أن لا
(1) أخرجه البخاري انظر (الفتح كتاب الرقائق -باب الصراط 11/ 458).
(2)
أخرجه الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه 4/ 590.
(3)
فتح الباري 8/ 664.
(4)
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/ 198.
(5)
الطيبي: هو الحسين بن محمَّد بن عبد الله الطيبي، من علماء الحديث والتفسير والبيان، كانت له ثروة طائلة من الإرث والتجارة فأنفقها في وجوه الخير، كان شديد الرد على =
يقع في أحدهما ما يختص بالأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة وفيه ابتلاء وفتنة بالسؤال وغيره" (1).
أدلة الفريق الثاني القائلين بعدم التكليف:
أ- استدلوا بالعقل وبأنه ليس في وسع المكلف الدخول في النار لأن دخول النار من التكليف بالمحال (2).
وقد أجاب الفريق الثاني على أدلة الفريق الأول القائلين بالتكليف بأن هذه الأدلة أدلة ضعيفة ولا يحتج بها (3).
وقد رد الفريق الأول بأن هذه الأحاديث منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالحسن والصحيح، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة متصلة على هذا النمط، فأدت الحجة عند الناظر فيها (4).
قال ابن القيم: هذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها مذهب السلف (5).
ويقول ابن حجر (6): فقد ثبت بأحاديث صحيحة بأن الله سبحانه وتعالى يكلف عباده يوم القيامة في عرصات الآخرة، وأن التكليف في دار الدنيا، وأما ما يقع في القبر وفي الموقف فهي أثار ذلك التكليف (7).
= المبتدعة، آية في استخراج الدقائق من الكتاب والسنة، له عديد من المصنفات لا تزال مخطوطة/ انظر (الأعلام 2/ 280).
(1)
فتح الباري 11/ 451.
(2)
تجريد التمهيد ص 326 ابن عبد البر.
(3)
تجريد التمهيد ص 326 ابن عبد البر.
(4)
تفسير القرآن العظيم 3/ 31 - ابن كثير.
(5)
طريق الهجرتين ص 694 - ابن القيم.
(6)
ابن حجر: هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني المصري الشافعي، ولد سنة 773 هـ، كان أديبًا ثم طلب الحديث وبرع فيه، وقيل إنه شرب ماء زمزم ليصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ، له عديد من المصنفات/انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 380).
(7)
فتح الباري 11/ 451 - ابن حجر.
وقد أجاب الفريق الأول على أدلة الفريق القائل بعدم التكليف بأنه ليس في وسع المكلف الدخول في النار بما يلي:
أ- بأن هذه النار هي في الحقيقة في رأي العين ومن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، كما ثبت ذلك بالأحاديث الآنفة الذكر.
ب- إذا كان دخول النار سببًا في النجاة فلا مانع من التكليف بدخولها، فقد ثبت مثل ذلك من حديث الدجال في آخر الزمان "أن معه ماء ونارًا فناره ماء باردة، وماؤه نار"(1) فهذا الحديث يدل على أن من أدرك الدجال أمره الشارع أن يقع في ناره، وهذا تكليف بدخول النار، لأن وقوعه في النار سبب في نجاته.
وبناءً على ما ورد من أدلة الفريقين:
يتبين لنا أرجحية القول الأول على حسب ما ورد من نصوص صحيحة صريحة، وهو إثبات وقوع التكليف في عرصات القيامة وإنما ينقطع التكليف بدخول الجنة أو النار. هذا والله أعلم.
…
(1) أخرجه البخاري انظر (الفتح -كتاب الفتن- باب الدجال 13/ 91).