الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: كيفية التسوية في العطايا والهبات بين البنين والبنات
لا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية بين الأولاد في العطايا والهبات بل ذهب بعضهم إلى الوجوب كطاوس والثوري وأحمد وإسحاق، وجمهور أهل العلم على أن التسوية مستحبة لا واجبة 1.
وليس المقصود هنا معرفة الراجح من هذين القولين؛ لأنه لا ينبني على ذلك فرق بين الذكور والإناث إذ أن من قال بوجوب التسوية قال: تجب بين الذكور، وتجب بين الإناث، وتجب بين الذكور والإناث، وكذا من قال بالاستحباب. لكن المقصود هنا هو بيان كيفية التسوية بين الأبناء والبنات خصوصاً، بغض النظر عن حكمها وجوباً أو استحباباً فأقول:
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: التسوية بين الأبناء والبنات في الهبات تكون بأن لا يُفَضَّل ذكرٌ على أنثى بل تُعطى الأُنثى. مثل: ما يعطي الذكر، هذا ما ذهب إليه
سفيان الثوري وابن المبارك وأبو يوسف من الحنفية والشافعي وأحمد في رواية أختارها ابن عقيل وأهل الظاهر وأصحاب مالك 2.
القوال الثاني: التسوية بين الأبناء والبنات تكون بالقسمة بينهم على حسب قسمة الله تعالى الميراث فَيُجْعل للذكر مثل حظ الأُنثيين؛ وبهذا قال عطاء وشريح
1 المغني 8/256،259، تكملة المجموع 15/371، الاستذكار 22/297.
2 شرح معاني الآثار 4/89، مختصر الطحاوي، ص 138، بدائع الصنائع 6/127، الاستذكار 22/297، المعونة 3/1616، الكافي 2/1003، المنهاج ومغني المحتاج 2/401، تكملة المجموع 15/373، المغني 8/259، الإنصاف 7/136.
وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن، وبعض المالكية وبعض الشافعية 1.
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدلوا لقولهم بالسنة والمعقول من ذلك:
1-
ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد عندما فضل بعض ولده: "أكل ولدك نحلت مثله" قال: لا. قال: "فارجعه".
وفي رواية في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"2.
ولمسلم قال صلى الله عليه وسلم: "أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواءً؟ " قال: بلى. قال: "فلا إذاً"3.
فأمره صلى الله عليه وسلم بالعدل يقتضي التسوية 4. وكذا تعليله ذلك بالبر فإن الذي يطلب من البنت من البر كالذي يطلب من الابن. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد من الأب لولده ما يريد من ولده له، وكان ما يريد من الأنثى من البر مثل ما يريد من الذكر كان ما أراد منه لهم من العطية للأنثى مثل ما أراد للذكر 5.
وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بأنه قضية عين وحكاية حال لا عموم لها ولا يُعْلَم حال أولاد بشير هل كان فيهم أنثى أو لا؟. ولعل النبي
1 المغني 8/259، الإنصاف 7/136، شرح معاني الآثار 4/89، مغني المحتاج 2/401، فتح الباري 5/214.
2 البخاري مع الفتح 5/211، في الهبة بأب الإشهاد في الهبة، حديث 2587، مسلم 3/1242، في الهبة باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، حديث 1623.
3 مسلم 3/1244، في الهبة باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، حديث 1623.
4 تكملة المجموع 15/373.
5 شرح معاني الآثار 4/89.
صلى الله عليه وسلم قد علم أنه ليس له إلا ولدٌ ذكر، ثم تُحمل التسوية على القسمة على كتاب الله1.
قلت: أما قوله: "إنه قضية عين" فهذه دعوى ينفيها المخالف وليس قوله بأولى من قولهم.
وقوله: "لا يعلم حال أولاد بشير هل كان فيهم أنثى؟ " ليس بقوى؛ لأنه لو كان الأمر يختلف بين الذكور والإناث لسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما سأله هل له ولد؟ بل إن سؤاله عن الولد يدل على أنه لا فرق بين الذكور والإناث 2؛ لأن الولد يطلق على الذكر والأنثى.
وقوله تحمل التسوية على قسمة الميراث فيه نظر؛ لأن معنى التسوية عدم التفضيل.
2-
ما روى البيهقي وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء"3. قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن 4.
وتعقبه الشيخ الألباني فحكم عليه بالضعف؛ لأن في سنده سعيد بن يوسف، قال عنه: متفق على ضعفه 5.
قلت: وممن صرح بتضعيفه ابن معين ومحمد بن عون والنسائي. وقال
1 المغني 8/260.
2 شرح معاني الآثار 4/89.
3 سنن البيهقي 6/177، كنز العمال 16/446.
4 فتح الباري 5/214.
5 السلسلة الضعيفة رقم 340.
أحمد ليس بشيء وقال أبو حاتم ليس بالمشهور ولم يوثقه إلا ابن حبان 1.
وعلى هذا فالحديث لا يصلح للاستدلال:
3-
ولأنها عطية في الحياة فاستوى فيها الذكر والأنثى كالنفقة والكسوة2.
4-
ولئلا يفضي بهم الأمر إلى العقوق والتحاسد 3.
أدلة القول الثاني:
1-
القياس على قسمة الميراث "لأن العطية في الحياة أحدُ حالي العطية فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحالة الموت. يحققه أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت فينبغي أن تكون على حسبه"4.
ويمكن مناقشته من وجهين:
أ- قياس الهبة على النفقة والكسوة أصح من قياسها على الميراث؛ لأن قياس ما قبل الموت على ما قبل الموت أولى من قياسه على ما بعد الموت وإلا لزم إذا كان له زوجات أن يسوي بينهن في الهبة ولا شك في عدم وجوبه.
ب - أن الأخذ بظاهر الحديث أولى من مصادمته بقياس ضعيف.
2-
أن الذكر أحوج من الأُنثى من قبل أنهما إذا تزوجا جمعياً فالصداق والنفقة على الذكر
…
فكان أولى بالتفضيل 5.
قلت: علل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتسوية بالبر، والبر لا يختلف فيه الذكر عن
1 تهذيب التهذيب 4/103.
2 المغني 8/259.
3 مغنى المحتاج 2/401.
4 المغني 8/259،260.
5 المغني 8/260.
الأُنثى فيجب التعليل بما علل به لا بما يلزم الذكر من المهر والنفقة، ثم لقائل أن يقول الأُنثى أضعف جسداً وأقل قدرة على جلب المال فتكون أولى بالتفضيل.
الترجيح:
مما تقدم يظهر أن قول الجمهور أقوى فتكون التسوية بين الأولاد ذكوراً وإناثاً متعينة بأن لا يُفضّل أحدٌ على أحد لما يلي:
1-
لقوة ما استدلوا به.
2-
أنه ليس مع المخالفين إلا القياس على الإرث وهو قياس بعيد في مقابل النص، والله أعلم.