الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: حكم تصرق الرجل من مال زوجته وتصدقها من ماله
…
المبحث الرابع: حكم تصدق الرجل من مال زوجته وتصدقها من ماله
من المتقرر شرعاً أن نفقة الزوجة واجبة على زوجها حتى وإن كانت غنية وبهذا يعلم أن لها حقاً في ماله بينما لا يجب عليها أن تنفق عليه حتى مع غناها وفقره، كما أن المرأة راعية في بيت زوجها لها أن تأكل منه وتطعم بنيها وتكتسي إلى غير ذلك من التصرفات المأذون فيها شرعاً ومع هذا فإنه ليس لها التصرف في ماله بإطلاق ومن هنا تكلم العلماء في باب الحجر على حكم تصدقها من ماله ولبيان الفرق بينهما أذكر حكم تصدقه من مالها أيضاً فأقول:
أما حكم تصدق الرجل من مال زوجته:
فإني لم أجد أحداً من أهل العلم نص على حكمه صراحة، إلا ابن حزم حيث قال: لا يجوز له أن يتصدق من مالها بشيء أصلاً إلا بإذنها 1 لكن الذي يظهر لي أن سبب السكوت عنه كونه من المسلمات المعروفة التي لم يُختلف في حكمها حتى إن الحنابلة عندما ذكروا الرواية المنقولة عن الإمام أحمد في منع تصدق المرأة من مال زوجها استدلوا لها بالقياس على الرجل فقالوا: لا يجوز لها أن تتصدق من ماله كما أنه لا يجوز له أن يتصدق من مالها 2 فلهذا أرى أنه لا يجوز للرجل أن يتصدق من مال زوجته بشيء ما لم تأذن له فيه ويمكن أن يستدل لذلك بما يلي:
1-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 3. فهي
1 المحلى 8/318 0
2 الفروع 5/326، الإنصاف 5/353 0
3 سورة النساء آية 29.
وإن كانت تنص على تحريم أكل أموال الناس بالباطل فإنها تدل بمفهومها على تحريم الاعتداء على أموال الآخرين بالباطل بأي وجه من الوجوه.
2-
ما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"1.
فهذا نصٌ عام في تحريم أموال المسلمين على بعضهم ما لم يدل دليل على جواز الأخذ من مال الغير ولم يأت ما يدل على جواز تصدق الرجل من مال زوجته أو أكله منه بدون إذنها فيبقى على أصل التحريم.
أما حكم تصدق المرأة من مال زوجها ففيه خلاف على قولين:
القول الأول: يجوز لها أن تتصدق من مال زوجها باليسير بغير إذنه هذا ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية صححها موفق الدين ابن قدامة ورجحها صاحب الإنصاف ونقل تصحيحها عن جماعة من الحنابلة وقال به أبو محمد ابن حزم 2.
القول الثاني: لا يجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها بشيء إلا بإذنه، هذا ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية مرجوحة في المذهب 3 وقال البغوي: العمل على هذا عند عامة أهل العلم أن المرأة ليس لها أن تتصدق بشيء من مال الزوج دون إذنه 4 وممن صرح بهذا القول الإمام النووي لكنه قال: والإذن ضربان: أحدهما، الإذن الصريح في النفقة والصدقة، والثاني الإذن المفهوم من اطراد العرف 5.
1 مسلم 2/889 في الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم 1218 0
2 المغني 6/605، الفروع 4/325، الإنصاف 5/352، المحلى 8/318 0
3 المغني 6/605، الفروع 4/325، الإنصاف 5/325 0
4 شرح السنة 6/205 0
5 شرح النووي على مسلم 7/112 0
وقبل البدء في سرد الأدلة أرى أنه لابد من تحرير محل النزاع فأقول لا يخلوا الحال من أن يأذن لها الزوج بالصدقة أو أن ينهاها عن الصدقة أو أن لا يأذن لها ولا ينهاها.
فإن أذن لها فلا خلاف هنا في الجواز.
وإن نهاها فلا خلاف أيضاً في التحريم.
أما إن لم يأذن لها صراحة ولم ينهها ولم تعرف من طبعه موافقته لها على الصدقة أو مخالفته فهنا محل النزاع وعلى هذا تُنَزَّل الأدلة.
أدلة القول الأول:
1-
ما روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة، لها أجرها وله مثله،
…
له بما اكتسب، ولها بما أنفقت" 1 وله ألفاظ أُخرى متقاربه.
قال ابن قدامة: ولم يذكر إذناً 2.
قلت: ومما يؤكد أن هذا الإذن لها في الصدقة يكون في حالة عدم الاستئذان من الزوج قوله صلى الله عليه وسلم: "غير مفسدة " إذ يفهم منه أن تصرفها مع عدم أخذ الإذن يكون في الشيء القليل الذي لا يؤدي إلى إفساد مال الزوج وإلا لو كان هذا مع أخذ إذنه ما قُيِّدَ بعدم الإفساد لأن له أن يتصدق بماله كله:
2-
ما روى الشيخان من حديث أسماء أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله ليس لي شيء إلا ما أدخل عليّ الزبير فهل علىَّ جناح أن أرضخ
1 صحيح البخاري مع الفتح 3/303، في الزكاة باب أجر المرأة إذا تصدقت:.. حديث 1440، صحيح مسلم 2/710 في الزكاة باب أجر الخازن والمرأة:..حديث 1024.
2 المغني 6/605 0
مما يدخل عليّ؟ فقال: ارضخي ما استطعت ولا توعي فيُوعىَ الله عليك" 1 هذا لفظ مسلم.
قلت: والظاهر أن المراد أن السؤال عن الإنفاق من مال الزبير أما ما تملكه هي مما أعطاها الزبير أو غيره فإنه لا يحتاج إلى سؤال، ومع هذا فلم يذكر لها الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً حول الاستئذان.
3-
ما ورد من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه وما أنفقت من نفقة من غير أمره فإنه يؤدى إليه شطره"2.
قلت: هذا الحديث كالنص في أن لها أن تنفق من بيته من دون إذنه.
4-
ما روى أبو داود وغيره من حديث سعد قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر فقالت: يا نبي الله إنا كَلٌ على آبائنا وأبنائنا
…
وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: "الرطب تأكلنه وتهدينه"3.
قال محقق شرح السنة: إسناده جيد 4.
5-
ما روى مسلم في صحيحه من حديث عمير مولى آبي اللحم قال أمرني مولاي أن أُقَدِدَ لحماً فجاء مسكين فأطعمته منه فعلم بذلك مولاي
1 صحيح البخاري 3/299، في الزكاة باب التحريض على الصدقة حديث 1433، صحيح مسلم 2/714 في الزكاة باب الحث على الإنفاق حديث 1029 0
2 صحيح البخاري مع الفتح 9/293، 259 في النكاح باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعاً حديث 5192، وباب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه حديث 5195، صحيح مسلم 2/711 في الزكاة باب ما أنفق العبد من مال مولاه حديث 1026 0
3 سنن أبي داود 2/316 في الزكاة باب المرأة تتصدق من مال زوجها حديث 1686 0
4 شرح السنة 6/201 0
فضربني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فدعاه فقال لم ضربته؟ فقال يعطي طعامي بغير أن آمره فقال: الأجر بينكما 1.
قلت: هذا الحديث يدل دلالة نصية على أن المولى لم يستأذن سيده بل أطعم من طعامه بدون إذنه ومع هذا لم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أو يأمره بالاستئذان بل قال: "الأجر بينكما" وإذا جاز هذا في العبد فإنه في الزوجة أولى بالجواز.
مناقشة الأدلة:
ناقش بعض أهل العلم أدلة الحنابلة المتقدمة بما يلي:
1-
قال البغوي: حديث عائشة خارج على عادة أهل الحجاز أنهم يطلقون الأمر للأهل والخادم في الإنفاق والتصدق مما يكون في البيت إذا حضرهم السائل، أو نزل بهم الضيف فحضهم على لزوم تلك العادة:.. وعلى هذا يُخَرَّج ما روي عن عمير مولي آبي اللحم 2.
قلت: فالبغوي يقر أن الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أذن للمرأة أن تنفق من بيت زوجها بدون إذنه ولكنه تأوله بأنه خارج على عادة أهل الحجاز، فأقول أين ما يدل على هذه الخصوصية والأصل في التشريع العموم ما لم يرد التخصيص.
2-
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم "وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له" معناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره وذلك الإذن الذي قد بيناه سابقاً إما
1 صحيح مسلم 2/711 في الزكاة باب ما أنفق العبد من مال مولاه حديث 1025 0
2 شرح السنة 6/205 0
بالصريح وإما بالعرف ولا بد من هذا التأويل، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة وفي رواية أبي داود "فلها نصف أجره" ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر فتعين تأويله1.
قلت: فالنووي رحمه الله يقر أن ما قاله تأويل يخالف ظاهر النصوص وجعل سبب هذا التأويل قوله: ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر.
قلت: وهذا الجواب فيه نظر من وجهين:
الأول: أنه احتجاج بالدعوى ومعلوم عند العلماء أنه لا يجوز للمدعي أن يستدل بدعواه فأهل القول الأول يعارضون ما ادعاه فيرون أن لها أجراً إذا أنفقت بدون إذنه وليست دعواه بأولى من دعواهم.
الثاني: أنّا إذا سلمنا جدلاً هذا التأويل في حديث عائشة فإنّ حديث مولى آبي اللحم لا يمكن تأويله بأنه كان معه إذن، ومع هذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه.
3-
قال شارح المشكاة معلقاً على قوله صلى الله عليه وسلم "الأجر بينكما": أي لو أردت أو رضيت. قال الطيبي لم يرد به إطلاق يد العبد بل كره صنيع مولاه في ضربه على أمر تبين رشده فيه فحث السيد على اغتنام الأجر والصفح عنه، فهذا تعليم وإرشاد لآبي اللحم لا تقرير لفعل العبد2.
قلت: أما جواب صاحب المرقاة فهو نفس جواب النووي وقد تقدمت الإجابة عنه، وأما ما نقله عن الطيبي فنعم فيه تعليم وإرشاد لآبي اللحم، لكنه لم يعترض النبي صلى الله عليه وسلم على العبد أو ينهه فهو تقرير له.
1 شرح النووي على مسلم 7/112، 113 0
2 مرقاة المفاتيح 4/227 0
أدلة القول الثاني:
1-
ما تقدم مسلم من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا":
فهو بعمومه يدل على تحريم تصدق الزوجة من مال زوجها إلا بإذنه.
ونوقش بأنه حديث عام عارضه أحاديث خاصة والخاص يقدم على العام1.
2-
ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: "لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذن زوجها" قيل: يارسول الله ولا الطعام قال: "ذلك أفضل أموالنا" 2 هذا لفظ أبي داود.
قال الترمذي: حسن غريب، وكذا حسنه ابن حجر3 ثم الألباني4.
ووجه الدلالة منه ظاهرة في أنه لا يجوز للمرأة أن تتصدق بقليل ولا كثير من بيت زوجها إلا بإذنه.
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
1-
أنه حديث ضعيف. قاله الموفق في المغني 5.
2-
أن يقال إنّ النهي للكراهة فقط والقرينة الصارفة ما تقدم من
1 المغني 6/606.
2 سنن أبي داود 3/824 في البيوع باب في تضمين العارية حديث 3565، سنن الترمذي 3/565 في البيوع باب ما جاء في أن العارية مؤداة حديث 1265، سنن ابن ماجة 2/802 في الصدقات باب العارية حديث 2398 0
3 التلخيص الحبير 3/92 0
4 صحيح الترغيب رقم 935 0
5 المغني 6/606 0
الأحاديث لأهل القول الأول وكراهة التنزيه لا تنافي الجواز ولا تستلزم عدم استحقاق الثواب 1.
3-
ما روى أبو داود عن أبي هريرة موقوفاً في المرأة تصدق من بيت زوجها قال: لا إلا من قوتها والأجر بينهما ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه 2.
قلت: قد تقدم الحديث من طريق أبي هريرة في البخاري الدال على جواز تصدقها بدون إذنه والعبرة بالرواية لا بالرأي.
4-
أنه تبرع بمال الغير بغير إذنه فلم يجز كغير الزوجة 3.
وأجاب عنه الموفق بقوله: لا يصح قياس المرأة على غيرها لأنها بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه وتتصدق منه لحضورها وغيبته والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي 4.
الترجيح:
الذي يظهر لي والعلم عند الله أنه يجوز للمرأة أن تتصدق من بيت زوجها بالشيء اليسير غير مفسدة لما يلي:
1-
لقوة ما استدل به أهل القول الأول سنداً ودلالة.
2-
أنه يصعب أن تبقى الزوجة في بيت زوجها مدة حياتها مكتوفة الأيدي لا تتصدق ولا بتمرة والشريعة جاءت برفع الحرج.
1 نيل الأوطار 6/16 0
2 سنن أبي داود 2/318 في الزكاة باب المرأة تصدق من بيت زوجها حديث 1688.
3 المغني 6/606 0
4 المرجع السابق.
3-
أن أقوى ما استدل به أهل القول الثاني حديث أبي أُمامة وفي سنده ما فيه ومع تسليم حسنه فقد عارض عدة أحاديث ثابتة ثبوتاً لا مراء فيه والصحيح إذا عارض ما هو أصح منه قُدِّم الأصح فكيف بالحسن وعلى هذا يتبين أن بين الزوج والزوجة فرقاً في هذا فالزوج لا يصح له أن يتصدق من مال زوجته إلا برضاها بخلاف الزوجة فإن لها أن تتصدق من بيت زوجها باليسير غير مفسدة.