الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل مسمى العادة
وكثيرٌ من هؤلاء1 مضطربون في مسمّى العادة التي [تخرق]2.
والتحقيق: أنّ العادة أمرٌ إضافي؛ فقد يعتاد قومٌ ما لم يعتده غيرهم. [فهذه إذا خرقت] 3، فليست لصدق النبي لا توجد بدون صدقه.
والرب تعالى في الحقيقة لا ينقض عادته التي هي سنته، التي قال فيها:{سُنَّةَ اللهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} 4، وقال:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} 5؛ وهي التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين؛ فهو سبحانه إذا ميَّز بعض المخلوقات بصفات يمتاز بها عن غيره، ويختصه بها، قرن بذلك من الأمور ما يمتاز به عن غيره، ويختص به.
ولا ريب أنّ النبوّة يمتاز بها الأنبياء، ويختصون بها، والله تعالى يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس6، وهو أعلم حيث يجعل
1 أي الأشاعرة. انظر: الجواب الصحيح 6503-504.
2 في ((خ)) : (يخرق) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
4 سورة الفتح، الآية 23.
5 سورة فاطر، الآية 43.
6 قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [سورة الحج، الآية 75] .
رسالته1.
فمن خصه بذلك، كان له من الخصائص التي لا تكون لغيره، ما يناسب ذلك؛ فيُستَدل بتلك الخصائص على أنّه من أهل الاختصاص بالنبوة.
وتلك سنته وعادته في أمثاله؛ يُميّزهم بخصائص يمتازون بها عن غيرهم، ويعلم أن أصحابها من ذلك الصنف المخصوص الذين هم الأنبياء مثلاً.
سنة الله وعادته
ولم [تكن] 2 له سبحانه عادة؛ بأن يجعل مثل آيات الأنبياء لغيرهم، حتى يقال: إنه خرق عادته ونقضها، بل عادته وسنته المطردة3 أنّ تلك
1 قال تعالى: {.. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ..} [سورة الأنعام، الآية 124] .
فالنبوة هبةٌ من الله، يهبها الله من يشاء من عباده. فهو تعالى كما أخبر عن نفسه:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة، الآية 105] . وهو جلّ وعلا يخلق ما يشاء ويختار، ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس؛ كما أخبر عن نفسه.
وللشيخ رحمه الله كلام جيد في هذا الموضوع، وفي الردّ على المعتزلة الذين أوجبوا على الله الرسالة بزعمهم أنّ البعثة متى حسنت وجبت. انظر: مجموع الفتاوى872-73. ومنهاج السنة النبوية 1452.
2 في ((خ)) : (يكن) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 ولشيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر كلام جيد يُوضّح معنى السنة هاهنا، يقول
فيه: "والسنة هي العادة، فهذه عادة الله المعلومة، فإذا نصر من ادّعى النبوّة وأتباعه على من خالفه إما ظاهراً وباطناً، وإما باطناً نصراً مستقراً، كان ذلك دليلاً على أنه نبي صادق؛ إذ كانت سنة الله وعادته نصر المؤمنين بالأنبياء الصادقين على الكافرين والمنافقين، كما أن سنته تأييدهم بالآيات البينات، وهذه منها. ومن ادّعى النبوة وهو كاذب، فهو من أكفر الكفّار، وأظلم الظالمين..". الجواب الصحيح 6421. وانظر عن معنى السنة في القرآن: مجموع الفتاوى 1319-23.
الآيات لا تكون إلا مع النبوة، والإخبار بها، لا مع التكذيب بها، أو الشك فيها.
كما أنّ سنته وعادته: [أنّ محبته، ورضاه، وثوابه لا يكون إلا لمن عبده وأطاعه، وأنّ سنته وعادته] 1 أن يجعل العاقبة للمتقين2، وسنّته وعادته أن ينصر رسله، والذين آمنوا3؛ كما قال تعالى:{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيَّاً وَلا نَصِيرَاً سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} 4.
وكلّ ما يُظنّ أنّه خرقه من العادات، فله أسباب انخرقت فيها تلك العادات.
فعادته وسنته لا تتبدل؛ إذ أفعاله جارية على وجه الحكمة والعدل. هذا قول الجمهور5.
1 ما بين المعقوفتين مكرر في ((خ)) .
2 قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف، الآية 128] .
وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة هود، الآية 49] .
وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [سورة طه، الآية 123] .
وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة القصص، الآية 83] .
3 قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سورة غافر، الآية 51] .
وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس، الآية 103] .
وقال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء، الآية 77] .
4 سورة الفتح، الآيتان 22-23.
5 انظر الجواب الصحيح 6400-404، 418-425. وانظر ص 548، 1030-1031 من هذا الكتاب.
الذين ينفون الحكمة يجوزون عليه فعل كل ممكن
وأما من لا يثبت سبباً، ولا حكمة، ولا عدلاً1: فإنَّهم يقولون: إنه يخرق عادات، لا لسبب، ولا لحكمة. ويجوّزون أن يقلب الجبل ياقوتاً، والبحر لبناً، والحجارة آدميين2، ونحو ذلك، مع بقاء العالم على حاله. ثمّ يقولون مع هذا: ولكن نعلم بالضرورة أنه لم يفعل ذلك3. و [يقولون] 4: العقل هو علوم ضرورية؛كالعلوم بجارى العادات5.
وهذا تناقضٌ بيِّنٌ؛ فإنّهم إذا جوّزوا هذا، ولم يعلموا فرقاً بين ما يقع منه، وما لا يقع، كان الجزم بوقوع هذا دون هذا جهلاً.
وغاية ما عندهم أن قالوا: يُخلق في قلوبنا علمٌ ضروري بأنّ هذا لم يقع، ويُخلق في قلوبنا علمٌ ضروري بأنّ الله خرق العادة لتصديق هذا النبيّ6.
1 وهم الأشاعرة، والجهمية، والفلاسفة، كما سبق بيانه. انظر ص 503-504، 533-535 من هذا الكتاب.
2 انظر: الإرشاد للجويني ص 306، 319، 326. والمواقف للإيجي ص 345-346.
3 انظر: شرح المقاصد 515-19. وانظر ما تقدم ص 113-120، وانظر: الجواب الصحيح 6393-400، 500-505.
4 في ((ط)) : (يقولن) .
5 انظر: التعريفات للجرجاني ص 197. وانظر: الجواب الصحيح 6400.
6 انظر: الإرشاد للجويني ص 324-326. وانظر: الجواب الصحيح 6399-400.
وقد قال القاضي عبد الجبار المعتزلي عن هؤلاء الأشاعرة: "فلو جوّزنا أن يكون هذا المعجز من جهة من يصدّق الكاذب، لا يمكننا أن نعلم صدق من ظهر عليه. ولهذا قلنا: إنّ هؤلاء المجبرة لا يمكنهم أن يعرفوا النبوات لتجويرزهم القبائح على الله تعالى". شرح الأصول الخمسة ص 571.
تعليق المؤلف على كلامهم
فيُقال: إذا كان قد جعل الله في قلوبكم علماً ضرورياً كما جعله في قلوب أمثالكم، فأنتم صادقون فيما تخبرون به عن أنفسكم من العلم الضروريّ، لكن خطأكم: اعتقادكم أن العادات قد [ينقضها] 1 الله بلا سبب، ولا لحكمة. فهذا ليس معلوماً لكم بالضرورة.
وخطأكم من حيث جوّزتم أن يكون شيئان متساويين من كل وجه، ثم يعلم بضرورةٍ، أو نظرٍ ثبوت أحدهما، وانتفاء الآخر.
فإن هذا تفريقٌ بين المتماثلين، وهذا قدحٌ في البديهيّات2؛ فإنّ أصل العلوم العقلية النظرية: اعتبار الشيء بمثله، وإن حكمه حكم مثله3.
فإذا جوّزتم أن يكون الشيئان متماثلين من كل وجه، وأنّ العقل يجزم بثبوت أحدهما وانتفاء الآخر، كان هذا قدحاً في أصل كلّ علم وعقل.
وإذا قلتم: إنّ العادات جميعها سواء، وإنّ الله يفعل ما يفعل بلا سبب، ولا حكمة، بل محض المشيئة مع القدرة رجَّحت هذا على هذا، وقلتم: لا فرق بين قلب الجبال يواقيت، والبحار لبناً، وبين غير ذلك من العادات، وجوّزتم أن يجعل الله الحجارة آدميين علماء، من غير سبب تُغيَّر به المخلوقات، كان هذا قدحاً في العقل؛ فلا أنتم عرفتم سنة الله المعتادة في خلقه، ولا عرفتم خاصّة العقل4؛ وهو التسوية بين المتماثلين؛ فإنّه سبحانه قطّ لم يخرق عادة، إلا لسبب يناسب ذلك؛ مثل:
1 في ((م)) ، و ((ط)) : ينقضه.
2 انظر الكلام على دعوى الضرورة عند الأشاعرة، ورد شيخ الإسلام رحمه الله عليهم في: الجواب الصحيح 6398، 500.
3 انظر: مجموع الفتاوى 1969-71. وانظر ما سبق ص 592 من هذا الكتاب.
4 انظر ما تقدّم ص 279-282، 662-669 من هذا الكتاب.
[فلق] 1 البحر لموسى، وغير ذلك من الآيات التي بعث بها2؛ فإنّ ذلك خلقه ليكون آيةً وعلامةً؛ وكان ذلك بسبب نبوّة موسى، وانجائه قومه، وبسبب تكذيب فرعون. [ومن جوّز] 3 أنّ ذلك البحر، أو غيره ينفلق لموسى، من غير أن يكون هناك سبب إلهي يناسب ذلك، فهو مصابٌ في عقله.
اضطراب الأشاعرة في التفريق بين آيات الأنبياء وخوارق غيرهم
ولهذا اضطرب أصحاب هذا القول4، ولم يكن عندهم ما يفرّقون بين دلائل النبوة وغيرها، وكانت آيات الأنبياء والعلم بأنها آيات [إنْ حقَّقوها على وجهها] 5، فسدت أصولهم6، وإن طردوا أصولهم، كذّبوا العقل والسمع، ولم يمكنهم؛ لا تصديق الأنبياء، ولا العلم بغير ذلك من أفعال الله تعالى التي يفعلها بأسباب وحكم، كما قد بُسِط هذا في موضع آخر7.
1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
2 انظر هذا المعنى من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وقوله أنّ المعجزات إنما تقع لسبب وحكمة، لا تحصل بغير سبب، في: الجواب الصحيح 6401-404.
3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
4 وهم الأشاعرة.
5 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
6 من هذه الأصول: نفي الحكمة والتعليل عن أفعال الله، والقول بتكليف ما لا يُطاق، ونفي التحسين والتقبيح العقليين، وغير ذلك، مما سبق نقضه، من خلال كلام المؤلف رحمه الله تعالى في معرض رده على المخالفين.
7 انظر: الجواب الصحيح 6393-404. وشرح الأصفهانية 2471-491، 608-624. ومجموع الفتاوى 881-158. ودرء تعارض العقل والنقل 940-44، 52. وانظر ما سبق من كتاب النبوات، حيث تكلم الشيخ رحمه الله عن هذا الموضوع بالتفصيل في الصفحات: 151-156، 267، 272-282، 501-505، 564-574، 580-590، 549-554، 929-933.