الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل خوارق السحرة والكهان مناقضة للنبوة ولا تخرج عن مقدور الجن والإنس
فجميع ما يختص بالسحرة والكهان هو مناقض للنبوة1، فوجود ذلك يدلّ على أنّ صاحبه ليس بنبيّ. ويمتنع أن [يكون] 2 شيءٌ من ذلك دليلاً على النبوة؛ فإنّ ما استلزم عدم الشيء لا يستلزم وجوده.
وكذلك ما يأتي به أهل الطلاسم3 وعبادة الكواكب4 ومخاطبتها،
1 هذه من القواعد في التفريق بين النبيّ، والساحر، والكاهن.
2 في ((خ)) : تكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 سبق بيان معنى الطلاسم. انظر ص 269 من هذا الكتاب.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "السحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وذلك أن النجوم التي من السحر نوعان؛ أحدهما: علمي، وهو الاستدلال بحركات النجوم على الحوادث، من جنس الاستقسام بالأزلام. والثاني عملي، وهو الذي يقولون إنه القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية، كطلاسم ونحوها. وهذا من أرفع أنواع السحر. وكلّ ما حرمه الله ورسوله فضرره أعظم من نفعه". مجموع الفتاوى 35170.
وانظر: الصفدية 166. والجواب الصحيح 613. والفصل لابن حزم 53. وتفسير ابن كثير 1145. وأضواء البيان 4453.
4 قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "أهل دعوة الكواكب الذين يدعون الشمس والقمر والنجوم، ويعبد ونها، ويسجدون لها، كما كان النمرود بن كنعان وقومه يفعلون ذلك، وكما يفعل ذلك المشركون من الهند والترك والعرب والفرس وغيرهم. وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن الخطيب الرازي في كتابه الذي صنّفه في هذا الفن قطعة كبيرة من أحوال هؤلاء. وقد تواترت الأخبار بذلك عن هؤلاء، وأنه يحصل لأحدهم أشخاص منفصلة عنه تقضي كثيراً من حوائجه، ويسمونها روحانية الكواكب". الصفدية 1241.
وانظر: المصدر نفسه 1173، 192.
وقال أيضاً عن مجادلة إبراهيم عليه السلام لقومه بسبب عبادتهم للكواكب: "فذكر لهم ما كانوا يفعلونه من اتخاذ الكوكب، والشمس، والقمر رباً يعبد ونه، ويتقربون إليه، كما هو عادة عباد الكواكب ومن يطلب تسخير روحانية الكواكب. وهذا مذهب مشهور ما زال عليه طوائف من المشركين إلى اليوم، وهو الذي صنّف فيه الرازي السرّ المكتوم، وغيره من المصنّفات". درء تعارض العقل والنقل 1111. وانظر: دقائق التفسير 3123، 165. وفتح الباري 10232-233. والأصول والفروع لابن حزم ص 134، 135. وإغاثة اللهفان 2222-226. والدين الخالص 2443-444.
كلّ ذلك مناقضٌ للنبوة؛ فإنّ النبي لا يكون إلا مؤمناً، وهؤلاء كفار؛ فوجود ما يناقض الإيمان هو مناقض للنبوة بطريق الأولى، وهو آيةٌ، ودليلٌ، وبرهان على عدم النبوة، فيمتنع أن يكون دليلاً على وجودها.
وجميع ما يختص بالسحرة والكهان وغيرهم ممّن ليس بنبيّ، لا يخرج عن مقدور الإنس والجن1. وأعني بالمقدور: ما يمكنهم التوصل إليه بطريق من الطرق2؛ فإنّ من الناس من يقول: إنّ المقدور لا بُدّ أن يكون في محلّ القدرة3.
1 هذا من الفروق التي يميز بها النبيّ من المتنبئ، والصادق من الكاذب.
2 التي أقدر الله عليها الجن والإنس. انظر ما سبق ص 164، 223، 606، 361، 672.
3 هذا من تعريفات الأشاعرة للكسب - عندهم. انظر: شرح جوهرة التوحيد للباجوري ص 219. وشرح الصاوي على جوهرة التوحيد ص 149-150.
وانظر كذلك: مجموع الفتاوى 8404، 467. وشفاء العليل لابن القيم ص 121-122.
وهذه المسألة لها تعلّق بالاستطاعة والقدرة.
وقد وقع الخلاف فيها على أقوال، تبعاً للخلاف الواقع في القدر:
فالجهميّة، وهم الجبرية: قالوا بنفي القدرة لا مع الفعل ولا قبله؛ لأنّ العبد عندهم لا اختيار له.
والمعتزلة: أثبتوا القدرة قبل الفعل، ونفوا أن تكون معه.
أما الأشاعرة، فقالوا: إن القدرة مع الفعل، لا يجوز أن تتقدمه، ولا أن تتأخّر عنه، بل هي مقارنة له، وهي من الله تعالى، وما يفعله الإنسان بها فهو كسب له.
وأهل السنة قالوا: إن القدرة تقع على نوعين:
أ - قدرة أو استطاعة للعبد، بمعنى الصحة والتوسع والتمكن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل. فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل تكون قبله متقدمة عليه.
ب- والاستطاعة أو القدرة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل الموجبة له.
انظر: الملل والنحل 185. والإرشاد ص 219-220. والإنصاف ص 46. والتمهيد ص 323-325. ومجموع الفتاوى 8129-130، 290-292، 371-376، 441، 1032، 18172-173. ودرء تعارض العقل والنقل 9241 وشرح الطحاوية ص 633-639. وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 31331-1332. والماتريدية ص 424-425.
وقد ناقش شيخ الإسلام رحمه الله قضية الكسب عند الأشاعرة، وردّ عليها في مواضع عديدة من مصنّفاته القيّمة، فمن ذلك قوله عنهم:"وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه، وبين الخلق؛ فقالوا: الكسب: عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة. وقالوا أيضاً: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه. فقال لهم الناس: هذا لا يُوجب فرقاً بين كون العبد كسب، وبين كونه فعل وأوجد وصنع وعمل ونحو ذلك؛ فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محلّ القدرة الحادثة. وأيضاً فهذا فرق لا حقيقة له؛ فإنّ كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم. وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك. والثاني: أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في محل وجودها، ولا يكون شيء من مقدورها خارجاً عن محلها. وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه. وأيضاً: فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران، فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل". مجموع الفتاوى 8119.
وانظر عن الكسب عند الأشاعرة: مجموع الفتاوى 8118-120، 387، 403، 467-468. والصفدية 1149-153. وشرح الأصفهانية ص 149-150، 350. ودرء تعارض العقل والنقل 182-84، 465،، 649، 7247-248، 9167، 10114-115.
وليس هذا هو لغة العرب، ولا غيرهم من الأمم؛ لا لغة القرآن والحديث، ولا غيرهما، وإنّما يدّعون ذلك من جهة العقل. وقولهم في ذلك باطل من جهة العقل.
لكن المقصود هنا التكلم باللغة المعروفة؛ لغة العرب، وغيرهم التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره يخاطب بها الناس؛ كقوله في الحديث الصحيح لأبي مسعود1 لما ضرب غلامه:"اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، الله أقدر عليك منك على هذا" 2؛ فجعل نفس المملوك مقدورا عليه [لسيده] 3،
1 هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، أبو مسعود البدري. صحابي جليل. وهو معدود من علماء الصحابة. نزل الكوفة، ومات قبل الأربعين، وقيل بعدها.
انظر: سير أعلام النبلاء 2493-496. وتقريب التهذيب 1682.
2 أخرجه مسلم في صحيحه31280-1281، كتاب الإيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبد هـ. وأبو داود في سننه 5360-361، كتاب الأدب، باب في حق المملوك. والترمذي في جامعه 4335، كتاب البر، باب النهي عن ضرب الخدم، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
3 في ((ط)) : لسيدة.
كما يقول الناس: القوّة على الضعيف ضعفٌ في القوة، [ويقولون] 1: فلانٌ قادر على فلان، وفلانٌ عاجز عن فلان، ويقولون: فلانٌ ناسج هذا الثوب، و [بَنَى] 2 هذه الدار. ومنه: قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الفُلْكَ} 3؛ فجعل الفلك مصنوعة لنوح. ومنه: قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4؛ أي والأصنام التي تعملونها، وتنحتونها؛ فجعل ما في الأصنام من التأليف معمولاً لهم، كما جعل تأليف السفينة مصنوعاً لهم. وهذا كثير5.
والمقصود هنا: أنّ ما يأتي به السحرة والكهان ونحوهم، هو ممّا يصنعه الإنس والجنّ، لا يخرج ذلك عنهم. والإنس والجنّ قد أُرسلت إليهم الرسل6، فآيات الأنبياء خارجة عن قدرة الإنس والجن؛ لا يقدر عليها لا الإنس ولا الجن، ولله الحمد والمنة.
مقدورات الجن والإنس
ومقدورات الجن هي من جنس مقدورات الإنس، لكن يختلف في المواضع؛ فإنّ الإنسي يقدر على أن يضرب غيره حتّى يمرض أو يموت، بل يقدر أن يكلمه بكلام يمرض به أو يموت.
فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت، هو من مقدور الجن، وهو من جنس مقدور الإنس.
1 في ((ط)) : ويوقولن.
2 في ((ط)) : بني.
3 سورة هود، الآية 38.
4 سورة الصافات، الآية 96.
5 انظر مجموع الفتاوى 8120-123.
6 كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا..} سورة الأنعام، الآية 130.
ومنعه من الجماع هو من جنس المرض المانع له من ذلك.
والحب والبغض لبعض الناس، كما يفعله الساحر، هو من استعانته بالشياطين، وهو من جنس مقدور الإنس. بل شياطين الإنس قد يؤثرون من البغض والحب أعظم مما تؤثره شياطين الجن.
والجنّ [تقدر] 1 على الطيران في الهواء، وهو من الأعمال. والطيور تطير، فهو من جنس مقدور الإنس. لكن يختلف المحل [بأنّ] 2 هؤلاء سيرهم في الهواء، والإنس سيرهم على الأرض.
وكذلك المشي على الماء، وطيّ الأرض؛ وهو قطع المسافة البعيدة في زمان قريب: هو من هذا الجنس، هو مما تفعله الجن، وهو مما تفعله الجن ببعض الناس. وقد أخبر الله عن العفريت أنه قال لسليمان عن عرش بلقيس وهو باليمن وسليمان بالشام:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 3. ولهذا يوجد كثيرٌ من الكفار والفساق والجهال تطير بهم الجن في الهواء، وتمشي بهم على الماء، وتقطع بهم المسافة البعيدة في المدة القريبة.
وليس شيءٌ من ذلك من آيات الأنبياء4، ولله الحمد والمنة؛ إذ كان مقدور الإنس والجنّ، والإخبار ببعض الأمور الغائبة التي يأتي بها الكهّان، هو أيضاً من مقدور الجنّ؛ فإنهم تارة يرون الغائب فيخبرون به، وتارة يسترقون السمع من السماء فيخبرون به، وتارة
1 في ((خ)) : يقدر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 في ((خ)) : أنّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 سورة النمل، الآية 39.
4 وقد ذكر الشيخ رحمه الله قصصاً كثيرة من هذا النوع.
انظر: مجموع الفتاوى182-83، 168-178. ومنهاج السنة النبوية 8311.
يسترقون وهم يكذبون في ذلك؛ كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عنهم1.
وما تخبر به الأنبياء من الغيب، لا يقدر عليه إنس، ولا جنّ، ولا كذب فيه.
وأخبار الكهان وغيرهم كذبها أكثر من صدقها، وكذلك كل من تعود الإخبار عن الغائب؛ فأخبار الجن لا بد أن [تكذب] 2، فإنه من طلب منهم الإخبار بالمغيّب كان من جنس الكهان، وكذبوه في بعض ما يخبرون به، وإن كانوا صادقين في البعض.
وقد ثبت في الصحيح: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكهّان؟ فقيل له: إنّ منا قوماً يأتون الكهان؟ قال: "فلا يأتوهم"3.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "من أتى عرافاً، فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً"4.
1 يُشير شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ عن الكهان، فقال:"ليسوا بشيء"، فقالوا: يارسول الله إنهم يحدثون أحياناً بالشيء فيكون حقاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة".
أخرجه البخاري52173، كتاب الطب، باب الكهانة. ومسلم41750، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
2 في ((خ)) : يكذب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 أخرجه مسلم في صحيحه 41748-1749، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، مع اختلاف في اللفظ.
4 أخرجه مسلم في صحيحه 41751، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. وأحمد في مسنده 468،، 5380.
وفي السنن عنه أنه قال: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد"1.
والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد [الأقصى] 2، لم يكن المقصود مجرّد وصوله إلى الأقصى، بل المقصود ما ذكره الله [بقوله] 3:{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 4، كما قال في سورة النجم:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى عِنْدَها جَنَّة المَأوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} 5.
وما رآه مختص بالأنبياء، لا يكون ذلك لمن خالفهم، ولا يريه الله تعالى ما أراه محمدا حين أسرى به. وكذلك صلاته بالأنبياء في المسجد الأقصى، وركوبه على البراق؛ هذا كله من خصائص الأنبياء.
بعض خوارق الشياطين لأوليائهم
والذين تحملهم الجن، وتطير بهم من مكان إلى مكان، أكثرهم لا يدري كيف حُمِل، بل يُحمَل الرجل إلى عرفات، ويرجع، وما يدري كيف حملته الشياطين، ولا يدعونه يفعل ما أمر الله به كما أمر الله به، بل قد يقف بعرفات
من غير إحرام ولا إتمام مناسك الحج، وقد يذهبون به إلى مكة،
1 أخرجه أبو داود في سننه 415-16، كتاب الطب، باب في النجوم. وأحمد في مسنده 1227، 311. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: رواه أبو داود بإسناد صحيح. (تيسير العزيز الحميد ص 400) . وصححه الألباني (انظر: السلسلة الصحيحة 2435رقم 793. ومشكاة المصابيح 4604) . وقال محقق معارج القبول (2562) : وسنده صحيح.
2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
3 في ((ط)) : بقول.
4 سورة الإسراء، الآية 1.
5 سورة النجم، الآيات 13-18.
ويطوف بالبيت من غير إحرام إذا حاذى الميقات1. [وذلك] 2 واجب في أحد قولي العلماء، ومستحب في الآخر3، فيفوته المشروع، أو يوقعونه في الذنب، ويُغرونه بأنّ هذا من كرامات الصالحين.
وليس هو مما يكرم الله به وليّه، بل هو ممّا أضلته به الشياطين، وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة4، أو يكون صاحبه له عند الله منزلة عظيمة.
1 الميقات: واحد المواقيت، وهي التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أراد الحج، أو العمرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم. فهنّ لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة. فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها".
راجع صحيح البخاري 1555، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، وصحيح مسلم 2838، 839، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة.
2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
3 انظر المغني لابن قدامة 569.
4 وقد تحدّث شيخ الإسلام في موضع آخر عن هؤلاء، فقال: "ومنهم من يطير به الجني إلى مكة، أو بيت المقدس، أو غيرهما. ومنهم من تحمله عشية عرفة ثم تعيده من ليلته، فلا يحج حجاً شرعياً، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه، ثم يرجع من ليلته. وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين، بل هو كمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء إلى غير القبلة.
ومن هؤلاء المحمولين من حمل مرة إلى عرفات ورجع، فرأى في النوم ملائكة يكتبون الحجاج، فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست من الحجاج؛ يعني لم تحج حجاً شرعياً". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 327. وانظر: مجموع الفتاوى 183، 174،، 17460،، 1948. والصفدية 1190. والجواب الصحيح 2331-332.
وليس هو قربةٌ وطاعةٌ، وصاحبه لا يزداد بذلك منزلة عند الله؛ فإنّ التقرّب إلى الله إنّما يكون بواجبٍ أو مستحب، وهذا ليس بواجب ولا مستحب، بل يُضلّون صاحبه، ويصدّونه عن تكميل ما يحبه الله منه؛ من عبادته، وطاعته، وطاعة رسوله، ويوهمونه أن هذا من أفضل الكرامات، حتى يبقى طالباً له، عاملاً عليه.
وهم بسبب إعانتهم له على ذلك، قد استعملوه في بعض ما يريدون، ممّا ينقص قدره عند الله، أو وقوعه في ذنوب، وإن لم يعرف أنها ذنوب؛ فيكون ضالاً ناقصاً، وإن غُفِر له ذلك لعدم علمه؛ فإنّه نقصُ درجته، وخفض [منزلته] 1 بذلك الذي أوهموه أنه رَفَعَ درجته وأعلا منزلته.
وهذا من جنس ما [يفعله] 2 السحرة؛ فإنّ الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه، وقد يركب شيئا من الجمادات؛ إما قصبة، وإما خابية، وإما مكنسة3، وإما غير ذلك؛ فيصعد به في الهواء، وذلك أن الشياطين تحمله.
وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثيرٍ من العبّاد والضلال؛ من عبّاد المشركين، وأهل الكتاب، والضُلاّل من المسلمين؛ [فتحملهم] 4 من مكان إلى مكان.
1 في ((خ)) : منزله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 في ((م)) ، و ((ط)) : تفعله.
3 المكنسة - بكسر الميم - ما يُكنس به.
وقد تقدم التعريف بها ص 164.
4 في ((م)) ، و ((ط)) : فيحملهم.
وقد يرى أحدهم بما يركبه إما فرس، وإما غيره، وهو شيطانٌ تصوّر له في صورة مركوب.
وقد يرى أنه يمشي في الهواء من غير مركوب، والشيطان قد حمله.
والحكايات في هذا كثيرة معروفة عند من يعرف هذا الباب، ونحن نعرف من هذا أموراً يطول وصفها1.
1 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع أخرى قصصاً كثيرة، منها قوله:"وأعرف من هؤلاء عدداً، ومنهم من كان يُحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق، تسرقه الشياطين، وتأتيه به. ومنهم من كانت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس، أو لعطاء يعطونه إذا دلّهم على سرقاتهم ونحو ذلك". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 426.
وقال أيضاً رحمه الله: "ومثل عدد كبير حملوا إلى غير مكة، ولو ذكرتُ ما أعرفه من هذا لطال الخطاب. وأعرف شخصاً من أصحابنا حملته الجن في الهواء من أسفل دار إلى أعلاها، ووصوه بأمور الدين، وتاب، وحصل له خير. وآخر كان معه شيطان يحمله قدام الناس بمدينة الشوبك، فيصعد في الهواء إلى رؤوس الجبال. وآخر كان يحمله شيطانه من جبل الصالحية إلى قرية بلدى - نحو فرسخ -. وطائفة حملتهم الشياطين من مدينة تدمر إلى بيت المقدس، وأمرتهم أن يصلوا إلى الشمال، وصلّوا إليه أياماً، وأخبروهم أن هذه الشريعة تغيّر وتنسخ، حتى طلبهم المسلمون إلى جامع تدمر، وكانوا في مغارة، واستتابوهم، فلم يتوبوا، بل مكثوا يصلون إلى الشمال ثلاثة أيام، ثم تابوا بعد ذلك، وتبين لهم أن ذلك كان من الشيطان. وآخر أتى قوماً يرقصون في سماع، فبقي يرقص في الهواء على رؤوسهم، فرآه شخص، فصرخ به، فسقط. وكان هذا بحضرة الشيخ شبيب الشطي، فقال الشيخ: هذا سلبني حالي، فسأله، فقال: لم يكن له حال، وإنما شيطان حمله من الرحبة إلى هنا، فصرخت فيه، فألقاه، وهرب. وجرى نظير هذه القصة لغير واحد". الصفدية 1190-191.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله القصة نفسها في: جامع الرسائل 1192-193، ومجموع الفتاوى 1173-174.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله كثيراً من هذه الحكايات عن أولياء الشيطان، ثم قال:"وهذا باب لو ذكرتُ ما أعرف منه لاحتاج إلى مجلد كبير". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 353.
وكذلك المشي على الماء: قد [تجعل] 1 له الجن ما يمشي عليه، وهو يظن أنّه يمشي على الماء. وقد يُخيّلون إليه أنه التقى طرفا النهر ليعبر، والنهر لم يتغيّر في نفسه، ولكن خيّلوا إليه ذلك. وليس في هذا - ولله الحمد - شيءٌ من جنس معجزات الأنبياء.
كرامات الصالحين من جهة السبب والغاية
وقد يمشي على الماء قوم بتأييد الله لهم، وإعانته إياهم بالملائكة؛ كما يحكى عن المسيح2، وكما جرى للعلاء بن الحضرمي3، ولأبي مسلم الخولاني في عبور الجيش4، وذلك إعانة على الجهاد في سبيل [الله] 5، كما يؤيّد الله المؤمنين بالملائكة، ليس هو من فعل الشياطين. والفرق بينهما؛ من جهة السبب، ومن جهة الغاية.
أما السبب: فإنّ الصالحين يُسمّون الله، ويذكرونه، ويفعلون ما يحبه الله؛ من توحيده، وطاعته، فييسر لهم بذلك ما ييسره، ومقصودهم به: نصر الدين، والإحسان إلى المحتاجين6.
1 في ((م)) ، و ((ط)) : يجعل.
2 انظر: العهد الجديد: إنجيل مرقس، الإصحاح 6، رقم الفقرة 48، 49-53، ص 67. وإنجيل يوحنا، الإصحاح 6، رقم الفقرة 19، ص 157. وانظر الجواب الصحيح 4120، 123.
3 سبقت ترجمته.
4 انظر ما سبق ص 159 من هذا الكتاب.
5 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
6 قد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا السبب مفصلاً في موضع آخر، فقال:"فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطناً وظاهراً لحجة، أو حاجة. فالحجة: لإقامة دين الله. والحاجة: لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله". مجموع الفتاوى 11460. وانظر: المصدر نفسه 184، 176-177. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 169، 328، 354.
وما تفعله الشياطين يحصل بسبب الشرك، والكذب، والفجور1، والمقصود به: الإعانة على مثل ذلك.
والجن فيهم مسلمٌ وكافر، فالمسلمون منهم يعاونون الإنس المسلمين، كما يعاون المسلمون بعضهم بعضاً، والكفّار مع الكفّار.
أصناف طاعة الجن للإنس
والجن الذين يطيعون الإنس، وتستخدمهم الإنس ثلاثة أصناف2:
أعلاها: أن [يأمروهم] 3 بما أمر الله به، ورسله؛ فيأمرونهم بعبادة الله وحده، وطاعة رسله؛ فإنّ الله أوجب على الجنّ طاعة الرسل، كما أوجب ذلك على الإنس، وقال تعالى: {وَيَومَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعَاً يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَد اسْتَكْثَرتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ [فِيهَا] 4 إِلَاّ مَا شَاءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضَاً [بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] 5 يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيكُمْ [آيَاتِي] 6
1 انظر: مجموع الفتاوى 184. والجواب الصحيح 2343. والفرقان ص 169، 328، 355.
2 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص331، 364-365. والفرقان بين الحق والباطل - ضمن دقائق التفسير - 1429. ودقائق التفسير 3118، 137-138، 139-143. ومجموع الفتاوى 1935،، 1387-88؛ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المواضع أحوال الجن مع الإنس.
3 في ((ط)) : يأمورهم.
4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) .
5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَومِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَشَهِدُوا على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُم كَانُوا كَافِرين ذَلكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1؛ فالرسل تكون من الإنس إلى الثقلين، والنذر من الجنّ باتفاق العلماء2.
هل يكون من الجنّ رسلاً؟!
واختلفوا: هل يكون في الجن رسل؟ والأكثرون على أنّه لا رسل فيهم3، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيهِمْ مِنْ أَهْلِ القُرَى} 4.
1 سورة الأنعام، الآيات 128-132.
2 قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم} [سورة الأنعام، الآية 130] : (أي من جملتكم. والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما قد نص على ذلك مجاهد، وابن جريج، وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف. وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة، وفيه نظر؛ لأنها محتملة، وليست بصريحة) . تفسير ابن كثير 2177.
وانظر: تفسير الطبري 836، 2633. وتفسير البغوي 2131. وتفسير القرطبي 757. ومجموع الفتاوى 4234. وشرح الطحاوية ص 168. ولوامع الأنوار 2223.
3 انظر: تفسير الطبري 836، 2633. وتفسير البغوي 2131. وتفسير القرطبي 757. ومجموع الفتاوى 4234. وتفسير ابن كثير 2177. وشرح الطحاوية ص 168. ولوامع الأنوار 2223.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكفار الجن يدخلون النار بالنص والإجماع. وأما مؤمنوهم فجمهور العلماء على أنهم يدخلون الجنة. وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس، ولم يبعث من الجن رسول، لكن منهم النذر". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. وانظر مجموع الفتاوى 4234،، 1938-39.
4 سورة يوسف، الآية 109.
وعن الحسن البصري قال: لم يبعث الله نبيّاً من أهل البادية، ولا من الجن، ولا من النساء. ذكره عنه طائفة، منهم: البغوي1، وابن الجوزي2.
إسلام الجن واجتماعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال قتادة: ما نعلم أن الله أرسل رسولاً قط، إلا من أهل القرى؛ لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمور. رواه ابن أبي حاتم، وذكره طائفة3.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلى الثقلين4، وقد آمن به مَنْ آمن مِنْ جنّ نصيبين5، فسمعوا القرآن، وولّوا إلى قومهم منذرين، ثم أتوا فبايعوه على الإسلام بشعب معروف بمكة6 بين
1 لم أجد في تفسير البغوي ما أشار إليه الشيخ رحمه الله؛ لا عند تفسير سورة الأنعام، الآية 130، ولا عند تفسير سورة يوسف، الآية 109.
2 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4295. وانظر: تفسير القرطبي 9180.
3 انظر: زاد المسير 4295. وتفسير القرطبي 9180. وتفسير ابن كثير 2496.
4 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا: "وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين؛ أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين". مجموع الفتاوى 199. وانظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363.
5 نَصِيبين - بالفتح ثم الكسر - مدينة تقع بين دمشق والموصل، فتحها المسلمون سنة 17 هـ. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 5288.
6 الشِعب - بالكسر - واحد الشعاب، للطريق بين جبلين، أو ما انفرج بينهما، أو مسيل الماء في بطن من الأرض له جرفان مشرفان، وأرضه بطحة. وقد يُضاف إلى عدد من الأماكن.
انظر المعالم الأثرية في السنة والسيرة ص 150.
وهو شعب الحجون، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون) رواه الطبري. وفي بعض الروايات أنه شعب يقال له: شعب الحجون.
انظر: تفسير الطبري 2631، 33. وتفسير ابن كثير 4164-166.
الأبطح1، وبين جبل حراء2، وسألوه الطعام لهم ولدوابهم، فقال:"لكم كلّ عظم ذُكِر اسم [الله] 3 عليه أوفر ما يكون لحماً، وكلّ بعرة علف لدوابكم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن"4.
والأحاديث بذلك كثيرة مشهورة5 في الصحيح، والسنن،
1 الأبطح - بفتح الأول، ثم سكون الباء، وفتح الطاء - كل مسيل ماء فيه دقاق الحصى، فهو أبطح. والأبطح والبطحاء أيضاً: الرمل المنبسط على وجه الأرض. والأبطح يُضاف إلى مكة، وإلى منى؛ لأن المسافة بينه وبينها واحد، وربما كان إلى منى أقرب.
قال ياقوت: وهو المحصب، وهو خيف بني كنانة. قال أبو رافع - وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم: لم يأمرني أن أنزل الأبطح، ولكن ضربت قبته، فنزله. والأبطح اليوم داخل مكة، ويُسمّى العدل.
انظر: معجم البلدان 174. والمعالم الأثرية في السنة والسيرة ص 16.
2 حِراء - بكسر الحاء -: جبل، ويُسمّى جبل النور، ويقع في الشمال الشرقي من مكة المكرمة؛ وفيه الغار الذي كان يتعبد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزلت عليه أول سورة من القرآن. وقد وصل إليه اليوم بنيان مكة.
انظر: معجم البلدان 2233. والمعالم الأثرية في السنة والسيرة ص 98.
3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
4 أخرجه مسلم في صحيحه 1322، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن.
5 وقد ساق الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره، عند قوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ..} من سورة الأحقاف، كثيراً من الروايات في بدء إسلام الجنّ، ووفودهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: تفسير ابن كثير 4162-171.
ومن أشهر هذه الأحاديث وأصحها في إسلام الجنّ، وبداية معرفتهم برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أول أمر النبوة، وإنطلاقهم إلى قومهم منذرين: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يُصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم:{ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ..} سورة الجن، الآية 1.
أخرجه البخاري في صحيحه 1267-268، كتاب صفة الصلاة، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر. و 41873-1874، كتاب التفسير، باب سورة: قل أوحي إليّ. ومسلم في صحيحه 1323، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقرآن في الصبح والقراءة على الجنّ.
أما وفود الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءته عليهم القرآن: فما رواه علقمة قال: أنا سألت ابن مسعود فقلتُ: هل شهد أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ؟ قال: لا، ولكنّا كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير، أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن. قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم". أخرجه مسلم في صحيحه 1322، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن.
والمسند، وكتب التفسير والفقه، وغيرها1.
وقد روى الترمذي وغيره أنّه قرأ عليهم سورة الرحمن، وهي خطاب للثقلين2.
1 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر أنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الثقلين، واستمع الجن لقراءته، وولّوا إلى قومهم منذرين؛ كما أخبر الله عز وجل. وهذا متفق عليه بين المسلمين. ثم أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون: إنهم جاؤوه بعد هذا، وأنه قرأ عليهم القرآن، وبايعوه، وسألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال لهم: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر ما يكون لحماً، ولكم كل بعرة علف لدوابكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن"، وهذا ثابت في صحيح مسلم وغيره من حديث ابن مسعود..) .
ثم ساق رحمه الله تعالى الأحاديث التي تدلّ على دعوته صلى الله عليه وسلم للجنّ، وقال إثرها: "وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه خاطب الجن، وخاطبوه، وقرأ عليهم القرآن، وأنهم سألوه الزاد. وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الجن ولا خاطبهم، ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن. وابن عباس قد علم ما دلّ عليه القرآن من ذلك، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجنّ إليه ومخاطبته إياهم، وأنه أخبره بذلك في القرآن، وأمره أن يخبر به. وكان ذلك في أول الأمر لما حرست السماء، وحيل بينهم وبين خبر السماء، وملئت حرساً شديداً، وكان ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة
…
وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن. وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن، وصار كلما قال:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد". مجموع الفتاوى 1937-38. وانظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 361-362.
2 رواه الترمذي في جامعه 5399، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الرحمن. وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب. وقد أخرجه ابن جرير في تفسيره 27153-154. وحسّنه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير 2914. وسلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 2150.
وقد [اتفق] 1 العلماء على أنّ كفارهم يدخلون النار2، كما أخبر الله بذلك في قوله:{قَالَ ادْخُلُوا في أممٍ قَدْ خَلَتْ من قَبلِكُمْ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ في النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} 3، وقال الله تعالى:{لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُم أَجْمَعِينَ} 4، وقال:{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} 5.
1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
2 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الجنّ: "وكافرهم معذب في الآخرة باتفاق العلماء. وأما مؤمنهم: فجمهور العلماء على أنه في الجنة. وقد روي أنهم يكونون في ربض الجنة يراهم الإنس من حيث لا يرونهم. وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقيل: إن ثوابهم النجاة من النار، وهو مأثور عن أبي حنيفة. وقد احتج الجمهور بقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} ، قالوا: فدلّ ذلك على تأتي الطمث منهم؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة". مجموع الفتاوى 1938-39.
وقال العلامة ابن مفلح في كتاب الفروع: "الجنّ مكلفون في الجملة إجماعاً يدخل كافرهم النار إجماعاً، ويدخل مؤمنهم الجنة وفاقاً لمالك والشافعي رضي الله عنهما، لا أنهم يصيرون تراباً كالبهائم، وأن ثواب مؤمنهم النجاة من النار خلافاً لأبي حنيفة والليث بن سعد ومن وافقهما. قال: وظاهر الأول يعني قول الإمام أحمد ومالك والشافعي رضي الله عنهم أنهم في الجنة كغيرهم بقدر ثوابهم، خلافاً لمن قال: لا يأكلون، ولا يشربون فيها، كمجاهد، أو أنهم في ربض؛ أي حول الجنة، كعمر بن عبد العزيز". لوامع الأنوار البهية 2222-223.
وانظر: شرح النووي على مسلم 4169. ومجموع الفتاوى 1938. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. ودقائق التفسير - رسالة الفرقان بين الحق والباطل - 3138.
3 سورة الأعراف، الآية 38.
4 سورة ص، الآية 85.
5 سورة هود، الآية 119.
أقوال العلماء في مؤمني الجنّ
وأما مؤمنوهم: فأكثر العلماء على أنهم يدخلون الجنة1.
وقال طائفة: بل يصيرون تراباً كالدوابّ2. والأول أصحّ، وهو قول الأوزاعي، وابن أبي ليلى3، وأبي يوسف4، ومحمد5، ونقل ذلك عن مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول أصحابهم6.
1 انظر: تفسير الطبري 27151. وشرح النووي على مسلم 4169. ومجموع الفتاوى 4233، 1386، 1938-39. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. وتفسير ابن كثير 4171. وفتح الباري 6398. وروح المعاني للآلوسي 2633.
2 انظر: شرح النووي على مسلم 4169. ومجموع الفتاوى 4234، 1938. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. ودقائق التفسير - رسالة الفرقان بين الحق والباطل - 3138.وتفسير ابن كثير 4170-171. وفتح الباري 6398 (وأشار إلى أنه قول أبي حنيفة) . وروح المعاني للآلوسي 2633.
3 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار، وقيل داود بن بلال الأنصاري الكوفي. قاض فقيه، من أصحاب الرأي. ولي القضاء والحكم بالكوفة لبني أمية، ثم لبني العباس، واستمر 33 سنة. قال الذهبي: كان نظيراً للإمام أبي حنيفة في الفقه. قال أحمد: كان سيء الحفظ، مضطرب الحديث، وكان فقهه أحب إلينا من حديثه. ولد سنة 74 هـ، وتوفي بالكوفة سنة 148 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 6310. والأعلام 6189.
4 سبقت ترجمته.
5 هو محمد بن الحسن بن فرقد، من موالي بني شيبان، أبو عبد الله، إمام في الفقه والأصول، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة. وروى عن الإمام مالك والأوزاعي، وأخذ عنه الشافعي فأكثر جداً. ولد بواسط سنة 131هـ، ونشأ بالكوفة، وتوفي بالري سنة 189 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 9134. وشذرات الذهب 1321. والأعلام 680.
6 قال ابن حجر: "وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم". فتح الباري6398. وانظر مجموع الفتاوى 1386.
واحتج عليه الأوزاعي وغيره بقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1، بعد ذكره أهل الجنّة وأهل النار، من الجن والإنس2، كما قال في سورة الأنعام، وفي الأحقاف:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ، بعد ذكر أهل الجنة والنار3. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم4: درجات أهل النار تذهب سفولاً، ودرجات أهل الجنة تذهب صعوداً5.
فنبيِّنا صلى الله عليه وسلم هو مع الجن كما هو مع الإنس. [والإنس] 6 معه إمّا مؤمنٌ به، وإما مسلمٌ له، وإما مسالمٌ له، وإما خائفٌ منه.
1 سورة الأنعام، الآية 132. وسورة الأحقاف، الآية 19.
2 في كتاب الفرقان بين الحق والباطل، ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ ابن أبي ليلى، وأبا يوسف هما اللذان احتجا بهذه الآية. أما الأوزاعي فقد ذكر أن حجته قوله تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} من سورة الرحمن.
انظر الفرقان بين الحق والباطل - ضمن دقائق التفسير 3139 - ومجموع الفتاوى 1386.
3 وقد أورد الحافظ ابن كثير رحمه الله على مسألة دخول مؤمني الجن الجنة أدلة قوية، وحقق المسألة في ذلك. فراجع تفسيره 4170-171. وانظر كلام العلامة ابن مفلح في هذه المسألة - وقد أورده السفاريني في لوامع الأنوار 2222-223.
4 هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري المدني. جمع تفسيراً في مجلد، وكتاباً في الناسخ والمنسوخ. قال الذهبي عنه: فيه لين. توفي سنة 182 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 8349. وشذرات الذهب 1297. والفهرست لابن النديم 1225.
5 انظر: تفسير الطبري 2620. ورسالة الفرقان بين الحق والباطل - ضمن دقائق التفسير 3139 -. ومجموع الفتاوى 1386.
6 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
مراتب الجن وأنواعهم
كذلك الجن منهم المؤمن به، ومنهم المسلم له مع نفاق، ومنهم المعاهد المسالم لمؤمني الجن، ومنهم الحربي الخائف من المؤمنين. وكان هذا أفضل مما أوتيه سليمان؛ فإن الله سخّر الجن لسليمان تطيعه طاعة الملوك؛ فإن سليمان كان نبياً ملكاً، مثل داود ويوسف. وأما محمّد فهو عبدٌ رسولٌ، مثل إبراهيم وموسى وعيسى1 [عليهم السلام] 2، وهؤلاء أفضل من أولئك.
القسم الأول: المحمود
فأولياء الله المتبعون لمحمد إنّما يستخدمون [الجن كما يستخدمون الإنس] 3 في عبادة [الله] 4 وطاعته، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يستعمل الإنس والجن، لا في غرض له [غير] 5 ذلك.
القسم الثاني: المباح
[و] 6 من الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة. كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة7، لكن هؤلاء لا يخدمهم
1 سبق مثل ذلك ص 157-158، 564. وانظر: مجموع الفتاوى 718، 11180-182، 306، 1389، 1951، 3435. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 104، 363. ورسالة الفرقان بين الحق والباطل - ضمن دقائق التفسير 3140 -.
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك قال: أفملكاً نبياً يجعلك، أو عبد اً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: بل عبد اً رسولاً ". مسند الإمام أحمد 2231.
2 زيادة من ((ط)) .
3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
5 في ((خ)) : في. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
7 وهذا القسم الثاني من أقسام استخدام الإنس للجنّ، فقد تقدّم أن القسم الأول يكون بأمر الإنس للجنّ بعبادة الله وطاعته. وهذا الثاني في استخدام لإنس للجنّ في أمور مباحة. وسيأتي الثالث، وفيه استخدام الإنس للجنّ في أمور محرمة.
الإنس والجنّ إلا بعوض؛ مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم، أو يعينونهم على بعض مقاصدهم، وإلا فليس أحدٌ من الإنس والجن يفعل شيئاً إلا لغرض.
والإنس والجن إذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة؛ فإما أن يكونوا مخلصين يطلبون الأجر من الله، وإلا طلبوه منه؛ إما دعاؤه لهم، وإما نفعه لهم بجاهه، أو غير ذلك.
القسم الثالث: المذموم
والقسم الثالث: أن يستخدم الجن في أمور محظورة، أو بأسباب محظورة؛ مثل قتل نفس، وإمراضها بغير حق؛ ومثل منع شخص من الوطء؛ ومثل تبغيض شخص إلى شخص؛ ومثل جلب من يهواه الشخص إليه. فهذا من السحر.
وقد يقع مثله لكثير من الناس ولا يعرف السحر، بل يكون موافقاً للشياطين على بعض أغراضهم؛ مثل شرك، أو بدعة وضلالة، أو ظلم، أو فاحشة؛ فيخدمونه ليفعل ما يهوونه.
وهذا كثيرٌ في عبّاد المشركين، وأهل الكتاب، وأهل الضلال من المسلمين.
وكثيرٌ من هؤلاء لا يعرف أن ذلك من الشياطين، بل يظنه من كرامات الصالحين.
ومنهم من يعرف أنه من الشياطين، ويرى أنه بذلك حصل له ملك، وطاعة، ونيل ما يشتهيه من الرياسة والشهوات، وقتل عدوه؛ فيدخل في
ذلك كما تدخل الملوك الظلمة في أغراضهم1.
وليس أحدٌ من الناس تطيعه الجن طاعة مطلقة، كما كانت تطيع سليمان بتسخير من الله وأمر منه من غير معاوضة، كما أن الطير كانت تطيعه، والريح؛ قال تعالى:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيح غُدُوُّها شَهرٌ وَرَوَاحُهَا شَهرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزُغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيات اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} 2.
والجن [كالإنس] 3، فيهم المؤمن المطيع، والمسلم الجاهل، أو المنافق، أو العاصي، وفيهم الكافر.
وكلّ ضرب يميل إلى بني جنسه، والذي أعطاه الله تعالى لسليمان خارج عن قدرة الجن والإنس؛ فإنه لا يستطيع [أحدٌ] 4 أن يُسخّر الجنّ مطلقاً لطاعته، ولا يستخدم [أحداً] 5 منهم إلا بمعاوضة؛ إما عمل مذموم تحبه الجن، وإما قول تخضع له الشياطين؛ كالأقسام، والعزائم6؛ فإنّ
1 انظر: مجموع الفتاوى 1178، 1391، 17457.
2 سورة سبأ، الآيتان 12-13.
3 في ((م)) ، و ((ط)) : والإنس.
4 في ((م)) ، و ((ط)) : أحداً.
5 في ((م)) ، و ((ط)) : أحد.
6 العزائم: نوع من أنواع السحر. انظر: تفسير ابن كثير 1145.
وقد تحدّث شيخ الإسلام رحمه الله عنها، وذكر حرمتها في موضع آخر فقال:"وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى التي لا تفقه بالعربية، فيها ما هو شرك بالجنّ. ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفقه معناها لأنها مظنة الشرك، وإن لم يعرف الراقي أنها شر. وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك". مجموع الفتاوى 1913.
كلَّ جني فوقه من هو أعلى منه، فقد يخدمون بعض [الناس] 1 طاعة لمن فوقهم؛ كما يخدم بعض الإنس لمن أمرهم سلطانهم بخدمته لكتاب معه منه، وهم كارهون طاعته. وقد يأخذون منه ذلك الكتاب ولا يطيعونه، وقد يقتلونه، أو يُمرضونه؛ فكثيرٌ من الناس قتلته الجنّ2.
سبب صرع الجن للإنس
كما يصرعونهم، والصرع لأجل الزنا، وتارة يقولون إنه آذاهم؛ إما [بصبّ نجاسة] 3 عليهم، وإما بغير ذلك؛ فيصرعونه صرع عقوبة وانتقام.
وتارة يفعلون ذلك عبثاً؛ كما [يعبث] 4 شياطين الإنس بالناس.
والجنُّ أعظم شيطنة، وأقلّ عقلاً، وأكثر جهلاً. والجني قد يحب الإنسي، كما يحب الإنسي الإنسي، وكما يحب الرجل المرأة، والمرأة الرجل، ويغار عليه، ويخدمه بأشياء. وإذا صار مع غيره، فقد يعاقبه بالقتل وغيره. كلُّ هذا واقعٌ5.
ثُمَّ الَّذي يخدمونه تارة يسرقون له شيئاً من أموال الناس، ممّا لم يُذكر اسم الله عليه، ويأتونه إما [بطعام] 6، وإما شراب، وإما لباس، وإما نقود، وإما غير ذلك. وتارة يأتونه في المفاوز بماء عذب وطعام وغير ذلك7.
1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
2 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 338، 350-351.
3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
4 في ((خ)) : بعثت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
5 انظر: مجموع الفتاوى 182، 173-174، 1382، 1934-35. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 350.
6 في ((ط)) : بؤعام.
7 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قصصاً عديدة عن هذه الحالات، من تلك قوله:"وآخرون كانت الشياطين تأتيهم بأطعمة يسرقونها من حوانيت الناس، وجرى هذا لغير واحد في زماننا وغير زماننا. وأتى قوم بحلاوة من الهواء، وعرفت تلك الحلاوة المسروقة وفقدها صاحبها، ووصفت الآنية التي كانت فيها، فرد ثمنها إليه. وهذه الأمور وأمثالها معلوم لنا بالضرورة والتواتر. فإذا كانت الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان بعيد في الهواء، وتحمل إليه الأموال من مكان بعيد، وتخبره بأمور غائبة عن الحاضرين، علم أنّ هذه الخوارق ليست من قوى النفوس، بل بفعل الجن. وإذا كانت الجن تفعل مثل هذا، فالملائكة أعلى منها وأقدر، وأكمل وأفضل". كتاب الصفدية 1192.
وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 82، 85، 226، 352-353. ومجموع الفتاوى 1371، 77، 92، 19135. وجامع الرسائل1192، 194. والجواب الصحيح 2342.
خوارق الشياطين سببها الشرك والظلم
وليس شيءٌ من ذلك من معجزات [الأنبياء] 1، ولا كرامات الصالحين؛ فإن ذلك إنما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة.
وهو لو كان مباحاً لم يجز أن يفعل بهذا السبب، فكيف إذا كان في نفسه ظلماً محرماً، لكونه من الظلم، والفواحش، ونحو ذلك.
وقد يُخبرون بأمور غائبة ممّا رأوه وسمعوه، ويدخلون في جوف الإنسان2؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم"3.
1 في ((خ)) : الأولياء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر موضحاً ذلك: "كما يدخل الشيطان في بدن المصروع، ولهذا يزبد أحدهم كإزباد المصروع، ويصيح كصياحه، وذلك صياح الشياطين على ألسنتهم. ولهذا لا يدري أحد ما جرى منه حتى يفيق، ويتكلم الشيطان على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه الإنسان، ويدخل أحدهم النار وقد لبسه الشيطان، ويحصل ذلك لقوم من النصارى بالمغرب وغيرهم: تلبسهم الشياطين فيحصل لهم مثل ذلك. فهؤلاء المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة أحوالهم ليست من كرامات الصالحين". مجموع الفتاوى 11665. وانظر: المصدر نفسه 11611.
3 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2715-716، كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، و 2717، كتاب الاعتكاف أيضاً، باب زيارة المرأة لزوجها في اعتكافه، و 2717، كتاب الاعتكاف أيضاً، باب هل يدرأ المعتكف عن نفسه. ومسلم في صحيحه 41712، كتاب السلام، باب بيان أنه يُستحبّ لمن رؤي خالياً بامرأة وكانت زوجة أو محرماً له أن يقول هذه فلانة.
لكن إنّما سلطانهم كما قال الله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكونَ} 1.
ولما قال الشيطان: {قال رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُم في الأرضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عِبَادَكَ مِنهُم المُخْلصِين} 2، قال الله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} ، ثم قال:{إِلَاّ [أي: لكن] 3 مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبوَاب لِكُلِّ بَابٍ منهم جُزءٌ مَقْسُوم} 45.
1 سورة النحل، الآيتان 99-100.
2 سورة الحجر، الآيتان 39-40.
3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) .
4 سورة الحجر، الآيات 42-44.
5 فالشيطان حريصٌ على إضلال الإنسان، وقصده - كما قال شيخ الإسلام رحمه الله:"إغواءه بحسب قدرته، فإن قدر على أن يجعلهم كفاراً جعلهم كفاراً، وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقاً أو عصاة، وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهمببدعة يرتكبونها يُخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فينتفع منهم بذلك". مجموع الفتاوى 182. وانظر: المصدر نفسه 1934-35، 41-42. والجواب الصحيح 2324. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 331-332.
الشياطين لا سلطان لهم على أهل الإخلاص وأسباب اندحارهم
فأهل الإخلاص والإيمان لا سلطان له عليهم1. ولهذا يهربون2 من البيت الذي [تُقْرأ] 3 فيه سورة البقرة4، [ويهربون من قراءة آية الكرسي5،
1 قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء، الآية 65]، وقال تعالى:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [سورة النحل، الآية 100] .
وقد أورد ابن الجوزي رحمه الله عن الحسن البصري رحمه الله قصة الرجل الذي غضب لله فأراد أن يقطع شجرة تعبد من دونه، فلقيه إبليس، وأقنعه أن يتركها، وأن يعطيه دينارين كل يوم يجعلهما تحت وسادته. ثم بعد فترة لم يجد شيئاً، فقام غضبان ليقطعها، فقال له الشيطان:"كذبت مالك إلى ذلك من سبيل، وخنقه حتى كاد يقتله، وقال: جئت أول مرة غضباً لله، فلم يكن لي عليك من سبيل، فخدعتك بالدينارين فتركتها. فلما جئت غضباً للدينارين سُلّطت عليك". تلبيس إبليس ص 44.
2 أي الشياطين.
3 في ((خ)) : يقرأ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة". أخرجه مسلم في صحيحه1539، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد. والترمذي في جامعه 5157، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الدارمي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من بيت يُقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله صراط ". سنن الدارمي 2539.
5 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. - فذكر الحديث، وفيه قول الرجل لأبي هريرة:"إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقصّ أبو هريرة على النبيّ صلى الله عليه وسلم القصة فقال له: "صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان". صحيح البخاري 41914، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة.
وانظر كلام الشيخ رحمه الله عن تأثير آية الكرسي في دفع الشيطان في مجموع الفتاوى 1955.
وآخر1 سورة البقرة] 2، وغير ذلك من قوارع القرآن3.
ومن الجنّ من يُخبر بأمور مستقبلة للكهان، وغير الكهان، ممّا [يسترقونه] 4 من السمع.
والكهانة كانت ظاهرة [كثيرةً] 5 بأرض العرب، فلما ظهر التوحيد هربت الشياطين، وبطلت، أو قلّت.
الشياطين تظهر في المواضع التي يخفى فيها أثر التوحيد
ثمّ إنها تظهر في المواضع التي يخفى فيها أثر التوحيد6.
1 فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". صحيح البخاري 41914، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة. وصحيح مسلم 1554-555، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة.
2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
3 مثل ما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ث م مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات". صحيح البخاري 41916، كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات. وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء.
وانظر كلام المؤلف في دفع الشياطين في مجموع الفتاوى 1169-171، 1953-55.
4 في ((م)) ، و ((ط)) : يسرقونه.
5 في ((ط)) : كثيراً.
6 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيرة أنّ أحوال المشعوذين تكثر حيث يكثر الجهل، ويخفى أثر التوحيد. انظر ما سبق ص 190. وكتاب الصفدية 1233، 236. والرد على المنطقيين ص 187. ومجموع الفتاوى 11456-457، 17459، 489. ومنهاج السنة 3447، 8311. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 169.
وقد كان حول المدينة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كُهّان يتحاكمون إليهم، وكان أبو بردة بن نيار كاهناً، ثمّ أسلم بعد ذلك، وهو من أسلم1.
والأصنام لها شياطين كانت تتراءى [للسدنة] 2 [أحياناً، وتكلمهم أحياناً.
قال أبي بن كعب: "مع كلّ صنم جنية"3.
وقال ابن عباس: "في كل صنم شيطان، تتراءى للسدنة] 4 فتكلمهم"5.
1 سبقت ترجمته.
إلا أن المشهور أن اسمه أبو برزة الأسلمي بدل أبو بردة.
وانظر حلية الأولياء 232-34. ومجموع الفتاوى 1383.
2 في ((ط)) : للسنة.
3 انظر: تفسير البغوي 1481. وزاد المسير 2118. وتفسير ابن كثير 1555 "ذكره عن ابن أبي حاتم بإسناده إلى أبي بن كعب". والرد على المنطقيين ص 284.
4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
5 انظر: تفسير البغوي 1481. وزاد المسير 2118. وتفسير القرطبي 5248. والرد على المنطقيين ص 284.
وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى، وهي شجرة بغطفان كانوا يعبد ونها، فجعل خالد بن الوليد يضربها بالفأس ويقول: يا عزّ كفرانك لا سبحانك.... إني رأيت الله قد أهانك
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية بويلها، واضعة يدها على رأسها.
ويُقال: إن خالداً رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قلعتها. فقال: قال: ما رأيت؟ قال: ما رأيت شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قلعت. فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها، فخرجت منها امرأة عريانة، فقتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بذلك، فقال: تلك العزى، ولن تعبد أبداً".
انظر: تفسير البغوي 4249. وإغاثة اللهفان 2222-226. وتفسير ابن كثير4253-254. والدين الخالص 2242.
والشياطين كما قال الله تقترن بما يجانسها؛ بأهل الكذب والفجور، قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّل الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} 1.
فكيف يجوز أن يقال: إن مثل هذا يكون معجزة لنبيّ، أو كرامة لوليّ؟!. وهذا يناقض الإيمان ويُضادّه! والأنبياء والأولياء أعداء هؤلاء، قال تعالى:{إِنَّ الشَّيطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوَّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أصْحَابِ السَّعِير} 2.
وهذا يُظهر الفرق بين أخبار الأنبياء عن الغيب ما لا سبيل لمخلوق إلى علمه إلا منه، كما قال تعالى:{عَالِمُ الغَيبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً إِلَاّ مَن ارْتَضَى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِم وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدَاً} 4.
فقوله: {على غيبه} : هو غيبه الذي اختص به.
1 سورة الشعراء، الآيات 221-223.
2 سورة فاطر، الآية 6.
3 سورة يس، الآيات 60-62.
4 سورة الجنّ، الآيات 26-28.
وأما ما يعلمه بعض المخلوقين: فهو غيب عمن لم يعلمه، وهو شهادة لمن علمه.
فهذا أيضاً تُخبر منه الأنبياء بما لا يمكن الشياطين أن تُخبر به، كما في إخبار المسيح بقوله:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ} 1؛ فإنّ الجن قد يخبرون بما يأكله بعض الناس، وبما يدّخرونه، لكن الشياطين إنما تتسلط على من لا يذكر اسم الله؛ كالذي لا يذكر اسم الله إذا دخل، فيدخلون معه، وإن لم يذكر اسم الله إذا أكل، فإنهم يأكلون معه.
وكذلك إذا ادّخر شيئاً، ولم يذكر اسم الله عليه، عرفوا به، وقد يسرقون بعضه، كما جرى هذا لكثيرٍ من الناس2.
وأما من يذكر اسم الله على [طعامه] 3، وعلى ما يختاره، فلا سلطان لهم عليه، لا يعرفون ذلك، ولا يستطيعون أخذه4.
1 سورة آل عمران، الآية 49.
2 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم؛ إما تغوير ماء من المياه، أو إما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يُذكر اسم الله عليه، وتأتي به، وإما غير ذلك. وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومن وقعت له ممن أعرفه، ما يطول حكايته، فإنهم كثيرون جداً". مجموع الفتاوى 1953.
3 في ((ط)) : طعام.
4 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء".
أخرجه مسلم في صحيحه 31598، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلّوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً".
أخرجه البخاري في صحيحه31203، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده. وأحمد في مسنده 3301، 306، 319.
والمسيح عليه السلام كان يخبر المؤمنين بما يأكلون وما يدخرون ممّا ذُكر اسم الله عليه، والشياطين لا تعلم به1.
ولهذا من [تكون] 2 أخباره عن شياطين تُخبره، لا يكاشف أهل الإيمان والتوحيد، وأهل القلوب المنورة بنور الله، بل يهرب منهم، ويعترف أنه لا يكاشف هؤلاء وأمثالهم.
خوارق الشياطين لأوليائهم لا تظهر أمام أهل القرآن والإيمان
وتعترف الجن والإنس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم [أنهم] 3 لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الإيمان والقرآن، ويقولون:
1 قال الإمام الطبري رحمه الله موضحاً الفرق بين علم الأنبياء وما يعلمه الشياطين: "فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [سورة آل عمران، 49] من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيراً فتصيب؟ قيل: إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه، ومن سائر أنبياء الله ورسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتدأ بإعلام الله إياه من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه، أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه والمتكهن إلى رئيه، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنه، وبين علم سائر المتكذبة على الله أو المدعية علم ذلك". تفسير الطبري 3278. وانظر أيضاً روح المعاني للآلوسي 3170-171.
2 في ((م)) ، و ((ط)) : يكون.
3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة، وإنما [تظهر] 1 عند الكفار والفجار2؛ وهذا لأنّ أولئك أولياء الشياطين، ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين3، ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانيّة؛ كدخول النّار مع كونها لم [تصر] 4 عليهم برداً وسلاماً؛ فإنّ الخليل لمّا أُلقي في النّار، صارت عليه برداً وسلاماً.
وكذلك أبو مسلم الخولاني، لمّا [قال] 5 له الأسود العنسي المتنبي: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بنار، فأُوقدت له، وألقي فيها، فجاءوا إليه، فوجدوه يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً. فقدم المدينة بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخذه عمر، فأجلسه بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فُعل به كما فُعل بإبراهيم6.
1 في ((خ)) : يظهر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 وقد أقرّ أهل البدع بذلك، فقال شيخ البطائحية الذين ناظرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وحكى عنهم:"وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار، لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله، وإنهم نزعوا الأغلال من الأعناق وأجابوا إلى الوفاق". مجموع الفتاوى 11455.
وانظر اعتراف الشاذلي بقوله: "كما نرى في زمننا هذا من إنكار ابن تيمية علينا، وعلى إخواننا من العارفين". طبقات الصوفية للشعراني 17.
3 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 331. ومجموع الفتاوى 1385، 91.
4 في ((خ)) : يصر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
5 في ((ط)) : قالا.
6 الاستيعاب لابن عبد البر 4194. وانظر: حلية الأولياء 2129. وجامع العلوم والحكم ص 322. والجواب الصحيح 1325. وسير أعلام النبلاء 47. والبداية والنهاية 8149.
وأما إخوان الشياطين: فإذا دخلت فيهم الشياطين، فقد يدخلون النار، ولا تحرقهم؛ كما يُضرب أحدهم ألف سوط، ولا يحسّ بذلك؛ فإن الشياطين تلتقي ذلك.
طرق خروج الجن من الإنس
وهذا أمرٌ كثيرٌ معروفٌ، قد رأينا من ذلك ما يطول وصفه1. وقد ضربنا نحن من الشياطين في الإنس ما شاء الله، حتى خرجوا من الإنس، ولم يعاودوه2.
وفيهم من يخرج بالذكر والقرآن.
وفيهم من يخرج بالوعظ والتخويف.
وفيهم من لا يخرج إلا بالعقوبة؛ كالإنس3.
الشياطين يخافون الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الإنس
فهؤلاء الشياطين إذا كانوا مع جنسهم، الذين لا يهابونهم، فعلوا هذه الأمور. وأما إذا كانوا عند أهل [إيمان] 4 وتوحيد، وفي بيوت الله التي
1 انظر: الجواب الصحيح 2342. ومجموع الفتاوى 11495، 574-575.
2 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ الصرع يكون أحياناً بالتواطئ ما بين الشياطين، وبعض الإنس ممن يدعي إخراج الجن من بدن المصروع، فقال رحمه الله:"وشيخ آخر كان له شياطين يُرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون منه إبراده، فيرسل إلى أتباعه فيفارقون ذلك المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة". جامع الرسائل 1194.
وانظر ما سبق من الكلام عن صرع الجن للإنس ص 1004-1005 من هذا الكتاب. وانظر: مجموع الفتاوى 11574-575، 1960. ودقائق التفسير 3137.
3 انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 331.
4 في ((خ)) : الإيمان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
يُذكر فيها اسمه، لم [يجترئوا] 1 على ذلك، بل يخافون الرجل الصالح أعظم ممّا [يخافه] 2 فُجّار الإنس. ولهذا لا يمكنهم عمل سماع المكاء والتصدية في المساجد المعمورة بذكر الله، ولا بين أهل الإيمان والشريعة المتبعين للرسول. إنّما يمكنهم ذلك في الأماكن التي [يأتيها] 3 الشياطين؛ كالمساجد المهجورة، والمشاهد، والمقابر، والحمامات، والمواخير.
فالمواضع التي نهى النبي [صلى الله عليه وسلم] 4 عن الصلاة فيها؛ كالمقبرة، وأعطان الإبل، والحمام، وغيرها5، فتكون حال هؤلاء فيها أقوى لأنها؛ مواضع الشياطين؛ [كالمجزرة] 6، والمزبلة، والحمام، ونحو ذلك، بخلاف الأمكنة التي ظهر فيها الإيمان والقرآن والتوحيد، التي أثنى الله على أهلها، وقال فيهم: {اللهُ نُورُ السَّموَاتِ والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا [مِصْبَاح] 7
1 في ((خ)) رسمت: يخبروا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 في ((م)) ، و ((ط)) : تخافه.
3 في ((م)) ، و ((ط)) : تأتيها.
4 في ((خ)) رسمت: صلعم.
5 عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله".
رواه الترمذي في جامعه 2177-178، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية ما يصلى إليه، وفيه. وقال أبو عيسى: وحديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وابن ماجه في سننه 1246، كتاب الطهارة، باب المواضع التي تُكره فيها الصلاة.
6 في ((م)) ، و ((ط)) : كالماخورة.
7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) .
المِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيّ [يُوقَدُ] 1 مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُور يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاء وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوّ وَالآصالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومَاً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَن مَا عَمِلُوا وَيَزِيدهُمْ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَاب} 2
الأماكن والأزمان التي لا تتسلط فيها الشياطين
فهذه أمكنة النور والصالحين والملائكة، لا تتسلّط عليها الشياطين بكل ما تريد، بل كيدهم فيها ضعيف، كما أن كيدهم في شهر رمضان ضعيف3؛ إذ كانوا فيه يُسلسلون4، لكن لم يبطل فعلهم بالكلية، بل
1 في ((خ)) : توقد.
2 سورة النور، الآيات 35-38.
3 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين"، فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره. ولم يقل: إنهم قتلوا، ولا ماتوا، بل قال: صفدت. والمصفد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه. فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه دفع الصوم الناقص. فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب. والحكم ثابت على وفقه". مجموع الفتاوى 25246-247.
4 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين".
الحديث أخرجه البخاري 2672، كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان، أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعاً. و 31194، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده. ومسلم في صحيحه - واللفظ له - 2758، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان.
ضَعُف، فشرّهم فيه على أهل الصوم قليل، بخلاف أهل [الشراب] 1، وأهل الظلمات؛ فإنّ الشياطين هنالك مَحَالُّهم، وهم يحبون الظلمة، ويكرهون النور، ولهذا ينتشرون بالليل؛ كما جاء في الحديث الصحيح2، ولهذا أمر الله بالتعوّذ من شرّ غاسق إذا وقب3.
وخوارق الجن؛ كالإخبار ببعض الأمور الغائبة؛ وكالتصرّفات الموافقة لأغراض
بعض الإنس: كثيرةٌ، [معروفةٌ في جميع الأمم؛ فقد كانت في
1 في ((خ)) : السَّراب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استجنح الليل أو كان جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم، وأغلق بابك، واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله، وخمر إناءك، واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئاً". صحيح البخاري 31195، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده. وأحمد في مسنده3319.
3 قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} سورة الفلق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الغاسق قد فسر بالليل، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة.... والليل مظلم تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار؛ من أنواع الكفر والفسوق والعصيان، والسحر، والسرقة، والخيانة، والفواحش، وغير ذلك. فالشر دائماً مقرون بالظلمة. ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، ويتوسلون بالقمر ويدعونه، والقمر وعبادته. وأبو معشر البلخي له مصحف القمر يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه". دقائق التفسير 6497.
العرب كثيرة] 1، وكذلك في الهند، وفي الترك، والفرس، والبربر، وسائر الأمم2، فهي أمورٌ معتادة للجنّ والإنس.
آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الجن والإنس
خوارق الشياطين علامة على فجور أوليائهم
وآيات الأنبياء - كما تقدم3 - خارجةٌ عن مقدور الإنس والجن؛ فإنهم مبعوثون إلى الإنس والجن، فيمتنع أن تكون آياتهم أموراً معروفةً فيمن بُعثوا إليه؛ إذ يقال: هذه موجودة كثيراً للإنس، فلا يختصّ بها الأنبياء. بل هذه الخوارق هي آيةٌ وعلامةٌ على فجور صاحبها وكذبه، فهي ضدّ آيات الأنبياء التي تستلزم صدق صاحبها وعدله.
ولهذا يكون كثيرٌ من الذين تخدمهم الشياطين من أهل الشياطين.
وهذا معروفٌ لكثيرٍ ممَّن تخدمه الشياطين.
بل من طوائف المخدومين من يكونون كلّهم من هذا الباب؛ [كالبوي] 4 الذي للترك5.
1 ما بين المعقوفتين مكرر في ((خ)) .
2 انظر: الجواب الصحيح 2319، 321، 342-343. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 83، 124، 169.
3 انظر ما تقدم من هذا الكتاب ص 589-632، 671-674، 754، 798، 799، 1003، 1021.
4 في ((م)) : كالبويي. وفي ((ط)) : كالبوبي. ولعلها (كالبوى) - بالألف المقصورة.
5 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر أن للترك شيخاً يقال له: البوا. يُنصب له مكان في ظلمة، فيذبحون ذبيحة للشيطان، ويغنون له، فتأتي الشياطين وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة؛ كأحوال غائبيهم، وسرقاتهم، وغير ذلك. ويُحمل البوا فيوقف به في الهواء وهم يرونه، ولا يكون بينهم إذ ذاك مسلم، ولا كتاب فيه قرآن. هذا مشهور عندهم إلى هذا الوقت، أخبرنا به غير واحد. انظر: كتاب الصفدية 1191.
وقد سبق أن ذكر شيخ الإسلام رحمه الله باباه الرومي في ص 192، 600 من هذا الكتاب.
فهو المقصود بالبويي الذي للترك، أو البوا، أو باباه، وهي أسماء لشخص واحد من أولياء الشياطين الذين لهم خوارق تعينهم عليها.
وكذلك البوشي - أبو المجيب - فإنه ذكر أن له خوارق مثل خوارق البوا. انظر: جامع الرسائل 1193.
وأكثر [المؤلهين] 1 من هذا الباب، وهم يصعدون بهم في الهواء، ويدخلون المدن والحصون بالليل والأبواب مغلقة، ويدخلون على كثيرٍ من رؤساء النَّاس، و [يظنّون] 2 أنَّ هؤلاء صالحون قد طاروا في الهواء، ولا يعرف أن الجنّ طارت بهم.
الفرق بين الأحوال الشيطانية والآيات النبوية
وهذه الأحوال الشيطانية تبطل، أو تضعف، إذا ذُكر الله وتوحيده، وقرئت قوارع القرآن؛ لا سيما آية الكرسي؛ فإنها تُبطل عامّة هذه الخوارق الشيطانية3.
وأمّا آيات الأنبياء والأولياء [فتقوى] 4 بذكر الله وتوحيده.
والجنّ المؤمنون قد يعينون المؤمنين بشيءٍ من الخوارق، كما يعين الإنس المؤمنون للمؤمنين بما يمكنهم من الإعانة.
وما لا يكون إلا مع الإقرار بنبوّة الأنبياء، فهو من آياتهم. فوجوده يؤيد آياتهم، لا يُناقضها. مع أن آيات الأنبياء التي يدّعون أعلى من هذا، وأعلى من كرامات الأولياء؛ فإن تلك هي الآيات الكبرى5.
1 في ((ط)) : لمؤلهين.
2 في ((خ)) : ويظن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 325، 326، 339. ومجموع الفتاوى 1169، 11538، 635، 1953-55.
4 في ((خ)) : فيقوى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
5 سبق ذلك، انظر ما تقدم ص 581، 724، 801-963، 986-989،1021-1023، وما سيأتي من هذا الكتاب ص 1325. وانظر مجموع الفتاوى 3156.
الدعوات المجابة والرؤيا الصادقة لا ينكرها أحد
والذين ذكر عنهم إنكار كرامات الأولياء1 من المعتزلة وغيرهم؛ كأبي إسحاق الاسفرايني، وأبي محمد بن أبي زيد؛ وكما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم2، لا ينكرون الدعوات المجابة، ولا ينكرون الرؤيا الصادقة؛ فإن هذا متفق عليه بين المسلمين3؛ وهو أن الله تعالى قد يخصّ بعض عباده بإجابة دعائه أكثر من بعض، ويخصّ بعضهم بما يريه من المبشّرات. وقد كان سعد بن أبي وقاص معروفاً بإجابة الدعاء؛ فإنّ النبيّ [صلى الله عليه وسلم] 4 قال:"اللهمّ سدّد رميته، وأجب دعوته"5. وحكاياته في ذلك مشهورة6.
1 سبق ذلك في ص 148-149، 986 من هذا الكتاب.
2 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 52-4، 8. والمحلى 136. والدرة فيما يجب اعتقاده ص 192.
3 انظر إثبات الرؤيا، والدعوات المجابة عند ابن حزم، والمعتزلة في: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 58، 14. والأصول والفروع له ص 134. وتفسير الزمخشري المعتزلي 2243.
ونقل السبكي عن الاسفراييني أنه قال: "وإنما بالغ الكرامات إجابة دعوة، أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه، أو مضاهي ذلك، مما ينحط عن العادة". طبقات الشافعية 2315.
4 في ((خ)) : صلعم.
5 انظر: طبقات الشافعية للسبكي 2331. والبداية والنهاية لابن كثير 778.
وعند الترمذي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم استجب لسعد إذا دعاك". سنن الترمذي 5649، كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. والحاكم في مستدركه 3499، وصححه، ووافقه الذهبي.
6 انظر بعض هذه الدعوات التي دعا بها سعد، فاستجيب له في: البداية والنهاية 778-80. وسير أعلام النبلاء 1112-117.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم يبق بعدي من النبوّة إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له"1.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"2؛ ذكر ذلك لما أقسم أنس بن النضر أنه لا [تكسر] 3 ثنية الربيع4، [فاستجاب الله ذلك]5.
[وأيضاً: فإنّ منهم] 6 البراء بن مالك7؛ أخو أنس بن مالك، وكانوا
1 أخرجه البخاري في صحيحه - مع اختلاف في الألفاظ - 52564، كتاب التعبير، باب المبشرات.
ومسلم في صحيحه 1348، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.
وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب في الدعاء في الركوع والسجود.
وابن ماجه في سننه 21283، كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له.
ومالك في الموطأ 2957، كتاب الرؤيا، باب ما جاء في الرؤيا.
2 أخرجه البخاري في صحيحه2961-962، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، و 41636-1637، كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} ومسلم في صحيحه 31302، كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، إلا أنه وقع في صحيح مسلم أن أم الربيع هي التي أقسمت، وابنتها أم حارثة هي التي جرحت إنساناً.
3 في ((خ)) : يكسر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 هي الربيع بنت النضر الأنصارية الخزرجية، عمة أنس بن مالك. صحابية.
انظر تقريب التهذيب 2640.
5 في ((خ)) : وجاء ذلك. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
6 في ((خ)) : أيضاً ومنهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
7 هو البراء بن مالك بن النضر الأنصاري. صحابي جليل، بطل شجاع، شهد أحداً وبايع تحت الشجرة. قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أمراء الجيش: لا تستعملوا البراء على جيش فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم. استشهد يوم فتح تستر سنة 20 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 1195. والبداية والنهاية 788.
إذا اشتدّ الحرب، يقولون: يا براء أقسم على ربك، فيقسم على ربه، فينصرون1.
والقَسَمُ: قيل: هو من جنس الدعاء2، لكن هو طلب مؤكّد بالقسم. فالسائل يخضع، ويقول: أعطني. والمقسم يقول: عليك لتعطيني، وهو خاضعٌ سائلٌ.
بعض المتصوفة يدعي لنفسه من الكرامات ما لا يجوز أن يكون للأنبياء
لكن من الناس من يدّعي له من الكرامات ما لا يجوز أن يكون للأنبياء3؛
1 روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء ابن مالك". سنن الترمذي 5692، كتاب المناقب، باب مناقب البراء بن مالك رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح حسن.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون: يا براء أقسم على ربك. فيقسم على الله، فتنهزم الكفار. فلما كانوا على قنطرة بالسوس، قالوا: يا براء أقسم على ربك، فقال: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد. فأبرّ الله قسمه، فانهزم العدو، واستشهد البراء بن مالك يومئذ. وهذا هو أخو أنس بن مالك قتل مائة رجل مبارزة، غير من شرك في دمه، وحمل يوم مسيلمة على ترس، ورمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب". مجموع الفتاوى 1205.
2 لم أجد هذا المعنى - في مادة قَسَمَ - في كتب اللغة التالية: لسان العرب، وتهذيب اللغة، والقاموس المحيط، والمفردات، والمصباح المنير.
وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الموضوع بالتفصيل في مجموع الفتاوى1205-206.
3 شيخ الإسلام رحمه الله يُنبّه هاهنا على خرافات ملاحدة الصوفية الذين يضاهئون كرامات أوليائهم بأفعال الله تعالى، فيجعلونهم ينفعون ويضرون، ويحيون ويميتون.
كقول بعضهم: إنّ لله عباداً، لو شاءوا من الله أن لا يقيم القيامة، لما أقامها1.
وقول بعضهم: إنه يعطي كن، أيّ شيء أراده، قال له: كن، فيكون.
وقول بعضهم: لا يعزب عن قدرته ممكن، كما لا يعزب عن قدرة ربه محال؛ فإنه لما كثر في الغلاة من يقول بالحلول والاتحاد2 وإلهية بعض البشر، كما [قاله] 3 النصارى في المسيح، صاروا يجعلون ما هو من خصائص الربوبية لبعض البشر، وهذا كفرٌ.
وأيضاً: فإنّ كثيراً من الناس لا يكون من أهل الصلاح، و [يكون] 4 له خوارق شيطانية، كما لعبّاد المشركين وأهل الكتاب، فتتجلى لهم على أنها كرامات. فمن الناس من يُكذّب بها، ومنهم من يجعل أهلها [من] 5 أولياء
1 نقل الغزالي مثل هذه المقولة عن أحد أقطاب الصوفية الذين يجعلون الإرادة والمحبة والرضا سواء، والكفر والفسوق والعصيان يُريده الله ويُحبه ويرضى عنه، فقال:"ولما دخل الزنج البصرة فقتلوا الأنفس ونهبوا الأموال، اجتمع إلى سهل إخوانه فقالوا: لو سألت الله تعالى دفعهم؟ فسكت، ثم قال: إن لله عباداً في هذه البلدة لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة واحدة، ولكن لا يفعلون. قيل: لِمَ؟ قال: لأنهم لا يحبون ما لا يحب. ثم ذكر من إجابة الله تعالى أشياء لا يستطاع ذكرها، حتى قال: ولو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها". إحياء علوم الدين 4375-376.
2 وهم غلاة الصوفية وملاحدتهم؛ كابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، ومن قبلهم الحلاج، وغيرهم.
3 في ((ط)) : قال.
4 في ((م)) ، و ((ط)) : وتكون.
5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
الله1، وذلك لأن الطائفتين ظنت أن مثل هذه الخوارق لا يكون إلا لأولياء الله، ولم يُميّزوا بين الخوارق الشيطانية التي هي جنس ما للسحرة، والكهان، ولعباد المشركين، وأهل الكتاب، وللمتنبئين الكذّابين، وبين الكرامات الرحمانية التي يكرم الله بها عباده الصالحين.
فلما لم يُميّزوا بين هذا وهذا، وكان كثيرٌ من الكفار، والفجار، وأهل الضلال، والبدع لهم خوارق شيطانيّة، صار هؤلاء منهم حزبين؛ حزباً قد شاهدوا ذلك، وأخبرهم به من يعرفون صدقه، فقالوا: هؤلاء أولياء الله، وحزباً رأوا أن أولئك خارجون عن الشريعة، وعن طاعة الله ورسوله، فقالوا: ليس هؤلاء من الأولياء الذين لهم كرامات؛ فكذّبوا بوجود ما رآه أولئك، وأولئك قد عاينوا ذلك أو تواتر عندهم؛ فصار تكذيب هؤلاء مثل تكذيب من ينكر السحر، والكهانة، والجن، وصرعهم للإنس2، إذا
1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام: قسم يُكذّب وجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به مجملاً وكذّب بما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء. ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان ولياً.
وكلا الأمرين خطأ، ولهذا نجد هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين، وأنهم من أولياء الله. وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة.
والصواب القول الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنّهم، لا من أولياء الله.. فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله. ولكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضاً. وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 342-343. وانظر مجموع الفتاوى 1377، 91.
2 وممّن أنكر حقيقة السحر، وجعله من جنس التمويه والحيلة، وكذلك الكهانة: المعتزلة، وابن حزم، وغيرهم.
انظر: الكشاف للزمخشري 2103. والفصل لابن حزم 52-6. وانظر أيضاً: شرح النووي على مسلم 14223. وتفسير القرطبي 232. وتفسير ابن كثير 1147 وفتح الباري10233. وتيسير العزيز الحميد ص 383. وأضواء البيان 4444.
وانظر عن إنكار المعتزلة صرع الجن للإنس ما سبق أيضاً في هذا الكتاب ص 1003-1005. وكذا الفصل لابن حزم 59.
كذّب ذلك عند من رأى ذلك، أو ثبت عنده.
ومن كذّب بما تيقن غيره وجوده، نقصت حرمته عند هذا المتيقن، وكان عنده إما جاهلاً، و [إما] 1 معانداً، فربّما ردّ عليه كثيراً من الحق بسبب ذلك.
إنكار المعتزلة للكرامات والسحر والكهانة
ولهذا صار كثيرٌ من المنتسبين إلى زهدٍ، أو فقرٍ، أو تصوّف، أو وَلَهٍ، أو غير ذلك، لا يقبلون قولهم، ولا يعبأون بخلافهم؛ لأنهم كذّبوا بحق قد تيقّنه هؤلاء، وأنكروا وجوده، وكذّبوا بما لم يُحيطوا بعلمه.
وقد يُدخلون إنكار ذلك في الشرع، كما أدخلت المعتزلة ونحوهم إنكار كرامات الأولياء2، وإنكار السحر والكهانة في الشرع، بناءً على أن ذلك يقدح في آيات الأنبياء3؛ فجمعوا بين التكذيب بهذه الأمور الموجودة، وبين عدم
1 في ((ط)) : تأما.
2 أنكر المعتزلة، وابن حزم، وبعض المتكلمين كرامات الأولياء، لأجل أن لا تلبس المعجزة بالكرامة، وقالوا: إن الخوارق لا تظهر إلا على يد الأنبياء.
انظر: المغني للقاضي عبد الجبار 15241. والمحلى لابن حزم 136. والأصول والفروع له ص 132-133. والدره له ص 194-195.
3 أنكر المعتزلة، وابن حزم حقيقة السحر، وقالوا: إنه عجائب وحيل، وقالوا: لو أن السحر حقيقة لما كان بين الأنبياء وبين السحرة والكهان فرق.
انظر: المغني للقاضي عبد الجبار 15241-242. والدره لابن حزم ص 192-194، 197. والأصول والفروع له ص 134-135. وتفسير القرطبي 232.
العلم بآيات الأنبياء والفرق بينها وبين غيرها؛ حيث ظنوا أن هذه الخوارق الشيطانية من جنس آيات الأنبياء، وأنها نظير لها، فلو وقعت لم يكن للأنبياء ما يتميّزون به.
والذين ردُّوا على هؤلاء1 من الأشعرية ونحوهم، يُشاركونهم في هذا في التسوية بين الجنسين2، وأنه لا فرق.
قول الأشاعرة في الخوارق
لكنّ هؤلاء لمّا تيقّنوا وجودها، جعلوا الفرق ما ليس بفرق؛ وهو اقترانها بالدعوى، والتحدي بمثلها، وعدم المعارضة3. وهم يقولون: إنّا نعلم بالضرورة أنّ الربّ إنّما خلقها لتصديق النبيّ4.
وهذا كلام صحيح، لكنّه يستلزم بطلان ما أصّلوه؛ من أنه لا يخلق شيئاً لشيءٍ5.
1 أي على المعتزلة.
2 أي لا فرق بين جنس آيات الأنبياء، وجنس خوارق السحرة والكهان.
فالمعتزلة أنكروا كرامات الأولياء، وخوارق السحرة والكهان، وشبهتهم: أنهم لو أثبتوها لما تميزت معجزات الأنبياء من بينها.
وأما الأشاعرة: فقد أثبتوا كرامات الأولياء، وخوارق السحرة والكهان، وجعلوها من جنس معجزات الأنبياء، إلا أن الولي والساحر لا يدّعي النبوة بما أوتي من خوارق، ولو ادعى النبوة لأبطل الله تلك الخوارق.
3 هذا تعريف المعجزة عند الأشاعرة، كما تقدم ص 151-152، 1164.
4 انظر: الإرشاد للجويني ص 325، 329. والبرهان في أصول الفقه له أيضاً1148-152.
5 سبق أن ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على أصلهم هذا، وبيّن تناقضه مع قولهم في المعجزات (في ص 580-583 من هذا الكتاب) .
وأيضاً: فاختصاصها بوجود العلم الضروري عندها دون غيرها، لا بُدّ أن يكون لأمرٍ أوجب [التخصيص] 1، وهم يقولون: بل قد تستوي الأمور، ويوجد العلم الضروي ببعضها دون بعض2؛ كما قالوا مثل ذلك في العادات: إنّه يجوز إنخراقها كلّها بلا سبب على أعظم الوجوه؛ كجعل الجبال يواقيت. لكن يُعلم بالضرورة أن هذا لا يقع3. فكذلك قالوا في المعجزات: يجوز أن يخلقها على يد كاذب [...................] 4 إنما خلقها على يد الصادق بما ادعى من العلم الضروري صحيح5وأما قولهم: إنّ المعلوم به يماثل غيره. فغلطٌ عظيم، بل هم لم يعرفوا الفرق، بمنزلة العامي الذي أوردت عليه شبهات السوفسطائية6؛ فهو يعلم بالضرورة أنها باطلة، ولكن لا يعرف الفرق بينها وبين الحق. ولكن العامي يقول: فيها فساد لا أعرفه، لا يقول: دلائل الحق كدلائل الباطل.
1 في ((ط)) : التصخيص.
2 انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني 1153.
3 انظر: المواقف للإيجي ص 342، 345. وشرح المقاصد 515-18. وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2316-317. والإرشاد للجويني ص 318-319. وانظر: الجواب الصحيح 6399-404، 500. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 1028-1033.
4 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : بياض في الأصل مقدار نصف سطر.
5 انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني 1150. والإرشاد له ص 326-327. والمواقف للإيجي ص 341. وانظر: الجواب الصحيح 6399، 500-502. ومنهاج السنة النبوية 3226-228. وانظر ما سبق ص 777 من هذا الكتاب.
6 تقدم معناها ص 553.
وهؤلاء ادعوا الاستواء في نفس الأمر، فغلطوا غلطاً عظيماً1، ولو قالوا: بينهما فرقٌ، لكنه لم يتلخص لنا، لكان قولهم حقاً، وكانوا قد ذكروا عدم العلم، لا العلم بالعدم؛ كما يقول ذلك كثير من الناس؛ يقول: ما أعرف الفرق بينهما، وذلك أن العلم الضروري يحصل ببعض الأخبار دون بعض.
وقد قيل: إنا نعلم أنه متواتر بحصول علمنا الضروري به2.
والتحقيق: أنه إذا حصل [لهم] 3 علم ضروري، كان قد حصل الخبر الذي يوجبه لهم، وقد لا يحصل لغيرهم.
والعلم يحصل بعدد المخبرين، وبصفاتهم، وبأمور أخرى تنضم إلى الخبر4. ومن جعل الاعتبار بمجرد العدد فقد غلط5. والأكثرون
1 أي أن الأشاعرة ادعوا الاستواء في جنس الخارق للأنبياء والأولياء والسحرة.
انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. والإرشاد للجويني ص 328.
2 انظر: التمهيد لأبي الخطاب 316-17.
3 في ((م)) ، و ((ط)) : له.
4 انظر: التمهيد لأبي الخطاب 331. وشرح الكوكب المنير 3335. وأصول الفقه عند ابن تيمية1191. ومجموع الفتاوى 11340، 1848-51. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 888.
5 وانظر إلى من اشترط العدد، وإلى اختلافهم في العدد الذي يفيد التواتر في: التمهيد لأبي الخطاب 328-29. والعدة لأبي يعلى 3744. والمعتمد 2561. والمسودة ص 235. وشرح الكوكب المنير 2333. والبرهان في أصول الفقه للجويني 1569-570. ومجموع الفتاوى 1850-51. وأصول الفقه عند ابن تيمية 1252.
يقولون: العلم الحاصل به ضروريّ1. وقيل: إنه نظري2. وهو اختيار الكعبي3، وأبي الحسين4، وأبي الخطاب5.
كل علم نظري فمنتهاه أنه ضروري
والتحقيق: أنّه قد يكون ضرورياً، وقد يكون نظرياً، وقد يجتمع فيه الأمران؛ يكون ضرورياً، ثم إذا نظر فيه وجد أنه يوجب العلم. وكذلك العلم الحاصل عقب الآيات قد يكون ضرورياً، وقد يكون نظرياً، وكلّ نظري فإنّ منتهاه أنه ضروري6.
ولهذا قال أبو المعالي: المرتضى عندنا أن جميع العلوم ضرورية7؛ أي بعد حصول أسبابها، ولا بد من فرق في نفس الأمر بين ما يوجب العلم، وما لا يوجبه.
أصل خطأ المعتزلة والأشاعرة في الخوارق
وأصل خطأ الطائفتين: أنهم لم يعرفوا آيات الأنبياء، وما خصهم الله به، ولم يقدروا قدر النبوة، ولم يقدروا آيات الأنبياء قدرها، بل جعلوا هذه الخوارق الشيطانية من جنسها؛ فإما أن يكذّبوا بوجودها، وإما أن يسوّوا بينهما، ويدعوا فرقاً لا حقيقة له.
1 انظر: التمهيد لأبي الخطاب 322-23. والبرهان في أصول الفقه 1569. وشرح الطحاوية 1143.
2 انظر: التمهيد لأبي الخطاب 317، 23-28.
3 سبقت ترجمته.
4 سبقت ترجمته.
5 سبقت ترجمته.
6 انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني 199، 111. ودرء تعارض العقل والنقل.
7 انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني 1126. ومجموع الفتاوى 276-77.
ولهذا يوجد كثير ممّن يكذب [بهذه] 1 الخوارق الشيطانية أن [تكون] 2 لبعض الأشخاص لما يراه من نقص دينه وعلمه، فإذا عاينها بعد ذلك أو ثبت عنده، خضع لذلك الشخص الذي كان عنده: إما كافراً، وإما ضالاً، وإما مبتدعاً جاهلاً، وذلك لأنه أنكر وجودها [معتقداً أنها لا توجد إلا للصالحين، فلمّا تيقّن وجودها] 3، جعلها دليلاً على الصلاح. وهو غالطٌ في الأصل، بل هذه من الشياطين؛ من جنس ما للسحرة والكهان، ومن جنس ما للكفار من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن لمشركي الهند والترك وغيرهم، ولعباد النصارى من هذه الخوارق الشيطانية أموراً كثيرة يطول وصفها أكثر وأعظم [من أكثر] 4 ممّا يُوجد منها لأهل الضلال والبدع من المسلمين، وما يوجد منها للمنافقين5؛ فإن الشياطين لا تتمكن من إغواء المسلمين، وإن كان فيهم جهل وظلم، كما [تتمكن] 6 من اغواء المشركين وأهل الكتاب7.
1 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط)) .
2 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) .
5 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وفي أصناف المشركين من مشركي العرب، ومشركي الهند، والترك، واليونان، وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمتبع للرسل، ولا مؤمن بما جاؤوا به، ولا يصدقهم بما أخبروا به، ولا يطيعهم فيما أمروا. فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين، وتنزل عليهم، فيكاشفون ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تتنزل عليهم الشياطين..". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 83-84. وانظر أيضاً المصدر نفسه ص 168-169.
6 في ((خ)) : يتمكن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
7 وسبق أن ذُكرت قصة شيخ من طائفة الأحمدية مع بعض أمراء التتار المشركين، وفيها دلالة واضحة على تسلط الشياطين على هؤلاء الكفار.
ولهذا ثنى في القرآن قصة موسى مع السحرة، وذكر ما يقوله الكفار لأنبيائهم؛ فإنه ما جاء نبي صادق قط، إلا قيل فيه: إنه ساحر أو مجنون؛ كما قال تعالى: {كَذَلكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَومٌ طَاغُون} 1، وذلك أن الرسول يأتي بما يخالف عاداتهم، ويفعل ما يرونه غير نافع، ويترك ما يرونه نافعاً. وهذا فعل المجنون؛ فإن المجنون فاسد العلم والقصد. ومن كان مبلغه من العلم إرادة الحياة الدنيا، كان عنده من ترك ذلك، وطلب ما لا يعلمه: مجنوناً. ثمّ النبيّ مع هذا يأتي بأمور خارجة عن قدرة الناس؛ من إعلام بالغيوب، وأمور خارقة لعاداتهم؛ فيقولون: هو ساحر.
الفرق بين النبي والساحر عند الفلاسفة
وهذا موجود في المنافقين الملحدين المتظاهرين بالإسلام؛ من الفلاسفة ونحوهم؛ يقولون: إن ما أخبرت به الأنبياء من الغيوب، والجنة، والنار، هو من جنس قول المجانين2، وعندهم خوارقهم من جنس
1 سورة الذاريات، الآيتان 52-53.
2 وقال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم في موضع آخر: "وهؤلاء القوم قد يقولون: إن الأنبياء أخبروا الناس بما هو كذب في نفس الأمر لأجل مصلحتهم. وقد يحسنون العبارة، فيقولون: لم يخبروا بالحقائق، بل ذكروا من التمثيل والتخييل في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما تنفع به العامة. وأما الحقيقة فلم يخبروا بها، ولا يمكن إخبار العامة بها. وهذا مما يعلم بالضرورة بطلانه من دين المرسلين". الصفدية 1202. وانظر درء تعارض العقل والنقل 18-9. وانظر ما يُشبه كلام هؤلاء في: رسالة أضحوية في أمر المعاد لابن سينا ص 44-51.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً عن الفلاسفة المنتسبين للإسلام: "وصار ابن سينا، وابن رشد الحفيد، وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء، ويظهرون أصولاً لا تخالف الشرائع النبوية. وهم في الباطن يقولون: إن ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له في نفس الأمر، وإنما هو تخييل وتمثيل، وأمثال مضروبة لتفهيم العامة ما ينتفعون به في ذلك بزعمهم، وإن كان مخالفاً للحق في نفس الأمر. وقد يجعلون خاصة النبوة هي التخييل، ويزعمون أن العقل دلّ على صحة أصولهم". الصفدية 1237.
خوارق السحرة، والممرورين1 المجانين؛ كما ذكر ابن سينا2، وغيره3. لكن الفرق بينهما: أنّ النبي حسن القصد، بخلاف الساحر، وأنه يعلم ما يقول، بخلاف المجنون4.
لكن معجزات [الأنبياء] 5 عندهم قوى نفسانية، ليس مع هذا ولا هذا شيء خارج عن قوة النفس6.
والقاضيان؛ أبو بكر، وأبو يعلى، ومن وافقهما: متوقّفون في وجود المخدوم الذي تخدمه الجن7؛ قالوا: لا يُقطع بوجوده.
معنى الكاهن
وكذلك الكاهن: ذكروا فيه القولين؛ قول من يقول: إنه المتخرص؛
1 سبق التعريف بالمرة. انظر ص 836 من هذا الكتاب.
2 انظر: الإشارات والتنبيهات لابن سينا 4900-901.
وانظر: الصفدية 1142-143، 165. ودرء تعارض العقل والنقل 19.
وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 608-609، 835.
3 كالفارابي، وقد تقدم ص 835.
4 انظر: الصفدية 1143. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 156-157، 611.
5 في ((ط)) : لأنبياء.
6 انظر: درء تعارض العقل والنقل 5355-356. والصفدية 1128، 132. وانظر ما سبق ص 446، 618 من هذا الكتاب.
7 المخدوم: من له تابعه من الجن. انظر: القاموس المحيط ص 1421.
وقول من يقول: إنه مخدوم. وهم متوقفون [فيه، لا] 1 يقطعون [بوجود] 2 مخدوم كاهن3، كما يقطعون [بوجود] 4 الساحر؛ [لأنه] 5 في زمانهم وجد الساحر.
والقرآن أخبرنا بالسحر في سورة البقرة6، بخلاف الكاهن؛ فإن القرآن ذكر اسمه، ولو تدبروا لعلموا أن الكاهن هو المذكور في قوله:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُم كَاذِبُونَ} 78.
وفي الصحيح: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] 9 أنه قيل له: "إن منا قوماً يأتون الكهان. قال: فلا يأتوهم"10.
1 في ((خ)) : لا فيه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 في ((ط)) : وجود.
3 وقد أشار القاضي عياض رحمه الله إلى إنكار المعتزلة وبعض المتكلمين لوجوده.
انظر: شرح النووي على مسلم 4223.
4 في ((ط)) : وجود.
5 ما بين المعقوفتين ساقط في ((خ)) .
7 سورة الشعراء، الآيات 221-223.
8 انظر زاد المسير لابن الجوزي 6149.
9 في ((خ)) : صلعم.
10 سبق تخريجه، انظر ص 1221 من هذا الكتاب.
وسئل عن الكهان، وما يخبرون به؟ فأخبر أن الجن [تسترق] 1 السمع، و [تخبرهم] 2 به3.
فالكتاب والسنة أثبتا وجود الكاهن.
وأحمد قد نصّ على أنه يُقتل كالساحر4.
لكن الكاهن إنما عنده أخبار، والساحر عنده تصرف؛ بقتل، وإمراض، وغير ذلك5. وهذا تطلبه النفوس أكثر.
وابن صياد6 كان كاهناً، ولهذا قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:" قد خبّأتُ لك خبيَّاً. فقال: الدُّخّ. فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك" 7، إنمّا أنت من إخوان الكهان.
1 في ((خ)) : يسترق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 في ((خ)) : يخبرهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 سبق تخريجه، انظر ص 974 من هذا الكتاب.
4 انظر: المغني لابن قدامة 12305. والكافي 4166. وتيسير العزيز الحميد ص 414. وانظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد 2106-107.
5 انظر: المغني لابن قدامه 12305. وتيسير العزيز الحميد ص 406، 411، 412. ولسان العرب 17244 - مادة كهن -. والمفردات في غريب القرآن ص 97. وأضواء البيان 4455. وفتح المجيد ص 338، 339.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "الكاهن يدعي الغيب، والساحر يعقد ويفعل كذا". المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد 2106.
6 هو عبد الله بن صائد، ويقال له: ابن صياد. كان أبوه من اليهود، وهو الذي يقال إنه الدجال.
ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعور مختوناً. وقد استأذن عمرُ بن الخطاب الرسولَ صلى الله عليه وسلم في قتله؟ فقال: إن يكنه، فلن تسلط عليه، وإن يكن غيره فلا خير لك في قتله. قال بعض العلماء: لأنه كان من أهل العهد، ويقال إنه أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالمدينة، وقيل فقد يوم الحرة سنة 63 هـ.
انظر: أسد الغابة 3187. والإصابة 5192.
7 رواه البخاري في صحيحه 31112، كتاب الجهاد، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي.
ومسلم في صحيحه42240-2241، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد.
ولمّا قضى في الجنين بغرة، قال [حمل بن] 1 مالك2:[أيودى] 3 من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، قتل ذلك يطل4. فقال:" إنّما أنت من أخوان الكهّان"؛ من أجل [سجعه الذي سجع5.
فكانوا يسجعون أساجيع6] 7.
وقد رأيت من هؤلاء شيوخاً [يسجعون أساجيع كأساجيع] 8 الكهّان، ويكون كثيرٌ منها صدقاً.
1 في ((خ)) : حَمَدُابن. وفي ((ط)) : أحمد بن. وما أثبت من ((م)) .
2 هو حمل بن مالك بن النابغة الهذلي، أبو نضله - بفتح النون وسكون المعجمة - صحابي نزل البصرة، وله ذكر في الصحيحين. (تقريب التهذيب 1243) .
وقد ورد في صحيح مسلم: فقال حمل بن النابغة الهذلي - نسبه إلى جده -.
3 في ((ط)) : أيودي.
4 في البخاري: فمثل ذلك بطل. وفي مسلم: فمثل ذلك يطل. وبطل من البطلان، ويُطَل بمعنى يهدر ولا يطالب بديته. انظر: هامش صحيح البخاري 52172 تعليقات المحقق.
5 أخرجه البخاري في صحيحه 52172، كتاب الطب، باب الكهانة. ومسلم في صحيحه 31309-1311، كتاب القسامة، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني. والترمذي في جامعه 423-24، كتاب الديات، باب ما جاء في دية الجنين.
6 قال ابن حجر رحمه الله: "السجع: هو تناسب آخر الكلمات لفظاً. وأصله الاستواء. وفي الاصطلاح: الكلام المقفى. والجمع أسجاع وأساجيع. والمكروه منه: ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق. وأما ما يقع عفواً بلا تكلف في الأمور المباحة، فجائزٌ". فتح الباري 10229.
7 في ((خ)) : شجعه الذي شجع. فكانوا يشجعون أشاجيع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
8 في ((خ)) : يشجعون أشاجيع كأشاجيع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
ولهذا جمع الله بين الكاهن والشاعر، في قوله:{وَمَا هُو بِقَولِ شَاعِر قَليلاً مَا تُؤمِنُون وَلا بِقَولِ كَاهِن قَليلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ} 1.
وكذلك في الشعراء: ذكر الكاهن والشاعر بعد قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيل رَبِّ العَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} 2، إلى قوله:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُم كَاذِبُونَ} 3 والرسول في آية الحاقة محمد.
فلما أخبر به أنه قول رسول؛ هو ملك من الملائكة، نفى أن يكون قول شيطان. ولما أخبر هناك أنه قول رسول من البشر، نفى أن يكون قول شاعر، أو كاهن. فهذا تنزيه للقرآن نفسه.
ونزَّه الرسولَ أن يكون على الغيب بظنين: أي متّهم، وأن يكون بمجنون؛ فالجنون: فسادٌ في العلم، والتهمة: فسادٌ في القصد. كما قالوا: ساحرٌ، أو مجنون. وقال في الطور:{فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُون أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيبَ المَنُون قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِني مَعَكُمْ مِنَ المُتَرَبِّصِين} 5.
1 سورة الحاقة، الآيات 41-43.
2 سورة الشعراء، الآيات 192-195.
3 سورة الشعراء، الآيات 221-223.
4 سورة التكوير، الآيات 19-27.
5 سورة الطور، الآيات 29-31.
معنى الكاهن عند العرب
وقد أخبر عن الأنبياء قبله: أنه {مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} 1، ولم يقولوا: كاهن؛ لأنّ الكاهن عند العرب: هو الذي يتكلم بكلام مسجوع، وله قرين من الجن2.
وهذا الاسم ليس بذمّ عند أهل الكتاب، بل يسمون أكثر العلماء بهذا الاسم، ويسمُّون هارون [عليه السلام] 3 وأولاده الذين عندهم التوراة بهذا [الاسم4]5.
والقدر المشترك: العلم [بالأمور] 6 الغائبة والحكم بها.
اسم الكاهن ليس بذم عند أهل الكتاب
فعلماء أهل الكتاب يُخبرون بالغيب، ويحكمون به عن الوحي الذي أوحاه الله. وكهان العرب كانت تفعل ذلك عن وحي الشياطين، وتمتاز بأنها [تسجع] 7 الكلام.
1 سورة الذاريات، الآية 52.
2 انظر: تهذيب اللغة 624. وفتح الباري 10227.
وقد تقدم قول حمل بن مالك في دية الجنين: أنغرم دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك بطل. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له:"أسجعٌ كسجع الأعراب". تقدم ذلك ص 1279.
3 زيادة من ((ط)) .
4 انظر الكتاب المقدس عندهم 1157، سفر اللاويين، الإصحاح الأول. وانظر الفصل لابن حزم 1141، 145، 149.
وقال الأزهري في تهذيب اللغة: "والكاهن أيضاً في كلام العرب: الذي يقوم بأمر الرجل، ويسعى في حاجته، والقيام بما أسند إليه من أسبابه. ويُقال لقريظة والنضير: الكاهنان، وهما قبيلا اليهود بالمدينة. وفي حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج من الكاهنين رجل يقرأ القرآن لا يقرأ أحد قراءته"، وقيل: إنه محمد ابن كعب القرظي". تهذيب اللغة 624-25.
5 في ((ط)) : الإسلام.
6 في ((ط)) : بالأمولأ.
7 في ((خ)) : تشجع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
بخلاف اسم الساحر؛ فإنه اسم معروف في جميع الأمم. وقد يدخل في ذلك عندهم المخدوم الذي تخبره الشياطين ببعض الأمور الغائبة.
ولكون الساحر يأتي بالخوارق شبَّهوا النبي [به] 1، وقالوا: ساحر. فدلّ ذلك على قدرٍ مشترك.
من الفروق بين النبي والساحر
لكن الفرقان بينهما أعظم، كالفرق بين الملائكة والشياطين، وأهل الجنة وأهل [النّار] 2، وخيار الناس وشرارهم. وهذا أعظم الفروق بين الحق والباطل3.
والكفّار قالوا عن الأنبياء: إنَّهم مجانين وسحرة4.
[فكما] 5 يُعلم بضرورة العقل من وجود أعظم الفرق بينهم وبين المجانين، وأنهم أعقل الناس وأبعدهم عن الجنون، فكذلك يعلم بضرورة العقل أعظم الفرق بينهم وبين السحرة، وأنهم أفضل الناس وأبعدهم عن السحر.
فالساحر يُفسد الإدراك، حتى يُسمع الإنسان الشيء، ويراه، ويتصوّر خلاف ما هو عليه6.
1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((م)) ، و ((ط)) .
2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
3 سبق أن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فروقاً كثيرة في هذا الكتاب، انظر ص: 478، 507-513، 589-633، 671-674، 766-779، 797-799، 844، 955، 987، 1003، 1020.
4 وقد حكى الله تعالى عن الكفار قولهم عن الأنبياء أنهم سحرة أو مجانين، قال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . سورة الذاريات، الآيتان 52-53.
5 في ((خ)) : فكلما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
6 وقد سُحِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كان يُخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله؛ سحره اليهودي ابن أعصم. قالت عائشة رضي الله عنها: "سُحر النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كان يُخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله..".
رواه البخاري في صحيحه31192، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده. ومسلم في صحيحه41719-1721، كتاب السلام، باب السحر. ومسند الإمام أحمد 650، 57، 63، 64.
والأنبياء يُصحّحون سمع الإنسان، وبصره، وعقله. والذين خالفوهم صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون.
فالسحرة يزيدون الناس عمى، وصمماً، وبكماً.
صفة النبي عليه الصلاة والسلام في التوراة
والأنبياء يرفعون [عماهم] 1، وصممهم، وبكمهم؛ كما في الصحيح عن عطاء بن يسار2 أنه سأل عبد الله بن عمرو3. وروى عبد الله بن سلام4 أنه قيل له: أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: إنّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: " {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدَاً وَمُبَشِّرَاً ونَذِيرَاً} 5، وحرزاً للأميين. أنت عبدي سمَّيتُك المتوكل.
1 في ((خ)) رسمت: أعمالهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 هو عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة. ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة. من صغار الثالثة. مات سنة أربع وتسعين. وقيل بعد ذلك. تقريب التهذيب 1676.
3 هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد - بالتصغير - بن سعد ابن سهم السهمي، أبو محمد، وقيل أبو عبد الرحمن. أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء. مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف على الراجح.
تقريب التهذيب 1517. وسير أعلام النبلاء 381-94.
4 سبقت ترجمته.
5 سورة الأحزاب، الآية 45.
لستَ بفظّ، ولا غليظٍ، ولا سخابٍ بالأسواق، ولا [تجزي] 1 بالسيئة السيئة، ولكن [تجزي] 2 بالسيئة الحسنة، [وتعفو وتغفر]3. ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء؛ فأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غُلفاً؛ بأن يقولوا: لا إله إلا الله 4.
وهذا مذكورٌ عند أهل الكتاب في نبوة أشعيا5.
1 في ((خ)) : يجزي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 في ((خ)) : يجزي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 في ((خ)) : ويعفو ويغفر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 أخرجه البخاري في صحيحه 2747-748، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق - مع اختلاف يسير في الألفاظ، وفيه تقديم وتأخير -. وقال البخاري: غلفٌ: كل شيء في غلاف، سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف إذا لم يكن مختوناً. وكذا أخرجه في صحيحه أيضاً 41831، كتاب التفسير، في سورة الفتح، باب:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} .
والقلب الأغلف: هو الذي لا يعي شيئاً. وسيف أغلف: إذا كان في غلاف. وجمعه: غلف. وفي حديث حذيفة: القلوب أربعة؛ فقلب أغلف، وهو قلب الكافر. قال الفراء: قلب أغلف بيّن الغلفة. وأغلفت القارورة: جعلت لها غلافاً. وإذا أدخلتها في غلاف قلت: غلّفتها غلفاً.
انظر: تهذيب اللغة 8135-136. والمفردات للراغب ص 612.
5 جاء في العهد القديم، في نبوة أشعيا، بداية الإصحاح الثاني والأربعين، ص 1042-1043:"هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي، وضعتُ روحي عليه، فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته. هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها، باسط الأرض وناتجها، معطي الشعب عليها نسمة، والساكنين فيها روحاً. أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك، وأحفظك، وأجعلك عهداً للشعب، ونوراً للأمم، لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع في رؤوس الجبال، ليهتفوا..".
وقد أورد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه البشارة في كتابه الجواب الصحيح (5157-158) ، مع اختلاف يسير في ألفاظها.
المراد بالتوراة
ولفظ التوراة: قد يُراد به جميع الكتب التي نزلت قبل الإنجيل؛ فيقال: التوراة، والإنجيل. ويُراد بالتوراة: الكتاب الذي جاء به موسى وما بعده من نبوة الأنبياء المتبعين لكتاب موسى، قد يُسَمَّى هذا كله توراة؛ فإن التوراة تفسر الشريعة؛ فكلّ من دان بشريعة التوراة: قيل لنبوته: إنَّها من التوراة.
وكثيرٌ مما يعزوه كعب الأحبار1 ونحوه إلى التوراة، هو من هذا الباب، لا يختص ذلك بالكتاب المنزل على موسى؛ كلفظ الشريعة عند المسلمين: يتناول القرآن، والأحاديث النبوية، وما استخرج من ذلك؛ كما قد بسط هذا في موضع آخر2.
والمقصود هنا: أنّ الأنبياء يفتحون الأعين العمي، والآذان الصمّ، والقلوب الغلف. والسحرةُ يفسدون السمع والبصر والعقل، حتى يخيّل للإنسان الأشياء بخلاف ما هي عليه، فيتغير حسه وعقله. قال في قصة
1 هو كعب بن ماتع الحميري، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار. ثقة من الثانية، مخضرم. كان من أهل اليمن، فسكن الشام. مات في خلافة عثمان، وقد زاد على المائة. وليس له في البخاري رواية، إلا حكاية لمعاوية فيه. وله في مسلم رواية لأبي هريرة عنه، من طريق الأعمش، عن أبي صالح.
تقريب التهذيب 243. وسير أعلام النبلاء 3489.
2 انظر: الجواب الصحيح 5156-158، 351. وانظر ما سبق من هذا الكتاب ص 625-627.
موسى: {سَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرْهَبُوهُم وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم} 1. وهذا يقتضي أنّ أعين الناس قد حصل فيها تغيُّر. ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِن السَّمَاءِ فَظَلُّوا فيهِ يَعرجُون لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَت أَبْصَارُنَا بَل نَحْنُ قَومٌ مَسْحُورُون} 2، فقد علموا أن السحر يغير الإحساس، كما يوجب المرض والقتل. وهذا كلّه من جنس مقدور الإنس؛ فإن الإنسان يقدر [أن] 3 يفعل [في] 4 غيره ما يفسد إدراكه، وما يمرضه ويقتله. فهذا مع كونه ظلماً وشراً، هو من جنس مقدور البشر.
الجني يُري قرينه نظير الشيء ليس عينه
والجني إذا أراد أن يري قرينه أموراً غائبة سئل عنها، مثَّلها له. فإذا سئل عن المسروق، أراه شكل ذلك المال. وإذا سئل عن شخص، أراه صورته. ونحو ذلك5. وقد يظنّ الرائي أنه رأى عينه، وإنّما رأى نظيره.
تمثّل الجني بصورة الإنسي
وقد يتمثّل الجني في صورة الإنسي، حتى يظن الظان أنه الإنسي. وهذا كثيرٌ؛ كما تصوّر لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم6،
1 سورة الأعراف، الآية 115.
2 سورة الحجر، الآيتان 14-15.
3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
5 انظر: الجواب الصحيح 2322-323. ومجموع الفتاوى 1383-85.
6 هو سراقة بن مالك بن جعشم بن مدلج الكناني المدلجي، أبو سفيان. قال ابن حجر: روى البخاري قصته في إدراكه النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه حتى ساخت رجلا فرسه، ثم إنه طلب منه الخلاص وأن لا يدلّ عليه، ففعل، وكتب له أماناً. وأسلم يوم الفتح. وفي قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم يقول مخاطباً أبا جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهداً
لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمداً
رسول وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك فكفّ القوم عنه فإنني
أخال لنا يوماً ستبدو معالمه
بأمر تود النصر فيه فإنهم
وإن جميع الناس طراً مسالمه
وكان في الجاهلية قائفاً، وهو الذي اقتص الأثر لقريش حتى صعدوا الجبل الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وجعلوا يمرون على باب الغار ولا يرونهما، حفظاً من الله لهما. ووقتها قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا". انظر: صحيح البخاري 31420-1421، كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
لسراقة 19 حديثاً، ومات سنة 24 هـ.
انظر: الإصابة 218-19. والاستيعاب - بهامش الإصابة - 2118. ودلائل النبوة للبيهقي 2215. والبداية والنهاية 3182-186. والأعلام 380.
وكان من أشراف بني كنانة؛ قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطانُ أعمالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَومَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُم} 1 الآية. فلما عاين الملائكة ولى هارباً، ولما رجعوا ذكروا ذلك لسراقة، فقال: واللهِ ما علمت بحربكم، حتى بلغتني هزيمتكم2.
وهذا واقعٌ كثيراً، حتى إنه يتصوّر لمن يعظّم شخصاً في صورته، فإذا استغاث به، أتاه، فيظنّ ذلك الشخص أنه شيخه الميت. وقد يقول له: إنه بعض الأنبياء، أو بعض الصحابة الأموات، ويكون هو الشيطان3.
1 سورة الأنفال، الآية 49.
2 انظر: تفسير الطبري 1014. وتفسير ابن كثير 2317. والبداية والنهاية 3258، 280. وزاد المعاد 355.
3 ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام في هذا الموضوع، أذكر بعضه، قال رحمه الله:"ومثل هذا يجري كثيراً لكثير من المشركين والنصارى، وكثير من المسلمين، ويرى أحدهم شيخاً، يُحسن به الظنّ، ويقول أنا الشيخ فلان، ويكون شيطاناً. وأعرف من هذا شيئاً كثيراً، وأعرف غير واحد ممن يستغيث ببعض الشيوخ الغائبين والموتى، يراه قد أتاه في اليقظة وأعانه. وقد جرى مثل هذا لي ولغيري ممن أعرفه، وذكر غير واحد أنه استغاث بي في بلاد بعيدة، وأنه رآني قد جئتُه. ومنهم من قال: رأيتُك راكباً بلباسك وصورتك. ومنهم من قال: رأيتك على جبل. ومنهم من قال غير ذلك. فأخبرتهم أني لم أغثهم، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليُضلّهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله. وكذلك غير واحد ممن أعرفه من أصحابنا استغاث به بعض من يُحسن به الظن، فرآه قد جاءه وقضى حاجته. قال صاحبي: وأنا لا أعلم بذلك". الجواب الصحيح 2321-322. وانظر: المصدر نفسه: 2324، 3348. وجامع الرسائل1195. والرد على المنطقيين ص 105-106. ومجموع الفتاوى 11664، 1379، 84، 92، 17456-458، 1947.
وكثيراً من الناس أهل العبادة والزهد من يأتيه في اليقظة، من يقول: إنّه رسول الله، ويظنّ ذلك حقاً1. ومن يرى إذا زار بعض قبور الأنبياء أو الصالحين أنّ صاحب القبر قد خرج إليه، فيظن أنه صاحب القبر ذلك النبي، أو الرجل الصالح، وإنما هو شيطان أتى في صورته إن كان يعرفها، وإلا أتى في صورة إنسان، وقال: إنه ذلك الميت2.
1 ومما جرى من هذه الأحوال: ما جرى لأناس بتدمر في زمن الشيخ رحمه الله، قال عنهم:"فرأوا شخصاً عظيماً طائراً في الهواء، وظهر لهم مرات بأنواع من اللباس، وقال لهم: أنا المسيح بن مريم، وأمرهم بأمور يمتنع أن يأمر بها المسيح عليه السلام. وحضروا إلى عند الناس، وبيّنوا لهم أن ذلك هو شيطان أراد أن يُضلّهم". الجواب الصحيح 2318. وانظر المصدر نفسه 2321.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى: "فرؤيا الأنبياء في المنام حق، وأما رؤية الميت في اليقظة، فهذا جني يتمثل في صورته". الجواب الصحيح 2326. وانظر: المصدر نفسه 3347. ومجموع الفتاوى 1172-173، 1393-94. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 330.
2 انظر الجواب الصحيح 2318،، 3348.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الحكايات في هذا الباب كثيرة جداً، ومما قاله رحمه الله: "وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهي كثيرة جداً. والجاهل يظنّ أن ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه هو المقبور، أو النبي أو الصالح، أو غيرهما. والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان) . مجموع الفتاوى 1168. وانظر: المصدر نفسه 1178-179.
وهذه الأحوال قد حدثت في زمن شيخ الإسلام رحمه الله مع الكفار، لا مع المسلمين، فقد أخبر رحمه الله أن كثيراً "من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت، فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل إلى زوجته، ويذهب. وربما يكونون قد أحرقوا بيتهم بالنار كما يصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 330. وانظر: الجواب الصحيح 2318-319،، 3347. وجامع الرسائل 1194-195. ومجموع الفتاوى 1379.
تمثل الشيطان بالخضر
وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع، ويقول: إنه الخضر1، فاعتقد أنه الخضر، وإنما كان جنيّاً من الجن2.
1 الخضر: هو صاحب موسى عليه السلام الذي ورد ذكره في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} ، وورد ذكره في السنة أيضاً.
وقد اختلف فيه: هل هو نبيّ أو وليّ؟ قال الراجز:
واختلفت في خضر أهل العقول
قيل نبي أو ولي أو رسول
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى معلّقاً على قول الراجز هذا: (أو مَلَك) . ثم رجح نبوته عليه السلام، ونصر هذا القول، واستدلّ به وفق طريقته في تفسير القرآن بالقرآن.
وممن قال بنبوته: القرطبي، وابن كثير، وابن حجر.
وكذا اختلف فيه هل هو حي أو ميت؟ وقد قال الإمام أحمد، والبخاري، وابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي بموته، وأكّدوا أن قول من قال ببقائه حياً لا دليل عليه.
انظر: تفسير القرطبي 1112-15. والزهر النضر في نبأ الخضر لابن حجر ص 27، 115. ومجموع الفتاوى 4337. وأضواء البيان 4158-164. وجهود الشيخ محمد الأمين في تقرير عقيدة السلف 2477، 501.
2 انظر: الجواب الصحيح 2319-320. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 329. ومجموع الفتاوى 1172،، 1371، 78، 93.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل من قال: إنه رأى الخضر وهو صادق؛ إما أن يتخيل له في نفسه أنه رآه، ويظن ما في نفسه كان في الخارج، كما يقع لكثير من أرباب الرياضات. وإما أن يكون جنياً يتصور له بصورة إنسان ليُضلّه. وهذا كثير جداً، قد علمنا منه ما يطول وصفه. وإما أن يكون رأى إنسياً ظنّ أنه الخضر وهو غالط في ظنه. فإن قال له ذلك الجني أو الإنسي إنه الخضر، فيكون قد كذب عليه، لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الأقسام الثلاثة". الرد على المنطقيين ص 185.
لم يقل أحد من الصحابة إنه رأى الخضر
ولهذا لم يجترىء الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة: إنّه الخضر، ولا قال أحد من الصحابة: إني رأيت الخضر1. وإنما وقع هذا بعد الصحابة.
1 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر موضحاً هذه الحقيقة: "ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر؛ فإن خضر موسى مات، كما بين هذا في غير هذا الموضع. والخضر الذي يأتي كثيراً من الناس إنما هو جني تصور بصورة إنسي، أو إنسي كذّاب. ولا يجوز أن يكون مَلَكَاً مع قوله أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب، وإنما يكذب الجن والإنس. وأنا أعرف ممن أتاه الخضر، وكان جنياً، ما يطول ذكره في هذا الموضع. وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس. وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة، وذهبت به إلى عرفات ليقف بها، كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات". مجموع الفتاوى 1249.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "لم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا اجتمع به، لأنهم كانوا أكمل علماً وإيماناً من غيرهم، فلم يكن يمكن الشيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد. ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون أنه الخضر، ويحضر في كنائسهم، وربما حدثهم بأشياء، وإنما هو شيطان جاء إليهم، فيُضلّهم. ولو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤمن به، ويُجاهد معه، كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء وأتباعهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ، [سورة آل عمران، الآية 81] ، والخضر قد أصلح السفينة لقوم من عرض الناس، فكيف لا يكون بين محمد وأصحابه. وهو إن كان نبياً، فنبينا أفضل منه، وإن لم يكن نبياً، فأبو بكر وعمر أفضل منه". الرد على المنطقيين ص 185.
وكلما تأخّر الأمر كثر، حتى إنه يأتي اليهود والنصارى، ويقول: إنه الخضر1.
ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر2.
وكثيرٌ من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر.
والخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا.
ولهذا يقول من يقول منهم3: لكل ولي خضر. وإنّما هو جني معه4.
والذين يدعون الكواكب5، تتنزل عليهم أشخاص يسمونها روحانية الكواكب6، وهو شيطانٌ نزل عليه لمّا أشرك، ليغويه.
1 انظر: الجواب الصحيح 2321، 324. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 366-367. ومجموع الفتاوى 1393. والرد على المنطقيين ص 85.
2 انظر: مجموع الفتاوى 1393.
3 من اليهود والنصارى.
4 انظر: مجموع الفتاوى 1393. ومنهاج السنة النبوية 1104.
5 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن عبّاد الكواكب هؤلاء: "فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب، ويتحرون الوقت المناسب لصنعة ذلك الطلسم. ويصنعونه من مادة تناسب ما يرونه من طبيعة ذلك الكوكب، ويتكلمون عليها بالشرك والكفر، فتأتي الشياطين فتكلمهم، وتقضي بعض حوائجهم، ويسمونها روحانية الكواكب، وهي الشيطان، أو الشيطانة التي تضلّهم". الرد على المنطقيين ص 286. وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 222. وانظر ما سبق في ص 1214 من هذا الكتاب.
6 انظر: الجواب الصحيح 2326-327، 3347. ومجموع الفتاوى 1173، 178، 1378، 79.
كما تدخل الشياطين في الأصنام، وتكلم أحياناً لبعض الناس، وتتراءى للسدنة أحياناً، ولغيرهم أيضاً1.
وقد يستغيث المشرك [بشيخ] 2 له غائب، فيحكي الجني صوته لذلك الشيخ، حتى يظن أنه سمع صوت ذلك المريد مع بعد المسافة بينهما. ثم إنّ الشيخ يُجيبه، فيحكي الجني صوت الشيخ للمريد، حتى يظنّ أن شيخه سمع صوته وأجابه. وإلا فصوت الإنسان يمتنع أن يبلغ مسيرة يوم، ويومين، وأكثر3.
وقد يحصل للمريد من يؤذيه، فيدفعه الجنّي، ويُخيّل للمريد أنّ الشيخ هو دفعه4.
وقد يُضرب الرجل بحجر، فيدفعه عنه الجني، ثم يصيب الشيخ بمثل ذلك، حتى يقول: إني اتقيت عنك الضرب، وهذا أثره فيَّ5.
وقد يكونون يأكلون طعاماً، فيُصَوَّرُ نظيره للشيخ، ويجعل يده فيه، ويجعل الشيطان يده في طعام أولئك، حتى يتوهّم الشيخ وهم أنّ يد الشيخ امتدت من الشام إلى مصر، وصارت في ذلك الإناء6.
مناداة عمر: يا سارية الجبل الجبل
وعمر بن الخطاب لما نادى: يا سارية 7 الجبل، قال: إن لله جنداً
1 انظر: الجواب الصحيح 2341. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 338.
2 في ((م)) ، و ((ط)) : لشيخ.
3 انظر مجموع الفتاوى 1384.
4 انظر مجموع الفتاوى 1377، 82.
5 انظر المصدر نفسه.
6 انظر مجموع الفتاوى 1384-85.
7 هو سارية بن زنيم بن عمرو الكناني.
تقدم التعريف به.
يبلِّغونهم صوتي1. فعلم أن صوته إنما يبلغ بما ييسره الله من تبليغ بعض
1 قال العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2514-515، أثر رقم 3172:"يا سارية الجبل": قاله عمر بن الخطاب وهو يخطب يوم الجمعة، حيث وقع في خاطره أن الجيش الذي أرسله مع سارية إلى نهاوند بفارس لاقى العدو وهم في بطن واد، وقد همّوا بالهزيمة، وبالقرب منهم جبل، فقال ذلك في أثناء خطبته، ورفع به صوته، فألقاه الله في سمع سارية، فانحاز بالناس إلى الجبل، وقاتل العدو من جانب واحد، ففتح الله عليهم. كذا رواه الواقدي عن أسامة بن زيد، عن ابن أسلم، عن عمر.
وأخرجه سيف مطولاً عن رجل من بني مازن. والبيهقي في الدلائل، واللالكائي في شرح السنة، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء، عن ابن عمر قال: وجه عمر جيشاً، وولى عليهم رجلاً يدعى سارية، فبينما عمر يخطب، جعل ينادي: يا سارية الجبل - ثلاثاً. ثم قدم رسول من الجيش، وسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك، إذ سمعنا صوتاً يُنادي: يا سارية الجبل - ثلاثاً -، فاسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله. قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح هكذا وهكذا. رواه حرملة في جمعه لحديث ابن وهب، وإسناده كما قال الحافظ ابن حجر حسن.
ولابن مردويه، عن ابن عمر، عن أبيه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فعرض في خطبته أن قال: يا سارية الجبل، من استرعى الذئب ظلم. فالتفت الناس بعضهم لبعض، فقال لهم عليّ: ليخرجن مما قال. فلما فرغ سألوه، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من جانب واحد، وإن جاوزوه هلكوا. فخرج مني ما تزعمون أنكم سمعتموه. فجاء البشير بعد شهر، وذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم، قال: فعدلنا عن الجبل، ففتح الله علينا.
قال في اللآلئ: وقد أفرد الحافظ القطب الحلبي لطرقه جزءاً، ووثق رجال هذا الطريق. وقال: ذكره ابن عساكر، وابن ماكولا، وغيرهم. وسارية له صحبة". كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2514-515.
وأخرجها أبو نعيم في دلائل النبوة ص 210. واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 9127. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7131-132، وحسن إسناده. وانظر مشكاة المصابيح 31678، وقال الشيخ الألباني: رواه ابن عساكر وغيره بإسناد حسن.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه القصة في موضع آخر: "وعمر رضي الله عنه لما نادى: يا سارية الجبل، قال: إن لله جنوداً يبلغون صوتي. وجنود الله هم من الملائكة، ومن صالحي الجن. فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية؛ وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر، وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة. وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه، فيقول: يا فلان. فيُعان على ذلك، فيقول الواسطة بينهما: يا فلان. وقد يقول لمن هو بعيد عنه: يا فلان احبس الماء، تعال إلينا، وهو لا يسمع صوته، فيناديه الواسطة بمثل ذلك: يا فلان احبس الماء، أرسل الماء؛ إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته، وإلا فلا يضرّ بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه. وهذه حكاية: كان عمر مرة قد أرسل جيشاً، فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش، وشاع الخبر، فقال عمر: من أين لكم هذا؟ قالوا: شخص صفته كيت وكيت، فأخبرنا. فقال عمر: ذاك أبو الهيثم بريد الجن، وسيجيء بريد الإنسان بعد ذلك بأيام". مجموع الفتاوى 1388-89.
الملائكة، أو صالحي الجن، فيهتفون بمثل صوته؛ كالذي ينادي ابنه، أو غير ابنه، وهو بعيدٌ، لايسمع: يا فلان، فيسمعه من يريد إبلاغه، فينادي: يا فلان، فيسمع ذلك الصوت، وهو المقصود بصوت [أبيه]1. وإلا فصوت البشر ليس في قوته أن يبلغ مسافة أيام.
وقد قلنا: إنّ [آيات] 2 الأنبياء التي اختصوا بها خارجة عن قدرة الجن والإنس، قال تعالى:{قُل لَئِنِ اجْتَمَعَت الإنسُ والجنُّ عَلَى أَنْ يأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 3.
وأما إذا كانت مما تقدر عليه الملائكة، فهذا مما يؤيدها؛ فإن الملائكة لا يطيعون من يكذب على الله، ولا يؤيّدونه بالخوارق. فإذا أُيِّد به؛ كما أيَّد
1 في ((خ)) : ابنه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
3 سورة الإسراء، الآية 88.
الله به نبيه والمؤمنين يوم بدر، ويوم حنين، كان هذا من أعلام صدقه، وأنّه صادق على الله في دعوى النبوة؛ فإنّها لا تؤيد الكذب، لكن الشياطين تؤيد الكذّاب، والملائكة تؤيِّد الصدق.
التأييد من الملائكة بحسب الإيمان
والتأييد بحسب الإيمان1، فمن كان أقوى من غيره، كان جنده من الملائكة أقوى، وإن كان إيمانه ضعيفا كانت ملائكته بحسب ذلك؛ كمَلَك الإنسان وشيطانه؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما منكم من أحدٍ إلا وُكِّلَ به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن. قالوا: وبك يا رسول الله. قال: وبي، لكن الله أعانني عليه فأسلم"2. وفي حديث آخر: "فلا يأمرني إلا بخير"3.
وهو في صحيح مسلم من وجهين4؛ من حديث ابن مسعود؛ ومن حديث عائشة.
وقال ابن مسعود: "إن للقلب لَمَّة5 من الملك، ولمة من الشيطان.
1 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 171-172، 195، 537-538.
2 رواه الدارمي في سننه 2396، كتاب الرقاق، باب: ما من أحد إلا ومعه قرينه من الجنّ. وفي آخره: قال: قال أبو محمد: من الناس من يقول: أسلم: استسلم. أقول ذلك.
3 رواه الإمام أحمد في المسند 1385.
4 رواه مسلم في صحيحه 42167-2168، كتاب صفات المنافقين، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه، من حديث ابن مسعود، ومن حديث عائشة رضي الله عنهما.
5 قال ابن الأثير: "اللَّمّة: الهِمَّة، الخطرة تقع في القلب، أو إلمام الملك، أو الشيطان به، والقرب منه. فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان". النهاية في غريب الحديث 4273. وقال في القاموس: "والهِمَّةُ بالكسر - ويفتح: ما همَّ به من أمر ليفعل". القاموس المحيط ص 1512.
فلمة الملك: [إيعاد] 1 بالخير، وتصديق بالحق. ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق"2.
فإذا كانت حسنات الإنسان أقوى، أُيِّدَ بالملائكة تأييداً يقهر به الشيطان، وإن كانت سيئاته أقوى، كان جند الشيطان معه أقوى. وقد يلتقي شيطان المؤمن بشيطان الكافر؛ فشيطان المؤمن مهزول ضعيف، وشيطان الكافر سمين قوي3.
الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على ملكه وبصلاحه يؤيده ملكه على شيطانه
فكما أن الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على مَلَكه، وبصلاحه يؤيد ملكه على شيطانه، فكذلك الشخصان يغلب أحدهما الآخر؛ لأنّ الآخر لم يؤيد مَلَكَه، فلم يؤيده، أو [ضعف] 4 عنه؛ لأنّه ليس معه إيمان [يعينه] 5؛ كالرجل الصالح إذا كان ابنه فاجراً، لم يمكنه الدفع عنه لفجوره. وبسط هذه الأمور له موضع آخر6.
1 في ((ط)) : إبعاد.
2 هذا الأثر رواه الترمذي مرفوعاً من طريق عبد الله بن مسعود (جامع الترمذي 5219، كتاب تفسير القرآن، باب من سورة البقرة) . والطبري في تفسيره 388-99؛ رواه مرة مرفوعاً عن عبد الله بن مسعود، ومرة موقوفاً عليه. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 48-49. وذكره ابن القيم في الفوائد ص 214-215. وابن كثير في تفسيره 1321.
3 هذا الكلام ليس من كلام ابن مسعود لعدم وروده في المصادر السابقة، وهو توضيح من شيخ الإسلام رحمه الله لقول ابن مسعود المتقدم.
4 في ((خ)) : ضعفت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
5 في ((خ)) : يعينها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
6 انظر: مجموع الفتاوى 184-85، 4254. وجامع الرسائل 1196-197.
والمقصود هنا: الكلام على الفرق بين آيات الأنبياء وغيرهم، وأنّ من قال1: إن آيات الأنبياء، والسحر، و [الكهانة] 2، والكرامات، وغير ذلك من جنس واحدٍ، فقد غلط أيضاً.
المتكلمون لم يعرفوا قدر آيات الأنبياء
والطائفتان3 لم يعرفوا قدر آيات الأنبياء، بل جعلوها من هذا الجنس؛ فهؤلاء4 نفوه، وهؤلاء5 أثبتوه وذكروا فرقاً لا حقيقة له.
وإذا قال القائل: آيات الأنبياء لا يقدر عليها [إلا الله، أو أن الله يخترعها ويبتدئها بقدرته، أو أنها من فعل الفاعل المختار، ونحو ذلك6.
الرد على الأشاعرة
قيل له: هذا كلامٌ مجملٌ. فقد يقال عن كل ما يكون آية: لا يقدر عليه إلا الله] 7؛ فإن الله خالق كل شيء، وغيره لا يستقلّ بإحداث شيء. وعلى هذا: فلا فرق بين المعجزات وغيرها.
وقد يقال: لا يقدر عليها إلا الله: أي هي خارجةٌ عن مقدورات
1 وهم الأشاعرة والماتريدية.
انظر: مجموع الفتاوى 1390. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 585، 586. وما سيأتي ص 1315-1316.
2 في ((خ)) : الكهان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 وهم المعتزلة والأشاعرة.
4 وهم المعتزلة الذين نفوا السحر والكهانة والكرامات، كما سبق بيانه. انظر: ص 147-152، 585.
5 وهم الأشاعرة، أثبتوا السحر والكهانة والكرامات والمعجزات، ولم يجعلوا بينها فروقاً حقيقيّة؛ كما سبق بيانه في أول هذا الكتاب ص 151-155، وفي ص 501-503 منه.
6 انظر: البيان للباقلاني ص 8-10، 14، 19، 57. وانظر ما سبق بيانه في هذا الكتاب ص 251-257.
7 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) .
العباد؛ فإنّ مقدوراته على قسمين: منها ما يفعله بواسطة قدرة العباد؛ كأفعال العباد، وما يصنعونه؛ ومنها ما يفعله بدون ذلك؛ كإنزال المطر1.
فإن أراد هذا القائل: أنّها خارجة عن مقدور الإنس؛ بمعنى: أنه لا يقع منهم؛ لا بإعانة الجن، ولا بغير ذلك. فهذا كلامٌ صحيح.
و [إن أراد أنّه] 2 خارجٌ عن مقدورهم فقط، وإن كان مقدوراً للجنّ: فهذا ليس بصحيح؛ فإنّ الرسل أرسلوا إلى الإنس والجن. والسحر والكهانة وغير ذلك تقدر الجن على إيصالها إلى الإنس، وهي مناقضة لآيات الأنبياء؛ كما قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 3.
وإن أراد أنها خارجة عن مقدور الملائكة والإنس والجن، أو أن الله يفعلها بلا سبب: فهذا أيضاً باطلٌ. فمن أين له أنّ الله يخلقها بلا سبب؟ ومن أين له أنه لا يخلقها بواسطة الملائكة الذين هم رسله في عامّة ما يخلقه؟ فمن أين له أنّ جبريل لم ينفخ في مريم حتى حملت بالمسيح؟ وقد أخبر الله بذلك.
وهو وأمّه ممّا جعلهما آيةً للعالمين، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ابنَ مريَمَ وأُمَّه آيةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرارٍ ومَعِين} 4.
وخلقُ المسيح بلا أب من أعظم الآيات، وكان بواسطة نفخ جبريل،
1 انظر: منهاج السنة النبوية 3126، 168، 180. ودرء تعارض العقل والنقل 8471-476.
2 في ((ط)) : وأن إرادته.
3 سورة الشعراء، الآيتان 221-222.
4 سورة المؤمنون، الآية 50.
وقال تعالى: {وَمَرْيَم ابنةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فيهِ مِنْ رُوحِنَا} 4.
وكذلك طمس أبصار قوم لوط كان بواسطة الملائكة.
والذي عنده علمٌ من الكتاب، لمّا قال [عفريتٌ5 من الجنّ] 6 لسُليمان:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وإِنِّي عَلَيهِ لقَوِيّ أَمِين قال الَّذي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} 7؛ أتته به الملائكة؛ كذلك ذكره المفسرون عن ابن عبّاس وغيره: أن الملائكة أتته به أسرع مما كان يأتي به العفريت8.
1 وهذه قراءة ورش عن نافع، وأبي عمرو البصري. وقرأ الباقون: لأهب. (النشر في القراءات العشر ص 78) .
2 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : ولدٌ.
3 سورة مريم، الآيات 17-20.
4 سورة التحريم، الآية 12.
5 العفريت: قال الطبري: رئيس من الجن مارد قوي. (تفسير الطبري 19161) .
وقال أبو عبيدة: العفريت من كل جن أو إنس: الفائق المبالغ الرئيس.
وقال ابن قتيبة: العفريت: الشديد الوثيق.
وقال الزجاج: العفريت: النافذ في الأمر، المبالغ فيه، مع خبث ودهاء.
انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6174.
6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
7 سورة النمل، الآيتان 39-40.
8 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن آصف قال لسليمان حين صلى: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ سليمان عينيه، فنظر نحو اليمين، فدعا آصف، فبعث الله الملائكة، فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خداً، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان". تفسير البغوي 3420. وزاد المسير 6174-175. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 606.
وقد أخبر الله تعالى أنّه أيّد محمّداً صلى الله عليه وسلم بالملائكة وبالريح، وقال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِم رِيحَاً وَجُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرَاً} 1.
وقال تعالى يوم حنين: { [ثُمَّ َأَنْزَلَ] 2 اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا} 3.
وقال تعالى يوم الغار: {فأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} 4.
وقال تعالى: {إِذْ يُوحي رَبُّكَ إِلى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذِين آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} 5.
وقد ثبت في الصحيح: أنّ الإنسان يُصوّره مَلَك في الرحم بإذن الله، ويقول الملك:"أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي ربّ مضغة"6، فإذا كان الخلق المعتاد يكون بتوسط الملائكة.
1 سورة الأحزاب، الآية 9.
2 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : فأنزل.
3 سورة التوبة، الآية 26.
4 سورة التوبة، الآية 40.
5 سورة الأنفال، الآية 12.
6 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ورفع الحديث - أنّه قال: "إنّ الله عز وجل قد وكّل بالرحم ملكاً، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً، قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه". صحيح مسلم 42038، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته.
[وقال] 1 يُقرر التوحيد بقوله تعالى: {يا أيها النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُم} 2 الآيات.
ثم النبوة، بقوله:{وإِنْ كُنْتُمْ في رَيبٍ مِمّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا [فأتوا] 3 [بسُورةٍ] 4} 5.
[ثم المعاد]6.
وكذلك الأنعام، يقرر التوحيد، ثم النبوة في وسطها، ثم يختمها بأصول الشرائع والتوحيد أيضاً، وهو ملة إبراهيم. وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع7.
والمقصود: أنه قد بيَّن انفراده بالخلق، والنفع، والضرّ، والإتيان بالآيات، وغير ذلك، وأنّ ذلك لا يقدر عليه غيره. قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُق كَمَنْ لا يَخْلُق} 8.
1 في ((خ)) كلمة غير واضحة. وما أثبت من ((م)) و ((ط)) .
2 سورة البقرة، الآية 21.
3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) .
4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) .
5 سورة البقرة، الآية 23.
6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) .
7 وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الحنيفية ملّة إبراهيم عليه السلام في: مجموع الفتاوى 11572. وأوضح أنّ انخراق العادات لا بُدّ له من أسباب وموانع في: الجواب الصحيح 6394-404. ومجموع الفتاوى 184. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 354-355.
8 سورة النحل، الآية 17.
ففي هذه الآيات تقرير التوحيد، حتى في إنزال الآيات، قال:{إنّما الآياتُ عند الله} .
وكذلك قوله في العنكبوت: {وقالُوا لولا أُنْزِل عليهِ آيةٌ 3 مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنما الآياتُ عندَ اللهِ وإنّما أنا نَذِيرٌ مُبينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلَى عليهم إنَّ في ذلك [لَرَحمةً] 4 وَذِكْرى لقومٍ
1 في ((خ)) : نفصل.
2 سورة الأنعام، الآيات 100-110.
3 قرأ نافع، وأبو عمر، وابن عامر، وحفص عن عاصم:{الآياتُ} على الجمع، وقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم:{آية} . على التوحيد. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6279.
4 في ((ط)) : رحمة.
يُؤْمِنُون قُلْ كَفَى باللهِ بيني وبينكم شَهِيداً يعلم ما في السَّمَواتِ والأرض والَّذِينَ آمنوا بالباطلِ وكفروا باللهِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون} 1.
وقال أيضاً: {وقالوا لولا نزِّلَ عليهِ آيةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللهَ قادرٌ على أَنْ يُنَزِّلَ آيةً ولكنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعلمون} 2، هذا بعد قوله:{فإن استَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقَاً في الأرضِ أو سُلَّماً في السماءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَة وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُم عَلَى الهُدى فلا تَكُونَنَّ من الجاهِلِينَ} 3.
[و] 4 هو أرسله بآيات بان بها الحقّ، وقامت بها الحجّة، وكانوا يطلبون آيات تعنّتاً، فيظنّ من يظنّ أنّهم يهتدون بها، [لكن لا] 5 يحصل بها المقصود، وقد [تكون] 6 [موجبة] 7 لعذاب الاستئصال، فتكون ضرراً بلا نفع. وبيَّن سبحانه أنه قادر على إنزال الآيات، وأنها ليست إلا عنده.
لكن آيات الأنبياء لا تكون مما يقدر عليه العبد، كما قال:{قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللهِ} 8.
والملائكة إِنَّما هي سببٌ من الأسباب؛ كما في خلق المسيح [من غير
1 سورة العنكبوت، الآيات 50-52.
2 سورة الأنعام، الآية 37.
3 سورة الأنعام، الآية 35.
4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
5 في ((خ)) : فلا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
6 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
7 في ((ط)) : موجة.
8 سورة الأنعام، الآية 109.
أب، فجبريل إنّما كان مقدوره النفخ فيها، وهذا لا يُوجب الخلق، [بل] 1 هو بمنزلة الإنزال في حقّ غير المسيح.
وكذلك المسيح] 2 لمّا خلق من الطين كهيئة الطير: إنّما مقدوره تصوير الطين، [وأمّا] 3 حصول الحياة فيه: فبإذن الله؛ فإنّ الله يحيي ويميت، وهذا من خصائصه.
ولهذا قال الخليل: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} 4.
وفي القرآن، في غير مواضع:{يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّت مِنَ الحَيّ} 5، [ {وكنتم أمواتاً فأحياكم} 6] 7، {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} 8، [ {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} 9]10.
(بل) ساقطة من ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .
2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
3 في ((م)) ، و ((ط)) : وإنما.
4 سورة البقرة، الآية 258.
5 سورة الروم، الآية 19.
وفي سورة آل عمران، الآية 27:{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
وفي سورة الأنعام، الآية 95:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .
6 سورة البقرة، الآية 28.
7 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) .
8 سورة الروم، الآية 19.
9 سورة آل عمران، الآية 156.
10 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وفيه بدلها:{وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} .
وما يتولّد عن أفعال الملائكة وغيرهم ليسوا مستقلّين به، بل لهم فيه شركة؛ كطمس أبصار اللوطيّة، وقلب مدينتهم.
وكذلك النصر: إنّما] يقدرون] 1 على القتال كالإنس. والنصر هو من عند الله؛ كما قال تعالى: {ومَا جَعَلَهُ اللهُ إلَاّ بُشرى ولتطمئِنَّ به قلوبُكم وما النَّصْرُ إِلَاّ من عند اللهِ} 2.
[والقرآنُ إنّما يقدرون على النزول به، لا على إحداثه ابتداءً، فهم3 يقدرون على الإتيان بمثله من عند الله]4.
وأمّا الجنّ والإنس فلا يقدرون على الإتيان بمثله؛ لأنّ الله لا يُكلّم بمثله الجنّ والإنس ابتداءً.
ولهذا قال: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 5، وقال تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} 6، وقال:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} 7، وقال:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 8، لم يُكلّفهم نفس الإحداث، بل طالبهم بالإتيان بمثله؛ إما إحداثاً، وإما تبليغاً عن الله، أو عن مخلوق، ليظهر عجزهم عن جميع الجهات9؛ فقد يُقال: فنفس أفعال العباد ليست من الآيات؛ إذ
1 في ((خ)) : يقدر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 سورة الأنفال، الآية 10.
3 أي الملائكة.
4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
5 سورة الإسراء، الآية 88.
6 سورة البقرة، الآية 23.
7 سورة هود، الآية 13.
8 سورة الطور، الآية 34.
9 سبق الكلام على التحدي بالقرآن الكريم. انظر ص 622-623، 624، 1105 من هذا الكتاب.
كانت مقدورة ومفعولة للعبد، وإن كان ذلك بإقدار الله تعالى، ولا نفس القدرة على ذلك الفعل؛ فإن المقصود من القدرة هو الفعل.
آيات الأنبياء لا يتوصل إليها بسبب
بل الآيات خارجة عن مقدور جميع العباد؛ الملائكة، والجنّ، والإنس، وهي أيضاً لا تُنال بالاكتساب؛ فإن الإنس والجنّ قد يقدرون بأسباب مباينة لهم على أمور، كما يقدرون على قتل من يقتلونه وإمراضه، ونحو ذلك.
وآيات الأنبياء لا يقدر أحدٌ أن يتوصّل إليها بسبب.
والسحر والكهانة ممّا يمكن التوصّل إليه بسبب؛ كالذي يأتي بأقوال وأفعال تُحدّثه بها الجنّ1.
فالنبوّة لا تُنال بكسب العبيد، ولا آياتها تحصل بكسب العباد2، وهذا
1 انظر: مجموع الفتاوى 1189.
2 فالنبوة فضل إلهي، ومنة ربانية، يختص الله بها من يشاء من عباده؛ فيخصّه بالوحي ليبلغ عباده. فلا تُدرك باختيار العبد وكسبه وإرادته، وإنّما هي اصطفاء من الله، ومنّة منه جل وعلا.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . سورة البقرة، الآية 105.
وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} . سورة الأنعام، الآية 154.
وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} . سورة الحج، الآية 75.
أما الفلاسفة، وصوفيتهم: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم أنّهم يقولون بأن النبوة مكتسبة. وبيّن رحمه الله أنها لا تنال باكتساب الإنسان، فقال:"إنّ النبوة لا تنال باكتساب الإنسان واستعداده كما تنال بذلك العلوم المكتسبة والدين المكتسب؛ فإنّ هؤلاء القوم ما قدروا الله حق قدره، ولا قدروا الأنبياء قدرهم، لمّا ظنوا أن الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها، فاض عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعال كما يفيض الشعاع على المرآة المصقولة إذا جليت وحوذي بها الشمس، وأن حصول النبوة ليس هو أمراً يُحدثه الله بمشيئته وقدرته، وإنما حصول هذا الفيض على هذا المستعد، كحصول الشعاع على هذا الجسم الصقيل، صار كثيرٌ منهم يطلب النبوة؛ كما يُحكى عن طائفة من قدماء اليونان، وكما يعرض ذلك لطائفة من الناس في أيام الإسلام..". كتاب الصفدية 1229. وانظر: المصدر نفسه 1230-234. ودرء تعارض العقل والنقل 5353-356. ومنهاج السنة النبوية 2415-416، 434-435. وبغية المرتاد ص 384. وشرح حديث النزول ص 421. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 204. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 609-612، 732-735، 834-841، 855-857.
وانظر عن طلب صوفية الفلاسفة، أو ملاحدة الصوفية للنبوة في: درء تعارض العقل والنقل10204-205. والرد على المنطقيين ص 483. وكتاب الصفدية 1250-251، 284-285. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 196-199، 236-237.
فالنبوة فضل من الله، ومنّة يمنّ بها على عباده، واصطفاء منه جلّ وعلا، قال العلامة السفاريني رحمه الله:
ولا تنال رتبة النبوة بالكسب والتهذيب والفتوة
لكنها فضل من المولى الأجلّ لمن يشاء من خلقه إلى الأجل
انظر: لوامع الأنوار 2267.
من الفروق بين آيات الأنبياء، وبين السحر والكهانة.
من الفروق بين آيات الأنبياء وبين خوارق السحرة والكهان
وبينهما فروق كثيرةٌ، أكثر من عشرة1.
أحدها: أنّ ما تخبر به الأنبياء، لا يكون إلاصدقاً. وأمّا ما يُخبر به من خالفهم؛ من السحرة، [والكهان] 2، وعُبّاد المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع والفجور من المسلمين؛ فإ نه لابُدّ فيه من الكذب.
[الثاني: أنّ الأنبياء لا تأمر إلا بالعدل، ولا تفعل إلا العدل]3.
1 ذكر الشيخ رحمه الله الفروق بين آيات الأنبياء، وبين السحرة والكهان منظمة في ص 671-673 من هذا الكتاب، وقد جعلها اثني عشر فرقاً.
وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 671-673، 798، 844، 987، 1020.
2 في ((ط)) : الكهاه.
3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
وهؤلاء المخالفون لهم لا بُدّ لهم من الظلم؛ فإن ما خالف العدل لا يكون إلا ظلماً؛ فيدخلون في العدوان على الخلق، وفعل الفواحش، والشرك، والقول [على] 1 الله بلا علم؛ وهي المحرمات التي حرّمها الله مطلقاً؛ كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّما حَرَّم رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكوا باللهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاتَعْلَمُون} 2.
الثالث: أنّ ما يأتي به من يخالفهم: معتادٌ لغير الأنبياء؛ كما هو معتاد للسحرة، والكهان، وعباد المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع والفجور.
وآيات الأنبياء هي معتادة أنها تدلّ: علىخبر الله وأمره، على علمه وحكمه؛ فتدلّ على أنهم أنبياء، وعلى صدق من أخبر بنبوتهم؛ سواء كانوا هم المخبرين، أوغيرهم.
وكرامات الأولياء هي من هذا؛ فإنهم يخبرون بنبوة الأنبياء.
وكذلك أشراط الساعة: هي أيضاً تدلّ على صدق الأنبياء؛ إذ كانوا قد أخبروا بها.
فالذي جعله أولئك3 من كرامات الأولياء، وأشراط الساعة ناقضاً لآيات الأنبياء، إذ هو من جنسها، ولا يدلّ عليها.
فأولئك4 كذّبوا بالموجود، وهؤلاء5 سوّوا بين الآيات وغيرها، فلم [يكن] 6 في الحقيقة عندهم آية، وكانت الآيات عند أولئك منتقضة.
1 في ((خ)) : عليه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 سورة الأعراف: 33.
3 أي المعتزلة.
4 أي المعتزلة.
5 أي الأشاعرة.
6 في ((م)) ، و ((ط)) : تكن.
وأولئك1 نصروا جهلهم بالتكذيب بالحق، وهؤلاء2 نصروا جهلهم أيضاً بقول الباطل، فقالوا: إنّ الآية هي المقرونة بالدعوى التي لا تعارض3، وزعموا أنه لا يمكن معارضة السحر والكهانة إذا جعل آية، وأنه إذا لم يعارض، كان آيةً4، وهو تكذيب بالحق أيضاً؛ فإنّه قد ادّعاه غير نبيّ، ولم يعارض5.
فالطائفتان6 أدخلت في الآيات ما ليس منها، وأخرجت منها ما هو منها؛ فكرامات الأولياء، وأشراط الساعة من آيات الأنبياء، وأخرجوها. والسحر والكهانة ليس من آياتهم، وأدخلوها، أو سوّوا بينها وبين الآيات، بل [ونوابها]7.
الرابع: إنّ آيات الأنبياء والنبوة، لو قُدّر أنها تُنال بالاكتساب، فهي إنما تُنال بعبادة الله وطاعته؛ فإنه لا يقول عاقل: إنّ أحداً يصير نبياً بالكذب
1 المعتزلة.
2 الأشاعرة.
3 انظر: البيان للباقلاني ص 46-49. والإرشاد للجويني ص 312-313، 319. والمواقف للإيجي ص 369.
وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 151-155، 282، 586-587، 724، 987.
4 انظر: البيان ص 94-95، 96. والإرشاد ص 319، 328. والمواقف ص 370. وأصول الدين للبغدادي ص 174-175.
وانظر ما سبق ص 585-588، 606-609، 726-727،.
5 مثل مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، والحارث الدمشقي.
انظر ما سبق ص 192، 282، 598.
6 المعتزلة والأشاعرة.
7 في ((خ)) رسمت: لوابها. وهكذا جاءت في ((م)) ، و ((ط)) .
والظلم، بل بالصدق والعدل؛ سواءٌ قال: إنّ النبوة جزاء على العمل1، أو قال: إنه إذا زكى نفسه، [فاض] 2 عليه ما يفيض على الأنبياء3. فعلى القولين: هي مستلزمة لالتزام الصدق والعدل.
وحينئذ: فيمتنع أن صاحبها يكذب على الله؛ فإن ذلك يفسدها بخلاف من خالف الأنبياء؛ من السحرة، والكهان، وعباد المشركين، وأهل البدع والفجور؛ من أهل الملل؛ أهل الكتاب، والمسلمين؛ فإن هؤلاء [تحصل] 4 لهم الخوارق، مع الكذب والإثم. بل خوارقهم مع ذلك أشدّ؛ لأنهم يخالفون الأنبياء. وما ناقض الصدق والعدل، لم يكن إلا كذباً وظلماً.
فكلّ من خالف طريق الأنبياء، لا بُدّ له من الكذب والظلم؛ إما عمداً، وإما جهلاً.
1 وهذا قول المعتزلة، كما صرح بذلك شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة 2414، 5436-439. وكتاب الصفدية 1225-229.
2 في ((ط)) : فاضل.
3 هذا قول الفلاسفة، كما مر معنا في ص 1312 من هذا الكتاب. وانظر: كتاب الصفدية 1229، 2230.
وقد قال شيخ الإسلام عن النبوة عند الفلاسفة أنهم "يزعمون أن ذلك فيض فاض من العقل على نفس النبيّ كما يفيض على سائر الأنبياء وغيرهم". بغية المرتاد ص 384. وانظر: الرد على المنطقيين ص 218-219، 474-476.
وفكرة الفيض، والصدور - وهما بمعنى واحد عند من قال بهما -: تولّد عن الله. والله تعالى قد نفى جنس التولد عن نفسه. انظر: كتاب الصفدية 1158-160، 347. والرد على المنطقيين ص 214، 218، 219.
4 في ((خ)) : يحصل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثيم} 1: ليس من شرطه أن يتعمد الكذب، بل من كان جاهلاً يتكلم بلا علم، فيكذب؛ فإن الشياطين تنزل عليه أيضاً؛ إذ من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه، من غير اجتهاد يُعذر به، فهو كذّاب.
ولهذا يصف الله المشركين بالكذب، وكثيرٌ منهم لا يتعمّد ذلك.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أفتى أبو السنابل2: بأنّ المتوفى عنها الحامل، لا [تحلّ] 3 بوضع الحمل، بل تعتد أبعد الأجلين. فقال: كذب أبو السنابل4؛ [أي في قوله] 5: بأنّ المتوفى عنها الحامل لا [تحلّ] 6 بوضع الحمل، بل تعتد أبعد الأجلين.
وكذلك لمّا قال بعضهم: ابن الأكوع حبط عمله. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد7
ونظائره كثيرة.
فالأنبياء لا يقع في إخبارهم عن الله كذب؛ لا عمداً، ولا خطأ.
وكلّ من خالفهم لابد أن يقع في خبره عن الله كذب ضرورةً؛ فإن خبره إذا لم يكن مطابقاً لخبرهم، كان مخالفاً له، فيكون كذباً.
1 سورة الشعراء، الآية 222.
2 سبقت ترجمته.
3 في ((خ)) : يحل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 سبق تخريجه 978-979.
5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
6 في ((خ)) : يحلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
7 سبق تخريجه 979.
فالذي تَنَزَّل عليه الشياطين إذا ظن واعتقد أنهم جاؤوا من عند الله، وأخبر بذلك، كان كاذباً. وكذلك إذا قال عما أوحوه إليه: إن الله أوحاه إليه، كان كاذباً؛ قال تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 1.
ولمّا شاع خبر المختار بن أبي عبيد2، وهو أول من ظهر في الإسلام بالكذب في هذا، وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يكون في ثقيف كذّاب ومبير" 3، فكان الكذّاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان
1 سورة الأنعام، الآية 121.
2 هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، أبو إسحاق. كان أبوه قد أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعلم له صحبة. استعمله عمر بن الخطاب على جيش، فغزا العراق، وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد. ولد المختار عام الهجرة. وقد سار من الطائف بعد مصرع الحسين إلى مكة فأتى ابن الزبير، وكان قد طرد لشره إلى الطائف، فأظهر المناصحة. فلما مات يزيد استأذن ابنَ الزبير في الرواح إلى العراق، فأذن له. وصار إلى العراق، ودعا فيها إلى إمامة محمد بن الحنفية، حتى علا قدره، ثم طالب بدم الحسين وتتبع قتلته، وقتل ابنَ زياد، وشاع في الناس أخبار عنه بأنه ادعى النبوة، ونزول الوحي عليه، ومكث كذلك ستة عشر شهراً، ثم قاتله مصعب بن الزبير أمير البصرة من قبل أخيه عبد الله، فقتله في الكوفة سنة 67 ?.
انظر: سير أعلام النبلاء 3538. والإصابة 6349. وشذرات الذهب 174، 75. والبداية والنهاية 8292-295. والأعلام 7192.
3 أورد الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث من طريق أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالته تُخاطب الحجاج بن يوسف لما قتل ولدها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قالت له: "
…
أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذّاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه.. ".
أخرجه مسلم في صحيحه 41971-1972، كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها.
وقد رواه أيضاً عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه الترمذي في جامعه 4499-500، 5729-730، كتاب الفتن، باب ما جاء في ثقيف كذاب ومبير.
وانظر مسند الإمام أحمد 6351-352. والبداية والنهاية 8352.
قال النووي: " المبير: المهلك. وقولها في الكذاب: فرأيناه: تعني به المختار بن أبي عبيد الثقفي، كان شديد الكذب، ومن أقبحه ادّعى أن جبريل صلى الله عليه وسلم يأتيه. واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد، وبالمبير الحجاج بن يوسف. والله أعلم". شرح النووي على صحيح مسلم 16100.
يتشيع لعلي. [ولهذا يوجد الكذب في الشيعة أكثر ممّا يوجد فى جميع الطوئف، والمبير: هو الحجاج بن يوسف1، وكان ظالماً معتدياً، وكان يتشيع] 2 لعثمان، والمختار يتشيع لعلي، فذُكر لابن عمر، وابن عباس أمر المختار، وقيل لأحدهما: إنه يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق،
1 هو الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي، أبو محمد. ولد بالطائف سنة 40?. أمره عبد الملك بقتال عبد الله بن الزبير، ثم ولاه مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليها العراق.
قال عنه الذهبي: "كان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن.... - إلى أن قال: - وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء. أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً".
سير أعلام النبلاء 4343.
وذكر الإمام الترمذي رواية عنه، عن هشام بن حسان: قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً، فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل. (سنن الترمذي 4499، كتاب الفتن، باب ما جاء في ثقيف كذاب ومبير) . وانظر: البداية والنهاية 9131-157. وشذرات الذهب 1106. والأعلام 2168.
2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} 1، وقيل للآخر: إنه يزعم أنه ينزل عليه، فقال: صدق، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 2.
الخامس: أنّ ما تأتي به السحرة، والكهان، والمشركون، وأهل البدع؛ من أهل الملل، لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن.
وآيات الأنبياء لا يقدر على مثلها؛ لا الإنس ولا الجن؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإنسُ والجنُّ عَلَى أَنْ يَأتوا بِمِثلِ هَذا القُرآنِ لا يَأتونَ بِمثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 3.
السادس: أنّ ما يأتي به السحرة، والكهان، وكلّ مخالف للرسل تُمكن
1 سورة الأنعام، الآية 121.
وروى الطبري بسنده إلى أبي زميل قال: كنت قاعداً عند ابن عباس، فجاءه رجل من أصحابه، فقال: يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة؛ يعني المختار بن أبي عبيد. فقال ابن عباس: صدق. فنفرتُ فقلتُ: يقول ابن عباس صدق؟! فقال ابن عباس: هما وحيان؛ وحي الله، ووحي الشيطان. فوحي الله إلى محمد، ووحي الشياطين إلى أوليائهم، ثم قال:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} ، سورة الأنعام، الآية 121. تفسير الطبري 820.
2 سورة الشعراء، الآيتان 221-222.
وروى الطبري بسنده إلى سعيد بن وهب قال: كنت عند عبد الله بن الزبير، فقيل له: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، ثم تلا:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . سورة الشعراء، الآيتان 221-222. تفسير الطبري 19126.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه؟ فقال: صدق، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} ". البداية والنهاية 8294.
3 سورة الإسراء، الآية 88.
معارضته بمثله، وأقوى منه؛ كما هو الواقع لمن عرف هذا الباب1. وآيات الأنبياء لا يُمكن أحداً أن يعارضها؛ لا بمثلها، ولا بأقوى منها.
وكذلك كرامات الصالحين، لا تعارض؛ لا بمثلها، ولا بأقوى منها. بل قد يكون بعضها آيات [أكبر] 2 من بعض. وكذلك آيات الصالحين. لكنها متصادقة، متعاونة على مطلوب واحد؛ وهو عبادة الله، وتصديق رسله. فهي آيات، ودلائل، وبراهين متعاضده على مطلوب واحد. والأدلة بعضها أدلّ وأقوى من بعض.
ولهذا كان المشايخ3 - الذين يتحاسدون، ويتعادون، ويقهر بعضهم بعضاً بخوارقه؛ إما بقتل وإمراض، وإما بسلب حاله وعزله عن مرتبته، وإما غير ذلك - خوارقهم شيطانية، ليست من آيات الأنبياء والأولياء.
[وكثيرٌ] 4 من هؤلاء يكون في الباطن كافراً منافقاً. وكثيرٌ منهم يموت على غير الإسلام. وكثيرٌ منهم يكون مسلماً مع ظلم يعرف أنه ظلم، ومنهم من يكون جاهلاً يحسب أنّ ما هو عليه ممّا أمر الله به ورسوله. وهذا كما يقع للملوك [المتنازعين على] 5 الملك من قهر بعضهم لبعض. فهذا خارج عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين.
السابع: أنّ آيات الأنبياء هي الخارقة للعادات؛ عادات الإنس والجنّ، بخلاف خوارق مخالفيهم؛ فإنّ كلّ ضرب منها معتاد لطائفة غير الأنبياء.
1 أي باب السحر والكهانة والتنجيم.
2 في ((خ)) : أكثر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 الذين هم من أولياء الشيطان.
4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
وآيات الأنبياء ليست معتادة لغير الذين يصدقون على الله، ويصدّقون من صدق على الله؛ وهم الذين جاؤوا بالصدق وصدّقوا. وتلك معتادة لمن يفتري الكذب على الله، أو يكذّب بالحقّ [لمّا جاءه]1. فتلك آيات على كذب أصحابها، وآيات الأنبياء آيات على صدق أصحابها؛ فإن الله سبحانه لا يُخلي الصادق ممّا يدلّ على صدقه، ولا يُخلي الكاذب ممّا يدلّ على كذبه؛ إذ من نعته ما أخبر به في [قوله] 2: {أَمْ يَقُولُونَ افْترَى على اللهِ كَذِباً فَإِن يَشَأ اللهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ} 3. ثم قال خبراً مبتدياً: {وَيَمْحُو اللهُ الباطلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} 4؛ فهو سبحانه لا بُدّ أن يمحق الباطل، ويُحقّ الحق بكلماته.
كما أخبر في موضع أنّه لم يخلق الخلق عبثاً ولا سُدى، وإنّما خلقهم بالحق وللحق6، فلا بُدّ أن يجزي هؤلاء وهؤلاء بإظهار صدق هؤلاء، وإظهار كذب هؤلاء؛ كما قال:{بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هوَ زَاهِق} 7.
1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
2 في ((ط)) : وقله.
3 سورة الشورى، الآية 24.
4 سورة الشورى آية 24.
5 سورة الأنبياء، الآيات 16-18.
6 قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} . سورة المؤمنون، الآية 115.
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} . سورة القيامة، الآية 36.
7 سورة الأنبياء، الآية 18.
الثامن: أن هذه لا يقدر عليها مخلوق، فلا تكون مقدورة للملائكة، ولا للجنّ، ولا للإنس، وإن كانت الملائكة قد يكون لهم فيها سبب، بخلاف تلك؛ فإنّها إما مقدورة للإنس، أو للجنّ، أو ممّا يُمكنهم التوصّل إليها بسبب.
وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الأنبياء - كما تقدّم1، ولكن ليست من آياتهم الكبرى، ولا يتوقّف إثبات النبوة عليها، وليست خارقة لعادة الصالحين، بل هي معتادة في الصالحين من أهل الملل؛ في أهل الكتاب، والمسلمين.
وآيات الأنبياء التي يختصّون بها خارقة لعادة الصالحين.
التاسع: أنّ خوارق غير الأنبياء؛ الصالحين، والسحرة، والكهان، وأهل الشرك والبدع، تُنال بأفعالهم؛ كعبادتهم، ودعائهم، وشركهم، وفجورهم، ونحو ذلك.
وأمّا آيات الأنبياء فلا [تحصل] 2 بشيء من ذلك، بل الله يفعلها آيةً وعلامةً لهم، وقد يُكرمهم بمثل كرامات الصالحين، وأعظم من ذلك، مما يقصد به إكرامهم.
لكن هذا النوع يُقصد به الإكرام والدلالة، بخلاف الآيات المجردة؛ كانشقاق القمر، وقلب العصا حية، وإخراج يده بيضاء، والإتيان بالقرآن، والإخبار بالغيب الذي يختصّ الله به.
1 انظر ص 162، 724، 987، 1036 من هذا الكتاب.
2 في ((خ)) : يحصل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
فأمرُ الآيات إلى الله، لا إلى اختيار المخلوق1، واللهُ يأتي بها بحسب علمه، وحكمته، وعدله، ومشيئته، ورحمته، كما يُنزل ما ينزله من آيات القرآن، وكما يخلق من يشاء من المخلوقات، بخلاف ما حصل باختيار العبد؛ إما لكونه يفعل ما يُوجبه، أو يدعو الله به فيجيبه.
فالخوارق التي ليست آيات2: تارةً تكون بدعاء العبد، والله تعالى يُجيب دعوة المضطر [إذا دعاه] 3، وإن كان كافراً. لكن [للمؤمنين] 4 من إجابة الدعاء ما ليس لغيرهم. وتارةً تكون بسعيه في أسبابها؛ مثل توجهه بنفسه وأعوانه، وبمن يُطيعه من الجنّ والإنس في حصولها.
وأما آيات الأنبياء: فلا تحصل بشيء من ذلك.
1 قال أحد الباحثين معلّقاً على كلام شيخ الإسلام رحمه الله: "فالذي يظهر من استقرائي لكلام ابن تيمية في تحقيقه للفظ المعجز، وفي تقسيمه للآيات: أن منها آيات خاصة لإقامة الحجج، وآيات عامة، قد يكون فيها معنى الإكرام، فهي دلائل وعلامات. فالآيات الخاصة تمثل المعجزات. والآيات العامة تمثل دلائل النبوة، وأعلام النبوة. فكل معجزة علامة ودلالة على النبوة، وليس كل علامة ودلالة على النبوة معجزة بالمعنى الاصطلاحي. أما المعنى اللغوي فقد تطلق المعجزات على أعلام النبوة ودلائلها، كما نقل ابن تيمية عن السلف كأحمد وغيره". خوارق العادات في القرآن الكريم لعبد الرحمن إبراهيم حميدي: ص 35.
وانظر ما سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حول هذا المعنى في ص 604، 652، 724، 725، 792 من هذا الكتاب. وانظر: الجواب الصحيح 5412-421،، 6380، 387. وفتح الباري 6581.
2 انظر: الجواب الصحيح 6167-168.
3 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .
4 في ((خ)) : المؤمنين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
العاشر: أنّ النبيّ قد خلت من قبله أنبياء يعتبر بهم، فلا يأمر إلا [بما] 1 أمرت به الأنبياء؛ من عبادة الله وحده، والعمل بطاعته، والتصديق باليوم الآخر، والإيمان بجميع الكتب والرسل. فلا يُمكن خروجه عمّا اتفقت [عليه] 2 الأنبياء.
وأما السحرة، والكهان، والمشركون، وأهل البدع من أهل الملل، فإنّهم يخرجون عمّا اتفقت عليه الأنبياء؛ فكلّهم يُشركون مع تنوّعهم، ويُكذّبون ببعض ما جاء به الأنبياء.
والأنبياء كلّهم منزّهون عن الشرك، وعن التكذيب بشيء من الحقّ الذي بعث الله به نبيّاً.
قال تعالى: {واسْأَل من أرسَلْنا من قَبْلِك مِن رُسُلِنا أَجَعَلْنا من دونِ الرَّحْمَنِ آلهةً يُعْبَدُونَ} 3.
وقال تعالى: {وما أرسَلْنا من قبلِك من رَسُولٍ إلا [يُوحَى] 4 إليه أنَّه لا إله إلا أنا فاعْبُدُون} 5.
وقال تعالى: {ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلّ أُمّةٍ رسولاً أن اعبُدُوا اللهَ واجتنِبُوا الطاغوتَ فمنهم من هَدَى اللهُ ومنهم من حَقَّتْ عليهِ الضَّلالة} 6.
1 في ((ط)) : بمغ.
2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) .
3 سورة الزخرف، الآية 45.
4 في ((ط)) : نُوحي. وهي قراءة حفص عن عاصم. انظر: النشر في القراءات العشر ص 65.
5 سورة الأنبياء، الآية 25.
6 سورة النحل، الآية 36.
وقال تعالى: {ولكنّ البِرَّ مَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ والملائكَةِ والكتابِ والنَّبِيِّينَ} 4.
وقال تعالى: {شَرَعَ لكم من الدِّين ما وصّى به نوحاً والَّذي أوحَيْنَا إِلَيْك وما وصَّيْنا به إبراهيم وموسى وعيسى أَن أقيموا الدين ولا تتفرَّقُوا فيه كَبُرَ على المُشْرِكِينَ
1 سورة البقرة، الآية 285.
2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) .
3 سورة البقرة، الآية 136.
4 سورة البقرة، الآية 177.
5 سورة النساء، الآيتان 150-151.
6 سورة آل عمران، الآية 81.
ما تدعوهم إليه اللهُ يَجْتَبِي إليهِ مَنْ يشَاءُ ويهدِي إليهِ مَنْ يُنِيب} 1.
وقال تعالى: {يا أيُّها الرُّسُل كُلُوا من الطيِّبات واعملوا صالِحَاً إِنّي بما تَعْمَلُون عليمٌ وأنَّ 2 هذه أُمَّتُكُم أُمَّة واحدة وأنا ربكم فاتَّقُونِ} 3، ثمّ قال:{فَتَقَطَّعُوا أمرَهُم بَيْنَهُم زُبُرَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِم فَرِحُونَ} 4.
وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء: {إنّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّة واحدة وأنا ربكم فاعبُدُون وتقطَّعُوا أمرهم بينهم كُلّ إلينا راجعون فَمَنْ يعمل من الصالحات وهو مُؤْمِنٌ فلا كُفران لِسَعْيِهِ وإِنَّا لَهُ كاتِبُون} 5.
فالأنبياء يُصدِّقُ متأخِّرُهم مُتقدّمهم، ويُبشِّر متقدّمُهم بمتأخِّرِهم؛ كما بَشَّرَ المسيح ومن قَبْلَهُ بمحمّدٍ7، وكما صدّق محمّدٌ جميع النّبيّين قبلَهُ8.
1 سورة الشورى، الآية 13.
2 قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر:((وأن)) بالفتح وتشديد النون، ووافق ابن عامر في فتح الألف، لكنه سكن النون، وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي:((وإن)) بكسر الألف وتشديد النون. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 5478.
3 سورة المؤمنون، الآيتان 51-52.
4 سورة المؤمنون، الآية 53.
5 سورة الأنبياء، الآيات 92-94.
6 سورة البقرة، الآيتان 111-112.
7 قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} . سورة الصف، الآية 6.
8 قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . سورة البقرة، الآية 285.
وقال: { [نَزَّلَ] 2 عَليكَ الكتابَ بالحقِّ مُصدّقاً لِمَا بينَ يديه وأنزل التَّوْراةَ والإنجيلَ} 3.
وقال: {وَأنزَلْنا إليكَ الكتاب بالحقّ مُصدِّقاً لما بين يديه من الكتابِ ومُهَيْمِنَاً عليهِ} 4.
والأنبياء، وأتباعهم، [كُلُّهم] 5 مؤمنون، مسلمون6، يعبدون الله
1 سورة النساء، الآية 47.
2 في ((خ)) : أنزل.
3 سورة آل عمران، الآية 3.
4 سورة المائدة، الآية 48.
5 في ((ط)) : كله.
6 جميع الرسل متفقون في الدعوة إلى التوحيد الخالص، والنهي عن الشرك، فالغاية التي بُعثوا من أجلها: إفراد الله بالعبادة، والنهي عن جميع الموبقات من الكفر والفسوق والعصيان.
والإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله جلّ وعلا للخلق أجمعهم، فأرسل النبيين والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وهو الإسلام. إلا أن شرائعهم تنوعت، فشرع لقوم ما لم يشرع لآخرين.
قال تعالى يحكي عن نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] .
ومن ذلك قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . سورة البقرة، الآيتان 132-133.
وقال تعالى يحكي قول يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [سورة يوسف، الآية 101] . وقال عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [سورة يونس، الآية 84] . وقال تعالى عن السحرة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [سورة الأعراف، الآية 126] . وقال تعالى عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة النمل، الآية 44] . وقال يحكي عن الحواريين: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران، الآية 52] .
وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن دين الأنبياء عليهم السلام جميعاً هو الإسلام في مواضع كثيرة من تصانيفه.
فمن ذلك قوله: "وقد ذكر الله عن الأنبياء وأتباعهم أنهم كانوا مسلمين مؤمنين من نوح إلى الحواريين، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران، 85] . وهذا عام في الأولين والآخرين، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران، 19] . وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل، 36] . وقوله تعالى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة: آية 112] ؛ أي أخلص قصده وعمله لله وهو محسن يفعل الصالحات، وهذا هو الإسلام؛ وهو أن يكون عمله عملاً صالحاً ويعمله لله تعالى. وهذا هو عبادة الله وحده لا شريك له. وبهذا بعث الله الرسل جميعهم". الرد على المنطقيين ص 448.
وانظر: مجموع الفتاوى 392، 7624. والجواب الصحيح112-83. والعقيدة التدمرية ص167-170. ودقائق التفسير 5105. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 182-185. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 488-490.
وحده بما أمر، ويُصدّقون بجميع ما جاءت به الأنبياء.
ومن خالفهم: لا يكون إلا مُشركاً، ومكذّباً ببعض ما أنزل الله. وبين الطائفتين1 فروقٌ كثيرةٌ غير خوارق العادات.
الحادي عشر: أنّ النبيّ هو وسائر المؤمنين لا يُخبرون إلا بحقّ،
1 أي بين جنس الأنبياء، وجنس المتنبئين من السحرة والكهان.
ولا يأمرون إلا بعدل؛ فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويأمرون بمصالح العباد في المعاش والمعاد، لا يأمرون بالفواحش، ولا الظلم، ولا الشرك، ولا القول بغير علم.
فهُم بُعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها. فلا يأمرون إلا بما يُوافق المعروف في العقول، الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول.
فكما أنهم هم لا يختلفون؛ فلا يُناقض بعضهم بعضاً، بل دينهم وملّتهم واحد وإن تنوّعت الشرائع1، فهم أيضاً موافقون لموجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده، موافقون للأدلّة العقلية لا يُناقضونها قطّ. بل الأدلة العقليّة الصحيحة كلّها توافق الأنبياء لا تُخالفهم.
وآيات الله السمعية والعقلية؛ العيانية2 والسماعية كلّها متوافقة، متصادقة، متعاضدة، لا يُناقض بعضها بعضاً؛ كما قد بُسط هذا في غير هذا الموضع3.
1 فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد) . أخرجه البخاري في صحيحه31270، كتاب الأنبياء، باب:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} . ومسلم في صحيحه 41837، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام. وأحمد في المسند 2309، 406، 437، 482.
2 أي التي تُرى وتُشاهد.
3 انظر كتابه درء تعارض العقل والنقل؛ فقد ألّفه رحمه الله للرد على القانون الذي ابتدعه المخالفون لمنهج أهل السنة يدّعون فيه حصول التعارض بين العقل والنقل. وقد أصّل شيخ الإسلام رحمه الله أصلاً في الرد على هذا القانون؛ وهو موافقة صريح العقل لصحيح النقل، والتلازم بينهما.
وانظر أيضاً: الرد على المنطقيين ص 373. ومجموع الفتاوى 6300، 16442-443.
والذين يُخالفون الأنبياء؛ من أهل الكفر، وأهل البدع؛ كالسحرة، والكهان، وسائر أنواع الكفّار؛ وكالمُبتدعين من أهل الملل؛ أهل العلم، وأهل العبادة: فهؤلاء مخالفون للأدلة السمعية والعقلية؛ للسماعية والعيانية، مخالفون لصريح المعقول، وصحيح المنقول؛ كما أخبر الله عنهم بقوله:{كُلَّما أُلْقِيَ فيها فَوْجٌ سألهم خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} الآية1. فهؤلاء يُخالفون أقوال الأنبياء؛ إما بالتكذيب، وإما بالتحريف من التأويل، وإما بالإعراض عنها وكتمانها؛ فإما لا يذكروها، أو يذكروا ألفاظها، ويقولون: ليس لها معنى يعرفه مخلوق2؛ كما أخبر الله عن أهل الكتاب: أنّ منهم
1 سورة الملك، الآية 8.
2 يُنبّه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ها هنا على أنّ لأهل التعطيل في نصوص الوحي ثلاث طرق:
الطريق الأول: إما بردّها بالتكذيب بها، والتعطيل لها لفظاً ومعنى.
الطريق الثاني: أو صرفها عن معناها الحقيقي، ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم بها، بواسطة التأويل.
الطريق الثالث: وهو التفويض المحض؛ أو قل دعوى الجهل بمعنى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم العلم به، والفقه له.
أما أصحاب القول الأول؛ وهو التكذيب بالنصوص، فقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: (يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء.
وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته وأنه مستو على عرشه.
ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقاً، بناء على أن الدلالة القطعية لا تفيد اليقين بما زعموا.
ويزعم قوم من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع باليقين". المعجزات وكرامات الأولياء ص 56-57.
وأما التأويل: فقد أوضح الشيخ رحمه الله أن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في معان ثلاثة:
أحدها: العاقبة، وما يؤول إليه الكلام. الثاني: يراد به التفسير. الثالث: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وتسمية هذا تأويلاً لم يكن موجوداً في عرف السلف رحمهم الله، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفةٌ من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام؛ فإن أكثره أو عامته من باب تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية. وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشهب.
انظر: نقض المنطق ص 57-58. والعقيدة التدمرية ص 91-93.
وأما أهل التفويض المحض؛ وهو تفويض علم معاني النصوص إلى الله تعالى، والإعراض عنها بالكلية، والزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المراد، ولم يبلغ البلاغ المبين، فقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:"وأما التفويض فإنه من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضّنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟.. فعلى قول هؤلاء: يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون. وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه. وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة، والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة. ومعلومٌ أن هذا قدحٌ في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزّل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله. ومع هذا فأشرف ما فيه؛ وهو ما أخبر به الربّ عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمراً ونهياً، ووعداً وتوعداً، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر، لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين. وعلى هذا التقدير: فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يُناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يُستدلّ به. فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يُبينوا مرادهم. فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد". درء تعارض العقل والنقل 1201-205.
وقال رحمه الله تعالى أيضاً عن أهل هذه الطرق: "الخارجين عن طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، لهم في كلام الرسول ثلاث طرق: طريقة التخييل، وطريقة التأويل، وطريقة التجهيل. فأهل التخييل: هم الفلاسفة الباطنية الذين يقولون: إنه خيّل أشياء لا حقيقة لها في الباطن، وخاصية النبوة عندهم التخييل. وطريقة التأويل طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون: إن ما قاله له تأويلات تخالف ما دل عليه اللفظ، وما يفهم منه، وهو وإن كان لم يبين مراده ولا بين الحق الذي يجب اعتقاده، فكان مقصوده أن هذا يكون سبباً للبحث بالعقل، حتى يعلم الناس الحق بعقولهم، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يُوافق قولهم ليُثابوا على ذلك. فلم يكن قصده لهم البيان والهداية والإرشاد والتعليم، بل قصده التعمية والتلبيس، ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق بعقلهم، ويعرفوا حينئذ أن كلامه لم يقصد به البيان، فيجعلون حالهم في العلم مع عدمه خيراً من حالهم مع وجوده...... - إلى أن قال رحمه الله: - وأما الصنف الثالث الذين يقولون إنهم أتباع السلف، فيقولون: إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك، بل لازم قولهم أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات، بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه. والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون: إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص، بل يقولون ذلك في الرسول. وهذا القول من أبطل الأقوال". نقض المنطق ص 56-57.
وانظر أقوالاً أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله حول هذه الطرق في كتبه: مجموع الفتاوى 468-69، 13175-176، 288-289. ودرء تعارض العقل والنقل 114، 5284-285. ونقض التأسيس 2234-235.
من يُكذّبُ في اللفظ، ومنهم من يُحرّف الكلم في المعنى، ومنهم جُهّال لا يفقهون ما يقرؤون؛ قال تعالى:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤمِنُوا لَكُمْ} 1، إلى قوله:{فَوَيْلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهم وويلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون} 2.
وكذلك هم مخالفون للأدلة العقلية.
الأنبياء كملوا الفطرة ومخالفوهم أفسدوا الحس والعقل والخبر
فالأنبياء كمّلوا الفطرة، وبصّروا الخلق؛ كما تقدّم3 في صفة محمّد [صلى الله عليه وسلم] 4: أنّ الله يفتحُ به أعيناً عُمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً.
ومخالفوهم يُفسدون الحسّ والعقل، كما أفسدوا الأدلة السمعية.
والحسّ والعقل بهما تُعرف الأدلة.
والطرق ثلاثة: الحسّ، والعقل، والخبر.
فمخالفوا الأنبياء أفسدوا هذا، وهذا، وهذا.
أما إفسادهم لما جاء عن الأنبياء: فظاهرٌ.
مخالفوا الأنبياء قسمان:
وأما إفسادهم للحسّ والعقل: فإنّهم قسمان:
قسمٌ أصحاب خوارق حسيّة؛ كالسحرة، والكهّان، وضلال العُبّاد.
وقسمٌ أصحاب كلام واستدلال بالقياس والمعقول.
وكلٌّ منهما يُفسد الحسّ والعقل.
أصحاب الحال الشيطاني
أما أصحاب الحال الشيطانيّ: فقد عُرف أنّ السحر يُغيّر الحسّ
1 سورة البقرة، الآية 75.
2 سورة البقرة، الآية 79.
3 انظر: ص 1284 من هذا الكتاب.
4 في ((خ)) : صلعم.
والعقل، حتى يُخيَّل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو. وكذلك سائر الخوارق الشيطانيّة، لا [تأتي] 1 إلا مع نوع فساد في الحسّ والعقل؛ كالمؤلهين الذين لا تأتيهم إلا مع زوال عقولهم، وآخرين لا [تأتيهم] 2 إلا في الظلام، وآخرين [يتمثّل] 3 لهم الجنّ في صورة الإنس، فيظنّون أنّهم إنس، أو يرونهم مثال الشيء؛ فيظنّون أن الذي رأوه هو الشيء نفسه، أو يُسمعونهم صوتاً يُشبه صوت من يعرفونه، فيظنّون أنه صوت ذلك المعروف عندهم4.
وهذا كثيرٌ موجودٌ في أهل العبادات البدعية التي فيها نوعٌ من الشرك ومخالفة الشريعة.
أصحاب الكلام والمقال البهتاني
وأما أصحاب الكلام والمقال البُهتاني: فإنهم بنوا أصولهم العقلية، وأصول دينهم الذي ابتدعوه على مخالفة الحسّ والعقل.
أصل كلام أهل الكلام
فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض5 مبني على مخالفة
1 في ((خ)) : يأتي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 في ((خ)) : يأتيهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 في ((م)) ، و ((ط)) : تتمثل.
4 انظر: مجموع الفتاوى 1384-85، 92.
5 سبق توضيح معنى الجواهر المنفردة ص 345 من هذا الكتاب.
والجواهر والأعراض عند المبتدعة هما ما يتكون منه العالم، كما قال الجويني:"العالم جواهر وأعراض؛ فالجوهر هو المتحيز، وكل ذي حجم متحيز. والعرض هو المعنى القائم بالجوهر كالألوان والطعوم والروائح والحياة والعلوم والإرادات والقُدَر القائمة بالجواهر". الإرشاد ص 17.
وانظر: التمهيد للباقلاني ص 37-41. والإنصاف له ص 27-28. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 328-329.
الحسّ والعقل؛ فإنّهم يقولون: إنا لا نشهد، بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها، بل كُلّ ما [يُشهَد] 1 حدوثه، بل كلّ ما حدث من قبل أن يخلق آدم إنّما [يحدث] 2 أعراض في الجواهر التي هي باقية، لا تستحيل قطّ، بل تجتمع وتتفرّق3.
1 في ((م)) ، و ((ط)) : نشهد.
2 في ((م)) ، و ((ط)) : تحدث.
3 هذه إحدى الطرق التي يثبت بها المتكلمون من جهمية ومعتزلة، وعلى رأسهم الرازي: الصانعَ. ويسمونها حدوث الصفات. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 40-41، 57. ومعالم أصول الدين على هامش محصل أفكار المتقدمين للرازي ص 26-29. والأربعين في أصول الدين له ص 70.
وقد أوضح شيخ الإسلام مراد الرازي بهذه الطريقة، فقال:"يعني بذلك ما يُحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب والمطر وغير ذلك. وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعةً لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد، ويقول بتماثل الأجسام، وأن ما يُحدث الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها. وهؤلاء ينكرون الاستحالة. وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم، وأن الله يحدث الأعيان ويبدعها، وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر، قلا يقولون إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان، ولا جرم النواة باق في النخلة". درء تعارض العقل والنقل 1308.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً - معقباً على كلام الرازي في حدوث الصفات - وهي الطريق الرابع الذي سلكه المتكلمون في إثبات الصانع؛ وهو الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع: "هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن، وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين؛ فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يُحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث؛ فيذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك. لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالاً بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهودة التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حدوثها، ولا تزال موجودة، وإنما تغيّرت صفاتها بتقدير حدوثها، كما تتغير صفات الجسم إذا تحرّك بعد السكون، وكما تتغير ألوانه، وكما تتغير أشكاله. وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم. وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم أن الرب لم يزل معطلاً لا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به، وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئاً، بل إنما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل؛ الأنبياء وأتباعهم". درء تعارض العقل والنقل 383-84.
فهذه الطريقة التي سلكها الرازي هي العمدة في إثبات الصانع عند المتكلمين، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله بقوله:"ثم إن الرازي جعل هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا هي العمدة الكبرى في إثبات الصانع؛ كما ذكر ذلك في رسالة إثبات واجب الوجود، ونهاية العقول، والمطالب العالية، وغير ذلك من كتبه. وهذا مما لم يسلكه أحد من أئمة النظار المعروفين من أهل الإسلام..". درء تعارض العقل والنقل 3164.
وانظر: شرح الأصفهانية 1261-262. ومجموع الفتاوى 17322-323. ودرء تعارض العقل والنقل 382 - 84، 163-164. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 351-355.
والخلق عندهم - الموجود في زماننا، وقبل زماننا -: إنّما هو جمع وتفريق، لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه1، ولا خلق لشيء قائم بنفسه؛ لا إنسان، ولا غيره، وإنّما يخلق أعراضاً، ويقولون: إنّ كلّ ما نشاهده من الأعيان فإنها مركبة من جواهر، كلّ جوهر منها لا يتميّز يمينه عن شماله2.
1 انظر: أصول الدين للبغدادي ص 40-41، 70-71. وانظر: منهاج السنة النبوية 2139. ومجموع الفتاوى 5424-425، 17244. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 348-349.
2 انظر: التمهيد للباقلاني ص 37. والإنصاف له ص 27. وأصول الدين للبغدادي ص 35. والفرق بين الفرق له ص 328-329. وانظر مجموع الفتاوى 5421.
وهذا مُخالفةٌ للحسّ والعقل كالأول.
قولهم: إن الأعراض لا تبقى زمانين وإنه لا يفنى شيء من الأعيان
ويقول كثيرٌ منهم: إنّ الأعراض لا تبقى زمانين1، ويقولون: إنه لا يفنى ولا يعدم في زماننا شيء من الأعيان، بل كما لا يحدث شيء من الأعيان، [لا يفنى شيء من الأعيان2]3.
فهذا أصل علمهم، ودينهم، ومعقولهم الذي بنوا عليه حدوث العالم، وإثبات الصانع، وهو مخالفٌ للحسّ والعقل4.
ويقول الذين يُثبتون الجوهر الفرد5:
1 انظر: التمهيد للباقلاني ص 38. والإنصاف له ص 27-28. والشامل للجويني ص 167. وأصول الدين للبغدادي ص 50-52. والمواقف للإيجي ص 101.
وانظر من كتب ابن تيمية: مجموع الفتاوى12316. وشرح حديث النزول ص 157-158. والنبوات ص 268. ونقض تأسيس الجهمية 1102. ودرء تعارض العقل والنقل 1306، 3434. وشرح الأصفهانية 1265. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 155-156، 541.
2 انظر: أصول الدين للبغدادي ص 45. وانظر: منهاج السنة النبوية 2140. ودرء تعارض العقل والنقل 5202-203.
3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
4 سبق ذلك فيما مضى من هذا الكتاب، ص 345.
5 هذه المسألة من محارات العقول، وقد اضطرب فيها كثير من النظار.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "هذه المواضع من دقيق مسائل النظار التي هي محارات العقول، التي اضطرب فيها أكثر الخائضين في ذلك. وأكثر من تكلم فيها لا يعرف إلا قولين أو ثلاثة أو أربعة، ويظنّ أن ذلك مجموع أقوال الناس، ولا يكون في تلك الأقوال التي يعرفها بل في غيرها
…
ومسألة الجوهر الفرد من هذا وهذا، ولهذا صار كثير من أعيانهم يصل فيها إلى الوقف والحيرة؛ كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي، وغيرهم". شرح الأصفهانية 1263-264.
ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام جامع مفصل لهذه المسألة، بيَّن فيه رحمه الله بطلان القول بالجواهر الفردة، وردّ على من يقول إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، وبيَّن أنّ القائلين ببقاء الجوهر وصل حالهم إلى التوقف أو الشك، قال رحمه الله:"فالقول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين؛ لا من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين. بل القائلون بذلك يقولون: إن الله تعالى لم يخلق منذ خلق الجواهر المنفردة شيئاً قائماً بنفسه؛ لا سماء ولا أرضاً ولا حيواناً ولا نباتاً ولا معادن ولا إنساناً ولا غير إنسان، بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها، فإنما يحدث أعراضاً قائمة بتلك الجواهر لا أعياناً قائمة بأنفسها، فيقولون: إنه إذا خلق السحاب والمطر والإنسان وغيره من الحيوان والأشجار والنبات والثمار، لم يخلق عيناً قائمة بنفسها، وإنما خلق أعراضاً قائمة بغيرها. وهذا خلاف ما دلّ عليه السمع والعقل والعيان. ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس فضلاً عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عيناً قائمة بنفسها إلا ذلك. وهؤلاء يقولون: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، بل الجواهر التي كانت مثلاً في الأول هي بعينها باقية في الثاني، وإنما تغيرت أعراضها. وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء أئمة الدين وغيرهم من العقلاء؛ من استحالة بعض الأجسام إلى بعض؛ كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت تراباً، واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحاً أو رماداً، واستحالة العذرات تراباً، واستحالة العصير خمراً، ثم استحالة الخمر خلاً، واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولاً ودماً وغائطاً، ونحو ذلك. وقد تكلم علماء المسلمين في النجاسة: هل تطهر بالاستحالة أم لا؟ ولم ينكر أحد منهم الاستحالة. ومثبتة الجوهر الفرد قد فرعوا عليه من المقالات التي يعلم العقلاء فسادها ببديهة العقل ما ليس هذا موضع بسطه؛ مثل تفليك الرحى والدولاب والفلك وسائر الأجسام المستديرة المتحركة، وقول من قال منهم: إن الفاعل المختار يفعل كلما تحركت، ومثل قول كثير منهم: إن الإنسان إذا مات، فجميع جواهره باقية قد تفرقت، ثم عند الإعادة يجمعها الله. ولهذا صار كثير من حذاقهم إلى التوقف في آخر أمرهم؛ كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي. وكذلك ابن عقيل، والغزالي، وأمثالهما من النظار الذين تبين لهم فساد أقوال هؤلاء: يذمّون أقوال هؤلاء، ويقولون: إن أحسن أمرهم الشك، وإن كانوا قد وافقوهم في كثير من مصنفاتهم على كثير مما قالوه من الباطل". منهاج السنة النبوية 2139-141.
إنّ الفلك، والرحاء، وغيرهما يتفكّك كلّما استدار1. ويقول كثيرٌ منهم: إنّ كلّ شيء فإنّه يمكن رؤيته، وسمعه، ولمسه2.
الفلاسفة أضل من المتكلمين فيجعلون ما في الذهن ثابتاً في الخارج
إلى غير ذلك من الأمور التي جعلوها أصول علمهم، ودينهم، وهي مكابرة للحسّ والعقل.
والمتفلسفة أضلّ من هؤلاء3؛ فإنهم يجعلون ما في الذهن [ثابتاً] 4 في الخارج5؛ فيدَّعون أنّ ما يتصوّره العقل من المعاني الغائبة الكليّة
1 انظر الأربعين في أصول الدين للرازي ص 262.
2 انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 324-325.
3 أي من المتكلمين ،
وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على المتفلسفة ومخالفتهم للعقل والسمع في ص 346-347 من هذا الكتاب.
وقد قال عنهم رحمه الله أيضاً: " ومن الفلاسفة من يدعي إثبات جواهر قائمة بأنفسها غير متحيّزة. ومتأخرو أهل الكلام
…
يقولون: ليس في العقل ما يحيل ذلك. ولهذا كان من سلك سبيل هؤلاء - وهو إنما يثبت حدوث العالم بحدوث الأجسام - يقول بتقدير وجود جواهر عقلية، فليس في هذا الدليل ما يدل على حدوثها. ولهذا صار طائفة ممن خلط الكلام بالفلسفة إلى قدم الجواهر العقلية وحدوث الأجسام، وأن السبب الموجب لحدوثها هو حدوث تصور من تصورات النفس، وبعض أعيان المتصوفة كان يقول بهذا". مجموع الفتاوى 17327. وانظر: منهاج السنة النبوية 2141-142.
4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
5 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 384، 1115. وانظر مجموع الفتاوى 17328-329، 342.
موجودة في الجواهر، قائمة بأنفسها؛ إما مجرّدة عن الأعيان، وإمّا مقترنة بها. وكذلك العدد، والمقدار، والخلاء، والدهر، والمادّة1: يدَّعون وجود ذلك في الخارج2.
وكذلك ما يُثبتونه من العقول، والعلّة الأولى الذي يُسمّيه متأخّروهم: واجب الوجود3.
وعامّة ما يُثبتونه من العقليّات، إنّما يُوجد في الذهن. فالذي لا ريب في وجوده: نفس الإنسان، وما يقوم بها. ثمّ ظنّوا ما يقوم بها من العقليات موجوداً في الخارج.
فكان إفسادهم للعقل أعظم، كما أنّ إفساد المتكلمين للحسّ أعظم.
الفلاسفة أصول علمهم العقليات والمتكلمون أصول علمهم الحسيات
مع أنّ هؤلاء المتفلسفة عمدتهم هي العلوم العقليّة. والعقليّات عندهم أصحّ من الحسيّات. وأولئك المتكلمون أصول علمهم هي الحسيّات، ثمّ يستدلّون بها على العقليّات. وبسط هذه الأمور له موضع آخر4.
1 سبق بيان معنى المادة في ص 361 من هذا الكتاب. وانظر: منهاج السنة النبوية 2202-203.
2 انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 363.
3 الفلاسفة يُقسمون الوجود إلى واجب وممكن، كما أن المتكلمين يُقسمونه إلى قديم وحادث.
قال ابن سينا: "لا شك أن هناك وجوداً. وكل وجود إما واجب وإما ممكن؛ فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود". النجاة لابن سينا ص 383. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 307.
4 قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن استطرد في ذكر مسألة الجوهر، وبيان فساد من يقول: الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم، أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما:"ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى، وباليوم الآخر في الخلق، وفي البعث، وفي إحياء الأموات، وإعادة الأبدان، وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع. فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور، فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة بالله واليوم الآخر، ويعرف مِنَ الكلام الذي ذمه السلف، والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول، ما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل". درء تعارض العقل والنقل 5196-197.
وانظر كلام الفلاسفة والمتكلمين في بقاء الجواهر وعدم فنائها، وهل مادة العالم أزلية أم لا، وأن الله يخلقها خلق أعراض، في: منهاج السنة النبوية 1360، 2139، 143، 202، 5443-444. ودرء تعارض العقل والنقل 1122-124، 308، 383-86، 163-164، 444-446، 5195-203. وشرح الأصفهانية1260-265. وبيان تلبيس الجهمية1178-179. ومجموع الفتاوى 5421-425، 17242-260، 313، 443. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 349-350.
والمقصود هنا: التنبيه على أنّ من خالف الأنبياء، فإنّه كما أنّه مكذّب لما جاءوا به من النبوّة والسمع، فهو مخالفٌ للحسّ والعقل؛ فقد [فسد] 1 عليه الأدلة العقليّة والنقليّة2.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
1 في ((ط)) : فسدت.
2 انظر: مجموع الفتاوى 17307-308.