الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل حكمة الله وعدله في إرسال الرسل
وإذا عرفت حكمة الرب وعدله، تبيَّن أنه إنما يرسل من اصطفاه لرسالته، و [اختاره] 1 لها، كما قال:{اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 2، وكما قال لموسى:{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} 3، وأنه إذا أبلغ الرسالة، وقام بالواجب، وصبر على تكذيب المكذبين وأذاهم، كما مضت به سنته في الرسل؛ قال:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون} 4، وقال تعالى:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَاّ مَا قَدْ قِيلَ للرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} 5، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوم نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُود وَالَّذينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ الله جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيدِيَهُم في أَفْوَاهِهِم وَقَالُوا إِنَّا كَفَرنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيهِ مُرِيب قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفي اللهِ شَكّ فَاطِر السَّمَواتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُم وَيُؤَخِّركم إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُريدُونَ أَنْ
1 في ((خ)) رسمت: اخباره. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 سورة الحج، الآية 75.
3 سورة طه، الآية 13.
4 سورة الذاريات، الآيتان 52-53.
5 سورة فصلت، الآية 43.
تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِين قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ [لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّل المُؤمِنُون وَمَا لَنَا] 1 [أَلَاّ] 2 نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّل [المُتَوَكِّلُون] 3 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُم لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمَنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} 4، إلى سائر ما أخبر به من أحوال الرسل.
والرسل صادقون، مصدّقون على الله [يخبرون] 5 بالحق، ويأمرون بالعدل، ويدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وأهل الكذب المدّعون للنبوة ضدّ هؤلاء، كاذبون تأتيهم الشياطين. الكاذبون يأمرون بما نهى الله عنه، وينهون عما أمر الله به، فإنه لا بد أن يأمروا [بتصديقهم] 6، واعتقاد نبوتهم، وطاعتهم. وذلك ممّا نهى الله عنه. ولا بُدّ أن ينهوا عن متابعة من يكذّبهم ويعاديهم، وذلك ممّا أمر الله
1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
2 في ((خ)) : أن.
3 في ((خ)) : المتومنين.
4 سورة إبراهيم، الآيات 9-17.
5 في ((خ)) : يخرون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
6 في ((خ)) : بتصديقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
به؛ فإنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يُسوّي بين هؤلاء خيار الخلق، وبين هؤلاء شرار الخلق؛ لا في سلطان العلم وبراهينه وأدلته، ولا في سلطان النصر والتأييد، بل يجب في حكمته أن يظهر الآيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء، وينصرهم، ويُؤيّدهم، ويُعزّهم، ويُبقي لهم [لسان] 1 الصدق، ويفعل ذلك بمن اتبعهم، وأن يظهر الآيات المبينة لكذب أولئك، ويذلهم، ويخزيهم، ويفعل ذلك بمن اتبعهم؛ كما قد وقع في هؤلاء وهؤلاء2.
وقد دلّ القرآن على الاستدلال بهذا في غير موضع3.
الأدلة والبراهين نوعان
والأدلة والبراهين كما تقدم4 نوعان؛ نوعٌ يدلّ بمجرده، بحيث يمتنع وجوده غير دال كدلالة حدوث الحادث على محدث، فهذا يدلّ بمجرده، وإن قدر أن أحداً لم يقصد الدلالة به. لكنّ الرب بكل شيء عليم، وهو مريد لخلق ما خلقه ولصفاته، لكن لا يشترط في الاستدلال بهذا أن يعلم أن دالاً قصد أن يدلّ به.
والنوع الثاني5: ما هو دليل بقصد الدالّ وجعله. [فهذا] 6 لولا القصد وجعله دليلا، لم يكن دليلاً، [فهو] 7 [إنّما] 8 قصد به الدلالة، فهذا مقصوده مجرد الدلالة، وذلك بمجرده هو الدليل.
1 في ((م)) ، و ((ط)) : سلطان.
2 يذكر الشيخ رحمه الله هنا الفرق بين المعجزة والسحر.
3 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 1098.
4 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 886.
5 سبق ذلك في ص 916 من هذا الكتاب.
6 في ((خ)) : فلهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
7 في ((خ)) : فهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
8 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
وهذا كالكلام الذي يدلّ بقصد المتكلم، وغير ذلك؛ مثل الإشارة بالرأس، والعين، والحاجب، واليد؛ ومثل الكتابة؛ ومثل العقد؛ ومثل الأعلام التي نصبت على الطرق، وجعلت علامة على حدود الأرض وغير ذلك1.
ومن ذلك العلامات التي يبعثها الشخص مع رسوله ووكيله إلى أهله؛ سواء كان قد تواطأ معهم عليها؛ مثل أن يقول: علامته أن يضع يده على ترقوته2، أو يضع خنصره في خنصره3، ونحو ذلك، أو كانت علامة قصد بها الإعلام من غير تقدّم مواطأة؛ مثل إعطائه عمامته ونعليه؛ كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمامته علامة على ولاية قيس بن سعد، وعزل أبيه سعد عن الإمارة يوم الفتح4، وكما أعطى أبا هريرة نعليه علامة على ما أرسله به5، وكما يعطي الرجل لرسوله خاتمه، ونحو ذلك.
فهذه الدلائل دلت بالقصد والجعل، وقد كان يمكن أن لا تجعل دليلاً.
فإذا كانت آيات الأنبياء من هذا الجنس، فهي إنما تدل مع قصد الرب إلى جعلها دليلاً.
وجعله لها دليلاً: بأن يجعل المدلول لازماً لها؛ فكلّ من ظهرت على يده، كان نبياً صادقاً؛ فإنّ الدليل لا يكون دليلاً إلا مع كونه مستلزماً للمدلول، فيمتنع أن يكون دليلاً إذا وجد [معه] 6 عدم المدلول، أو وجد ضدّ المدلول.
1 انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 916.
2 سبق التعريف بها في ص 645 من هذا الكتاب.
3 سبق التعريف بها في ص 645 من هذا الكتاب.
4 سبق تخريجه، انظر: ص 924-925 من هذا الكتاب.
5 سبق تخريجه، انظر: ص 925 من هذا الكتاب.
6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
آيات الأنبياء يمتنع وجودها بدون صدق النبي
فآيات الأنبياء الدالّة على صدقهم يمتنع وجودها بدون صدق النبيّ، ووجودها مع مدّعي النبوّة كاذباً أعظم استحالة؛ فإنّها إذا كانت ممتنعة مع عدم نبوة صادقة، - وإن لم تكن هناك نبوّة كاذبة -، فمع الكاذبة أشدّ امتناعاً؛ فهي مستلزمة للنبوة لا [تكون] 1 مع عدم النبوة البتة.
والكاذب قد عُدمت في حقه النبوة، ووجد في حقّه ضدّها؛ وهو الكذب في دعواها، يمتنع كونه نبياً صادقاً، فيمتنع أن يخلق الرب ما يدلّ على صدق الأنبياء، بدون صدقهم؛ لامتناع وجود الملزوم دون لازمه، ومع كذبهم؛ لامتناع وجود الشيء مع ضده.
والكذب ضدّ الصدق، فيمتنع أن يكون قوله: أنا نبيّ صدقاً وكذباً. فإذا استلزمت الصدق، امتنع وجود الكذب.
يمتنع دليل الصدق مع عدم الصدق
وخلق دليل الصدق مع عدم الصدق، ممتنع غير مقدور، لكن الممكن المقدور: أنّ ما جعله دليلاً على الصدق يخلقه بدون الصدق، فيكون قد خلقه، وليس بدليل [حينئذٍ. ويمكن أن يخلق على يد الكاذب ما يدلّ أنه دليل على صدقه، وليس بدليل] 2؛ مثل خوارق السحرة، والكهان؛ كما كان يجري لمسيلمة والعنسي وغيرهما3.
لكنّ هذه ليست دليلاً على النبوّة، لوجودها معتادة لغير الأنبياء، وليست خارقة لعادة غير الأنبياء، بل هي معتادة للسحرة والكهان. فالتفريط ممّن ظنها دليلاً، لا سيّما ولا بد أن يكون دليلاً على كذب صاحبها؛ فإن
1 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
3 تقدّم بيان ذلك، انظر ص 192، 272، 598-600 من هذا الكتاب.
الشياطين لا تقترن إلا بكاذب؛ كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1.
وآيات الأنبياء مع عدم النبوة، كما أن كلام الله بدون إرادة تلك المعاني كل ذلك ممتنع من عدة وجوه
ولا يجوز أن يُظهر الربّ ما جعله دليلاً للنبوة مع عدم النبوة2؛ كما أنّه لا يجوز أن [يتكلم] 3 بالكلام الذي جعله لبيان معان، بدون إرادة تلك المعاني4، بل ذلك ممتنعٌ من وجوه؛ من وجه حكمته، ومن جهة عادته، ومن جهة عدله ورحمته، ومن جهة علمه وإعلامه، وغير ذلك، كما قد بسط في مواضع5.
1 سورة الشعراء، الآيتان 221-222.
2 أي لا توجد المعجزة بدون وجود النبيّ؛ لأنّ الله يفعل لحكمة وسبب، وهو ممتنع من عدة وجوه؛ فإنّ الدليل لا يكون إلا مستلزماً للمدلول عليه مختصاً به.
3 في ((ط)) : يتلكم.
4 شيخ الإسلام رحمه الله يردّ ها هنا على الأشاعرة الذين ينفون قيام الصفات الاختيارية بالله تعالى، ويقولون بقدم الكلام، ويمنعون أن يكون الله متكلماً إذا شاء، متى شاء.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، وأن كلام الله لآدم أو لموسى أو للملائكة كلّ في وقت تكليمه ومناداته؛ أي أنه تعالى لم يناد موسى قبل خلقه ومجيئه عند الشجرة. وإن كانت صفة الكلام أزلية النوع.
وقد بنى أهل السنة مذهبهم على مقدمتين: 1- على أن الأمور الاختيارية تقوم بالله، 2- وعلى أن كلام الله لا نهاية له، كما قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [سورة الكهف، الآية 109]، وقوله:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [سورة لقمان، الآية 27] .
انظر: منهاج السنة النبوية 3358-360. وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 31277.
5 انظر ما سبق، ص 1116-1119 من هذا الكتاب.
ومن جهة قدرته أيضاً؛ فإنه قادر على هدي عباده وتعريفهم، وذلك إنما يكون بتخصيص الصادق بما يستلزم صدقه، فإذا ما سوّى بين الصادق والكاذب، فإنه يمتنع التعريف، والممتنع ليس بمقدور، فقدرته تقتضي خلق الفرق.
وقد يقال: هو قادر، لكن لا يفعل مقدوره. فيقال: فِعلُه له ممكن، ولا يمكن إلا على هذا الوجه، فيكون قادراً على هذا الوجه.
فإن قيل: هو قادر، ولكن لا يفعله. قيل: إن أريد أنه يمتنع، فهذا باطل، وإن أريد أنه يمكن فعله، ولكن لا يفعله، لم يكن على هذا النفي دليل، بل وجوده يدل على أنه فَعَلَهُ1.
أفعال الرب إما واجبة وإما ممتنعة
وأيضاً: فأفعال الرب؛ إما واجبة، وإمّا ممتنعة. وإذا لم يكن ممتنعاً، تعيَّن أنه واجب، وأنه قد فعله2، وهذا قد فعله. وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع.
الله منزه أن يفعل ما يناقض حكمته
والمقصود هنا: أنّ هذا كلّه يستلزم أنّ الربّ منزّه عن أن يفعل بعض الأمور الممكنة المقدورة3، لكون ذلك يستلزم أمراً يُناقض حكمته، ولكون فعل الشيء لا يكون إلا مع لوازمه، وانتفاء أضداده. فيمتنع فعله
1 مرت هذه المسألة فيما سبق، ص 278-281، 662 من هذا الكتاب.
وانظر: الفرق بين الفرق ص 133، 134. والانتصار للخياط ص 54.
2 أي أنّ الله سبحانه وتعالى قد هدى عباده المطيعين وعرفهم بتخصيص الصادق بما يستلزم صدقه، فلم يلتبس عليهم الصادق من الكاذب.
3 وهو جواز أن يظهر الله ما جعله دليلاً للنبوة مع عدم النبوة، فيستوي بذلك الصادق والكاذب؛ لأن من أصول الأشاعرة: أن الله يجوز منه فعل كلّ شيء، ولا يُنزّه عن شيء.
بدون لوازمه، أو مع ضده، كما يمتنع جعل الدليل دليلاً مع وجوده بلا مدلول، أو مع وجود ضدّ المدلول معه.
الأشاعرة يمتنع على أصولهم كلام الرب أن يدل على مراده أو أن آياته تدل على صدق الأنبياء
والذين قالوا: يجوز منه فعل كل شيء، ولا ينزّه عن شيء، يتعذّر على أصلهم وجود دليل جعلي قصدي؛ لا الكلام، ولا الفعال؛ فيمتنع على أصلهم كون كلام الرب يدلّ على مراده، أو كون آياته التي قصد بها الدلالة على صدق الأنبياء، أو غيرهم تدلّ؛ لأنّه يقدر أن يفعل ذلك [و] 1 غير ذلك، كما يقدر أن يظهر على يد الكاذب ما أظهره على يد الصادق.
تعريف المعجزة عند الأشاعرة
وهم يقولون: المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل وعدم المعارضة2. وهذا يقدر على إظهاره على يد الصادق.
صفة الإرادة
فمن سوّى بين جميع الأمور، وجعل إرادته لها سواء، لم يفرّق بين هذا وهذا3، فقالوا: نحن نستدل على أنه لم يظهرها على يد الكاذب، بأنه لو
1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
2 انظر: البيان للباقلاني ص 48. والإرشاد للجويني ص 312-313. وأصول الدين للبغدادي ص 175، 185. وشرح المقاصد للتفتازاني 511. والمواقف للإيجي ص 339.
3 قد أوضح شيخ الإسلام رحمه الله أنّ الأشاعرة جعلوا الإرادة قديمة أزلية واحدة، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد. ونسبتها إلى الجميع واحدة، ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص. فهم جعلوها واحدة قديمة أزلية مثل ما جعلوا العلم والكلام. وهم يقولون: إنه يعلم المعلومات كلها بعلم واحد بالعين، ويُريد المرادات كلها بإرادة واحدة بالعين، وإن كلامه الذي تكلم به من الأمر بكل مأمور، والخبر عن كل مخبر عنه هو أيضاً واحد بالعين.
أما قول أهل السنة والجماعة في الإرادة، فإنهم يقولون: إنه لم يزل مريداً بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته. وهو سبحانه يقدر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها. فهو إذا قدّرها علم ما سيفعله وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال. فإذا جاء وقته أراد فعله. فالأول عزم، والثاني قصد. فالإرادة منه تارة تكون بمعنى المشيئة، وتارة تكون بمعنى المحبة. فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا، كقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة النساء، الآية 26] . والإرادة الكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، كقوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [سورة الأنعام، الآية 125] . وقول المسلمين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
انظر: مجموع الفتاوى 16301-303. ودرء تعارض العقل والنقل 2172، 8283. وشرح الأصفهانية 1175-176، 2366. وجامع الرسائل 218، 39. ومنهاج السنة النبوية 314-18، 164-168، 180-181) .
فعل ذلك، لبطلت قدرته على تصديق الصادقين بالآيات؛ فإنّه إنّما يستدل على صدقهم بالآيات، فلو أظهرها على يد الكاذب، لم يبق قادراً.
هذه عمدة أكثرهم، وعليها اعتمد القاضي أبو بكر في كتاب المعجزات1.
قدرة الله في عدم المساواة بين الصادق والكاذب
فيقال لهم: هذا لا يبطل قدرته على ذلك2، ولكن هذا يوجب أنه لم يفعل المقدور، فيلزم من ذلك أنه سوى بين الصادق والكاذب، ولم يبيّن صدقه. وهذا مقدور ممكن، وكلّ مقدور ممكن فهو عندكم جائز عليه، فلم يكن اللازم رفع قدرته3، بل اللازم أنه لم يفعل مقدوره. وهذا جائز عندكم.
1 سبق أن نقل شيخ الإسلام رحمه الله كلام الباقلاني في ص 115 من هذا الكتاب، وهو من القسم المفقود من البيان له.
وانظر: الإرشاد للجويني ص 326-327. وأصول الدين للبغدادي ص 173-174. والمواقف للإيجي ص 341-342.
2 أي على هذا الدليل.
3 أي لم يكن اللازم من الدليل الذي أوردوه نفي قدرته، وإنما يلزم فقط أنه لم يفعل ذلك، لأن هذا هو الذي توجبه أصولهم.
وممّا يُوضّح هذا، أن يقال: هو قادر على إظهار ذلك على يد الكاذب، أم لا؟ فإن قلتم: ليس بقادر، أبطلتم قدرته، وإن قلتم: هو قادر، فثبت أنه قادرٌ على إظهار ذلك على يد الصادق والكاذب، فبقي مشتركاً1 لا يخصّ أحدهما، فلا يكون حينئذٍ دليلاً، فمجرّد القدرة لم يوجب اختصاص الصادق به.
وإن قلتم: لا يقدر على إظهاره على يد الكاذب، فقد رفعتم القدرة2.
فأنتم بين أمرين؛ إن أثبتم القدرة العامة3، فلا اختصاص لها؛ وإن نفيتم القدرة على أحدهما، بطل [استدلالكم] 4 بشمول القدرة5.
وأيضاً: فالقدرة إنما تكون على ممكن. وعلى أصلكم: لا يمكن تصديق الصادق.
الأشاعرة استدلوا بمقدمتين
فهم استدلوا بمقدمتين، وكلاهما باطلة6.
الوا: لو لم يكن دليلاً رفع القدرة. وهذا باطل، بل يلزم أنه لم يفعل المقدور. وهذا جائز عندهم. فلا يجب عندهم شيء من الأفعال.
ثم قالوا: وهو قادرٌ على ذلك، وعلى أصلهم: ليس هو بقادر على ذلك، فإنهم قالوا: يمكنه تصديق الأنبياء بالفعل، كما يمكنه التصديق بالقول. فيقال لهم: كلاهما يدلّ بالقصد والجعل، وهذا إنما يكون ممّن
1 أي: إن أثبتم القدرة لله تكون على أصولكم مشتركة بين الصادق والكاذب، فلا يميز بها بينهما.
2 أي بطل استدلالكم بدليل القدرة.
3 أي قدرة الله في الأزل.
4 في ((خ)) : استدلالهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
5 أي في التمييز بين الصادق والكاذب، وجعلتموه عاجزاً.
6 هذه المسألة سبق ذكرها، انظر ص 278، 661، 1006-1007 من هذا الكتاب.
يقصد أن يفعل الشيء ليدلّ. وعندكم هو لا يفعل شيئاً لشيءٍ؛ فيلزم على أصلكم أن لا يفعل شيئاً لأجل أنه يدلّ به عباده؛ لا فعلاً ولا كلاماً؛ إذ كان هذا عندكم ممتنعا وهو فعل شيء لمقصود آخر غير فعله.
وإذا كان هذا ممتنعاً عندكم، لم يكن مقدوراً، فلا يقدر على أصلكم أن ينصب لعباده دليلاً ليدلّهم به على شيء، بل هذا عندهم فعلٌ لغرض، وهو ممتنع عليه.
وإن قلتم: هو وإن لم يقصد أن يفعل شيئاً لحكمة، لكن قد يفعل الشيئين المتلازمين، فيستدل بأحدهما على الآخر.
قيل: هذا إنما يكون بعد أن يثبت التلازم، وأن أحدهما مستلزم للآخر. وهذا معلومٌ فيما يدلّ بمجرده؛ فإنه يمتنع وجوده بدون لازمه. أمّا ما يدل بالجعل والقصد، فيمكن وجوده بدون ما جُعل مدلولاً له.
واللزوم إنما يكون بالقصد، وهو عندكم يمتنع أن يفعل شيئاً لأجل شيء، فبطلت الأدلة القصدية على أصلكم، وهي أخصّ بالدلالة من غيرها.
ولهذا لا يكادون يستدلّون بكلام الله، بل يعتمدون في السمعيات؛ إمّا على ما عُلم بالضرورة أو الإجماع1.
1 يُخبر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم قائلاً: "فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو ما يظنونه من الإجماع. وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف ألبتة، أو عرفوا بعضها، ولم يعرفوا سائرها، فتارة يحكون الإجماع، ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين؛ طائفة، أو طائفتين، أو ثلاث، وتارة عرفوا أقوال بعض السلف. والأول كثير في مسائل أصول الدين وفروعه، كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعاً ونزاعاً، ولا يعرفون ما قاله السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم". مجموع الفتاوى 1325،، 471-72. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 573-580، 709-714.
خلاصة الكلام في الموضوع
وحقيقة الأمر أن الأدلة الجعلية القصدية لا بُدّ فيها من إرادة الرب ومشيئته، أن تكون أدلة، فلا بُدّ أن يريد أن يجعل هذا الفعل ليدلّ. وهم لا يجوزون أن يريد شيئاً لشيء، بل كل مخلوق هو عندهم مراد من نفسه، لم يُرَد لغيره. فامتنع أن يكون يريد الرب جعل شيء دليلاً على أصلهم1.
فتبين أنّه على أصلهم غير قادر على [نصب] 2 ما يقصد به دلالة العباد، وهدايتهم، وإعلامهم؛ لا قول، ولا فعل. فبطلت المقدمة الكبرى. وبتقدير أن يكون قادراً على ذلك، فهو إذا أظهر على يد الكاذب ما يظهر على يد الصادق، كان لم يفعل هذا المقدور، ولم يجعل ذلك دليلاً على الصدق، لا يلزم أن لا يكون قادراً.
فهم اعتمدوا على هذه الحجة، وقالوا: هذا هذا، وهذا هذا.
من لم يثبت الحكمة يلزمه نفي الإرادة والمشيئة والقدرة
فقد تبيَّن أنّ من لم يثبت حكمة الرب، يلزمه نفي إرادته ومشيئته كما تقدم3، ويلزمه أيضاً نفي قدرته على أن يفعل شيئاً لشيء، فلا يمكنه أن ينصب دليلاً ليدلّ به عباده على صدق صادق ولا كذب كاذب. وهم يقولون: من فعل شيئاً لحكمة، دليلٌ على حاجته ونقصه؛ لأنه فعل لغرض.
1 وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "الغاية التي يُراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل، ومراد الفاعل نوعان؛ فإنه تارة يفعل فعلاً ليحصل بفعله مراده، فهذا لا يفعله وهو يعلم أنه لا يكون، والله تعالى يفعل ما يريد، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله يفعل ما يريد. وتارة يريد من غيره أن يفعل فعلاً باختيار، لينتفع ذلك الفاعل بفعله، ويكون ذلك محبوباً للفاعل الأول، كمن يبني مسجداً ليصلي فيه الناس، ويعطيهم مالاً ليحجوا به، ويجاهدوا به". درء تعارض العقل والنقل 8471. وانظر: منهاج السنة النبوية 3168.
2 في ((خ)) : ما نصب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 انظر ما سبق ص 501-507 من هذا الكتاب، وكذا ص 1107، 1156 منه.
والغرض هو الشهوة، وذلك يتضمن الحاجة1.
وهذا بعينه يُقال في الإرادة2: إن من أراد، فإنّما يريد لغرض وشهوة.
فقولهم بنفي الحكمة، يتضمن نفي الإرادة، ونفي القدرة.
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع3، وبُيِّن أنّ من نفى الحكمة، يلزمه [نفي] 4 الإرادة، ومن نفى الإرادة يلزمه نفي فعل الرب، ونفي
1 سبق ذلك في هذا الكتاب. وانظر: منهاج السنة النبوية 391.
2 شيخ الإسلام رحمه الله هاهنا يُلزمهم بنفي الإرادة؛ لأن المحذور في إثبات الحكمة عندهم موجود أيضاً في الإرادة؛ فإما أن يُثبتوا الكلّ، أو ينفوا الكلّ.
وقد سبق أن أورد شيخ الإسلام رحمه الله هذا الإلزام بالتفصيل. انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 503-507.
3 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 503-507. وانظر مجموع الفتاوى 16298-299.
والملاحظ أن شيخ الإسلام هاهنا يُقرّر قاعدة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. ويُلزم الأشاعرة بهذه القاعدة أن يثبتوا الحكمة كما أثبتوا الإرادة، أو ينفوا الجميع.
يقول رحمه الله تعالى: "أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيُقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته، وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة، تدلّ على حكمته البالغة، كما يدلّ التخصيص على المشيئة وأولى لقوة العلة الغائية. ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في المخلوقات من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة". التدمرية ص 34-35.
4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
الإحداث. ومن نفى ذلك يلزمه امتناع حدوث حادث في الوجود. وأن إثبات الحكمة لازمٌ لكلّ طائفة على أي قولٍ قالوه، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع1.
إذ المقصود: التنبيه على أن إثبات آيات الأنبياء، والاستدلال بكلام الله وآياته التي أراد أن يدلّ بها عباده بدون إثبات حكمته: ممتنع.
اضطراب كلام من نفى حكمة الله في آيات الأنبياء وفي كلامه
ولهذا اضطرب كلام من نفى حكمته في آيات الأنبياء، وفي كلام الرب سبحانه؛ وهي الآيات التي بعثت بها الأنبياء القولية والفعلية، واضطربوا في الاستدلال على ما جاءت به الأنبياء، كما قد نُبّه عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم2.
1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 9111. ورسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والتعليل - ضمن مجموعة الرسائل والمسائل - 4-5283-346.
2 أشار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن الآيات الدالة على الحكمة والرحمة تقرر تنزيه الله عن تأييد الكذاب بالمعجزة، فقال:"وقد يقال: يمكن تقرير كونه سبحانه منزهاً عن تأييد الكذاب بالمعجزة من غير بناء على أصل المعتزلة، بما علم من حكمة الله في مخلوقاته، ورحمته ببريته، وسنته في عباده؛ فإن ذلك دليل على أنه لا يُؤيّد كذاباً بمعجزة لا معارض لها. ويمكن بسط هذه الطريقة وتقريرها بما ليس هذا موضعه، فإنه كما علم بما في مصنوعاته من الإحكام والإتقان أنه عالم، وبما فيها من التخصيص أنه مريد، فيعلم بما فيها من النفع للخلائق أنه رحيم، وبما فيها من الغايات المحمودة أنه حكيم". شرح الأصفهانية 2612.