المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل الله تعالى سماها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات - النبوات لابن تيمية - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌فصل أصول الدين

- ‌فصل الحجة على من أنكر قدرة الله وحكمته

- ‌فصل الدليل هو الآية والبرهان

- ‌فصل الدليل ينقسم إلى قسمين:

- ‌فصل القسم الثاني الدلالة القصدية

- ‌فصل الدليل مستلزم للمدلول

- ‌فصل الله سبحانه دل عباده بالدلالة العيانية والدلالات المسموعة

- ‌فصل آيات الأنبياء دليل وبرهان

- ‌فصل الله تعالى سماها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات

- ‌فصل خوارق الكهان والسحرة ليست من خوارق العادات وإنما من العجائب الغريبة

- ‌فصل الذين سموا آيات الأنبياء خوارق لا بدّ أن يخصوا ذلك بالأنبياء دون غيرهم

- ‌فصل مسمى العادة

- ‌فصل اشتقاق كلمة النبي

- ‌فصل دلالة المعجزة على نبوة النبي

- ‌فصل سنة الله وعادته في الكذاب أن ينتقم منه ويظهر كذبه

- ‌فصل الاستدلال بالحكمة

- ‌فصل حكمة الله وعدله في إرسال الرسل

- ‌فصل الاستدلال بسنة الله وعادته في معرفة النبي الصادق من المتنبئ الكاذب

- ‌فصل آيات الأنبياء يلزم من وجودها وجود الأنبياء

- ‌فصل خوارق السحرة والكهان مناقضة للنبوة ولا تخرج عن مقدور الجن والإنس

الفصل: ‌فصل الله تعالى سماها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات

‌فصل الله تعالى سماها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات

فصل الله تعالى سمها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات

والله تعالى سمّاها آيات وبراهين1، وهو اسمٌ مطابق لمسمّاه، مطّرد لا ينتقض، فلا [تكون] 2 قطّ إلاّ آيات لهم وبراهين.

أقوال الناس في تسمية آيات الأنبياء خوارق

وأما تسميتها بخرق العادة: فللنّاس في ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّ ذلك حدّ لها مطّرد منعكس؛ فكلّ خرق [هو] 3 معجزة للنبي، فهو خرق عادة4.

والثاني5: أنّ خرق العادة شرطٌ فيها، وليس بحدّ لها، فيجب أن [تكون] 6 خارقة لعادة، ولكن ليس كلّ خارق للعادة يكون آيةً لنبيّ؛

1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لم يكن لفظ المعجزات موجوداً في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان

". ثم ذكر رحمه الله الأدلة من القرآن الكريم على ذلك. انظر: الجواب الصحيح 5412-419. وسبق أن تكلم شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الموضوع في هذا الكتاب. انظر ص 251، 939.

2 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : فهو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 وهذا قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء، وخوارق السحرة.

انظر هذا الكتاب - النبوات - ص (147-151، 929-932) .

5 وهذا القول هو الذي يؤيّده شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. وسبق أن استوفى رحمه الله هذا المعنى في هذا الكتاب ص 187.

انظر ص 188-199، 249-250، 929-932.

6 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 785

كأشراط الساعة، بل أن يقع على وجه مخصوص؛ مثل دعوى النبوة، والاستدلال بها، والتحدي بمثلها، مع عجز الناس عن معارضته.

والقول الثالث: أنّ كونها خارقة للعادة ليس بحدّ، ولا شرط1.

قال القاضي أبو بكر في مناظرته في الكرامات2: ويقال لهم أيضاً: إنّ من الناس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقة للعادة، ويقول: إنّما [تكون] 3 آية إذا كانت من فعل الله، مع التحدي بمثلها، ودعوى النبوة. فدلالتها على وجه لا يمكن أن يشترك في ادّعائه الصادق والكاذب، فإذا ظهرت على هذا الوجه، كانت آية لمن فُعِلت على يده. قال المجيبون بهذا4، ولهذا لم تكن أشراط الساعة آيةً لأحد، وإن خرقت العادة؛ إذ لم يكن معها دعوى نبوة، ولأنّ موتَ زيد عند قول الرسول: آيتي أن يميت الله زيداً عند دعائي: موتُه. فإذا مات عند دعوته، صار ذلك آية له، وإن كان فعل الموت في الإنسان وغيره من الحيوان معتاداً.

قال5: [أو إن] 6 قالوا: لو كان كذلك، لكان من قال: آيتي أن

1 وهذا قول الأشاعرة.

انظر: الجواب الصحيح 6400. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 405، 407.

2 هذا من القسم المفقود من كتاب الباقلاني: البيان. وسبق أن نقل شيخ الإسلام رحمه الله هذا الكلام عن الباقلاني في ص 486.

وقد أشار الباقلاني في كتابه البيان إلى أنّه سيفرد باباً في الكرامات. انظر: البيان ص 7، 48.

3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 وهم الأشاعرة.

انظر: أصول الدين للبغدادي ص 170. وانظر ما سبق في كتاب ((النبوات)) ص 593-594، 644.

5 أي الباقلاني.

6 في ((م)) ، و ((ط)) : إن.

ص: 786

[تطلع] 1 الشمس وتغرب، ويأتي الليل والنهار والضياء والظلام، وفَعَلَ ذلك مع دعواه الرسالة، كان آية له، وإن لم يكن المفعول من ذلك خارقاً للعادة. فلمّا لم يكن كذلك، وإن كان [واقعاً] 2 من فعل الله مع دعوى النبوة؛ لكونه غير خارق للعادة، بطل ما قلتموه؟ يقال لهم: قد أجبنا عن هذا حين قلنا: ويكون الواقع من فعل الله مع دعوى النبوة، مما لا يشترك فيه الصادق والكاذب، ويستوي مع ظهوره دعوى المحق والمبطل، وطلوع الشمس وغروبها.

ولو قال النبي: آيتي أن يظلّنا السحاب الساعة، و [تزلزل] 3 الأرض، وتحدث الأمطار، بدعوى، فحدث ذلك، لكان آيةً له. وإن كان مثل ذلك قد يحدث في العصر ويُشاهد، فإذا قال المتنبي:[إنّني] 4 مُعَارِضُه، وآيتي في كوني نبيّاً ظهور مثل ذلك، مُنع منه ولم يحدث5.

1 في ((خ)) : يطلع. وما اثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((خ)) : "فاقعا". وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : تزلزله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : آيتي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 يُوجد هذا الكلام بمعناه ومفهومه، لا بنصه ومنطوقه في كتاب البيان للباقلاني ص 47-48.

ولفظه هناك؛ قال الباقلاني: "فصل: وأما ما يدل على أنه لا يكون معجزاً إلا إذا فُعل عند احتجاج الرسول به لصدقه وتحديه بمثله، فهو أنه قد ثبت أنه ليس بمعجز لجنسه، وأن الله عز وجل لو ابتدأ بفعله؛ نحو أن يُحيي ميتاً، ويطلع الشمس من مغربها، ويزلزل الأرض، ويظلنا بالسحاب، لا عند دعوى أحد للرسالة. وكون ذلك آية له لم يكن ما يفعله الله سبحانه من ذلك معجزاً، وإن كان من جنس المعجز، فلذلك لا يكون إحياء الأموات يوم القيامة، وإطلاع الشمس من مغربها، وطيّ السموات، وأمثال ذلك من آيات الساعة آية لأحد، وإن كان مثله، وما هو من جنسه لو فعل في وقتنا هذا عند تحدي الرسول، لكان آية له، وحجة لنبوته، فهذا أقوى الأدلة، وأصحها على أن المعجز ليس بمعجز لجنسه ونفسه، ولا بحدوثها، وإنما يصير معجزاً للوجوه التي ذكرناها، ومنها التحدي والاحتجاج". البيان ص 47-48.

وانظر: الإرشاد للجويني ص 319، 328، 331. وانظر ما سبق من كتاب ((النبوات)) ص 644.

ص: 787

مناقشة شيخ الإسلام للباقلاني

قلت1: هذا الذي ذكروه، هو أيضاً خرق للعادة؛ فإنّ ظهور مثل ذلك على هذا الوجه مّما لم تَجْرِ بِهِ العادة، وهو نفسه القاضي أبو بكر في هذا الكتاب؛ ((كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل و [الكهانة] 2 والسحر والنيرنجيّات)) ، قد قال: قيل: هذا باب القول في معنى العادة وانخراقها، والعادة التي إذا انخرقت دلّت على صدق الرسل، والاعتياد للأمر، وتفصيل ذلك وتنزيله3:

اعلموا رحمكم الله4 أنّ الكل من سائر الأمم قد شرطوا في صفة [المعجز: أن] 5 يكون خارقا للعادة. وإذا6 كان ذلك واجباً، وجب معرفة هذه العادة، ومعرفة انخراقها7.

1 القائل هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

2 في ((خ)) : الكهان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 الذي في البيان للباقلاني: عنوان: "القول في معنى العادة، وانخراقها، والعادة التي إذا انخرقت دلّت على صدق الرسل والاعتياد للأمر والأمر المعتاد وتفصيل ذلك وتنزيله". ثم عنوان: فصل. انظر: البيان للباقلاني ص 50.

4 في البيان للباقلاني: وفقكم الله.

5 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : المعجزات. وما أثبت من البيان للباقلاني.

6 في البيان: فإذا.

7 البيان للباقلاني ص 50. وسبق أن نقل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذا النص في هذا الكتاب، انظر ص 660.

ص: 788

فقد [حكى] 1 هنا الإجماع، وهناك صرّح بالاختلاف2، وقوَّى ذلك القول.

وسبب ذلك: اضطرابهم في معنى العادة وانخراقها؛ فإنّ كلّ قوم يفهمون غير ما يفهمه الآخرون، والله تعالى إنما سماها آيات3.

وهذا القول الذي ذكره وقوّاه، وهو: لا يشترط فيها أن تكون خارقة للعادة: هو حقيقة قول القاضي4، وأمثاله؛ من المتكلمين الأشعرية، ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يعلى، وأمثاله؛ فإن المعجزات عندهم لا تختص بجنس من الأجناس المقدورات، بل خاصّتها أنّ النبي يحتجّ بها، ويتحدّى بمثلها، فلا يمكن معارضته؛ فاشترطوا لها5 [وصفين] 6: أن تكون مقترنة بدعوى النبوة، وجعلوا المدلول جزءاً من الدليل، وأنّها لا تعارض.

وبالأول: فرّقوا بينها وبين الكرامات.

وبه7 وبالثاني: فرّقوا بينها وبين السحر والكهانة.

1 في ((ط)) : حكي.

2 أي في النقل السابق عن الباقلاني، وهو من القسم المفقود من كتابه البيان. انظر ص 49.

3 انظر: الجواب الصحيح 5412. وانظر النبوات ص 251.

4 قال الباقلاني في صفات المعجزات: "والوجه الثاني: أن يكون ذلك الشيء الذي يظهر على أيديهم مما يخرق العادة وينقضها، ومتى لم يكن كذلك لم يكن معجزاً". البيان للباقلاني ص 45.

5 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. والإرشاد للجويني ص 312-313، 319. وأصول الدين للبغدادي ص 170. والمواقف للإيجي ص 339. وشرح المقاصد للتفتازاني 511.

6 في ((خ)) : تصفين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 أي بالشرط الأول.

ص: 789

وصرّحوا بأنّ جميع خوارق السحرة والكهان يجوز أن تكون معجزة لنبيّ، لكن إذا كانت معجزة لم تمكن معارضتها. فلو ادّعى ساحر أو كاهن النبوة، لكان الله يعجزه عن تلك الخوارق1، قد عُلم أنّ غيره من السحرة والكهّان يفعل مثلها، وليس بنبيّ.

وما يأتي به الأنبياء من المعجزات جوّزوا أن [يأتي] 2 بمثله الساحر والكاهن، إلا ما منع منه السمع؛ للإجماع3 على أنّ الساحر لا يقلب العصا حية4.

وهذا الفرق ليس لما يختص به أحد النوعين، ولا ضابط له.

وصرّحوا بأنه لا يستثنى من الخوارق، إلا ما انعقد عليه الإجماع5.

وصرّحوا بأن العجائب [الطبيعية] 6؛ مثل جذب حجر المغناطيس الحديدَ: يجوز أن يكون معجزة، لكن بشرط أن لا يعارض7.

وكذلك الطلاسم، وكذلك الأمور المعتادة: يجوز أن تكون معجزة بشرط أن يمنع غيره منها، فتكون المعجزة منع المعتاد8.

فالخاصة عندهم فيها9: أنّها لا تعارض، وأنها تقترن بدعوى النبوة.

(1 انظر: البيان للباقلاني ص 94-96.

2 في ((خ)) : يأتوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 انظر: البيان للباقلاني ص 91. والإرشاد للجويني ص 322-323.

4 انظر: البيان للباقلاني ص 91.

5 انظر: البيان للباقلاني ص 91.

6 في ((م)) ، و ((ط)) : الطبعية.

7 انظر: البيان للباقلاني ص 98.

8 انظر: البيان للباقلاني ص 99، 100-101.

9 أي خاصة المعجزة وحقيقتها.

ص: 790

وقد يشترطون أن تكون خارقة للعادة، لكن يكتفون بمنع المعارض1؛ فهو وحده خرق للعادة؛ فلا يشترطون هذا وهذا.

وقد اشترط القاضي أبو بكر أن يكون مما يختص الربّ بالقدرة عليه2.

ولا حقيقة له؛ فإن جميع الحوادث كذلك عندهم3، وكل ما [خرج] 4 عن محل قدرة العبد، فالرب عندهم مختصّ بفعله؛ كخوارق السحرة والكهان5.

وحقيقة الأمر: أنّه لا فرق عندهم بين المعجزات والكرامات، والسحر والكهانة، لكنّ هذه إذا لم تقترن بدعوى النبوة لم [تكن] 6 آية، وإذا اقترنت بها كانت آية، بشرط أن لا تعارض7.

حقيقة قول الأشاعرة في النبوة

ثمّ إنّه8 لمّا أثبت النبوة، قال: إنّه يجوز على النبي فعل كل شيء من

1 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48.

2 انظر: البيان للباقلاني ص 8، 45، 54. وأصول الدين للبغدادي ص 176.

3 انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322. وأصول الدين للبغدادي ص 134، 176.

وسبق أن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معلقاً على ذلك: "إنّ المتأخرين من الأشعرية؛ كأبي المعالي، والرازي، والآمدي، وغيرهم حذفوا شرط كون المعجزة مما ينفرد الرب بالقدرة عليها، وقالوا: كلّ حادثٍ فهو مقدور للرب". النبوات ص 250-251، 718-732.

4 في ((ط)) : خرجخ.

5 انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322. والبيان للباقلاني ص 88-90.

6 في ((خ)) : يكن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 انظر الإرشاد للجويني ص 322. والبيان للباقلاني ص 91.

8 يعني القاضي أبا بكر الباقلاني.

ص: 791

الكبائر، إلا أن يمنع من ذلك سمع1. كما قال: كلّ ما كان معجزة للأنبياء، يجوز أن يأتي به الساحر، إلا أن يمنع منه سمع2؛ إذ كان في نفس الأمر لا فرق بين فعل وفعل، بل يجوز من الربّ كلّ شيء؛ فيجوز أن يبعث كلّ أحد، ولا يقيم على نبوته دليلاً3.

هذا حقيقة قولهم: إنّه يجوز أن يبعث كلّ أحد، وأنّه إذا بعثه لا يُقيم دليلاً على نبوته، بل يُلزِم العباد بتصديقه، بلا دليلٍ يدلهم على صدقه.

تعريف الأشاعرة للمعجزة، ورد شيخ الإسلام عليهم بجوابين

فإن غاية هذا: تكليف ما لا يطاق، وهم يجوّزونه4.

وهذا الذي قالوه: باطلٌ من وجوه متعددة، قد بُسطت في غير هذا الموضع5.

1 سبق هذا الكلام.

انظر: النبوات ص 573-574، 732. والمواقف للإيجي ص 358-359.

2 انظر: البيان للباقلاني ص 91. والإرشاد للجويني ص 322، 323، 328.

3 سبق الكلام في ذلك.

انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 573-575.

4 أي الأشاعرة.

وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 573-574.

وانظر أيضاً: الإنصاف للباقلاني ص 74-77. والإرشاد للجويني ص 226- 228، 280، 326-327. والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 112-114. وقواعد العقائد له ص 203-204. ومعالم أصول الدين للرازي ص 85-86.

وقال الإيجي: (تكليف ما لا يُطاق جائز عندنا لما قدمنا

من أنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء، إذ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه) . المواقف للإيجي ص 330-331.

5 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 8295-302، 348، 472-474. ودرء تعارض العقل والنقل 163-65. وجامع الرسائل 1123-124.

ص: 792

منها: أنّهم جعلوا المدلول عليه؛ وهو إخبار النبي بنبوته، وشهودها، وثبوتها: جزءاً من الدليل؛ قالوا: لأنّها لو كانت معجزة لجنسها، لم تقع إلا معجزة، والخوارق التي تكون أمام الساعة، ليست معجزة لأحد. فعُلِم أن الدليل هو مجموع دعوى النبوة، والخارق1.

والجواب عن هذا من وجهين:

أحدهما: أنّ تلك من آيات الله تعالى؛ فالخوارق التي لا يقدر عليها العباد: كلّها آيات [لله] 2 تعالى، وهي دالة على ما يظهر دلالتها عليه؛ تارة [تكون] 3 تخويفاً؛ [كما] 4 قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنّهما لا [ينكسفان] 5 لموت أحدٍ، ولا لحياته، ولكنّهما آيتان من آيات الله يُخوّف الله بهما عباده"6.

والتخويف يتضمن: الأمر [بطاعته، والنهي] 7 عن معصيته.

وأشراط الساعة آيات على قربها، وعلى جزاء الأعمال، وهو يتضمن الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية8.

1 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. وأصول الدين للبغدادي ص 170، 178. والإرشاد للجويني ص 319. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 586، 593، 653. والجواب الصحيح 6400.

2 في ((ط)) : الله.

3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : وكما - بزيادة الواو -، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 في ((م)) ، و ((ط)) : تنكسفان.

6 سبق تخريجه ص 882.

7 في ((خ)) : بالطاعة والأمر والنهي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

8 سبق نحو هذا الكلام في ص 597، 942.

ص: 793

والثاني: أن يقال: هي آيات على صدق الأنبياء؛ فإنهم أخبروا بها، وهي آية على ما أخبروا به، وعلى صدقهم.

عامة معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحدى بها

وأيضا: فإنّ عامّة معجزات الرسول لم يكن يتحدى بها، ويقول ائتوا بمثلها. والقرآن إنما تحداهم لما قالوا إنه [افتراه] 1، ولم يتحدّاهم به ابتداءً، وسائر المعجزات لم يتحدّ بها، وليس فيما نقل تحدّ إلا بالقرآن2، لكن قد عُلم أنهم لا يأتون بمثل آيات الأنبياء. فهذا لازمٌ لها، لكن ليس من شرط ذلك أن يقارن خبره.

آيات الأنبياء منها ما يكون قبل ولادتهم ومنها ما يكون بعد موتهم

وأيضا: فمن آيات الأنبياء ما كان قبل ولادتهم، وقبل أنبيائهم، وما يكون بعد موتهم3؛ فإن الآية [هي] 4 دليل على صدق الخبر بأنّه رسول الله، وهذا الدليل لا يختص؛ لا بمكان، ولا زمان، ولا يكون هذا الدليل إلا من جنسٍ لا يقدر عليه الإنس كلهم، ولا الجنّ، فلا بُدّ أن يكون جنسه معجزاً أعجز الإنس والجنّ.

وأما قولهم: خاصّة المعجز عدم المعارضة5: فهذا باطلٌ، وإن كان عدم المعارضة لازماً له، فإنّ هذا العدم لا يعلم، إذ يمكن أن يعارضه من ليس هناك إذا كان مما يعلم أنّه معتاد؛ مثل خوارق السحرة، والكهان؛ فإنّه

1 في ((خ)) : افترا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 سبق مثل ذلك في هذا الكتاب. انظر ص 652، 725.

3 ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام حول هذا الموضوع. انظر الجواب الصحيح 6380.

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .

5 انظر: البيان للباقلاني ص 19-20. والإرشاد للجويني ص 312-313، 319. وأصول الدين للبغدادي ص170. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 588، 591.

ص: 794

وإن لم [يمكن] 1 أن يُعارض في هذا الموضع، ففي السحرة والكهان من يفعل مثلها، مع أنه ليس بنبي.

تعريف الأشاعرة لدليل النبوة

ودليل النبوة يمتنع ثبوته بدون النبوة، وإذا قالوا: الدليل هو: مجموع الدعوى، والدليل2: تَبين [خطؤهم] 3، وأنّ القوم لم يعرفوا دلائل النبوة، ولا أقاموا دليلاً على نبوّة الأنبياء، كما لم يقيموا دليلاً على وجود الرب؛ فليس في كتبهم ما يدل على الربّ تعالى، ولا على رسوله، مع أنّ هذا هو المقصود من أصول الدين4.

الأشاعرة لم يقيموا دليلاً على ثبوت الأنبياء ووجود الرب تعالى

وأيضاً: فمسيلمة، والعنسي: لم يكن عندهما من يعارضهما.

وأيضاً: فالمعارض إن اعتبروه في المدعوين، وهذا مقتضى في خرق

العادة، وأن العادات تختلف، فلكل قوم عادة. قالوا5: فالمعتبر خرق عادة من أُرسِل إليهم.

وعلى هذا: فإذا أرسل إلى بني إسرائيل، ففعل ما لم يقدروا عليه، كان آية، وإن كان ذلك مما يقدر عليه العرب، ويقدر عليه السحرة والكهان.

وصرحوا بأنّ السحر الذي قال الله فيه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 6: يجوز أن يكون من معجزات الأنبياء إذا لم

1 في ((م)) ، و ((ط)) : يكن.

2 انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 593، 653، 949-950. وانظر الجواب الصحيح 6500.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : خطأهم.

4 يقصد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الكلام الأشاعرة.

وقد سبق نحو هذا الكلام في ص 611، 754-756 من هذا الكتاب.

5 انظر: البيان للباقلاني ص 52-55.

6 سورة البقرة، الآية 102.

ص: 795

يعارض1، وقد قال الرازي: إنّ السمعيات لا يُحتجّ بها؛ لأنّ دلالتها مشروطة بعدم المعارض العقلي، وذلك غير معلوم2.

وكذلك يقال في معجزات هؤلاء أنّ خاصتها عدم المعارضة. فإن اعتبروا أنّ أحداً من الخلق لا يُعارض، فهذا لا يُعلم. وإن اكتفوا بأن لا يعارض في ذلك المكان والزمان، فكثير من الصناعات، والعجائب، والعلوم من هذا الباب. وهم لا ينكرون هذا، بل يقولون: المعجز هو هذا، مع دعوى النبوة.

وقد تبيَّن أنَّ الشيء في نفسه إذا لم يكن دليلاً، لم يصر دليلاً باستدلال المستدلّ به، بل هو في نفسه دليل، وإن لم يستدل به؛ [إذ] 3 كان الدليل هو المستلزم للمدلول؛ فدليل صدق النبيّ هو يدلّ على أنّه نبيّ، وأنّ الخبر بنبوته صدق، وإن كان هو لا يستدلّ بذلك، ولا يتحدى بمثلها، وقد لا يخبره بنبوة نفسه، ويكون له دلائل تدلّ على نبوته؛ كما كانت قبل أن يولد، وفي الأمكنة البعيدة.

فتبين أنّ قول هؤلاء [هو] 4: أنّه لا يُعلم ما يُستدلّ به على نبوة الأنبياء5.

1 سبق هذا الكلام في هذا الكتاب ص 156، 586-588. وانظر: البيان للباقلاني ص 94-96. والإرشاد للجويني ص 327-328.

2 سبق نقل ذلك عن الرازي في هذا الكتاب ص 652.

3 في ((ط)) : إذا.

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

5 من أصول الأشاعرة في النبوات.

ص: 796

وهذا إذا انضمّ إلى أصلهم؛ وهو: أنّ الرب يجوز عليه فعل كلّ شيء1، صارا شاهدين: بانّه على أصلهم لا دليل على النبوة؛ [إذ] 2 كان عندهم لا فرق بين فعل من الرب وفعل. وعندهم: لا فرق بين جنس وجنس في اختصاصه بالأنبياء به، فليس في أجناس المعقولات ما يكون آيةً تختص بالأنبياء، فيستلزم نبوتهم. بل ما كان لهم قد يكون [عند غيرهم] 3، حتى للسحرة والكهان، وهم أعداؤهم. فَرّقوا بعدم المعارضة، وهذا فرق غير معلوم، وهو مجرد دعوى.

الفرق بين النبي والساحر عند الأشاعرة

قالوا: لو ادّعى الساحر والكاهن النبوّة، لكان الله يُنسيه الكهانة والسحر، ولكان له من يعارضه4؛ لأنّ السحر والكهانه هي معجزة عندهم.

وفي هذه الأقوال من الفساد عقلاً وشرعاً، ومن المناقضة لدين الإسلام، وللحق ما يطول وصفه.

ولا ريب أنّ قول من أنكر وجود هذه الخوارق5 أقلّ فساداً من هذا.

ولهذا يشنع عليهم ابن حزم وغيره بالشناعات العظيمة6.

1 سبق توضيح هذا الأصل عند الأشاعرة، وأنّهم به قد نفوا الحكمة عن الله تعالى، وجوّزوا عليه فعل كلّ قبيح.

انظر ص 152، 268، 335، 566 من هذا الكتاب.

2 في ((خ)) : ان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : عندهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 سبق ذكر ذلك مراراً. وانظر: البيان للباقلاني ص 94-95.

5 وهم المعتزلة، وابن حزم؛ فقد أنكروا الخوارق للأولياء وللسحرة على السواء.

6 سبقت الإشارة إلى ذلك في ص 266.

وقد ردّ ابن حزم رحمه الله على الأشاعرة في تفريقهم بين المعجزات والسحر، وأطال في ذلك. انظر: الفصل له 52-9.

ص: 797

الفرق بين المعجزات والسحر عند الأشاعرة

ولهذا يقيم أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات والسحر، فلا يجدون فرقاً؛ إذ لا فرق عندهم في نفس الأمر1.

1 الفروق التي ذكرها الأشاعرة بين المعجزات وخوارق السحرة فروق ضعيفة، لا تميّز بين المعجزة والسحر. ويمكن أن نذكر ها هنا بعض أقوال أئمة الأشاعرة التي توضّح بعضاً من هذه الفروق التي ذكروها.

وقد أورد الباقلاني سؤالاً، وهو:"ما الفصل بين السحر والمعجز؟ ". ثمّ أجاب بقوله: "إنّ من حق المعجز أن لا يكون معجزاً حتى يكون واقعاً من فعل الله سبحانه وتعالى على حد خرق عادة البشر، مع تحدي الرسول عليه السلام بالإتيان بمثله، وتقريع مخالفه بتعذر مثله عليه. فمتى وجد الشيء الذي ينفرد الله سبحانه بالقدرة عليه على حد العادة، على غير تحدي نبيّ به، واحتجاج لنبوته بظهوره، لم يكن معجزاً

فإذا كان ذلك

كذلك، خرج السحر عن أن يكون معجزاً مشبهاً لآيات الرسل، وإن كان ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل، وما يفعله الله تعالى عند تحديهم به. غير أنّ الساحر إذا احتج بالسحر، وادّعى به النبوة، أبطله الله عليه بوجهين"

ثمّ ذكر هذين الوجهين، وهما: أن يُنسيه الله عمل السحر. والوجه الثاني: أن يوجد من السحرة من يعارضون هذا الساحر المدعي للنبوة. انظر البيان للباقلاني ص 94-95.

إذاً: الفرق بين المعجز والسحر عنده: هو التحدي فقط، وإلا فالجنس واحد.

وقال أيضاً: "ويجب في الجملة أن لا نستثني في السحر شيئاً لا يفعل عنده، إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر". البيان ص 91.

أما الجويني: فيرى أنّ كلّ ما خرق للنبي من الآيات الكبرى، يقع للولي، ولا فرق بين المعجزة والكرامة إلا دعوى النبوة. انظر: الإرشاد للجويني ص 317.

ثم يقول عن السحر: "ولا يمتنع عقلاً أن يفعل الرب تعالى عند ارتياد الساحر ما يستأثر بالاقتدار عليه، فإنّ كلّ ما هو مقدور للعبد، فهو واقع بقدرة الله تعالى عندنا. والدليل على جواز ذلك [يعني السحر] كالدليل على جواز الكرامة، ووجه الميز هاهنا بين السحر والمعجزة؛ كوجه الميز في الكرامة، فلا وجه إلى إعادته". الإرشاد للجويني ص 322.

وقال أيضاً: "وجنس المعجزة يقع من غير دعوى، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب". الإرشاد للجويني ص 328.

وقال أيضاً: "إنّ المعجز لا تدلّ لعينها، وإنما لتعلقها بدعوى النبي والرسالة، ونزولها منزلة التصديق بالقول". الإرشاد للجويني ص 319.

فالجويني: يجعل الفرق بين المعجزة والكرامة هو التحدي فقط، وإلا فبإمكان الولي أن يكون له مثل معراج الرسول، وعصا موسى، وناقة صالح، ونار إبراهيم عليه السلام. ثمّ يجعل الفرق بين المعجز والسحر مثل الفرق بين المعجزة والكرامة، ويزعم أنّ بإمكان الساحر أن يأتي بجنس المعجز إذا لم يدّع النبوة.

ويذكر الشهرستاني الفرق بين المعجزة والسحر؛ فيقول: "إذا لم يدّع الكاذب النبوة، فلا محذور ولا مانع من ظهور الخوارق". نهاية الإقدام للشهرستاني ص 434.

ويقول الإيجي: "إنّا بيّنّا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله. والسحر ونحوه - إلا إن لم يبلغ حد الإعجاز؛ كفلق البحر، وإحياء الموتى، كما هو مذهب جميع العقلاء - فظاهرٌ، وإن بلغ. فأما دون دعوى النبوة والتحدي فظاهرٌ أيضاً، أو معه، فلا بُدّ من ألا يخلقه الله على يده، أو أن يقدر غيره على معارضته، وإلا كان تصديقاً للكاذب، وأنه محال". المواقف في علم الكلام للإيجي ص 346.

وقال المازري عن مذهب الأشعري، وأن الخوارق تقع على أيدي السحرة، مما ليس بمقدور الخلق:"ومذهب الأشعري: أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: وهذا هو الصحيح عقلاً؛ لأنه لا فاعل إلا الله تعالى. وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك، وليس بعضها بأولى من بعض..... فإن قيل: إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر، فبماذا يتميّز عن النبيّ؟ فالجواب: أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر، لكن النبيّ يتحدّى بها الخلق". شرح النووي على صحيح مسلم 14175.

وقال القرطبي: "قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات، مما ليس في مقدور البشر،.... وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء". الجامع في أحكام القرآن للقرطبي 233.

وقال ملا علي القاري: "كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، لا فارق بينهما إلا التحدي". شرح الفقه الأكبر ص 79.

وكلامهم في ذلك كثير، وكلّها فروق هزيلة كما تبيّن.

وانظر حول هذا الموضوع أيضاً: شرح المقاصد للتفتازاني 511، 72-74. وجوهرة التوحيد للصاوي ص 98. وحاشية الأمير على شرح عبد السلام على الجوهرة ص 154.

وهكذا نرى الأشاعرة يجعلون جنس الخارق واحد للمعجزة والكرامة والسحر، إلا أنّ الفرق بين المعجزة والكرامة هو دعوى النبوة والتحدي، والفرق بين الكرامة والسحر هو أنّ الكرامة تظهر على الرجل الصالح، والسحر يظهر على الرجل الفاسق، والفرق بين المعجزة والسحر هو كالفرق بين المعجزة والكرامة.

وهذه الفروق ضعيفة، وغير مقبولة؛ لأنّها لا تميّز بين النبيّ والولي والساحر.

وقد سبقت ردود شيخ الإسلام رحمه الله (في هذا الكتاب ص 727-728) على من فرّق هذه الفروق. وسيأتي مزيد توضيح، ونقد لطريقة الأشعرية في فروقهم هذه، وبيان عدم جدواها في التمييز بين النبيّ والمتنبي، مما فيه غنية عن ذكره هنا.

ص: 798

قول شيخ الإسلام في آيات الأنبياء

والتحقيق: أنّ آيات الأنبياء مستلزمة للنبوّة، ولصدق الخبر بالنبوّة، فلا يوجد إلا مع الشهادة للرسول بأنّه رسول، لا يوجد مع التكذيب بذلك، ولا مع عدم ذلك البتة، وليست من جنس ما يقدر عليه؛ لا الإنس، ولا الجنّ؛ فإنّ ما يقدر عليه الإنس والجنّ يفعلونه، فلا يكون مختصاً بالأنبياء.

ومعنى كونها خارقةً للعادة: أنّها لا توجد إلاّ للنبوّة؛ لا مرّة، ولا أقلّ، ولا أكثر. فالعادة هنا تثبتُ بمرّة. والقاضي أبو بكر يقول: إنّ ما فعل مرّات يسيرة لا يكون معتاداً1.

1 انظر: البيان للباقلاني ص 50-51. والإرشاد للجويني ص 310-311.

وقد ذكر الباقلاني معنى الاعتياد، حين عرّف العادة بقوله:"العادة على الحقيقة: إنّما هي تكرّر علم العالم ووجوه الشيء المعتاد على طريقة واحدة؛ إما بتجدد صفته وتكررها، أو ببقائه على حالة واحدة". البيان للباقلاني ص 50.

وسيأتي تعريف العادة عند شيخ الإسلام رحمه الله. انظر ص 1061، 1173 من هذا الكتاب.

ص: 800

وفي كلامه في هذا الباب1 من الاضطراب ما يطول وصفه. وهو رأس هؤلاء الذين اتبعوه؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، والرازي، والآمدي، وغيرهم.

وما يأتي به السحرة والكهان، يمتنع أن يكون آيةً لنبيّ، بل هو آية على الكفر، فكيف يكون آيةً للنبوّة، وهو مقدور للشياطين؟.

وآيات الأنبياء لا يقدر عليها جنّ ولا إنس، وآيات الأنبياء آيات لجنسها، فحيث كانت آيةً لله، تدلّ على مثل ما أخبرت به الأنبياء، وإن شئتَ قلت2: هي أيات لله، يُدلّ بها على صدق الأنبياء تارة، وعلى غير ذلك تارة.

وما يكون للسحرة والكهان، لا يكون من آيات الأنبياء، بل آيات الأنبياء مختصة بهم.

الفرق بين المعجزات والكرامات

وأما كرامات الأولياء3: فهي أيضاً من آيات الأنبياء؛ فإنّها إنّما تكون

1 يقصد: باب إثبات صدق النبيّ، والفرق بين خوارقه وخوارق السحرة والكهّان.

2 الشيخ رحمه الله يُعرّف هنا المعجزة، أو آية النبيّ اصطلاحاً.

3 يُريد شيخ الإسلام رحمه الله أن يذكر الفرق بين المعجزات والكرامات. وقد سبق صنيعه هذا مراراً فيما مضى. انظر ص 604، 724 من هذا الكتاب.

والأشاعرة لا يُفرّقون بين المعجزة والكرامة إلا بالتحدّي، ويجعلون كلّ ما خُرق للنبيّ لا يمتنع أن يكون للولي.

يقول الجويني: "صار بعض أصحابنا إلى أنّ ما وقع معجزة لنبيّ لا يجوز وقوعه كرامة لوليّ؛ فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر، وتنقلب العصا ثعباناً، ويحيي الموتى كرامة لولي، إلى غير ذلك من آيات الأنبياء. وهذه الطريقة غير سديدة أيضاً. والمرضي عندنا: تجويز جملة خوارق العوائد في معارض الكرامات". الإرشاد للجويني ص 317.

وقال أيضاً: "فإن قيل: ما دليلكم على تجويزها؟ قلنا: ما من أمر يخرق العوائد، إلا وهو مقدور للربّ تعالى ابتداءً، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل، لما مهّدناه فيما سبق، وليس في وقوع الكرامة ما يقدح في المعجزة؛ فإنّ المعجزة لا تدلّ لعينها، وإنّما تدلّ لتعلّقها بدعوى النبيّ الرسالة، ونزولها منزلة التصديق بالقول.....".

ثمّ قال: "فإن قيل: فما الفرق بين الكرامة والمعجزة؟ قلنا: لا يفترقان في جواز العقل، إلا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النبوة". الإرشاد للجويني ص 317-318.

وقال الباقلاني: "ولذلك أيضاً أجزنا فعل أمثالها [أي المعجزات] ، وما هو من جنس كثير منها، على أيدي الأولياء والصالحين، على وجه الكرامة لهم". البيان للباقلاني ص 48.

والفرق عنده: أنّ المعجزة لا تكون، حتى يُتحدّى بها.

وهذه أيضاً فروق ضعيفة بين المعجزة والكرامة. وقد انتقدها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وأوضح القول الحقّ في هذا الموضوع من هذا الكتاب.

ص: 801

لمن [يشهد] 1 لهم بالرسالة، فهي دليل على صدق الشاهد لهم بالنبوّة.

وأيضاً: فإنّ كرامات الأولياء معتادةٌ من الصالحين، ومعجزات الأنبياء فوق ذلك؛ فانشقاق القمر، والإتيان بالقرآن، وانقلاب العصا حيّة، وخروج الدابة من صخرة2، لم يكن مثله للأولياء؛ وكذلك خلق الطير من

1 في ((م)) ، و ((ط)) : تشهد.

2 قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة الأعراف، الآية 73] . وقال تعالى يحكي عن قوم صالح وقولهم لنبيّهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عظيم. فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [سورة الشعراء، الآيات 153-157] .

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد احتجّ ملأهم، وطلبوا منه أن يُخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء، وأشاروا إلى صخرة عندهم من صفتها كذا وكذا، فعند ذلك أخذ عليهم نبيّ الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبيّ الله صالح عليه السلام فصلّى ثمّ دعا الله عز وجل أن يُجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم، وكفر أكثرهم". تفسير ابن كثير 3344.

ص: 802

الطين، ولكنّ آياتِهم صغارٌ، وكبارٌ؛ كما قال الله تعالى:{فَأَرَاهُ الآيَةَ الكُبْرَى} 1؛ فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة، وقال عن نبيّه محمّد:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} 2، فالآيات الكبرى مختصة بهم.

الآيات قسمان: كبرى وصغرى

الآيات الكبرى مختصة بالأنبياء

الآيات الصغرى قد تكون للصالحين

وأما الآيات الصغرى: فقد [تكون] 3 للصالحين؛ مثل تكثير الطعام، فهذا قد وجد لغير واحدٍ من الصالحين4، لكن لم يوجد كما وجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه أطعم الجيش من شيء يسير5. فقد يوجد لغيرهم من جنس ما وجد لهم، لكن لا يماثلون في قدره؛ فهم مختصون إمّا بجنس الآيات فلا يكون لمثلهم؛ كالاتيان بالقرآن، وانشقاق القمر، وقلب العصا حية، وانفلاق البحر، وأن يخلق من الطين كهيئة الطير؛ وإمّا بقدرها، وكيفيتها؛ كنار الخليل6؛ فإنّ أبا مسلم [الخولاني] 7، وغيره صارت النار عليهم برداً وسلاماً8، لكن

1 سورة النازعات، الآية 20.

2 سورة النجم، الآية 18.

3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 تقدم بيان ذلك في ص 162.

5 سبق نحو هذا الكلام في ص 162، 498.

6 قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [سورة الأنبياء، الآية 69] .

7 في ((ط)) : الحولاني.

8 تقدم تفصيل ذلك في ص 161-162.

ص: 803

لم تكن مثل نار إبراهيم في عظمتها كما وصفوها1، فهو مشاركٌ للخليل في جنس الآية؛ كما هو مشارك في جنس الإيمان محبة الله وتوحيده. ومعلومٌ أنّ الذي امتاز به الخليل من هذا، لا يماثله فيه أبو مسلم، وأمثاله.

وكذلك الطيران في الهواء؛ فإنّ الجن لا تزال تحمل ناساً، وتطير بهم من مكان إلى مكان؛ كالعفريت الذي قال لسليمان:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 2، لكن قول الذي عنده علم من الكتاب:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} 3: لا يقدر عليه العفريت.

ومسرى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليريه الله من آياته الكبرى4: أمرٌ اختص به، بخلاف من يُحمل من مكان إلى مكان، لا ليريه الله من آياته الكبرى5، أمرٌ اختصّ به، ولا يعرج إلى السماء.

فهؤلاء كثيرون، وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع6.

1 يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "لما دحضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحقّ، واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. فجمعوا حطباً كثيراً جداً. قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم، ثم جعلوه في هوة من الأرض وأضرموها ناراً، فكان لها شرر عظيم، ولهب مرتفع، لم توقد نار قط مثلها. وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد....". تفسير ابن كثير 3183.

2 سورة النمل، الآية 39.

3 سورة النمل، الآية 40.

4 قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . [الإسراء 1] .

5 انظر: صحيح البخاري 41748.

6 انظر ما سبق في هذا الكتاب من ص 164-169.

ص: 804

نقد شيخ الإسلام للأشاعرة في النبوات

والمقصود هنا: أنّ هؤلاء حقيقة قولهم: أنّه ليس للنبوة آية تختص بها؛ كما أنّ حقيقة قولهم: أنّ الله لا يقدر أن يأتي بآية تختص بها، وإنه لو كان قادراً على ذلك، لم يلزم أن يفعله، بل ولم يفعله. فهذان أمران متعلقان بالرب؛ إذ هو عندهم لا يقدر أن يفعل شيئاً لشيء1.

والآية إنما تكون آية: إذا فعلها [ليدلّ]2. ولو قُدِّر أنه قادر، فهم يجوّزون عليه فعل كل شيء؛ فيمكن أنه لم يجعل على صدق النبي دليلاً.

وأمّا الذي ذكرناه عنهم هنا، فإنّه يقتضي أنّه لا دليل عندهم على نبوّة النبيّ، بل كلّ ما قُدّر دليلاً، فإنّه يمكن وقوعه مع عدم النبوة، فلا يكون دليلاً.

فهم هناك3 حقيقة قولهم: إنّا لا نعلم على النبوّة دليلاً. وهنا حقيقة قولهم4: أنّه لا دليل على النبوة.

1 انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 326. والمواقف للإيجي ص 330-332.

وقد سبق أن أشار المؤلف رحمه الله إلى معتقد الأشعرية هذا أكثر من مرة، في هذا الكتاب. انظر ص 485-505، 533-539، 564-573، 588-589.

2 في ((م)) ، و ((ط)) : لتدلّ.

3 سبق أن أوضح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى تناقض الأشعرية في قولهم إنّ الله لا يُنزّه عن فعل ممكن، ولا يقبح منه فعل، ونفيهم للحكمة، وقولهم إنّ الله لا يُظهر الخوارق على يد الكاذب؛ لأنّ ذلك يُفضي إلى القول بعجز الربّ.

وسبق كذلك أن قال الشيخ رحمه الله عن الأشاعرة - في هذا الكتاب ص 573-574: "ومن جوّز منهم تكليف ما لا يُطاق مطلقاً، يلزمه أن يأمر الله بتبليغ رسالة لا يعلم ما هي".

وانظر ما تقدّم في هذا الكتاب في ص 268-281، 580-583، 587-588.

4 أي في معرض الكلام على النبوة.

ص: 805

ولهذا كان كلامهم في هذا الباب1 منتهاه التعطيل.

الغزالي عدل عن طريقة الأشاعرة في الاستدلال بالمعجزات

ولهذا عدل الغزالي وغيره عن طريقهم في الاستدلال بالمعجزات2؛ لكون المعجزات على أصلهم3 لا تدلّ على نبوة نبيّ. وليس عندهم في نفس الأمر معجزات، وإنما يقولون: المعجزات عِلمُ الصدق؛ لأنّها في نفس الأمر كذلك4.

وهم صادقون في هذا، لكن على أصلهم ليست دليلاً على الصدق، ولا دليلَ على الصدق.

فآيات الأنبياء تدلّ على صدقهم دلالة معلومة بالضرورة تارةً، وبالنظر أخرى.

وهم قد يقولون: إنّه يحصل العلم الضروري بأنّ الله صدّقه بها؛ وهي الطريقة التي سلكها أبو المعالي، والرازي، وغيرهما5؛ وهي طريقة صحيحة في نفسها، لكن [تناقض] 6 بعض أصولهم.

1 أي في باب إثبات النبوة. وانظر ما سبق في هذا الكتاب في ص 732-733.

2 سبق مثل ذلك في ص 732 من هذا الكتاب.

3 وهو قولهم بنفي الحكمة، وأنّ الله لا يفعل شيئاً لأجل شيء.

4 الأشاعرة ينفون التعليل في أفعال الله تعالى، ويُجوّزون على الله كلّ فعل؛ إذ الله تعالى على أصلهم: لا يفعل شيئاً لأجل شيء، وحينئذٍ فلم يأت بالآيات الخارقة للعادة لأجل تصديق الرسول، ولا عاقب هؤلاء لتكذيبهم له، ولا أنجى هؤلاء ونصرهم لإيمانهم به؛ إذ كان لا يفعل شيئاً لشيء عندهم.. وهم إذا جوّزوا على الربّ تعالى كلّ فعل، جاز أن يُظهر الخوارق على يد الكاذب. انظر: الجواب الصحيح 6394.

5 سبق مثل ذلك في ص 275، 276، 580-581 من هذا الكتاب. وانظر: الجواب الصحيح 6398-399. وشرح الأصفهانية 2622.

6 في ((خ)) : يناقض. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 806

فالقدح ليس في آيات الأنبياء، لكن في الأقوال الفاسدة التي تناقض ما هو معلوم بالضرورة عقلاً، وما هو أصل الإيمان شرعاً. ومن عرف تناقضهم في الاستدلال يعرف أن الآفة في فساد قولهم، لا في جهة صحة الدلالة؛ فقد يظهر بلسانه ما ليس في قلبه؛ كالمنافقين الذين يقولون:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1.

قول الإمام أحمد في علماء الكلام

ولقد صدق الإمام أحمد في قوله: علماء الكلام زنادقة2.

وطريقة القرآن فيها الهدى، والنور، والشفاء؛ سماها آيات، وبراهين.

فآيات الأنبياء مستلزمة لصدقهم، وصدق من صدّقهم، وشهد لهم بالنبوة.

الأنبياء قد يتماثلون في الآيات

والآيات التي يبعث الله بها أنبياء، قد يكون مثلها لأنبياء أُخَر؛ مثل إحياء الموتى؛ فقد كان لغير واحد من الأنبياء3.

وقد يكون إحياء الموتى على يد اتباع الأنبياء؛ كما قد وقع لطائفة من

1 سورة المنافقون، الآية 1.

2 انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 83. وصون المنطق والكلام للسيوطي ص 128.

وقال الإمام أحمد رحمه الله في أهل الكلام أيضاً: "لا تجالسوا أهل الكلام وإن ذبّوا عن السنّة". رواه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص 205.

وقال أيضاً رحمه الله: "لا يُفلح صاحب كلامٍ أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل". جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 295.

3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يمتنع أن يأتي نبيّ بنظير آية نبيّ، كما أتى المسيح بإحياء الموتى، وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره..". الجواب الصحيح 5434.

ص: 807

هذه الأمة1، ومن اتباع عيسى2؛ فإن هؤلاء يقولون: نحن إنّما أحيى الله الموتى على أيدينا؛ [لاتّباع محمد، أو المسيح، فبإيماننا بهم، وتصديقنا لهم أحيى الله الموتى على أيدينا] 3، فكان إحياء الموتى مستلزماً [لصدق] 4 عيسى، و [محمّدٍ] 5، لم يكن قطّ مع تكذيبهما، فصار آية لنبوّتهم، وهو أيضاً آية لنبوّة موسى، وغيره من أنبياء بني [إسرائيل] 6 الذين أحيي الله الموتى على أيديهم.

1 ذكر العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى كثيراً من القصص عن إحياء الموتى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

انظر: البداية والنهاية 6161-166. وانظر ما تقدم في هذا الكتاب ص 162، 593، 594.

2 أما إحياء الموتى للحواريين أتباع عيسى عليه السلام: فهي مسألة لم أجد فيها نصاً واضحاً، وإن كان يُوجد في الإنجيل المحرّف كلام ينسبونه لعيسى عليه السلام موجّهٌ للحواريين، يقول فيه:"وفيما أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين: إنّه قد اقترب ملكوت السموات، اشفوا مرضى، طهروا بُرصاً، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين". إنجيل متى، الإصحاح العاشر، الفقرة 7 إلى 10.

ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام، كأنّه يُضعّف فيه الخبر الذي ذُكر آنفاً، ويُقلّل من مقدرة الحواريين على ما نسبه إليهم النصارى، يقول فيه رحمه الله تعالى:"فيزعمون أنّ الحواريين، أو هؤلاء [أي أهل المجامع] جرت على أيديهم خوارق، وقد يذكرون أنّ منهم من جرى إحياء الموتى على يديه. وهذا إذا كان صحيحاً، مع أنّ صاحبه لم يذكر أنّه نبيّ، لا يدلّ على عصمته؛ فإنّ أولياء الله؛ من الصحابة، والتابعين بعدهم بإحسان، وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه، وليس فيهم معصوم يجب قبول كلّ ما يقول، بل يجوز الغلط على كلّ واحد منهم، وكلّ أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا الأنبياء عليهم السلام". الجواب الصحيح 6399-400. وانظر المصدر نفسه 417-18.

3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

4 في ((م)) ، و ((ط)) : لتصديقه.

5 في ((م)) ، و ((ط)) : محمداً.

6 في ((ط)) : إسلأائيل.

ص: 808

وليس مدلول الآيات هو مجرّد دعواه أنّ الله أرسلني، وإخباره عن نفسه بذلك؛ لأن ذلك معلوم بالحسّ لمن سمعه، وبالتواتر لمن لم يسمعه، بل صدّقه في هذا الخبر؛ وهو ثبوت نبوته.

الآية مستلزمة لصدق النبي وثبوت نبوته

فالآية مستلزمة لصدقه، وثبوت نبوته. ومن أخبر غيره عن إرسال الله له، وأتى هذا المخبر بآية، كانت أيضاً آية على صدق هذا المخبر، وثبوت نبوّة النبيّ؛ فإنّ من أخبر عن نبوّة نبيّ من الأنبياء، وأتى بآيةٍ على صدقه في خبره، كانت تلك آية ودليلاً على نبوّة النبيّ، وأنّ إخبار المخبر بنبوته صدق. بل [كون] 1 غيره هو المخبر، الآتي بالعلامة أبلغ. ولهذا كانت من أعظم آيات النبي: إخبار غيره من الأنبياء بنبوّته.

فإن قال آخر: إنّه كذب، وأتى بمثل تلك الآية، بطلت الدلالة المعينة، ولا يلزم من بطلان دليل معين، بطلان سائر الأدلة؛ فإنّ الدليل يجب طرده، ولا يجب عكسه2.

ولو جاء من قال: إنّ فلانا أرسلني، ومعه شخص، فصدّقه، وقال: إنّه أمرني أن أخبركم بأنّه رسوله بعلامة كيت وكيت، لكان ذلك أبلغ.

وكلّ من عَلِمَ صِدْقَ النبيّ، فقد صدقه أنّه [..................] 3 أن يعلم الناس أنّ الله يشهد له بالنبوة، ويحكم بينه وبين منازعيه بتصديقه وتكذيبهم، وذلك بآياته وعلاماته يُبيّن بها أنّه مصدّق للرسول.

وقد يُصدقه بكلامه الذي قد بَيَّن أنّه كلامه؛ فكونه في نفسه آية وعلامة؛

1 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .

2 تقدّم التنويه بذلك في ص 307 من هذا الكتاب.

3 في ((خ)) بياض بقدر سطرين. وكذا في ((م)) ، و ((ط)) كما أُشير إلى ذلك في الهامش.

ص: 809

إذ كان لا يُمكن الجن [والإنس] 1 أن ياتوا

بمثله، فهو من أعظم الآيات.

وبغير ذلك؛ فالآيات كلّها شهادة بالنبوة، وإخبارٌ بها، وتصديق للمخبر؛ فهي تستلزم ثبوت النبوّة في نفسها، وأنّ صاحب الآيات قد نبأه الله، وأوحى إليه؛ كما أوحى إلى غيره من الأنبياء، وتستلزم أيضاً: صدق الإخبار بأنّه نبيّ؛ فهو إذا قال: إنّي نبيّ، كان صادقاً، وكذلك كل من أخبر بنبوته، فإنّه يكون صادقاً.

وثبوت الشيء، وصدق من أخبر به: متلازمان؛ فكلّ حقّ ثابت، إذا أخبر به مخبرٌ، فهو صادق، وكلّ خبرٍ صادق، فقد تحقق مخبره.

[فالخبر] 2 الصادق هو ومخبره متلازمان؛ يلزم من صدق الخبر، تحقق مخبره.

ومن تحقق الشيء، صدّق المخبر به؛ بخلاف الكذّاب، فإنّه ومخبره ليسا متلازمين، بل الخبر الكذب يوجد مع انتفاء مخبره، والمخبر به يتحقق على صفة خلاف ما في الخبر الكاذب3.

فلهذا كانت الآيات، والعلامات، والدلائل، ونحو هذا كما تدلّ على المدلول، وأنّه حقّ ثابت، فهي أيضاً تدلّ على صدق من أخبر به كائناً من كان.

فمن قال: إنّي ابن فلان، وقامت بيّنة بنسبه، فهي تثبت صدقه،

وصدق كلّ من قال: هو ابن فلان.

1 في ((ط)) : والان.

2 في ((ط)) : كالخبر.

3 انظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله حول هذا الموضوع في شرح الأصفهانية 2592-597.

ص: 810

وكذلك البينة التي تشهد برؤية الهلال، وهي تشهد بصدق كلّ من أخبر بطلوعه.

وكذلك كلّ دليلٍ دلّ على مدلول، فهو دليل على صدق كلّ من أخبر بذلك المدلول عليه.

وكذلك إذا قال الصادق: إنّ الله أرسلني، فهذا خبرٌ منه عن إرسال الله؛ فالآية الدالة على صدقه، تدلّ على صدق كلّ من قال: إنّ الله أرسله.

فالآيات الدالة على صدق محمّد، إذا قال ما أمره الله به في قوله:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعَاً} 1، هي دالة على صدق كلّ من قال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله.

فجميع آياته، وآيات الأنبياء الذين أخبروا بنبوّته؛ كموسى، والمسيح [عليهما السلام] ، وأنبياء بني إسرائيل، وغيرهم: كلّها آيات، ومعجزات [تُبيِّن] 2 صدق كل واحد من المؤمنين به، الذين يقول أحدهم: أشهد أن محمدا رسول الله؛ سواء قالها مجرّدة، أو قالها في صلاته، أو عقب طهارته، أو متى ما قالها.

ليست آيات النبوّة دالّة على أنّه وحده هو الصادق في قوله: إنّي

رسول الله إليكم جميعاً، بل الآيات تصدّقه، وتصدّق كلّ من شهد له بالرسالة.

وهكذا سائر الأدلة الدالّة على مدلول؛ فإنّها تدلّ على صدق من أخبر بذلك المدلول عليه من جميع الخلق.

1 سورة الأعراف، الآية 158.

2 في ((خ)) : يبين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 811

وقد عرف أن الدليل لا بدّ أن [يكون] 1 مختصّاً بالمدلول عليه، مستلزماً له.

فآيات الأنبياء، وسائر أنواع الآيات والأدلة، لا تكون مع نقيض المدلول عليه؛ أي مع عدمه؛ فإنّها إذا كانت مع وجوده وعدمه، لم تكن دالَّةً [لا] 2 على وجوده، ولا على عدمه، [ولم يكن الاستدلال به على وجوده، ولا على عدمه] 3، ولم يكن الاستدلال به على وجوده أولى به من الاستدلال على عدمه؛ كالأمور المعتادة التي توجد مع الصادق والكاذب؛ كطلوع الشمس، وغروبها؛ فإنّ هذه لا تدلّ على صدق أحد، ولا كذبه.

وكذلك خوارق السحرة والكهان، هي معتادة، مع صدق أحدهم، ومع كذبه؛ فلا تدلّ على الصدق، [ولا على الكذب، والاستدلال بها على صدقه؛ كالاستدلال بها على كذبه، وهي على الكذب أدلّ][إذ] 5 كان كذبهم أكثر من صدقهم؛ كالذين يُخبرون بكلمة صدق، وعشرة كذب؛ قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ [أَكْثَرُهُمْ] 6 كَاذِبُونَ} 7، فكيف إذا كان مع الصدق مائة كذبة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سُئِل عن الكُهَّان؛ كما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل ناسٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الكُهَّان،

1 في ((خ)) : تكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

4 ما بين المعقوفتين مؤخّر في ((ط)) إلى ما بعد الآية الكريمة.

5 في ((خ)) : إذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 في ((خ)) : كثرهم.

7 سورة الشعراء، الآيات 221-223.

ص: 812

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بشيء". قالوا: يا رسول الله فإنّهم يحدّثون أحياناً بشيء يكون حقّاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحقّ يحفظها الجنيّ، فيقرها في أذن وليّه قرّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة"1.

فيلزم من هذا: أنّ آيات الأنبياء لا يكون مثلها لمن يكذّبهم، وهو الذي يخبر بكذبهم.

والناس فيهم رجلان: إمّا مصدّق، وإمّا مكذّب. فالمكذّب لهم يمتنع أن يأتي بمثل آياتهم. ومتى كذب مكذب لمدعي النبوة، وأتى بمثل آيته سواء، دلّ على أنّ تلك ليست من آيات الأنبياء، ولا تدلّ على صدق النبيّ، لكن لا يلزم أن يدلّ على كذبه؛ فإنَّ الدليل المعيَّن إذا بطل، لا يستلزم انتفاء المدلول عليه؛ فقد تكون له آيات أخر تدل على نبوّته.

وصدق الصادق، وكذب الكاذب يُعرف بوجوهٍ كثيرةٍ جداً2.

وكذلك النبوّة: لها آثار مستلزمة لها، بدون إخبار النبيّ بأنّه نبيّ.

وكذب المتنبي الذي يُزيّن له الشيطان أن يقول: إنّه نبيّ، له آثار [تستلزم] 3 انتفاء النبوة، وأنّه كاذبٌ؛ إمّا عمداً، وإمّا أنّ الشيطان قد لبّس عليه.

1 أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 52294، كتاب الأدب، باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحقّ، بنفس اللفظ. وهو بلفظ مقارب في صحيح البخاري أيضاً 52173، كتاب الطب، باب الكهانة. ومسلم في صحيحه 41750، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.

2 سبق ذكر كثيرٍ من هذه الوجوه في ص 224-225، 588-631، 649 من هذا الكتاب. وسيأتي في آخر الكتاب وجوه أخرى.

3 في ((خ)) : يستلزم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 813

فإنّ الخبر عند كثيرٍ من النّاس ينقسم إلى صدقٍ وكذبٍ؛ فالمطابق هو الصدق، والمخالف هو الكذب1.

أثبت بعضهم واسطة بين الصدق والكذب

وأثبت بعضهم واسطةً بين الصدق والكذب؛ وهو ما لم يتعمّده الإنسان 2؛ قال 3: فهذا ليس بصدق؛ [لأنّه] 4 غير مطابق، وليس بكذب؛ لأنّ صاحبه لم يتعمّد الكذب، بل أخطأ. وليس كلّ من أخطأ يُقال: إنّه كاذب؛ كالناسي في الصلاة، إذا قال: صلّيتُ أربعاً، ولم يُصلّ إلَاّ ثلاثاً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين: أقُصِرَت الصلاة، أم نسيتَ؟ [فقال:"لم أنس، ولم تقتصر". فقال: بلى قد نسيت] 5. فقال: "أكما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: نعم6.

كل من تكلم بلا علم فهو كاذب

والذي يدل عليه القرآن: أنّ كل من تكلّم بلا علم، فأخطا، فهو كاذب؛ كالذين حرّموا، وحلّلوا، وأوجبوا، وإن كان الشيطان قد زيَّن لهم ذلك، وأوهمهم أنّه حقّ، ولهذا [قال] 7: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ

1 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والخبر تارة يكون مطابقاً لمخبره؛ كالصدق المعلوم أنه صدق، وتارة لا يكون مطابقاً لمخبره؛ كالكذب المعلوم أنه كذب، وغير المطابق مع التعمد كذب ومع اعتقاد أنه صدق إن لم يكن معذوراً كالمفتي بلا اجتهاد يسوغ". الجواب الصحيح 6452.

2 ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام عن هذا المعنى في الجواب الصحيح 6453-454.

3 يعني شيخ الإسلام رحمه الله به من يُقسّم ذاك التقسيم، فإنّه يُعلّل بهذا التعليل.

وقد ذكر شيخ الإسلام نحو هذا الكلام في الجواب الصحيح 6453-454.

4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

5 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .

6 أخرجه مسلم في صحيحه 1403، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له.

7 في ((م)) ، و ((ط)) : قال: قل.

ص: 814

الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1، وهي تنزل على من يُظَنّ أنّه يصدّقها؛ قال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِين وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2، وقال تعالى:{وَقَالَ الشَّيْطانُ لَما قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَق وَوَعَدْتُكُم فَأَخْلَفْتُكُمْ} 3.

كل من أخبر بخبر غير مطابق فهو كاذب

وكذلك الذي يدلّ عليه الشرع: أنّ كلّ من أخبر بخبر ليس له أن يُخبر به، وهو غير مطابق، فإنّه يُسمّى كاذباً، وإن كان لم يتعمّد الكذب4؛ كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إنّ أبا السنابل5 قال: ما أنت بناكحة، حتى [تمرّ] 6 عليك أربعةُ أشهر وعشرٌ. فقال:"كذب أبو السنابل"7.

1 سورة الشعراء، الآيتان 221-222.

2 سورة الزخرف، الآيتان 36-37.

3 سورة إبراهيم، الآية 22.

4 الكذب قد تستعمله العرب في موضع الخطأ. انظر: لسان العرب 1709.

فيُقال كَذَبَ بمعنى أخطأ. وانظر: الجواب الصحيح 6452-456.

قال ابن الأثير: (وقد استعملت العرب الكذب في موضع الخطأ، قال الأخطل:

كذبتك عينُك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرباب خيالا

وقال ذو الرمة: ما في سمعه كذب".

النهاية في غريب الحديث 4159.

5 أبو السنابل: هو ابن بَعْكَك بن الحجاج بن الحارث بن بساق بن عبد الدار القرشيّ، واسمه عمرو، وقيل: حبه. أسلم يوم الفتح، وهو من المؤلفة قلوبهم، وسكن الكوفة. قيل إنّه أقام بمكة حتى مات، وكان شاعراً.

انظر: أسد الغابة 5156-157. وتهذيب التهذيب 12121.

6 في ((م)) ، و ((ط)) : يمرّ.

7 وأصل هذا الحديث، هو: أن سُبيعة بنت الحارث الأسلمية - صحابية - كانت امرأة سعد بن خولة، فتوفي بمكة في حجة الوداع، وهي حامل. فوضعت بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة، فدخل عليها أبو السنابل، فقال: كأنّك تحدّثين نفسك بالباءة؟ ما لك ذلك حتى ينقضي أبعد الأجلين. فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما قال أبو السنابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كذب أبو السنابل. إذا أتاك أحدٌ ترضينه فأتيني به".

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بلفظه في مسنده 1447، 4304-305، 6310. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 52:(رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح) . إلاّ أنّ محقق مسند الإمام أحمد - طبعة مؤسسة الرسالة - ضعّف إسناد الحديث من هذا الطريق؛ فقال: إسناده ضعيف. المسند 7305-306. وانظر: الفتح الرباني 1743.

والحديث مخرّج في الصحيحين، بلفظ ليس فيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كذب أبو السنابل". انظر: صحيح البخاري 41466-1467، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدراً. وصحيح مسلم 21122، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.

وفي ترجمة أبي السنابل بن بعكك في الإصابة 496، ذكر الحافظ ابن حجر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لسُبيعة حين أتته:"بلى، ورغم أنف أبي السنابل".

ص: 815

ولما قيل له: إنّ عامر بن الأكوع حبِط عمله؛ لأنّه قتل نفسه، فقال: ((كذب من قالها، إنّ له لأجرين، إنّه جاهد مجاهد"1.

ولما قال [سعد] 2 بن عبادة في يوم الفتح: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. وحكاه أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة"3.

1 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 41537-1538، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. ومسلم في صحيحه 31427-1430، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر، و 31440-1441، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها.

2 في ((خ)) : سعيد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 أخرجه البخاري 41559-1560، كتاب المغازي، باب: أين ركز النبيّ صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح.

ص: 816

وكذلك قال عبادة بن الصامت، لما قيل له: إنّ أبا محمد1 يقول: الوتر واجب. فقال: كذب أبو محمد2.

وكذلك ابن عباس لما قيل له: إن نوفاً3 يقول: إنّ موسى [عليه السلام] نبيّ إسرائيل، ليس هو موسى الخضر. فقال: كذب نوف4.

1 قال ابن حجر رحمه الله عنه: "أبو محمد الأنصاري، صحابي، قيل: اسمه مسعود بن زيد، أو ابن أوس، وقيل: اسمه قيس بن عَبَاية. فأمّا مسعود: فشهد بدراً، وفتح مصر. قيل: مات في خلافة عمر، وقيل: بعد ذلك. وهو صاحب حديث الوتر، وردّ ذلك عبادة بن الصامت". تقريب التهذيب 1463.

2 أخرجه أبو داود في سننه 2130-131، كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر. والدارمي في سننه 1446-447، باب في الوتر. ومالك في الموطأ 1123، كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتر.

وقد صحّحه الألباني انظر: صحيح الجامع الصغير 1617. ومشكاة المصابيح 1180.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "كذب أبو محمد: أي أخطأ، سماه كذباً لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق وإن افترقا من حيث النية والقصد؛ لأن الكاذب يعلم أن ما يقوله كذب، والمخطئ لا يعلم. وهذا الرجل ليس بمخبر، وإنما قاله باجتهاد إلى أن الوتر واجب، والاجتهاد لا يدخله الكذب، وإنما يدخله الخطأ". النهاية في غريب الحديث 4159.

3 نوف بن فضالة الحميري البِكَالي، ابن امرأة كعب الأحبار. شامي مستور. قال ابن حجر رحمه الله: وإنّما كذّب ابن عباس ما رواه عن أهل الكتاب. من الثانية. مات بعد التسعين". تقريب التهذيب لابن حجر 1255. وانظر: البداية والنهاية 1276.

4 أخرجه البخاري في صحيحه 41752، كتاب التفسير، باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} . ومسلم في صحيحه 41847- 1850، كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام. وأحمد في المسند 3244،، 5117-119.

ص: 817

وأيضاً: من أخبر الناس خبراً، طلب أن يصدّقوه فيه، وقد نُهوا عن تصديقه إلا ببينة، فإنّه أيضاً كاذب؛ كما قال تعالى في القرآن:{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بَأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [فَإِذْ] 1 لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهدَاءِ فَأوْلَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُون} 2.

وقال في القاذفين: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدَاً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ إِلَاّ الَّذين تَابُوا مِنْ بَعْد ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.

وكذلك: إنَّ القاذف، وإن كان قد رأى الفاحشة بعينه، لكنه إذا أخبر بها الناس، فهو يطلب منهم أن يصدّقوه بمجرد خبره، وليس لهم ذلك، بل ليس لهم أن يصدّقوه حتى يأتي بأربعة شهداء، وهو لا يخبر الناس ليكذّبوه، بل يخبرهم ليعتقدوا ثبوت ما أخبرهم به، ويعتقدوا أن المقذوف قد فعل الفاحشة، وهم ليس لهم أن يقولوا ذلك إلا بأربعة شهداء، فإذا لم يأت بأربعة شهداء، فهو عند الله كاذبٌ؛ لأنّه أخبر الناس بأنّ هذا فعل الفاحشة، وقال خبراً طلب به تصديقهم، وإن يظهر أنّ هذا فعلها.

فحقيقة خبره أنّ هذا فعل فاحشةً ظاهرةً يرتب عليها هذا. بل إن كان فعل شيئاً، فقد فعله سراً، لم يُعلم به الناس.

الذنب إذا كتم لم يضر إلا صاحبه

وقد علم أن الذنب إذا كُتِمَ لم يضرّ إلا صاحبه، ولكن إذا أُعلن، فلم يُنكر، ضرّ الناس4. وهذا لم يُعلنه.

1 في ((م)) ، و ((ط)) : فإذا.

2 سورة النور، الآية 13.

3 سورة النور، الآيتان 4-5.

4 هذه المسألة تبحث في إظهار المنكر، أو إخفائه. وقد بحثها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 14465،، 15302-304،، 34180. وانظر جامع العلوم ولحكم 2292-293.

ص: 818

وأكثر المسلمين إذا فعل أحدهم فاحشةً باطنةً، تاب منها ومن إعلانها. [يتشبه] 1 النّاس بعضهم ببعض في ذلك.

فلهذا نهى الله عن فعلها، وعن التكلّم بها؛ صدقاً، وغير صدق؛ فإنّها إذا فُعِلَتْ، وكُتِمَتْ، خَفَّ أَمْرُهَا، وإذا أُظْهِرَتْ، كان فيها مفاسد كثيرة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من ابتُلي من هذه القاذورات بشيء، فليستتر بستر الله؛ فإنَّ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عليه كتاب الله" 2، وقال:"كلّ أمتي معافى، إلا المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله، فيُصبح يقول: يا فلان فعلتُ البارحة كذا، وكذا"3.

فقد نهى الله تعالى صاحبها أن يظهرها ويعلنها، فكيف القاذف؟.

بخلاف ما إذا أقرّ بها عند ولي أمر، ليقيم عليه الحد، أو يشهد بها نصاب تامّ لإقامة الحدّ4، فذاك فيه منفعة وصلاح.

وقد يُخبر بها بعض الناس سراً؛ لمن يعلمه كيف يتوب؟ ويستفتيه، ويستشيره فيما يفعل؟ فعلى ذلك المفتي والمشير أن يكتم عليه ذلك، ولا

يشيع الفاحشة. وبسط هذا له موضع آخر5.

1 في ((خ)) : يشبه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 أخرجه الإمام مالك في الموطأ 1-2825، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا، مع اختلافٍ يسير.

3 أخرجه البخاري في صحيحه 52254، كتاب الآداب، باب ستر المؤمن على نفسه. ومسلم في صحيحه 42291، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه.

4 انظر بعض من اعترف على نفسه وأقرّ بما فعل، في صحيح مسلم 31318-1325، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى.

5 انظر: مجموع الفتاوى 34180.

ص: 819

الناس فيمن قال إني رسول قسمان: إما مصدق وإما غير مصدق

والمقصود هنا: أنّ الناس [في من] 1 قال: [إني] 2 رسول: قسمان: إمّا مصدّق، وإمّا غير مصدّق.

فمن ليس بمصدق: لا يمكنه أن يأتي بمثل آيات الأنبياء؛ سواء قال: إنّه كاذب، أو توقّف في التصديق والتكذيب.

وكذلك المؤمنون؛ أتباع الأنبياء: إذا أتوا بآية، كانت دليلاً على نبوّة النبيّ الذي اتبعوه، فلا يمكن من لا يصدّق النبي أن يعارضهم. ومتى عارضهم، لم يكن من آيات الأنبياء.

ولهذا كان أبو مسلم، لمّا قال له الأسود العنسي: أتشهد أنّي رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمّداً رسول؟ قال: نعم. فألقاه في النار، فصارت عليه برداً وسلاماً3.

فكرامات الصالحين هي مستلزمة لصدقهم في قولهم: إنّ محمّداً رسولٌ، ولثبوت نبوته. فهي من جملة آيات الأنبياء.

وآياتهم4، وما خصهم الله به، لا يكون لغير الأنبياء5.

وإذا قال القائل: معجزات الأنبياء، وآياتهم، وما خصّهم الله به: فهذا كلامٌ مجملٌ؛ فإنّه لا ريب أنّ الله خصّ الأنبياء بخصائص، لا توجد لغيرهم.

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((ط)) : إن.

3 القصة أخرجها أبو نعيم في الحلية2128، وابن الجوزي في صفة الصفوة 4208. وانظر البداية والنهاية لابن كثير 6272-273.

4 يعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

5 انظر ما تقدم في هذا الكتاب: ص 162. وما سيأتي في نهاية هذا الفصل، ص 987. وانظر كذلك البداية والنهاية 6161.

ص: 820

بعض الآيات التي يختص بها كل نبي عن غيره من الأنبياء

ولا ريب أنّ من آياتهم، ما لا يقدر أن يأتي به غير الأنبياء.

بل النبيّ الواحد له آيات، لم يأت بها غيره من الأنبياء؛ كالعصا، واليد لموسى [عليه السلام] ، وفرق البحر؛ فإنّ هذا لم يكن لغير موسى1؛ وكانشقاق القمر، والقرآن، وتفجير الماء من بين الأصابع، وغير ذلك2 من الآيات التي لم تكن لغير محمّد [عليه الصلاة والسلام] من الأنبياء؛ وكالناقة التي لصالح [عليه السلام] ؛ فإنّ تلك الآية لم تكن مثلها لغيره؛ وهو خروج ناقة من الأرض3.

بعض الآيات التي اشترك فيها كثير من الأنبياء

بخلاف إحياء الموتى: فإنّه اشترك فيه [كثيرٌ] 4 من الأنبياء، بل ومن الصالحين5.

1 انظر ما تقدّم ص 195، 636 من هذا الكتاب.

2 انظر ص 632 من هذا الكتاب.

3 سبق الكلام عن ذلك في ص 636 من هذا الكتاب.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : كثيراً.

5 انظر بعض القصص في إحياء الله الموتى على يد بعض الصالحين، في البداية والنهاية 6161-166، 295-297. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح 417:"فإنّ أعظم آيات المسيح عليه السلام: إحياء الموتى، وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء؛ كإلياس، وغيره".

وقال أيضاً في الجواب الصحيح: "فمن ذلك: أن كتاب سفر الملوك يخبر أن إلياس

أحيا ابن الأرملة، وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية، وأن حزقيال أحيا بشراً كثيراً، ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلهاً". الجواب الصحيح 4120-121.

وعن إحياء اليسع لابن الإسرائيلية، انظر: العهد القديم، سفر الملوك الثاني، الإصحاح الرابع، فقرة 21-37، ص 588-589.

وانظر كذلك إحياء الموتى لموسى عليه السلام. في الجواب الصحيح 418.

ص: 821

وملك سليمان [عليه السلام]، لم يكن لغيره؛ كما قال:{رَبِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكَاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 1؛ فطاعة الجن والطير، وتسخير الريح تحمله من مكان إلى مكان؛ له، ولمن معه. [لم] 2 يكن مثل هذه الآية لغير سليمان.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " ما من نبيّ من الأنبياء، إلا وقد أُوتي من الآيات ما أمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة"3.

وهو من حين أتى بالقرآن، وهو بمكة يقرأ على الناس:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 4.

1 سورة ص، الآية 35.

2 في ((ط)) : ولم.

3 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 41905، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما أُنزل. ومسلم في صحيحه 1134، 152، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند هذا الحديث: "والمعنى أنّ كلّ نبيّ أوتي من خوارق المعجزات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أولي البصائر والنهى، لا من أهل العناد والشقاء، وإنّما كان الذي أوتيته؛ أي جلّه وأعظمه وأبهره القرآن الذي أوحاه الله إليّ، فإنّه لا يبيد ولا يذهب، كما ذهبت معجزات الأنبياء، وانقضت أيامهم، فلا تُشاهد، بل يُخبر عنها بالتواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه؛ فإنّه معجزة متواترة عنه، مستمرة، دائمة البقاء بعده، مسموعة لكل من ألقى السمع وهو شهيد". البداية والنهاية 6262-263.

4 سورة الإسراء، الآية 88.

ص: 822

فقد ظهر أنّ من آيات الأنبياء ما يختصّ به النبيّ، ومنها [ما] 1 يأتي به عددٌ من الأنبياء، ومنها ما يشترك فيه الأنبياء كلّهم ويختصّون به؛ وهو الإخبار عن الله بغيبه الذي لا يعلمه إلا الله؛ قال:{عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِم وَأَحْصَى كُل شَيْءٍ عَدَدَاً} 2.

لكن ما يظهر على المؤمنين بهم من الآيات؛ بسبب الإيمان بهم: فيه قولان:

كرامات الأولياء: هل هي من آيات الأنبياء أم لا فيه قولان:

قال طائفة3: ليس ذلك من آياتهم. وهذا قول من يقول: من شرط المعجزة أن [يقارن] 4 دعوى النبوة، لا يتقدّم عليها، ولا يتأخّر عنها؛ كما قاله هؤلاء5 الذين يجعلون خاصّة المعجزة: التحدّي بالمثل، وعدم المعارضة، ولا يكون إلا مع الدعوى، كما تقدم. وهو قولٌ قد عرف فساده من وجوه.

والقول الثاني: وهو القول الصحيح: أنّ آيات الأولياء هي من جملة آيات الأنبياء6؛ فإنّها مستلزمة لنبوّتهم، ولصدق الخبر بنبوّتهم؛ فإنه لولا

1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 سورة الجن، الآيات 26-28.

3 وهم المعتزلة الذين نفوا كرامات الأولياء.

وانظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 569-570.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : تقارن.

5 وهم الأشاعرة. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 152-153، 586.

6 قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "ذكر غير واحد من العلماء أنّ كرامات الأولياء معجزات للأنبياء؛ لأنّ الوليّ إنّما نال ذلك ببركة متابعته لنبيّه وثواب إيمانه". البداية والنهاية 6163.

ص: 823

ذلك، لما كان هؤلاء أولياء، ولم [يكن] 1 لهم كرامات.

لكن يحتاج أن يفرق بين كرامات الأولياء، وبين خوارق السحرة والكهّان، وما يكون للكفّار، والفسّاق، وأهل الضلال والغي بإعانة الشياطين لهم؛ كما يُفرّق بين ذلك، وبين آيات الأنبياء.

والفروق بين ذلك كثيرة، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع2.

1 في ((م)) ، و ((ط)) : تكن.

2 تقدّمت فروق كثيرة في ثنايا هذا الكتاب، انظر في ذلك على سبيل المثال: ص 118-120، 558-559.

وانظر كذلك من كتب شيخ الإسلام: الجواب الصحيح 186، 5196، 6297-301. وشرح الأصفهانية 2472-477. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 49.

ص: 824

فصل

فقد تبيّن أن من آيات الأنبياء ما يظهر مثله على أتباعهم، ويكون ما يظهر على أتباعهم: من آياتهم؛ فإنّ ذلك مختصّ بمن يشهد بنبوتهم؛ فهو مستلزم له: لا [تكون] 1 تلك الآيات إلاّ لمن أخبر بنبوتهم، [وإذا لم يخبر بنبوتهم] 2، لم تكن له تلك الآيات.

وهذا حد الدليل؛ وهو: أن يكون مستلزماً للمدلول عليه؛ فإذا وُجد الدليل، وجد المدلول عليه، وإذا عُدم المدلول عليه، عُدِم الدليل.

ولهذا من السلف من يأتي بالآيات دلالة على صحة الإسلام، وصدق الرسول3؛ كما ذُكِر أنّ خالد بن الوليد شرب السم لما طُلب منه آية، ولم يضرّه4.

1 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 ما بين المعقوفتين مكرّرٌ في ((خ)) .

3 أي يتحدّى بالكرامة، أو يُظهرها.

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كثيراً من الأمثلة على الكرامات التي وقعت لذلك. انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 160-162.

4 تقدّمت كرامة خالد بن الوليد رضي الله عنه في شربه السمّ، ولم يضره، في ص161 من هذا الكتاب.

ص: 825