المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل الدليل هو الآية والبرهان - النبوات لابن تيمية - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌فصل أصول الدين

- ‌فصل الحجة على من أنكر قدرة الله وحكمته

- ‌فصل الدليل هو الآية والبرهان

- ‌فصل الدليل ينقسم إلى قسمين:

- ‌فصل القسم الثاني الدلالة القصدية

- ‌فصل الدليل مستلزم للمدلول

- ‌فصل الله سبحانه دل عباده بالدلالة العيانية والدلالات المسموعة

- ‌فصل آيات الأنبياء دليل وبرهان

- ‌فصل الله تعالى سماها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات

- ‌فصل خوارق الكهان والسحرة ليست من خوارق العادات وإنما من العجائب الغريبة

- ‌فصل الذين سموا آيات الأنبياء خوارق لا بدّ أن يخصوا ذلك بالأنبياء دون غيرهم

- ‌فصل مسمى العادة

- ‌فصل اشتقاق كلمة النبي

- ‌فصل دلالة المعجزة على نبوة النبي

- ‌فصل سنة الله وعادته في الكذاب أن ينتقم منه ويظهر كذبه

- ‌فصل الاستدلال بالحكمة

- ‌فصل حكمة الله وعدله في إرسال الرسل

- ‌فصل الاستدلال بسنة الله وعادته في معرفة النبي الصادق من المتنبئ الكاذب

- ‌فصل آيات الأنبياء يلزم من وجودها وجود الأنبياء

- ‌فصل خوارق السحرة والكهان مناقضة للنبوة ولا تخرج عن مقدور الجن والإنس

الفصل: ‌فصل الدليل هو الآية والبرهان

‌فصل الدليل هو الآية والبرهان

الدليل الذي هو الآية والبرهان يجب طرده كما تقدم1؛ فإنه لو كان تارةً يتحقق مع وجود المدلول عليه، وتارةً يتحقق مع عدمه. فإذا تحقّق لم يعلم: هل وجد المدلول، أم لا؟ فإنّه كما يوجد مع وجوده، [يوجد مع عدمه]2.

ولهذا كان الدليل3 إمّا مساوياً للمدلول عليه، وإمّا أخصّ منه، لا يكون أعمّ من المدلول.

ولهذا لم يكن للأمور المعتادة دلالة على ما هو أخصّ؛ كطلوع الشمس، والقمر، والكواكب، لا [تدلّ] 4 على صدق أحد، ولا كذبه؛ لا مدّعي النبوة، ولا غيره؛ فإنّها توجد مع كذب الكاذب، كما توجد مع صدق الصادق.

المخلوقات آيات للرب

لكن [تدلّ] 5 على ما هو أعم منها؛ وهو وجود الرب، وقدرته، ومشيئته، وحكمته؛ فإن وجود ذاته وصفاته ثابت؛ سواءٌ كانت هذه المخلوقات موجودة، أو لم تكن؛ فيلزم من وجود المخلوق وجود خالقه، ولا يلزم من

1 انظر ص 301 من هذا الكتاب.

2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

3 الدليل في اللغة: هو المرشد، وما به الإرشاد. وفي الاصطلاح: هو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر.

انظر: التعريفات ص 140.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : يدلّ.

5 في ((م)) ، و ((ط)) : يدلّ.

ص: 723

عدمه عدم خالقه؛ فلهذا كانت المخلوقات كلّها آيات للربّ؛ فما من مخلوق إلا وهو آية له1؛ هو دليل، وبرهان، وعلامة على ذاته وصفاته ووحدانيته. وإذا عُدم كان غيره من المخلوقات [تدلّ] 2 على ما دل عليه، ويجتمع على المعلوم الواحد من الأدلّة ما لا يحصيه إلا الله.

كل مخلوق هو علامة على ذاته سبحانه وصفاته ووحدانيته

وقد يكون الشيء مستلزماً لدليلٍ معيّن. فإذا عُدم عرف انتفاؤه. وهذا مِمّا يكون لازماً ملزوماً؛ فتكون [الملازمة] 3 من الطرفين؛ فيكون كلّ منهما دليلاً.

1 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 148، 29-12، 17-24، 74-78، 9142.

2 في ((م)) ، و ((ط)) : يدلّ.

3 في ((ط)) : الزلامة.

والملازمة لغة: امتناع انفكاك الشيء عن الشيء. واللزوم، والتلازم بمعناه.

والملازمة اصطلاحاً: كون الحكم مقتضياً للآخر، على معنى أنّ الحكم بحيث لو وقع يقتضي وقوع حكم آخر اقتضاءً ضرورياً؛ كالدخان للنار في النهار، والنار للدخان في الليل.

انظر: التعريفات للجرجاني ص 294.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "

معلومٌ أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم. فكيف إذا كان التلازم من الجانبين؟ فإنّ هذا التلازم يستلزم أربع نتائج؛ فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا، ومن نفيه نفيه، ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك، ومن نفيه نفيه. وهذا هو الذي يُسمّيه المنطقيون: الشرطي المتصل، ويقولون: استثناء عين المقدم ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدّم. فإذا كان التلازم من الجانبين، كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر، واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر

".

درء تعارض العقل والنقل 5268-269.

ص: 724

وإذا قُدّر [انتفاؤه كان دليلاً على] 1 انتفاء الآخر؛ كالأدلّة على الأحكام الشرعيّة؛ فما من حكمٍ إلَاّ جعل الله عليه دليلاً.

وإذا قُدِّر انتفاء جميع الأدلة الشرعيّة على حكمٍ، عُلِم أنّه ليس حكماً شرعيّاً2، وكذلك ما تتوفّر الهمم والدواعي على نقله؛ فإنّه إذا نُقل دلّ التواتر على وجوده، وإذا لم يُنقل مع توفّر الهمم والدواعي على نقله لو كان موجوداً، عُلِم أنّه لم يوجد؛ كالأمور الظاهرة التي يشترك فيها الناس؛ مثل موت ملك، وتبدّل ملك، وتبدّل ملك بملك، وبناء مدينة ظاهرة، وحدوث حادث عظيم في المسجد أو البلد؛ فمثل هذه الأمور لا بدّ أن ينقلها الناس إذا وقعت. فإذا لم تنقل نقلاً عامّاً، بل نقلها واحد، عُلِمَ أنّه قد كذب. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع3.

وقد بسط في غير هذا الموضع: الفرق بين الآية التي هي علامة تدل على نفس المعلوم، وبين القياس الشمولي الذي لا يدلّ [إلَاّ] 4 على قدرٍ كليّ مشترك، لا يدلّ على شيء معين؛ إذ كان لا بدّ فيه من قضية كليّة، وأنّ ذلك القياس لا يفيد العلم بأعيان الأمور الموجودة، ولا يفيد معرفة شيء؛ لا الخالق، ولا نبي من أنبيائه، ولا نحو ذلك. بل إذا قيل: كلّ محدَث فلا بدّ له من [محدِث] 5، دلّ على محدِثٍ مطلق، لا يدلّ على عينه، بخلاف آيات الله؛ فإنّها تدل على عينه.

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 انظر: درء تعارض العقل والنقل 5268-271.

3 انظر: درء تعارض العقل والنقل 612-13، 271.

4 في ((ط)) : إلى.

5 رسمت في ((خ)) : محدل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 725

وبيَّنَّا أنّ القرآن ذكر الاستدلال بآيات الله. وقد يستدل بالقياس الشمولي، والتمثيلي، لكن دلالة الآيات أكمل وأتمّ1.

وتبيَّن غلط من عظَّم دلالة القياس الشمولي المنطقي، وأنّهم من أبعد الناس عن العلم والبيان.

وذكرنا أيضاً2 غلط من فضَّل الشمولي [على] 3 التمثيلي، وأنّها من جنس واحد، والتمثيليّ أنفع، وإنَّما الآيات تكون أحسن.

ثلاثة أقوال في معنى الآية

وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي ما ذكره [أبو بكر] 4 ابن الأنباري5، وغيره في الآيات آيات القرآن؛ مثل قوله:{قَدْ [كَانَتْ] 6 آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكُصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ} 7: ثلاثة أقوال؛ قال: "في معنى الآية ثلاثة [أقوال] 8:

1 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر: "والفرق بين الآية وبين القياس: أنّ الآية تدلّ على عين المطلوب الذي هي آية وعلامة عليه؛ فكلّ مخلوق فهو دليل وآية على الخالق نفسه". مجموع الفتاوى 148. وانظر المصدر نفسه 147-50، 9142-159. ودرء تعارض العقل والنقل 5268-286. وشرح الأصفهانية 1261.

2 انظر: مجموع الفتاوى 9196-206.

3 في ((ط)) : عن.

4 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .

5 سبقت ترجمته.

6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) .

7 سورة المؤمنون، الآيتان 66-67.

8 في ((خ)) : أقول.

ص: 726

القول الأول

أحدها: أنّها العلامة؛ فمعنى آية: علامة؛ لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها1.

قال الشاعر2:

ألا أبلغ لديك بني تميم

بآية ما يُحبّون الطعاما3

1 في زاد المسير لابن الجوزي: والذي بعدها.

2 وهو يزيد بن عمرو بن الصعق، أحد بني عمرو بن كلاب.

لاحظ مصادر الحاشية التالية.

3 وله بقيّة، هي:

أجارتها أُسَيِّدُ ثم غارت

بذات الضَّرع منه والسَّنَامِ

انظر: خزانة الأدب 6520، 523. وانظر أيضاً: الكتاب لسيبويه 1460. والكامل للمبرد ص 98) .

وفي خزانة الأدب 6518:

ألا من مبلغ عني تميماً

بآية ما يحبون الطعاما

"على أن آية تُضاف في الأغلب إلى الفعلية، مصدّرة بحرف المصدر، كما في البيت؛ فإن (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بإضافة آية إليه.

وهذا خلاف مذهب سيبويه، فإنّ (ما) زائدة، وآية مضافة إلى الفعل، ولا تؤول بمصدر.. وقال النحاس: ما عند سيبويه لغو، وقال المبرد:(ما) والفعل مصدر. وأنكر ما قال سيبويه".

وقال أيضاً في خزانة الأدب 6519-520: "قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل: هذا من الغلط، إنما الرواية: بآية ما بهم حُبُّ الطعامِ. وبعده:

أجارَتْها أُسَيِّدُ ثم أودت

بذات الضرع منها والسنامِ

وليس أبو العباس المبرد بأول من غلط فيه من النحويين. انتهى.

وعليه: لا شاهد فيه، وهذا يُؤيّد قول سيبويه؛ فإنّ (ما) موصولة، وحب الطعام: مبتدأ، والظرف قبله خبر، والجملة صلة الموصول".

ص: 727

وقال النابغة1:

توهّمت آيات لها فعرفتها

لستة أعوام وذا العام سابع2

قال: وهذا اختيار أبي عبيد3"4.

قلت5: أما أن الآية هي العلامة في اللغة. فهذا صحيح، وما استشهد به من الشعر يشهد لذلك.

وأما تسمية الآية من القرآن آية؛ لأنّها علامة: صحيح، لكن قول القائل: إنها علامة؛ لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها: ليس بطائل؛ فإنّ هذا المعنى الحدّ والفصل؛ فالآية مفصولة عمّا قبلها، وعمّا بعدها.

1 هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، أبو أمامة. شاعر جاهليّ من الطبقة الأولى، من أهل الحجاز. كانت تُضرب له قبة من جلد أحمر بسوق عكاظ، فتقصده الشعراء، فتعرض عليه أشعارها. وكان الأعشى وحسّان بن ثابت، والخنساء ممّن يعرض شعره على النابغة. وهو أحد الأشراف في الجاهلية.

انظر: الأعلام للزركلي 354-55.

2 انظر: ديوان النابغة الذبياني ص 82.

3 لعلّه: القاسم بن سلام الهروي الخراساني، أبو عبيد. من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه، من أهل هراة. ولد وتعلّم بها، وكان مؤدباً، ورحل إلى بغداد، فولي القضاء بطرسوس، ورحل إلى مصر، وكان منقطعاً للأمير عبد الله بن طاهر، كلّما ألّف كتاباً أهداه إليه، وأجرى له عشرة آلاف درهم كلّ شهر. من كتبه: الغريب، المصنّف، وفي غريب الحديث ألّفه في نحو أربعين سنة، وهو أول من صنّف في هذا الفنّ، والإيمان ومعالمه، وغيرها من المؤلفات. ولد في سنة 157 ?، وتوفي سنة 224 ?.

انظر: سير أعلام النبلاء 10490. وطبقات الحنابلة 1259. والأعلام 5176.

4 زاد المسير 171.

5 القائل هو شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

ص: 728

وليس معنى كونها آية هو هذا، وكيف؟ وآخر الآيات آية؛ مثل آخر سورة الناس، وكذلك آخر آية من السورة، وليس بعدها شيء، وأول الآيات آية، وليس قبلها شيء؛ مثل أول آية من القرآن، ومن السورة، وإذا قُرئت الآية وحدها، كانت [آية] 1، وليس معها غيرها.

وقد قام النبيّ صلى الله عليه وسلم بآية يُردّدها حتى أصبح2: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرَ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3؛ فهي آية في نفسها، لا لكونها منقطعة مما قبلها وما بعدها.

وأيضاً: فكونه علامة على هذا الانقطاع: قدر مشترك بين جميع الأشياء التي يتميّز بعضها عن بعض، ولا تسمى آيات. والسورة متميزة عمّا قبلها وما بعدها، وهي آيات كثيرة. وأيضاً فالكلام الذي قبلها منقطع، وما قبلها آية. فليست دلالة الثانية على الانقطاع بأولى من دلالة الأولى عليه.

1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 روى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقرأ بآية، حتى أصبح، يركع بها، ويسجد بها:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فلما أصبح، قلت: يا رسول الله! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحتَ، تركع بها؟ قال:"إني سألت ربي عز وجل الشفاعة، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً".

(مسند الإمام أحمد بن حنبل - ط الحلبي - 5149. وانظر المصدر نفسه 5170. والحديث أخرجه النسائيّ في سننه 21440، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه، بلفظ:"لكلّ نبيّ دعوة مستجابة، فتعجَّل كلّ نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة من مات لا يُشرك بالله شيئاً".

قد صحّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2430.

3 سورة المائدة، الآية 118.

ص: 729

وأيضاً: فكيف يكون كونها آية علامةً للتمييز بينها وبين غيرها، والله سمَّاها آياته؛ فقال:{تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ} 1.

والصواب: أنَّها آية من آيات الله؛ أي علامة من علاماته، ودلالة من أدلة الله، وبيان من بيانه؛ فإنّ كلّ آية قد بيَّن فيها من أمره وخبره، ما هي دليل عليه، وعلامة عليه؛ فهي آية من آياته؛ وهي أيضاً دالّة على كلام الله المباين لكلام المخلوقين؛ فهي دلالة على الله سبحانه، وعلى ما أرسل بها رسوله.

ولمَّا كانت كل آية مفصولة بمقاطع الآي التي يختم بها كلّ آية، صارت كلّ جملة مفصولة بمقاطع الآي: آيةً.

صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم..

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف على رؤوس الآي؛ كما نعتت قراءته: الحمد لله رب العالمين، وتقف. الرحمن الرحيم، وتقف. مالك يوم الدين، وتقف2. ويسمّي أصحاب الوقف: وقف السنة؛ لأنّ كل آية لها فصل ومقطع تتميز عن الأخرى3.

القول الثاني

قال4: "والوجه الثاني5: أنّها سمّيت آية؛ لأنها جماعة حروف من

1 سورة البقرة، الآية 252.

2 رواه الترمذي في جامعه الصحيح 5185، كتاب القراءات، باب فاتحة الكتاب، وقال: هذا حديث غريب.

والحديث صححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي 313) ، وفي (إرواء الغليل، رقم 343) ، وفي (مشكاة المصابيح، رقم 2205) ، وفي بعض كتبه الأخرى.

3 انظر المكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني ص 146-147، 157؛ فقد ذكر أنّ هذا الوقف هو وقف السنة.

4 القائل هو أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله.

5 في زاد المسير لابن الجوزي بدون كلمة: (الوجه)، وإنّما الموجود: والثاني.

ص: 730

القرآن، وطائفة منه. قال [أبو عمرو] 1 الشيباني2: يقال: خرج القوم بآيتهم؛ أي بجماعتهم، وأنشدوا3:

خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا ترجى اللقاح المطافلا) 4.

قلت5: هذا فيه نظرٌ؛ فإن قولهم: خرج القوم بآيتهم: قد يراد به بالعلامة التي تجمعهم؛ مثل الراية، واللواء؛ فإنّ العادة أنّ كل قوم لهم أمير، [يكون] 6 له آية يُعرفون [بها] 7، فإذا [أخرج] 8 الأمير آيتهم،

1 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : أبو عمر. والتصويب من زاد المسير، ومن مصادر ترجمة أبي عمرو.

2 هو إسحاق بن مرار الشيباني بالولاء، أبو عمرو. لغوي أديب من رمادة الكوفة. سكن بغداد، ومات بها. أخذ عنه جماعة كبار، منهم أحمد بن حنبل رحمه الله الذي كان يلزم مجالسه ويكتب أماليه. من تصانيفه: كتاب اللغات، وكتاب الخيل، والنوادر، وغريب الحديث. ولد سنة 94 ?، وتوفي سنة 206 ?.

انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 165. والأعلام للزركلي 1296.

3 القائل هو: بُرج بن مُسهِر بن الجلاس. أحد بني جذيلة من طي.

انظر: لسان العرب 1462. ومعجم الشعراء 61. وخزانة الأدب 6515.

وفي خزانة الأدب:

خرجنا من النعتين لا حي مثلنا

بآياتنا نزجى اللقاح المطافلا

وذكر محقق خزانة الأدب أنّ الشعر في كتاب التنبيهات ص 308، وأنّ الأشبه من النقبين، وليس من النعتين.

4 زاد المسير لابن الجوزي 171.

5 القائل هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

6 في ((م)) ، و ((ط)) : تكون.

7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

8 في ((خ)) : خرج. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 731

اجتمعوا إليه. ولهذا سمي ذلك عَلَمَاً. والعلم هي العلامة والآية، ويسمّى راية؛ لأنّه يُرى. فخروجهم بآيتهم: أي بالعلم والآية التي تجمعهم؛ فيستدل [بها] 1 على خروجهم جميعهم؛ فإنّ الأمير المطاع إذا خرج، لم يتخلّف أحدٌ، بخلاف ما إذا خرج بعض امرائه. وإلَاّ، فلفظ الآية: هي العلامة. وهذا معلومٌ بالإضطرار، والإشتراك في اللفظ، لا يَثْبُتُ بأمرٍ محتمل.

القول الثالث

قال2: "والثالث: أنّها سُمِّيت آية؛ لأنها عَجَبٌ؛ وذلك: أنّ قارئها يستدلّ إذا قرأها على مباينتها لكلام المخلوقين. وهذا كما [تقول] 3: فلانٌ آية من الآيات: أي عجبٌ من العجائب. ذكره ابن الأنباري"4.

قلت5: هذا القول هو داخل في معنى كونها آية من آيات الله؛ فإنّ آيات الله كلّها عجيبة؛ فإنها خارجة عن قدرة البشر، و [عمّا] 6 قد يُشَبَّه بها من مقدور البشر.

والقرآن كلّه عَجَبٌ؛ تعجّبت به الجنّ؛ كما حكى عنهم تعالى أنّهم

1 في ((م)) ، و ((ط)) : به.

2 أي ابن الجوزي رحمه الله.

3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. وهي في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : يقول. وما أُثبت من زاد المسير لابن الجوزي، وهو الأشبه.

4 زاد المسير 172.

وبعد ذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: "وفي المراد بهذه الآيات أربعة أقوال: إحداها: آيات الكتب التي تتلى. والثاني: معجزات الأنبياء. والثالث: القرآن. والرابع: دلائل الله في مصنوعاته". زاد المسير 172.

5 القائل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

6 في ((خ)) : عن ما.

ص: 732

قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَبَاً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدَاً} 1؛ فإنَّه كلام خارج عن المعهود من الكلام، وهو كما في الحديث: لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلق عن [كثرة] 2 الردّ3.

1 سورة الجنّ، الآيتان 1-2.

2 في ((خ)) : كثيرة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 الحديث مرويّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد قال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون فتن". قلت: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه مِنْ جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم ينته الجنّ إذ سمعته أن قالوا: {إنّا سمعنا قرآناً عجباً} . هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراط مستقيم. خذها إليك يا أعور".

خرجه الدارمي في سننه 2526-527، من كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن. وانظر المسند 191.

وأخرجه الترمذي في سننه 5172-173، في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن. وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال.

وقال ابن كثير رحمه الله في فضائل القرآن ص 11-12: "الحديث مشهور من رواية الحارث الأعور. وقد تكلموا فيه، بل قد كذّبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث، فلا" والله أعلم.

وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه. وهو كلام حسن صحيح، على أنّه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 733

وكلّ آية لله خرجت عن المعتاد، فهي عجب؛ كما قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبَاً} 1.

فالآيات: العلامات والدلالة. ومنها: مألوف معتاد، ومنها: خارج عن المألوف المعتاد.

آيات القرآن..

وآيات القرآن من هذا الباب؛ فالقرآن عجب، لا لأنّ مسمّى الآية هو مسمّى العجب، بل مسمّى الآية أعمّ، [ولهذا] 2 قال:{كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبَاً} .

معنى الآية في العرف

ولكنّ لفظ الآية قد يُخصّ في العرف بما يحدثه الله، و [أنّها] 3 غير المعتاد دائماً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، و [إنهما] 4 لا تُخسفان لموت أحدٍ، ولا لحياته، ولكنّهما آيتان من آيات الله يُخوِّف بهما عباده"5.

وقد قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفَاً} 6.

وفي الحديث الصحيح: لمّا دخلت أسماء على عائشة وهي في

1 سورة الكهف، الآية 9.

2 في ((خ)) رسمت: والهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : أنهما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : إنها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 رواه البخاري في صحيحه 1353، كتاب صلاة الكسوف، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، و 1356، كتاب صلاة الكسوف، باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: يُخوّف الله عباده بالكسوف. ومسلم في صحيحه 2618، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف؛ أخرجاه مع اختلاف في الألفاظ يسير.

6 سورة الإسراء، الآية 59.

ص: 734

الصلاة، فسألتها فقالت: سبحان الله، فقالت آية؟ فأشارت أي نعم1.

صلاة الكسوف

وتُسمّى صلاة الكسوف صلاة الآيات2، وهي مشروعة في أحد القولين في مذهب أحمد، في جميع الآيات3 التي يحصل بها

1 رواه البخاري في صحيحه 1358، كتاب صلاة الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف. ومسلم في صحيحه 2624، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.

2 لقوله صلى الله عليه وسلم: "هذه الآيات التي يُرسل الله لا تكون لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكن يُخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره". أخرجه البخاري في صحيحه 1360، كتاب الكسوف، باب الذكر في الكسوف.

3 قال ابن قدامة رحمه الله: "قال أصحابنا: يُصلّى للزلزلة كصلاة الكسوف، نصّ عليه، وهو مذهب إسحاق، وأبي ثور. قال القاضي: ولا يصلى للرجفة، والريح الشديدة، والظلمة، ونحوها. وقال الآمدي: يصلّى لذلك، ولرمي الكواكب والصواعق، وكثرة المطر، وحكاه عن ابن أبي موسى. وقال أصحاب الرأي: الصلاة لسائر الآيات حسنة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم علّل الكسوف بأنّه آية من آيات الله تعالى يُخوّف بها عباده. وصلّى ابن عباس للزلزلة بالبصرة؛ رواه سعيد. وقال مالك والشافعي: لا يُصلّى لشيء من الآيات سوى الكسوف؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ لغيره. وقد كان في عصره بعض هذه الآيات، وكذلك خلفاؤه. ووجه الصلاة للزلزلة: فعل ابن عباس. وغيرها لا يصلّى له؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُصلّ لها، ولا أحد من الصحابة، والله أعلم". المغني 3332-333. وانظر فتح الباري 1606.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر - فيما نقله عنه ابن قاسم: "يُصلّى لكلّ آية؛ كما دلّ على ذلك السنن والآثار، وقاله المحققون من أصحاب أحمد وغيرهم. ولولا أنّ ذلك يكون لشرّ وعذاب لم يصحّ التخويف بذلك. وهذه صلاة رهبة وخوف؛ كما أنّ صلاة الاستسقاء صلاة رغبة ورجاء. وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفاً وطمعاً، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئاً فافزعوا إلى الصلاة". حاشية على الروض المربع لابن قاسم 2533-534. وانظر مجموع الفتاوى 24264.

ص: 735

التخويف1؛ كانتثار الكواكب، والظلمة الشديدة، وتُصلّى للزلزلة، نصّ عليه2، كما جاء الأثر بذلك3.

فهذه الآيات أخصّ من مطلق الآيات، وقد قال تعالى:{وَمَا تَأْتِيهِمِ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَاّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} 4، وقال صلى الله عليه وسلم:"ثلاث آيات يتعلمهنّ [من القرآن] 5 خيرٌ له من ثلاث خلفات سِمانٍ"6.

1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الشمس والقمر: وقوله: "يُخوّف الله بهما عباده" كقوله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [سورة الإسراء، الآية 59] . ولهذا كانت الصلوات مشروعة عند الآيات عموماً، مثل تناثر الكواكب، والزلزلة، وغير ذلك. والتخويف إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف؛ كالزلزلة والريح العاصف، وإلا فما وجوده كعدمه لا يحصل به تخويف. فعلم أن الكسوف سبب للشر، ثم قد يكون عنه شر. ثم القول فيه كالقول في سائر الأسباب: هل هو سبب؟ كما عليه جمهور الأمة، أو هو مجرد اقتران عادة كما يقوله الجهمية. وهو صلى الله عليه وسلم أخبر عند أسباب الشر بما يدفعها من العبادات التي تقوي ما انعقد سببه من الخير، وتدفع أو تضعف ما انعقد سببه من الشر كما قال:"إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض". والفلاسفة تعترف بهذا، لكن هل ذلك بناء على أن الله يدفع ذلك بقدرته وحكمته، أو بناء على أن القوى النفسانية تؤثر؟ هذا مبني على أصولهم في هذا الباب". منهاج السنة النبوية 5445- 446.

2 نقل عبد الله بن أحمد بن حنبل أنّ أباه إذا كانت ريح، أو ظلمة، أو أمر يفزع الناس منه، فزع إلى الصلاة.

انظر مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 2447، تحقيق د علي بن سليمان المهنا، ط الأولى، مكتبة الدار. وانظر فتح الباري لابن حجر 1606.

3 لعله يُشير إلى الحديث الذي تقدّم ذكره قريباً في ح (5) من الصفحة السابقة.

4 سورة الأنعام، الآية 4.

5 ما بين المعقوفتين ساقط من ((م)) ، و ((ط)) .

6 الحديث مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُحبّ أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟ " قلنا: نعم. قال: "فثلاث آيات يقرأ بهنّ أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان".

الحديث رواه مسلم في صحيحه 1552، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه. والدارمي في سننه 2523، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن. وابن ماجه في سننه 21243، كتاب الأدب، باب ثواب القرآن. وأحمد في مسنده 2397، 466، 497.

ص: 736