المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عود العلة على الأصل بالإبطال. ويشترط في العلة أن لا تعود - الوصف المناسب لشرع الحكم

[أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في المناسبة وتعريف المناسب

- ‌الفصل الأول: في تعريف المناسبة

- ‌الفصل الثاني في إقامة الدليل على أن المناسبة دالة على العلية

- ‌الفصل الثالث في تعريف المناسب

- ‌الباب الثاني: في تقسيمات المناسب

- ‌الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة

- ‌الفصل الثاني: في تقسيم المناسب الحقيقي باعتبار إفضائه إلى المقصود

- ‌الفصل الثالث: في تقسيم المناسب من حيث اعتبار الشارع له وعدم اعتباره له

- ‌المبحث الأول: أقسام المناسب بحسب القسمة العقلية

- ‌المبحث الثاني أقسام المناسب من حيث الاعتبار

- ‌المبحث الثالث: تقسيم ابن السبكي له

- ‌المبحث الرابع: تقسيم الإمام له

- ‌المبحث الخامس: تقسيم الآمدي له

- ‌المبحث السادس: اشتراط الحنفية في المناسب فوق المناسبة كونه مؤثرا

- ‌الباب الثالث: في المناسب المرسل

- ‌الفصل الأول: في تعريفه وبيان محل الخلاف والوفاق فيه بين العلماء

- ‌الفصل الثلني: في بيان مذاهب العلماء في الوصف المناسب المرسل

- ‌الفصل الثالث في بيان أدلة مذهب الإمام مالك

- ‌الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد رحمه الله هو وأتباعه في الأخذ بالمناسب المرسل

- ‌الفصل الخامس في ذكر أدلة مذهب القاضي ومن وافقه ومناقشتها

- ‌الفصل السادس في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل

- ‌الفصل السابع في رأي أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المناسب المرسل

- ‌الفصل الثامن: في رأي الغزالي في قبول المرسل

- ‌الفصل التاسع في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع

- ‌الفصل العاشر: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها أو راجحة أم لا تنخرم

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: عود العلة على الأصل بالإبطال. ويشترط في العلة أن لا تعود

عود العلة على الأصل بالإبطال.

ويشترط في العلة أن لا تعود على الأصل بالإبطال.

شروط أخرى اشترطها البعض.

الفصل الرابع: فيما قبل الوصف المناسب من مسالك العلة، وتحته مباحث وهي:

الأول: تعريف المسالك، وبيان الطريقة التي اخترت أن أسلكها.

الثاني: مبحث النص، وألفاظه.

الثالث: مبحث الظاهر، وألفاظه.

الرابع: مبحث الإيماء تعريفه، وأنواعه.

تنبيه: ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنني اضطررت إلى تأخير تعريف المناسب عن المناسبة الآتية، لكونه مشتقاً منها، فأخرته إلى الباب الأول، وهو:

الباب الأول: وهو في المناسبة، وتعريف المناسب، وفيه الفصول الآتية:

الفصل الأول: في تعريف المناسبة.

الفصل الثاني: في إقامة الدليل على اعتبارها.

الفصل الثالث: في تعريف المناسب.

الباب الثاني: في تقسيمات المناسب، وفيه الفصول الآتية:

الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة، وهو ينقسم إلى: حقيقي، وإقناعي.

والحقيقي ينقسم إلى: ديني، ودنيوي.

والدنيوي ينقسم إلى: ضروري، وحاجي، وتحسيني.

الفصل الثاني: في تقسيمه باعتبار إفضائه إلى المقصود، وذلك بأن يكون حصول المقصود يقيناً، أو ظناً، أو يتساوى الحصول

ص: 11

وعدمه، أو يكون الحصول أرجح، أو يكون فائتاً بالكلية.

الفصل الثالث: في تقسيمه بالنظر إلى اعتبار الشارع له، وعدم اعتباره له.

الباب الثالث: في المناسب والمرسل، وفيه الفصول الآتية:

الفصل الأول: في تعريفه، وبيان محل الخلاف والوفاق فيه.

الفصل الثاني: في بيان مذاهب العلماء فيه.

الفصل الثالث: في بيان أدلة الإمام مالك فيما ذهب إليه من القول بالمناسب المرسل، ومناقشتها.

الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد في الأخذ به.

الفصل الخامس: في ذكر أدلة مذهب القاضي، ومن وافقه، ومناقشتها.

الفصل السادس: في أدلة مذهب الإمام الشافعي، وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل.

الفصل السابع: في بيان رأي الإمام أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المرسل.

الفصل الثامن: في رأي الغزالي، وبيان وجه ما ذهب إليه من القول بالمرسل إذا كانت المصلحة ضرورية، قطعية، كلية.

الفصل التاسع: في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع، ومناقشتها.

فصل: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها، أو راجحة، أو لا تنخرم؟

خاتمة: في بعض نتائج البحث التي توصلت إليها.

هذا

وإنني قد رأيت أن أتخذ طريقة أرمز بها للتحويل على المراجع اختصاراً، وهي إنني في التحويل على المرجع لبيان الجزء والصفحة أستعمل الرمز الآتي وهو:"الأحكام للآمدي 3/186" مثلاًَ، للاختصار، وإذا كنت نقلت عن الكتاب مخطوطاً ومطبوعاً، أشير للمخطوط بحرف "خ"، والمطبوع بحرف "ط"،

ص: 12

وإذا كان نقلي عن المطبوع فقط، فقد رأيت أن أؤخر بيان الطبعة إلى ذكره في المراجع.

هذه هي عناصر البحث التي بحثتها، وطريقة البحث التي سلكتها فأرجو أن أكون قد وفقت، وساهمت بعملي هذا في ناحية من نواحي شريعتنا الغراء، فإن كنت قد وفقت فمن الله، وإن كنت قد أخطأت فمني، وأرجو الله المغفرة والتوفيق لصالح العمل، وأن يجعل عملي هذا وسيلة إلى مرضاته، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 13

‌تمهيد

الفصل الأول: في تعريف القياس

القياس في اللغة: القياس، والقيس مصدران لقاس، يقال: قاسه بغيره وعليه، يقيسه قيساً وقياساً، واقتاسه إذا قدره عل مثاله1. وقسته - بضم القاف - أقوسه قوساً، وهو من ذوات الواو والياء2.

وللأصوليين في حكاية معني القياس اللغوي ثلاثة آراء:

الأول: أنه حقيقة في التقدير، أي في معرفة قدر الشيء بالآخر، كما تقول: قست الأرض بالقصبة، وقست الثوب بالذراع، أي قدرته به3. وإلى هذا ذهب الأسنوي4، تبعاً للآمدي5.

فالمناسبة على هذا القول بين المعنى اللغوي، وبين المعنى الاصطلاحي - الآتي بيانه - إنما هي استعمال اسم الملزوم في اللازم، وقد أشار إلى ذلك الأسنوي بقوله:"إن التقدير يستدعي التسوية، فالتقدير يستلزم شيئين ينسب أحدهما إلى الآخر بالمساواة، وبالنظر إلى هذا - أعني المساواة - عبر الأصوليوين عن مطلوبهم بالقياس"6.

1 انظر القاموس 2/253، لسان العرب 6/187، تاج العروس 4/227، المصباح المنير 2/181.

2 انظر صحاح الجوهري 2/181، لسان العرب 6/187.

3 مجاز مرسل في المساواة علاقته الملزومية، واللازمية.

4 هو: أبو محمد جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي القرشي الأموي الأسنوي، الشافعي الفقيه، الأصولي النحوي، المتكلم، برع في كل علم، وخاصة الأصول والعربية، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، له مؤلفات منها في الأصول نهاية السول شرح منهاج الوصول للبيضاوي، ولد سنة 704هـ، وتوفي سنة 772هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصولين 2/186.

5 هو: علي بن علي بن سالم التغلبي، د الملقب بسيف الدين الآمدي، المكنى بأبي الحسن، الفقيه، الأصولي، المتكلم، ولد سنة 551هـ، له مؤلفات منها الأحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه، ومنتهى السول في الأصول أيضاً، وغيرهما، توفي سنة 631. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/57 - 58.

6 انظر: نهاية السول شرح منهاج الأصول مع منهاج العقول 3/2، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/167.

ص: 10

وقد اعترض على هذا القول بأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز قدمت الحقيقة على المجاز، لأن المجاز خلاف الأصل، إذ يحتاج في دلالته إلى قرينة، والحقيقة لا تحتاج، وما لا يحتاج في دلالته أولى مما يحتاج1.

الثاني: أنه مشترك اشتراكاً لفظياً بين كل من:

- التقدير، نحو قست الثوب بالذراع.

- والمساواة، كما في قولك فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساويه.

- والمجموع المركب منهما، تحو قست النعل بالنعل، أي قدرته به فساواه، وهو ظاهر كلام العضد2، كما فهمه سعد الدين التفتازاني3 في حاشيته أخذاً من تمثيل العضد بالأمثلة الثلاثة، حيث قال السعد:"تمثيله بالأمثلة الثلاثة مشعر بأن المراد أنه قد يكون بهما جميعاً، وقد يكون للتقدير فقط، أو للمساواة فقط"4، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد اعترض على هذا القول بأمرين:

الأول: أن الاشتراك5 خلاف الأصل، لأن الأصل عدم تعدد الوضع.

الثاني: أنه يحتاج في دلالته على المراد منه إلى قرينة، لأنه مشترك بين معنيين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، وحمل اللفظ على أحد المعنيين أو المعاني بدون

1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق رحمه الله على القياس.

2 هو: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الأيحي الملقب بعضد الدين، العلامة الشافعي، الأصولي، المتكلم، الأديب، له مؤلفات في فنون مختلفة منها في أصول الفقه شرحه لمختصر الحاجب، توفي سنة 756هـ. انظر الفتح المبين 2/166.

3 هو: سعد الدين بن مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، الشافعي الأصولي، المتكلم، المبلاغي، له مؤلفات كثيرة في علوم شتى، منها في أصول الفقه التلويح في كشف حقائق التنقيح، وحاشية على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، ولد سنة 712هـ وتوفي سنة 791هـ. انظر الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/206.

4 انظر حاشية السعد على العضد 2/204.

5 الاشتراك هو اتحاد اللفظ مع تعدد الوضع كما في العين، فإنها للباصرة، والجارية، والذهب، كما تطلق على ذات الشيء، وكالقرء للطهر والحيض، وهذا هو الاشتراك اللفظي. انظر: حاشية الباجوري على السلم ص40، وآداب البحث والمناظرة للشيخ محمد أمين - القسم الأول ص19.

ص: 14

قرينة تعينه تحكم، وما لا يحتاج أولى مما يحتاج، وهو كونه مشتركاً معنوياً1.

الثالث: أنه مشترك معنوي، وهو كلي تحته فردان:

أحدهما: استعلام القدر أي معرفة قدر الشيء، نحو قست الثوب بالذراع.

الثاني: التسوية، ولو كانت معنوية نحو فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساويه، واستعماله في أحدهما لا بخصوصه حقيقة لا مجاز، وإلى هذا ذهب الأكثر، كما في تحرير الكمال بن الهمام2، وقد نصره شارحه3 بأن التواطؤ4 مقدم على الاشتراك اللفظي والمجاز إذا أمكن، وقد أمكن5. وهذا الرأي هو الراجح لسلامته من الاعتراضات.

بم يتعدى لفظ القياس؟

يرى بعض الأصوليين أن القياس وإن وردت تعديته بالباء في اللغة، كما في قول الشاعر:

خف يا كريم على عرض يدنسه

مقال كل سفيه لا يقاس بكا

1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، المشهور بابن الهمام، الفقيه الحنفي، الأصولي، النحوي، قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، له مؤلفات كثيرة منها في أصول الفقه التحرير، ولد سنة 790هـ وتو في سنة 861هـ. انظر الفتح المبين 3/36.

3 هو: شمس الدين محمد بن محمد بن الحسين الحلبي، المعروف بابن أمير الحاج، الحنفي الأصولي، له مؤلفات منها: التقرير والتحبير شرح التحرير في أصول الفقه، توفي سنة 879هـ بحلب، انظر الفتح المبين 3/47.

4 هو كون المعنى الواحد مستوياً في أفراده من غير اختلاف، أو تفاوت فيها كما في الإنسان، فإن حقيقة الإنسانية والناطقية مستوية في جميع الأفراد، وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة على مطلق الماهية، بخلاف التشاكك، فإن المعنى الواحد ليس مستوياً في أفراده، بل مختلف ومتفاوت فيها كما في النور، فإنه في الشمس أقوى منه في غيرها. انظر آداب البحث والمناظرة القسم الأول ص19، وحاشية الباجوري على متن السلم ص40.

5 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/117، ط الأولى، المنيرية.

ص: 15

فإن المستعمل منه في الشرع إنما يتعدى بعلى، لتضمنه معنى البناء والحمل، فإن انتقال الصلة من الأصل إنما يكون للتضمين1.

ولا يخالف هذا ما تقدم عن أهل اللغة من أنه يتعدى بالباء وبعلى، حتى يقال: لا حاجة إلى التضمين، إذ هو في اصطلاح المتشرعة لا تطرد تعديته إلا بعلى، وليس هو الأصل في تعدية القياس2.

القياس في اصطلاح الأصوليين:

اختلف الأصوليون أولاً في إمكان حد القياس، فقال إمام الحرمين3:"يتعذر الحد4 الحقيقي لقياس، لاشتماله على حقائق مختلفة: كالحكم، فإنه قديم، والفرع والأصل، فإنهما حديثان، والجامع فإنه علة، وكل ما قيل في تعريفه فإنه رسوم"5.

1 هو أشراب كلمة معنى أخرى لتتعدى تعديتها.

2 انظر: حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/239، نهاية السول مع منهاج العقول 3/3، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

3 هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، المكنى بأبي المعالي، المعروف بإمام الحرمين، لمجاورته مكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي بهما، الفقيه، الأصولي النظار، الأديب، له مؤلفات منها البرهان في أصول الفقه، وقد طبع، والورقات وهي أيضاً في أصول الفقه، وله غيرهما، توفي رحمه الله سنة 545هـ. انظر: طبقات الشافعية لابن السبكي 7/189 - 190، الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/260 - 262.

4 الحد في اللغة: المنع، وفي اصطلاح المناطقة هو ما كان بالذاتيات، وهو تام وناقص، فالتام ما كان بالجنس والفصل القريبين كتعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.

انظر: المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص73، وضوابطه المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص59 - 60.

5 والرسم هو ما كان بالذاتيات والعرضيات معاً، أو بالعرضيات فقط، وهو تام وناقص، فالتام ما كان بالجنس القريب والخاصة كتعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك، والناقص ما كان بالخاصة فقط، أو بها مع الجنس البعيد، كتعريف الإنسان بأنه كاتب، أو جسم كاتب.

انظر: المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص73 - 74 للدكتور عوض الله حجازي، وضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص61 فيما بعدها للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة.

ص: 16

ووافقه ابن المنير1 شارحه على تعذر الحد، لكن العلة عنده في ذلك كونه نسبة وإضافة، وهي عدمية، والعدم لا يتركب من الجنس2 والفصل3 الحقيقيين الوجوديين4.

وقال الجمهور: يمكن حده "ولعل مرادهم أنه يحد حداً اسمياً5، فإنه من الأمور الاصطلاحية الاعتبارية التي تكون حقائقها على حسب الاصطلاح والاعتبار، ولا يمكن أن يحد حداً حقيقياً، وبذلك يصح لك الحكم بأن هذا الخلاف لفظي"6.

واختلفوا ثانياً في تعريفه، فعرفه بعضهم بتعريفات غير مرضية، وعرفه البعض الآخر بتعريفات مختارة.

ولما لم يكن من موضوعي استقصاء جميع التعاريف التي عرف بها، فقد رأيت أن أكتفي بإيراد بعض التعاريف التي لم ترض مع بيان وجه الرد، دون التعرض إلى

1 هو: أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن مختار بن أبي بكر بن علي المكنى بأبي العباس، الملقب بناصر الدين، المعروف بابن المنير، الاسكندري الفقيه، المالكي، الأصولي المتكلم، النظار، المفسر الأديب، الشاعر الخطيب، الكاتب المقرئ المحدث، المولود سنة 620هـ تولى القضاء والتدريس ونظارة الأوقاف والخطابة، قيل عنه إنه كان فخر مصر عامة، والإسكندرية خاصة، له مؤلفات في التفسير وغيره، توفي بالإسكندرية سنة 683هـ.

انظر: الديباج المذهب 1/243 - 246، وشجرة النور الزكية 1/188، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/84 - 85، ذكر الزركشي في مقدمة البحر المحيط أنه شرح البرهان، والله أعلم.

2 هو ما صدق في جواب ما هو على كثيرين مختلفة حقائقهم كالحيوان، فإنه يصدق في جواب ما هو على كثيرين

الخ، كما لو قيل: الإنسان والفرس والحمار ما هو صلح أن يقال في جواب ذلك حيوان، أي المذكور حيوان، والمراد بكثيرين ما يشمل اثنين فأكثر. انظر حاشية الباجوري على السلم ص37.

3 هو ما صدق في جواب أي شيء في ذاته كالناطق، فإنه يصدق في جواب ذلك كما يقال: مميزاً للإنسان أي شيء هو في ذاته؟ فيقال: ناطق. حاشية الباجوري على السلم ص37.

4 انظر: البحر المحيط للزركشي 3/2، بعد عنوان القياس - خ -، البرهان 2/207 - خ -.

5 هو التعريف لماهية متخيلة في الذهن، ولا يعلم لها أفراد موجودة في الخارج، سواء كان لها وجود في الواقع أم لا، كتعريف العنقاء بأنه طائر طويل العنق، يصطاد الصبيان وصغار البقر.

انظر: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة للشيخ عبد الرحمن حبنكة ص393.

6 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/13 - 14.

ص: 17

شرحها، خشية الوقوع في التطويل الممل، ثم أتبع ذلك بالتعاريف المختارة، مع شرحها وبيان ما ورد عليها، والإجابة عند قدر المستطاع.

أمثلة من التعاريف التي لم يرتضها الأصوليون للقياس:

منها: قول بعضهم "القياس إصابة الحق"، وهو منقوض بإصابة الحق بالنص والإجماع1.

ومنها: قول بعضهم أنه "بذل الجهد في استخراج الحق"، وهو باطل باستخراج الحق بالنص والظاهر، والإجماع2.

ومنها: قول بعضهم هو "التشبيه"، ويلزم عليه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات الكيفيات - كالألوان والطعوم ونحوها - قياساً شرعياًَ، إذ الكلام إنما هو في حد القياس في اصطلاح المتشرعين، وليس كذلك3.

ومنها قول بعضهم، القياس هو "الدليل الموصل إلى الحق"، وهو باطل بالنص4، والإجماع5.

1 انظر: البرهان لإمام الحرمين 2/747 - ط -، الأحكام للآمدي 3/167 - 168.

2 انظر: الرهان 2/748 - ط -، البحر المحيط 3/2 بعد عنوان القياس - خ.

3 انظر الأحكام للآمدي 3/168.

4 أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه حديث "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص"، أي رفع السير إلى غايته. وفي اصطلاح الأصوليين: اللفظ الدال على معنى واحد دلالة قطعية، وهو مقابل للظاهر عندهم. انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي ص36 - 37.

5 لغة الاتفاق والعزم، وفي الاصطلاح الشرعي اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أمر من أمور الدين في عصر من العصور، قال صاحب المراقي:

وهو الاتفاق من مجتهدي.. الأمة من بعد وفاة أحمد.. وأطلقن في العصر.

انظر: نشر البنود 2/80.

ص: 18

ومنها: قول بعضهم هو "العلم الواقع بالمعلوم عن نظر"، وهو أيضاً باطل بالعلم الحاصل بالنظر في دلالة النص، والإجماع1.

وقال أبو هاشم2: "إنه حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه علي"، وهو باطل من وجهين:

الأول: أنه غير جامع، لأنه يخرج منه القياس الذي فرعه معدوم، ممتنع لذاته، فإنه ليس بشيء3 على الراجح.

الثاني: أن حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع، فلا يكون قياساً، وإن كان بجامع، فيكون قياساً، وليس في لفظه ما يدل على الجامع، فكان لفظه عاماً للقياس، ولما ليس بقياس، فيكون غير مانع.

وقال القاضي عبد الجبار4: "إنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/168 - 169.

2 هو: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، الجبائي، المعتزلي، كان رأساً في الكلام، له آراء خاصة في علم الكلام والأصول، له مؤلفات كثيرة منها كتاب الاجتهاد، ولد سنة 277هـ وتوفي سنة 321هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/172.

3 هل المعدوم شيء؟ يرى الأشاعرة أن الشيء لا يشمل المعدوم إن كان ممتنعاً اتفاقاً، وكذا إن كان ممكناً. انظر: نهاية السول 3/ 4 - 5.

والذي نقل عن سيبويه أن الشيء اسم لما يصح أن يعلم، سواء كان معدوماً أو موجوداً، محالاً أو مستقيماً. ونقل عن جار الله الزمخشري نحوه.

وعزاه صاحب النبراس لبعض المعتزلة، وقال: إنه الذي يفهم من شرحي المقاصد والمواقف وحواشيه، ثم قال: إنهم لا يقولون إن المحال شيء بمعنى أنه ثابت في نفسه متقرر، ويقولون إن المعدوم الممكن شيء بمعنى أنه ثابت في نفسه متقرر، وإنهم قد خالفوا في المعدوم الممكن الأشاعرة الذين ذهبوا إلى أنه ليس بثابت في نفسه كالممتنع، قال: ولعل مراد الأسنوي في قوله الشيء لا يشمل المعدوم

الخ، أن الشيء بمعنى الثابت في نفسه لا يشمل المعدوم، وليس مراده أن لفظ الشيء لا يطلق على المعدوم، ولذا أتى بلفظ يشمل دون لفظ يطلق، انظر: نبراس العقول 1/20، وشرح المواقف ص103.

4 هو: أحمد بن خليل الهمداني، إمام المعتزلة في وقته، الأصولي المتكلم، له مؤلفات كثيرة منها العمد في أصول الفقه، والمغني، وغيرهما، اختلف في وفاته فقيل: سنة 415هـ، وقيل: سنة 416هـ.

انظر: القاضي عبد الجبار للكتور عبد الكريم عثمان، طبع دار الكتب العربية للطباعة والنشر - بيروت، الأعلام للزركلي 4/47.

ص: 19

الشبه، وهو باطل بما أبطلنا به حد أبي هاشم في الوجه الأول"1.

التعريفات المختارة هي:

1 -

تعريف ابن الحاجب2.

2 -

تعريف البيضاوي3.

3 -

تعريف ابن السبكي4.

التعريف الأول: قال ابن الحاجب: "مساواة فرع لأصل في علة حكمه"5.

شرح التعريف: المساواة من النسب التي لا تعقل، ولا تتحقق إلا بين متعدد، فالمساواة المماثلة، وهي كالجنس يشمل كل مساواة، كمساواة فرع لأصل، أو فرع لفرع، أو فعل لفعل، أو ذات لذات.

فقوله فرع، قيد خرج به مساواة ذات لذات كمساواة زيد لعمرو، وأصل قيد خرج به مساواة فرع لفرع، كمساواة الأرز للذرة في الربا، وكلاهما فرع عن

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/169، والمعتمد لأبي الحسين 2/697.

2 هو: أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر، المشهور بابن الحاجب، المالكي الفقيه الأصولي، النحوي، أثنى عليه العلماء ثناء كثيراً، له مؤلفات كثيرة في فنون مختلفة، منها في أصول الفقه منتهى السول والأمل، ومختصر المنتهى، ولد سنة 570هـ ومات سنة 646هـ. انظر: الفتح المبين 2/65، الأعلام للزركلي 4/374.

3 هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، الملقب بناصر الدين، المكنى بأبي الخير، المعروف بالقاضي، المفسر المحدث الفقيه الأصولي المتكلم، الإمام، له مؤلفات عديدة منها: منهاج الوصول في علم الأصول في أصول الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح المنتخب في أصول الفقه، توفي سنة 685هـ. انظر: فتح المبين 2/88.

4 هو: قاضي القضاة، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الفقيه، الشافعي، الأصولي المؤرخ، له مصنفات عديدة منها: جمع الجوامع، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح منهاج الوصول للبيضاوي. ولد سنة 727هـ وتوفي سنة 771هـ. انظر: الفتح المبين 2/184.

5 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/204.

ص: 20

أصل هو البر. وقوله في علة حكمه قيد خرج به ما كان الاشتراك فيه لدلالة نص أو إجماع1.

والمراد بالفرع محل لم ينص أو يجمع على حكمه، وبالأصل محل نص أو أجمع على حكمه، وبالعلة الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على حكمة صالحة؛ لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، وسيأتي لهذا زيادة بيان في محله إن شاء الله تعالى.

وهذا التعريف قد تضمن أركان القياس، وهي: الأصل والفرع، والعلة، والحكم، الآتي بيانها إن شاء الله تعالى.

الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والجواب عنها:

الاعتراض الأول: أن المساواة هنا وردت مطلقة، لم تقيد بما في نفس الأمر، أو بنظر المجتهد، والأول فردها الكامل، فإذا أطلقت انصرفت إليه، فالقياس على هذا ما كانت فيه مساواة في نفس الأمر، فما لا مساواة فيه في نفس الأمر فليس بقياس، مع أنه قياس.

فالتعريف غير جامع، لعدم شموله للقياس الفاسد، فكان عليه أن يزيد "في نظر المجتهد" ليعم الصحيح والفاسد.

وقد أجاب عنه الكمال بن الهمام وشارحه بما ملخصه أن محل القيد بنظر المجتهد إنما يلزم المصوبة القائلين بأن كل مجتهد مصيب، لأن المساواة عندهم لما لم تكن إلا المساواة في نظره، كان الإطلاق لها كقيد مخرج للأفراد، إذ يفيد الإطلاق التقييد بما في نفس الأمر، وافق نظره أولاً، حتى كأنه قيل: مساواة في نفس الأمر، ولا مساواة عندهم في نفس الأمر أصلاً، بل في نظر المجتهد، فكان قيداً مخرجاً لجميع أفراد المحدود، فلا يصدق الحد على شيء منها، فكان باطلاً2.

والأصوليون هنا بين مخطئة ومصوبة:

1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق - على القياس.

2 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/118.

ص: 21

أما المخطئة فيرون أن المصيب واحد لا بعينه، فالقياس الصحيح عندهم ما كان بحسب الواقع ونفس الأمر، فما لم يكن كذلك فليس بصحيح، وما ظهر غلطه ووجب الرجوع عنه، لا يرون أنه محكوم بصحته إلى زمن ظهور غلطه، بل مما كان فاسداً، وتبين فساده.

وأما المصوبة الذين يرون أن كل مجتهد مصيب، فالقياس الصحيح عندهم هو "ما حصلت في المساواة في نظر المجتهد، سواء ثبتت في نفس الأمر، أم لا، حتى لو ظهر غلطه ووجب الرجوع عنه، فإنه لا يقدح في صحته عندهم، بل ذلك انقطاع لحكمه لدليل صحيح آخر حدث، وكان قبل حدوثه، القياس الأول صحيحاً، وإن زالت صحته"1. فإذا رجع عنه المجتهد سمي حينئذ قياساً فاسداً.

والحاصل أن القياس المرجوع عنه يعمل به قبل الرجوع عنه باتفاق الجميع، وبعد الرجوع عنه لا يعمل به اتفاقاً، وإنما الخلاف بين المخطئة، والمصوبة في أن القياس المرجوع عنه إذا ظهر فساده هل كان قبل ذلك يسمى صحيحاً، وإليه ذهب المصوبة أو كان يسمى فاسداً، وإليه ذهب المخطئة، فالخلاف في التسمية2.

الاعتراض الثاني: قيل: هذا التعريف غير جامع؛ لأنه لا يشمل الأقيسة الآتية:

1 -

قياس الدلالة: وهو ما جمع فيه بلازم العلة، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة المشتدة، وهي لازمة للعلة التي هي الإسكار، أو بحكمها، كقطع الجماعة بالواحد قياساً على قتلهم به بجامع وجوب الدية عليهم، وهو حكم العلة التي هي حصول القطع منهم خطأ في الصورة الأولى، وكذا القتل في الثانية.

1 انظر: العضد على مختصر ابن الحاجب 2/205، مكتبة الكليات الأزهرية.

2 انظر تفاصيله في مختصر ابن الحاجب وشرحه وحاشية السعد 2/205، وحاشية العطار على المحلى 2/240، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

ص: 22

2 -

القياس في معنى الأصل: وهو الجمع بين الفرع والأصل بإلغاء الفارق، كقولك الأمة كالعبد في سراية العتق بجامع أن لا فارق.

3 -

قياس الشبه: وهو ما جمع فيه بين الفرع والأصل بوصف شبهي1، كالصلاة مثلاً في قولك: الجلسة الأولى في الصلاة، كالجلسة الثانية صورة، فتجب وجوبها.

4 -

قياس العكس: وهو ما جمع فيه بين الفرع والأصل بنقيض العلة ونقيض الحكم، كقول الحنفي لو لم يكن الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف عند الإطلاق لما كان شرطاً له بالنذر، لكنه وجب بالنذر، فيجب عند الإطلاق، قياساً على الصلاة، فإنها لم تجب عند الإطلاق لم تجب بالنذر.

فالمطلوب في الفرع إثبات كون الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف، والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطاً له، فحكم الفرع نقيض حكم الأصل، كما افترقا في العلة، إذ هي في الأصل أن الصلاة ليست شرطاً للاعتكاف بالنذر، وهي لا توجد في الصوم، لأنه واجب بالنذر2.

1 قال القاضي: هو الوصف الذي لا يناسب لذاته، ويستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب من جنس الحكم القريب، مثاله قولنا: الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا تزال به النجاسة كالدهن، فإن قولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس مناسباً في ذاته، لكنه مستلزم للمناسب؛ لأن عدم بناء القنطرة عليه يؤذن بأنه قليل، والقلة وصف مناسب، لعدم مشروعية التطهير به، لأن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، أما التكليف الكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد، فصار قولنا: لا تبنى القنطرة على جنسه غير مناسب، ولكنه مستلزم للمناسب.

وقد شهد الشرع بجنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة، فإنه يسقط الأمر به ويتوجه إلى التيمم، وقد يكون الشبه في الحكم كما في العبد المقتول، فإنه متردد بين النفسية والمالية، فيلحق بأيهما أقوى شبهاً.

انظر: شرح تنقيح الفصول ص394.

2 انظر: المحصول 2/21، من القسم الثاني من المطبوع، والمختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/205، ونهاية السول 3/7، وحاشية العطار 2/240.

ص: 23

أجابوا عن الاعتراضات - بخروج الأقيسة المذكورة - إجمالاً بأن التعريف المذكور إنما هو لقياس العلة، لأن اسم القياس يطلق عليه بدون قيد، فهو حقيقة فيه، وأما المذكورات، فإطلاق اسم القياس عليها مجاز، لأنه لا يطلق عليها إلا مقيداً، فيقال: قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل

الخ، ولزوم القيد إمارة المجاز1.

وأما تفصيلاً، فإنه يجاب: "عن قياس الدلالة بأنا لا نسلم أن الجمع فيه بين الأصل والفرع بغير العلة، بل بها وإن لم يصرح بها اكتفاء بما يتضمنها، وكذا يقال في القياس الذي في معنى الأصل.

وعن قياس الشبه وحده بأنا لا نسلم أن الجمع فيه بغير العلة، فإن المراد بالعلة مطلق المعرف، فيشمل الوصف الشبهي، بل والطردي2

1 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/205، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 الطرد في اللغة مصدر بمعنى الإبعاد، يقال: طردته طرداً من باب قتل، وأطرده السلطان عن البلد أخرجه منه، وطردت الخلاف في المسألة طرداً أجريته كأنه مأخوذ من المطاردة، وهو الإجراء للسباق، ويقال: أطردت الأمر اطراداً اتبعت بعضه بعضاً، واطرد الماء كذلك.

انظر المصباح 2/17.

ولعل هذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحي الآتي، ولذا قال الأسنوي في نهاية السول 3/73:"الطرد مصدر بمعنى الإطراد".

وأما في الاصطلاح فهو: مقارنة الوصف الذي لا يناسب ولا يستلزم المناسسب للحكم في جميع الصور، ما عدا صورة المتنازع فيها، وهي صورة الفرع الذي يراد ثبوت الحكم له، لوجود ذلك الوصف فيه بناء على أن ذلك الوصف الطردي علة لذلك الحكم، مثاله قولك: الخل لا تبنى على جنسه القنطرة، فلا تزال به النجاسة كالدهن.

قال الشربيني: "ولا يمكن فيه العكس بأن يكون إذا بنيت القنطرة عليه نفسه يطهر، لأنه خلاف المعهود له عن الشارع، قال: فهذا هو الفرق بينه وبين الدوران، فإن الدوران تحقيقه هو أن يوجد الحكم إذا وجدت العلة في محل، وينتفى بانتفائها في ذلك المحل بعينه، كالحرمة عند الإسكار في الخمر وعدمها عند عدمه فيه بعينه، وهذا هو المعهود له من الشارع".

انظر: تقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/336 - 337.

قال الإمام في المحصول 2/305 من القسم الثاني المطبوع: "ومنهم من بالغ وقال مهما رأينا الحكم حاصلاً مع الوصف في صورة واحدة حصل ظن العلية"ا. هـ

فعلى هذا يكون للطرد تعريفان: الأول: مقارنة الوصف للحكم في جميع الصور. والثاني: مقارنته له في صورة واحدة، والثاني أعم من الأول، وأما حكمه فقد اختلف العلماء في حجيته:

أما القائلون بعدم حجية الدوران، فيقولون: إن الطرد ليس بحجة بطريق أولى، وإلى هذا ذهب الآمدي وابن الحاجب.

والقائلون بحجية الدوران اختلفوا في حجية الطرد على أربعة مذاهب:

الأول: إنه غير حجة مطلقاً أي على التفسيرين، وهذا هو المختار.

قال الزركشي في البحر: والمعتبرون من النظار على أن التمسك به باطل، لأنه من باب الهذيان.

وقال إمام الحرمين: وتناهى القاضي في تغليظ من يعتقد ربط حكم الله عز وجل به.

ونقله الكيا عن الأكثرين من الأصوليين.

ونقله القاضي أبو الطيب عن المحصلين من أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال القاضي حسين فيما نقله عنه البغوي في تعليقه عنه: لا يجوز أن يدان الله به.

قال ابن السمعاني: وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة ودليلاً على صحة العلية حشوية أهل القياس، وقال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء.

الثاني: هو حجة مطلقة أي على التفسيرين، وهذا ضعيف ولم أعثر على القائل بذلك.

الثالث: هو حجة بالتفسير الأول دون الثاني، ونقله في البحر عن طوائف من الحنفية، وهو غريب، ومال إليه الرازي، وجزم به البيضاوي.

قال ابن السمعاني: "وحكاه الشيخ في التبصرة عن الصيرفي".

وقال الزركشي: "وهذا فيه نظر، فإن ذلك في الإطراد الذي هو الدوران".

وقال القاضي أبو الطيب: "ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل على صحة العلية، واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة في العراق فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم، ويقولون إنها قد صحت، كقولهم في مسّ الذكر آلة الحرث فلا ينقض الوضوء كما إذا مسّ الفدان، وفي الفرج إنه طويل مشقوق فأشبه البوق، وفي السعي بين الصفا والمروة إنه سعي بين جبلين فلا يكون ركناً في الحج، كالسعي بين أي جبلين، ولا يشك عاقل في أن هذا سخف" اهـ

الرابع: ما ذهب إليه الكرخي، وهو إنه مقبول جدلاً، ولا يسوغ التعويل عليه عملاً، ولا الفتوى به، وهذا القول ضعيف، بل متناقض كما قال إمام الحرمين. والله أعلم.

انظر: البحر المحيط 3/169 فما بعدها، نهاية السول مع منهاج العقول 3/73، ونبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/377، وتعليق الدكتور طه جابر فياض على المحصول 2/313 فما بعدها من القسم الثاني من المطبوع.

ص: 24

عند من يجوزه"1.

وأما قياس العكس فيجاب عنه بأنا لا نسلم بأنه غير جامع له، فإن الذي سميتموه قياس العكس، إنما هو تلازم والقياس لبيان الملازمة، لأن المستدل

1 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/34.

ص: 25

يقول: لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف عند الإطلاق، لم يكن واجباً بالنذر، فيكون شرطاً لصحة الاعتكاف عند الإطلاق، كالصلاة، فإنها لما لم تكن شرطاً في الاعتكاف لم تجب بالنذر.

فعلى فرض عدم وجوب الصوم عند الإطلاق لم يجب بالنذر، فالمساواة حاصلة بين الصلاة والصوم في عدم الوجوب بالنذر، وإن لم تكن حاصلة في نفس الأمر.

فالأصل في هذا القياس هو الصلاة، والفرع فيه الصوم، والعلة الجامعة بينهما هي عدم اشتراط كل منهما في صحة الاعتكاف عند الإطلاق، والحكم الثابت في الأصل والفرع هو عدم الوجوب بالنذر، فهذا هو عين الملازمة، والممثالة حاصلة على سبيل الفرص والتقدير1.

وقد أجيب عنه بأجوبة أخرى تركتها، لأنني رأيت في الجواب الأول عن كل الأقيسة الخارجة على التعريف، وفي هذا عن قياس العكس خاصة ما فيه الكفاية، والله تعالى أعلم.

الاعتراض الثالث: هذا التعريف يلزم عليه الدور، وذلك أن "الأصل" هو المقيس عليه و "الفرع" هو المقيس، وقد وقعا جزئين في التعريف.

فبهذا الاعتبار يتوقف القياس عليهما، إذا لا يتصور المحدود إلا بعد تصور الحد، ولا يمكن تصور الحد إلا بعد تصور كل جزء من أجزائه، وباعتبارهما مشتقين من القياس يتوقفان عليه، لأن المشتق فيه المشتق منه وزيادة، فيكون القياس جزءاً منه، ومعرفة الكل متوقفة على معرفة أجزائه، فهما متوقفان على القياس، فتوقف كل منهما على الآخر، وهذا دور، وهو باطل.

1 انظر: نهاية السول 3/7، والمحصول ص276 - خ -، والعضد على المختصر2/206، وأصول الفقه لأبي النور زهير 4/15.

ص: 26

وأجيب عنه بأن المراد من "الأصل" في التعريف المحل الذي نص أو أجمع على حكمه، و"الفرع" المحل الذي لم ينص أو يجمع على حكمه.

وهما بهذا الاعتبار غير متوقفين على القياس، وإنما يتوقف عليهما القياس، فقط فلا دور1.

وأورد الدكتور عثمان مريزيق2 رحمه الله اعتراضاً على هذا، وأجاب عنه بما نصه:"أن ملاحظة كل من الأصل، والفرع بغير وصف المقيسس والمقيس عليه بعيد عن اصطلاح الأصوليين"، قال: ولنا جوابان:

الأول: أن المذكور في التعريف هو كلمتا "الأصل، والفرع"، وهما غير مشتقين من القياس، وإن كان مفسرهما:"المقيس، والمقيس عليه" فهما مشتقان منه، وفد قال العلماء: إن الاشتقاق من أحكام اللفظ لا من أحكام المعنى.

الثاني: حتى لو فرضنا وقوع كلمتي "المقيس والمقيس عليه" في التعريف لم يرد اعتراض، ذلك أن القياس الذي هو بمعنى الحدث، والاشتقاق المعرف ليس مصدراً، بل هو علم على حقيقة مصطلح عليها، فما كان مشتقاً منه غير معرف والمعرف غير مشتق منه، فلا توقف من الجانبين3.

التعريف الثاني للبيضاوي: قال رحمه الله: "إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر، لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت"4.

1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/204، التقرير والتحبير 3/118، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 هو الدكتور عثمان مريزيق، العالم العلامة الفيلسوفي، الفقيه، الأصولي، المالكي، أحد مشاهير مشايخ الأزهر المعاصرين، تولى التدريس بالأزهر، وانتدب للتدريس بجامعة اليبضاء أيام الملك الإدريسي، كما درس بجامعة الإمام محمد بالرياض، ثم بقسم الدراسات الإسلامية بكلية الشريعة بمكة فرع جامعة الملك عبد العزيز آنذاك، وكان رئيساً لشعبة الأصول بها، توفي رحمه الله سنة 1400هـ بالقاهرة.

3 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

4 المنهاج مع نهاية السول 3/3.

ص: 27

وهذا التعريف ذكره الإمام في المحصول، وأصله لأبي الحسين البصري1، وإن كان الإمام غير بعض قيوده بما هو أحسن منه.

قال الإمام2: "التعريف الثاني ما ذكره أبو الحسين البصري، وهو أنه "تحصيل حكم الأصل في الفرع، لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد"، وهو قريب، وأظهر منه أن يقال: إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر، لأجل اشتراكهما في علة الحكم عند المثبت"3.

فتعريف الإمام لم يختلف عن تعريف البيضاوي إلا بإبداله كلمة اشتباههما بكلمة اشتراكهما، والتعبير بالاشتراك أدق من التعبير بالاشتباه، إذ يفيد الاشتباه التعدد في العلة، ضرورة تعدد المشبه والمشبه به، بخلاف الاشتراك، فإنه يفيد اتحاد العلة، وإن كان لا بد في ذلك من قطع النظر في تعدد المحل، لكن يرد عليه أن الشبه يقتضي الاتحاد في المماثلة فيتساويان في اتحاد العلة، كما في الاشتراك.

شرح التعريف:

قال الأسنوي: "قوله إثبات كالجنس، دخل فيه المحدود وغيره، والقيود التي بعده كالفصل"4، وهي خمسة، منها ما هو للاحتراز، وهي ثلاثة: الحكم المقدر، ومثل، ولاشتراكهما في علة الحكم. ومنها ما هو لبيان المحل، وهو قوله في معلوم آخر، ومنها ما هو للإدخال، وهو قوله: عند المثبت.

1 هو: محمد بن علي الطيب البصري المعتزلي، أحد أئمة المعتزلة، كان يشار إليه بالبنان في أصول الفقه والكلام، ولد بالبصرة ونشأ بها، مصنفاته كثيرة منها: المعتمد في أصول الفقه المطبوع، توفي سنة 436هـ. انظر: الفتح المبين 1/137.

2 هو: محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري، الملقب بفخر الدين، المكنى بأبي عبد الله، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي الأصولي، المتكلم، النظار المفسر، الفيلسوفي صاحب المكانة بين الأمراء والعلماء، ولد بالديار المصرية سنة 544هـ، له مؤلفات منها: أساس التقديس في علم الكلام، والمسائل الخمسون في أصول الكلام، والمحصول في أصول الفقه، توفي سنة 606هـ.

انظر: الفتح المبين 2/47 - 49، الأعلام للزركلي 7/203.

3 انظر: المحصول ص275 - خ -.

4 انظر: نهاية السول 3/ 4.

ص: 28

وقد يطلق الإثبات عرفاً على الإخبار بالثبوت، "والمراد بالإثبات هنا هو القدر المشترك بين العلم، والاعتقاد، والظن، "لأنا إذا أثبتنا، فقد نعلم ثبوت الحكم في الفرع، وقد نعتقده اعتقاداً جازماً لا يحتمل عدم المطابقة، وقد نظنه"1، سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم، أو عدمه، والقدر المشترك بينهما هو حكم الذهن بأمر على أمر2، لأن القياس يجري في الحكم المثبت، والمنفي، كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة، والكلب على الخنزير في عدم جواز بيعه بجامع النجاسة في كل3.

وتفسير الإثبات بالقدر المشترك بين المذكورات يفيد أنه أعم من أن يكون إثباتاً قطعياً، أو ظنياً، فيشمل كلا قسمي القياس المقطوع والمظنون4.

قوله: مثل قيد أول، احترز به عن الإثبات خلاف الحكم، فإنه لا يكون قياساً5، وهو صفة لموصوف تقديره إثبات حكم مثل، وإنما كان أصلاً لأن حكم الأصل محله الأصل، وحكم الفرع محله الفرع، ولأنّ حكم الأصل ثبت بالنص أو الإجماع، وحكم الفرع ثبت بالقياس، ولأن حكم الأصل متفق عليه، وحكم الفرع مختلف فيه.

وأما تصور المثل، فقد اختلف فيه العلماء: فذهب بعضهم إلى أنه نظري يحتاج إلى نظر وفكر، ولهذا عرفه بأنه ما اتحد مع غيره في النوع أو الجنس، وخالفه في العوارض.

مثال الأول: وجوب القصاص بالمثقل قياساً على وجوبه بالمحدد، لأنهما فردان لنوع واحد، هو الوجوب الذي هو نوع من الحكم التكليفي.

1 انظر: شرح تنقيخ الفصول للقرافي ص383.

2 انظر: نهاية السول 3/ 4.

3 انظر: الأحكام للآمدي 3/171، وحاشية العطار 2/240، ونهاية السول 3/ 4.

4 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/240.

5 انظر: نهاية السول وبذيله منهاج العقول للبدخشي 3/ 4.

ص: 29

ومثال الثاني: إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها، قياساً على إثبات الولاية في مالها، فإن كلاً منهما نوع مندرج تحت جنس الولاية، وعلى هذا فالمثل لا يسوغ وقوعه في التعريف، لأن التعريف معناه التوصل بالمعلوم إلى المجهول1.

وذهب بعض العلماء إلى أن تصور المثل بديهي، لا يحتاج إلى نظر واستدلال، ولذا جاز وقوعه في التعريف؛ لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الحارّ مثل للحار في كونه حارّاً، ومخالف للبارد في ذلك، فلو لم يكن تصور المثل بديهياً، لزم أن لا يعلمه بعض العقلاء بالضرورة، لكن التالي باطل، لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الحار مثل للحار في كونه حاراً2، فالمقدم وهو عدم كونه بديهياً مثله.

ويرى الأسنوي أن البيضاوي إنما عبر بالمثل لأن الحكم الثابت في الفرع ليس هو عين الثابت في الأصل، لاستحالة قيام الواحد بالشخص بمحلين، بل الثابت مثله3.

ورده الكمال ابن الهمام بأن حكم كل من الأصل والفرع واحد بالشخص له إضافتان: إضافة إلى الأصل، باعتبار تعلقه به، وباعتباره به يسمى حكم الأصل. وإضافة إلى الفرع، باعتبار تعلقه به، وباعتباره يسمى حكم الفرع، فلا تعدد في ذاته بتعدد المحل أصلاً، بل هو واحد له تعلق بكثيرين فالتحريم المضاف إلى الخمر، هو بعينه المضاف إلى النبيذ، كما أن القدرة شيء واحد متعلق بالمقدورات، فلم يقتض تعدد تعلقاتها تعددها.

وما ذكر من أن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين، إنما هو في العرض

1 انظر: منهاج العقول للبدخشي بذيل نهاية السول 3/3 - 4، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس، وأصول أبي النور زهير 4/7.

2 انظر: نهاية السول 3/ 4، وأصول أبي النور زهير 4/7، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

3 انظر: نهاية السول 3/ 4.

ص: 30

الشخصي كالبياض المخصوص القائم بثبوت معين، يمتنع أن يقوم بعينه بثوب آخر، وما هنا فمجرد إضافات متعددة لواحد شخصي1.

قوله حكم، أشار به إلى الركن الأول، وهو حكم الأصل، قال الأسنوي:"والمراد به هنا نسبة أمر إلى آخر، ليكون شاملاً للشرعي، والعقلي، واللغوي إيجاباً كان أو سلباً"2.

ولم يرَ اختصاصه بالحكم الشرعي الذي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء أو التخيير، ولعله إنما ذهب إلى ذلك لأن البيضاوي يرى القياس في الشرعيات، والعقليات، واللغويات، فأراد أن يكون التعرف شاملاً للجميع.

لكن يرد عليه ما ذكره في تعريف الأركان من "أن المصنف لما بين الحكم في أول الكتاب، لم يتعرض هنا إلى بيانه"3.

والذي تقدم للمصنف في بيان الحكم هو قوله "الحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير"4، فاحترز هنا عن العقلي واللغوي.

وقوله معلوم، أشار به إلى الركن الثاني، وهو الأصل، والمراد بالمعلوم المتصور، وعبر به ليشمل جميع ما يجري فيه القياس من موجود ومعدوم.

وليس المراد به العلم المصطلح عليه، الذي هو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل بحيث لا يحتمل النقيض، لأن القياس، وإن كان قد يفيد القطع، فإنه أكثر ما يفيد الظن5.

وقوله في معلوم آخر أشار به إلى الركن الثالث وهو الفرع الذي ثبت حكمه بالقياس.

1 التقرير والتحبير 3/121، مع تصرف واختصار.

2 انظر: نهاية السول 3/ 4.

3 انظر: نهاية السول 3/38.

4 انظر: نهاية السول 3/30.

5 انظر: نهاية السول 3/ 4، حاشية العطار 2/240، البدخشي 3/ 4.

ص: 31

وقوله لاشتراكهما في علة الحكم، أشار به إلى الركن الرابع، وهو العلة الآتي تعريفها، وقيد بالاشتراك، لأن القياس لا يمكن في كل شيء، بل إذا كان بينهما مشترك يوجب الاشتراك في الحكم.

وهو قيد احترز به عن إثبات مثل حكم معلوم في معلوم، لا للاشتراك في العلة بل لدلالة نص، أو إجماع، فإنه لا يكون قياساً1.

وقوله عند المثبت، ذكره ليتناول الصحيح والفاسد في نفس الأمر، والمراد بالمثبت القائس، فهو يعم المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد، الذي يقيس على مذهب إمامه2.

الاعتراضات الواردة على هذا التعريف، والإجابة عنها:

الأول: ما ذكره الآمدي، وقال:"إنه إشكال مشكل لا محيص عنه، وهو أن الحكم المثبت في الفرع متفرع على القياس إجماعاً، فجعله ركناً في الحد، يقتضي توقف القياس عليه، وهو دور ممتنع"3.

وقد يجاب عنه: بأن الدور إنما يلزم لو كان التعريف حداً حتى يكون الإثبات جزءاً من القياس، فيتوقف القياس عليه، ونحن لا نسلم أن التعريف حد، بل ندعي إنه رسم، كما أشار إليه إمام الحرمين في البرهان، فعلى هذا يكون الإثبات خاصة من خواص القياس، وليس حقيقة فيه، فحمل الإثبات عليه حمل "ذو"، أي أن القياس ذو إثبات أي في إثبات، فالتعريف بالخاصة لا يوجب الدور لانفكاك الجهة، لأن خاصة الشيء تتوقف عليه من جهة وجودها ضرورة، لأنها عرض، والعرض لا بد له من محل يقوم به.

1 انظر: نهاية السول 3/5، البدخشي 3/5.

2 انظر: المحصول ص275 - خ -، نهاية السول 3/5، البدخشي 3/5، وحاشية العطار 2/241.

3 الأحكام للآمدي 3/174، ونهاية السول 3/5.

ص: 32

أما الشيء فقد يتوقف في تصوره على الخاصة من حيث تصوره، لا من حيث وجوده، فانفكت الجهة، فلا دور1.

الاعتراض الثاني: أن القياس دليل شرعي في ذاته، نصبه الشارع دليلاً على الحكم الشرعي، نظر فيه المجتهد، أو لم ينظر، فتعريفه بالإثبات الذي ينبئ أنه فعل المجتهد غير صحيح.

ولهذا الاعتراض اختار ابن الحاجب في مختصره تعريف القياس بأن "مساواة فرع لأصل في علة حكمه"، ونسبة الزركشي2 في البحر إلى المحققين3.

كما اختاره صاحب مسلم الثبوت4، واعتبر إطلاقه على ما يدل على أنه فعل المجتهد مسامحة، قال شارحه5: "لأن القياس حجة إلهية، موضوعة من قبل الشارع لمعرفة أحكامه، وليس هو فعلاً لأحد، لكن ما كان معرفته بفعل المجتهد ربما يطلق عليه مجازاً6.

1 انظر: نهاية السول 3/5، وأصول أبي النور زهير 4/13، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 هو: محمد بن بهادر بن عبد الله التركي، المصري، الزركشي، الملقب ببدر الدين، المكنى بأبي عبد الله، الفقيه الشافعي، الأصولي، المحدث، ولد سنة 745هـ، من شيوخه الأسنوي، والبلقيني، تبحر في العلوم حتى صار يشار إليه بالبنان، له مؤلفات كثيرة، منها في أصول الفقه: البحر المحيط - خ -، وتنشيف المسامع بجمع الجوامع في الأصل أيضاً، والديباج في توضيح المنهاج، وغيرها، توفي ثالث رجب سنة 794هـ.

انظر: الفتح المبين 2/209.

3 انظر: البحر المحيط 3/2 بعد عنوان القياس.

4 هو: محب الله بن عبد الشكور البهاري، الفقيه الحنفي، الأصولي، البحاثة المحقق، اشتغل بالقضاء والتدريس، وتولى الصدارة في ممالك الهند، له مؤلفات منها: مسلم الثبوت في أصول الفقه، توفي سنة 1119هـ.

انظر: الفتح المبين 3/122.

5 هو: عبد العلي محمد بن نظام الدين اللكنوي الأنصاري، المكنى بأبي العباس الملقب ببحر العلوم، الفقيه، الحنفي، الأصولي، من أشهر مؤلفاته فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، توفي سنة 1180هـ.

انظر: الفتح المبين 3/132.

6 انظر: فواتح الرحموت بذيل المستصفى 2/247.

ص: 33

وكذلك اختار الكمال بن الهمام مثل تعريف ابن الحاجب، وذكر أن أكثر عباراتهم تفيد كون القياس فعل المجتهد1.

وأجاب العطار2 عن هذا الاعتراض "بأن كونه فعل المجتهد، لا ينافي أن ينصبه الشارع دليلاً، إذ لا مانع من أن ينصب الشارع فعل المجتهد"3، دليلاً له ولمن قلده.

وتبعه على ذلك شارح التحرير، واستدل عليه بأن الإجماع دليل نصبه الشارع، مع أنه فعل المجتهد4.

هل للخلاف ثمرة؟

ذكر الدكتور عثمان مريزيق رحمه الله بأن الخلاف بين الشقين لفظي؛ لأن من جعله فعل المجتهد، لا ينكر أن المجتهد لا يعطي شيئاً حكم شيء إلا إذا كان بينهما مساواة، غير أن المجتهد له فكره واستنباطه، فمن نظر إلى ذلك عبر عنه بما يفيد أنه فعل المجتهد.

ومن نظر إلى الواقع في نفس الأمر عبر عنه بالمساواة، فتلاقت العبارات ولم ينقض بعضها بعضاً، والله تعالى أعلم5.

الاعتراض الثالث: أن التعريف غير جامع، لخروج قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل، وقياس الشبه، وقياس العكس، وهذا الاعتراض سبق الجواب عنه فيما أورد على تعريف ابن الحاجب بما أغنى عن إعادته.

1 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/119.

2 هو: الشيخ حسن بن محمد العطار الشافعي، المصري النشأة، المغربي أصالة، لقب بالعطارلكونه كان يبيع العطر، له في أصول الفقه حاشية على الجلال المحلى على جمع الجوامع تدل على غزارة علمه، ولد سنة 1190هـ، وتوفي سنة 1250هـ.

انظر: الفتح المبين 3/146، الأعلام للزركلي 2/236.

3 حاشية العطار على المحلى 2/240.

4 التقرير والتحبير 3/119.

5 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

ص: 34

التعريف الثالث: لابن السبكي: قال رحمه الله: "حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه"، وفسر المحلى1 حمل المعلوم على المعلوم بإلحاقه في حكمه2.

وبين العطار في حاشيته المراد بالحمل بما نصه: "والمراد بحمل المعلوم على المعلوم إثبات حكمه له، والمراد بالإثبات القدر المشترك بين العلم والظن، أي أعم من أن يكون إثباتاً قطعياً، أو ظنياً، فيشمل كلا قسمي القياس المقطوع والمظنون"3.

فعلى ما قال العطار، يكون هذا التعريف مساوياً لتعريف البيضاوي، السابق من غير فرق، إلا في اللفظ، فجميع ما قيل في تعريف البيضاوي يقال في هذا التعريف، والله تعالى أعلم.

الموازنة بين التعريفات المختارة المتقدمة:

يتضح من التعريفات المتقدمة أن الأصوليين سلكوا في تعريف القياس طريقتين:

الأولى: سلك أهلها في التعريف ما ينبئ بأنه فعل مجتهد، فعبروا عنه بالإثبات، والإلحاق وما في معناهما استناداً إلى المساواة في علة الحكم؛ لأن المجتهد له نظره وفكره واستنباطه، وإن كان لا يعطي شيئاً حكم شيء إلا إذا كان بينهما مساواة في نفس الأمر في نظره.

الثانية: اعتبر أهلها القياس دليلاً نصبه الشارع دليلاً على الحكم الشرعي،

1 هو: جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلى، الشافعي، الفقيه، الأصولي، المفسر، قال عنه بعض أهل عصره: إن ذهنه يثقب الناس، له مؤلفات في الفقه، والتفسير والأصول، منها في أصول الفقه شرحه لجمع الجوامع، وشرح الورقات لإمام الحرمين، ولد سنة 791هـ، وتوفي سنة 864هـ.

انظر: الفتح المبين 3/40.

2 انظر: جمع الجوامع، والمحلى مع حاشية العطار 2/240.

3 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/240.

ص: 35

نظر فيه المجتهد أو لم ينظر، فعبروا عنه بالمساواة، لأن عمل المجتهد أثر مترتب عليها بتحقيق مساواة الفرع للأصل في حكم العلة الجامعة بينهما.

وبهذا يظهر للمتأمل أنهما يتفقان في أن المعوَّل عليه في القياس هو المساواة في العلة، وأن المعتبر في تحقق هذه المساواة هو نظر المجتهد، واستنباطه الذي يتحقق به وجود القياس الذهني والخارجي بتحقق أركان القياس الأربعة، وكلتا الطريقتين موصلة إلى الغرض المقصود من تعريف القياس، وإن كان لكل منهما حظاًَ من النظر.

فالخلاف بينهما خلاف لفظي اعتباري لا يترتب عليه أثر كما تقدم، فلا حرج على من أخذ بكل من الطريقتين.

ونظراً لاتفاق التعريفات السابقة في المقصود من تعريف القياس، لم يترجح لي أحد التعريفات السابقة على غيره، والله تعالى أعلم.

أركان القياس:

الأركان: جمع ركن، وركن الشيء جانبه الأقوى، فأركان الشيء أجزاء ماهيته1، التي لا يحصل إلا بحصولها، داخلة في حقيقته محققة لهويته.

"وهو في الاصطلاح جزء الشيء الذي لا يتحقق إلا به".

وأركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع، وأما حكم الفرع فثمرة القياس، فيتأخر عنه، فلا يكون ركناً له"2.

مبحث الأصل، والفرع:

اختلف الأصوليون فيما يسمى من أركان القياس أصلاً، وما يسمى فرعاً، ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب:

1 انظر: المصباح المنير 2/255، تصحيح مصطفى السقا، مطبعة الحلبي بمصر.

2 انظر: العضد على المختصر 2/208، وانظر أصول الفقه لأبي النور زهير 4/58.

ص: 36

الأول: مذهب الفقهاء، قالوا: إن المشبه به يسمى أصلاً، والمشبه يسمى فرعاً، فإذا قلنا: النبيذ مسكر فيحرم قياساً على الخمر، بدليل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} 1.

فالأصل هو الخمر، لأنه المشبه به، والفرع هو النبيذ، لأنه المشبه، والحكم هو التحريم، والعلة هي الإسكار.

الثاني: مذهب المتكلمين، وهو أن الأصل دليل حكم المشبه به كالذي أثبت التحريم في الخمر، في المثال الآنف المذكور، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ

} الآية.

والفرع هو الحكم في المشبه، قال الأسنوي: قياسه أن يكون فرعه المقابل له هو حكم المحل المشبه به، كتحريم الخمر2.

الثالث: مذهب الإمام الفخر الرازي، وهو "أن الحكم أصل في محل الوفاق، فرع في محل الخلاف، والعلة أصل في محل الخلاف، فرع في محل الوفاق، فللقياس عنده كما ترى أصلان، وفرعان3.

سبب الخلاف:

ذكر الآمدي أن الأصل يطلق في أمرين:

الأول: ما بني عليه غيره، كقولنا أن معرفة الله أصل في معرفة رسالة الرسول، من حيث أن معرفة الرسول تبنى على معرفة الرسل.

1 سورة المائدة آية 90 - 91.

2 انظر: نهاية السول 3/38، وانظر تفاصيل ذلك في العضد 2/208.

3 انظر: المحصول: 2/25 من القسم الثاني المطبوع.

ص: 37

الثاني: ما عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره، وإن لم يبن عليه غيره، وذلك كما تقول في تحريم الربا في النقدين، فإنه أصل وإن لم يبن عليه غيره، وعلى هذا اختلف العلماء في الأصل في القياس1.

وجهة نظر أهل المذاهب:

أما الفقهاء فقالوا: إن الأصل هو المحل، لتعلق النص والحكم به ضرورة، وذلك أن الحكم صفة فلا بد لها من موصوف تقوم به.

والنص يثبت حكماً كذلك في محل، بينما المحل في غير حاجة إليهما، لجواز خلوه عن الحكم، وعن الدليل كما كان قبل البعثة، فكان الخمر خمراً.

وهذا الرأي نقله ابن الحاجب عن الأكثرين، وقال الآمدي: أنه الأشبه، لما ذكرت، وقال المحلي: إنه الأقرب2.

وبين الشربيني3 وجه القرب بقوله: "لأن القياس وقع بين الذاتين، وإن كان المقصود بيان الحكم"4، وجوز الإمام تسميته أصلاً لذلك5.

وأما المتكلمون فقال: إن الحكم الثابت في محل الوفاق مستفاد من النص المثبت له، فكان النص هو الأصل، لأن الحكم مستفاد منه.

ولذا قال الإمام: "ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل، وثبت أن

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/174 - 175.

2 انظر: الأحكام للآمدي 3/176، والعضد على المختصر 2/208 - 209، نهاية السول 3/38، المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/253، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

3 هو: الشيخ عبد الرحمن الشربيني الأسدي، الفقيه، الشافعي، الأصولي، المصري، كان عالماً جليلاً ورعاً، أخذ عن كبار علماء الأزهر، وعهدت إليه مشيخة الأزهر سنة 1322هـ، واستقال منها سنة 1324هـ عرف بالتحقيق والتدقيق في تصانيفه، له مؤلفات منها في أصول الفقه تقريراته على جمع الجوامع بهامش المحلى، توفي سنة 1326هـ.

انظر: الفتح المبين 3/161.

4 انظر حاشية الشربيني بهامش العطار 2/254.

5 انظر: المحصول ص 277 - خ -.

ص: 38

النص أصل ذلك الحكم، فكان النص أصلاً لأصل الحكم المطلوب، وأصل الأصل أصل، فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على ما هو في قول المتكلمين"1.

وأما الإمام فوجه مذهبه "بأنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق، لا نطلب علته، وقد نعلم ذلك الحكم، ولا نطلب علته أصلاً، فلما توقف إثبات علة الحكم في محل الوفاق على إثبات ذلك الحكم، ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات علته، فلا جرم كانت العلة فرعاً على الحكم في محل الوفاق، والحكم أصلاً فيه.

وأما في محل الخلاف فما لم نعلم حصول العلة فيه، لا يمكننا إثبات الحكم فيه قياساً، ولا ينعكس، فلا جرم كانت العلة أصلاً في محل الخلاف، والحكم فرعاً فيه"2.

وصحح ابن الحاجب وجه كون العلة أصلاً في محل الخلاف، وتبعه العضد، وقال السعد:"لأن في ذلك حقيقة الابتناء، وفيما عداه لا بد من تجوز، وملاحظة واسطة تظهر بالتأمل"3.

الموازنة:

يتضح مما تقدم أن جميع تلك الأقوال لا تخرج عما في اللغة من أن الأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره.

ولذا قال الآمدي: "واعلم أن النزاع في هذه المسألة لفظي، وذلك أنه إذا كان معنى الأصل ما يبنى عليه غيره، فالحكم أمكن أن يكون أصلاً، لبناء الحكم في الفرع عليه

وإذا كان الحكم في الخمر أصلاً، فالنص الذي به معرفة الحكم يكون أصلاً للأصل".

1 انظر: المحصول ص 277 - خ -.

2 المحصول ص276، 277 - خ -.

3 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/208 - 209.

ص: 39

وعلى هذا فأي طريق عرف به حكم الخمر من إجماع أو غيره، أمكن أن يكون أصلاً، وكذلك الخمر، فإنه إذا كان محلاً للفعل الموصوف بالحرمة، فهو أيضاً أصل للأصل "باعتبار تعلقه" فكان أصلاً1.

وصرح العضد بأنه "لا بعد في الكل، لأن الحكم في الفرع يبنى على الحكم في الأصل، وهو على مأخذه ومحله، فالكل يبنى عليه الحكم في الفرع ابتداء، أو بواسطة، فلا بعد في التسمية"2.

ولذا ختم الإمام كلامه على الموضوع بأن لقول المتكلمين وجهاً، وبأنه يساعد الفقهاء فيما ذهبوا إليه، لئلا يفتقر إلى تغيير مصطلحهم3، أن حكم الأصل هو الحكم الشرعي الثابت في الأصل، والذي يطلب المجتهد تعديته من الأصل إلى الفرع بطريق القياس.

هذا ولما كان التعرض لهذه المسألة إنما هو من باب المدخل إلى الغرض، فإنني أكتفي بهذا القدر الموجز، خشية الخروج عن الموضوع، والإطالة باستعراض ما زاد عن الحاجة، وأنتقل إلى تعريف العلة.

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/175 - 176.

2 انظر: العضد على المختصر 2/208 - 209.

3 انظر: المحصول ص 277 - خ -.

ص: 40

الفصل الثاني في تعريف العلة وأقوال العلماء في تعليل أفعال الله تعالى

تعريف العلة: العلة هي أحد أركان القياس، بل جعلها بعض الأصوليين الركن الأعظم، وما سواها شرائط1، لأن عليها مدار تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع ولهذا أعطاها كثير من الأصوليين عناية وافرة لما لها من أهمية بالغة.

العلة في اللغة: مأخوذة من العلَلَ، يقال: عل يعل - بكسر العين وضمها علا وعللاً، والعل الشرب بعد الشرب تباعاً، والعلة بالكسر المرض الشاغل والجمع علل، واعتل إذا مرض، أو تمسك بحجة.

قال صاحب المصباح2: "ذكر معناه الفارابي"3، قال:"وأعله جعله ذا علة. ومنه إعلالات الفقهاء، وإعتلالاتهم، وعللته عللاً سقيته السقية الثانية، ويقال: هذا علته أي سببه"4.

ومن هنا ناسب قول الأصوليين أنها اسم لما يتغير حكم الشيء بحصوله،

1 انظر: كشف الأسرار 3/345، نهاية السول مع منهاج العقول 3/39.

2 هو: أحمد بن محمد بن علي الفيومي، الحموي، المكنى بأبي العباس اللغوي، اشتهر بكتاب المصباح المنير المطبوع، ولد ونشأ في مصر، ثم انتقل إلى حماة بسورية، وتولى خطابة جامع الدهشة، في أيام الملك المؤيد إسماعيل، وتوفي سنة 770هـ.

انظر: الأعلام للزركلي 1/216، الطبعة الثانية.

3 هو: محمد بن محمد بن طرخان أوزلغ، أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني لشرحه لمؤلفات أرسطو، أكبر فلاسفة المسلمين، تركي الأصل، مستعرب، ولد في فاراب على نهر جيحون سنة 260هـ، وانتقل إلى بغداد فنشأ بها، وألف بها أكثر كتبه، كان يحسن أكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره، مؤلفاته كثيرة منها: النصوص، طبع، وإحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، وآراء أهل المدينة الفاضلة، وغيرها، توفي سنة 339هـ.

انظر: الأعلام للزركلي 7/242 - 243.

4 انظر: لسان العرب 13/495، القاموس 4/21، المصباح المنير 2/77.

ص: 41

مأخوذة من العلة التي هي المرض، لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض.

وقيل: لأنها ناقلة حكم الأصل إلى الفرع، كالانتقال بالعلة من الصحة إلى المرض.

وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الماء للشرب مرة بعد أخرى، لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر بعد النظر، أو لأن الحكم يتكرر بتكرر وجودها.

وقد يعبر بها عما لأجل ذلك يفعل الفعل أو يمتنع منه، فيقال: فعل الفعل لعلة كيت، أو لم يفعل لعلة كيت1.

وذهب الغزالي2 إلى أنها "عبارة عما يتأثر المحل بوجوده، ولذا سمي المرض علة، وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق"3.

ونقل صاحب نبراس العقول4، عن القرافي5، أنه قال: في شرح

1 انظر: البحر المحيط للزركشي 3/105 - 106 - خ -، إرشاد الفحول ص206 - 207.

2 هو: حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الغزالي، الإمام الجليل، الفقيه، الأصولي، الفيلسوفي، الشافعي، المتصوف، له مصنفات كثيره، منها في أصول الفقه: المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل في مسالك التعليل، وكلها مطبوعة، ولد رحمه الله سنة 450هـ، وتوفي سنة 505هـ.

انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/8، طبقات الشافعية 6/191 فما بعدها.

3 انظر: شفاء الغليل في مسالك التعليل ص20.

4 هو: عيسى منون، العلامة البارع المتفنن الجليل القدر، ولد سنة 1308هـ وفي ضواحي بيت المقدس، ثم قدم مصر، وتعلم على مشايخ الأزهر حتى أخذ منه العالمية سنة 1912م، وتولى التدريس، له في أصول الفقه كتابه نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول، طبع منه الجزء الأول، وهو يدل على سعة علمه وقدرته في المادة.

انظر: الفتح المبين 3/211 - 212.

5 هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي، الإمام العالم، له مصنفات منها: الذخيرة في الفقه المالكي، وتنقيح الفصول في اختصار المحصول، وشرحه في أصول الفقه والفروق في القواعد.

انظر: الفتح المبين 2/86، والأعلام للزركلي 1/90، الطبعة الثانية.

ص: 42

المحصول نقلاً عن القاضي عبد الوهاب1، والشيخ أبي إسحاق2: "أن العلة باعتبار اللغة مأخوذة من ثلاثة أشياء: علة المريض - وهو الذي يؤثر فيه عادة - والداعي - من قولهم علة إكرام زيد لعمرو علمه وإحسانه.

وقيل: من الدوام والتكرر، ومنه العلل للشرب بعد الري، فيقال: شرب عللاً بعد نهل"3.

العلة في اصطلاح الأصوليين:

اختلف الأصوليون في تعريف العلة، والمشهور أن لهم فيها أربعة مذاهب، نبينها فيما يلي:

الأول: للمعتزلة4، وهو أن العلة هي المؤثر بذاته في الحكم، ومعنى تأثيرها فيه أنها توجبه وتقتضيه ذاتاً5.

ومذهبهم هذا مبني على أن العقل يدرك في الأفعال حسناً وقبحاً، وأن

1 هو: عبد الوهاب بن نصر، البغدادي المالكي، أحد أئمة المذهب، النظار الفقيه، ثقة ثبت، حجة، وحيد دهره وفريد عصره، ولي قضاء الدينور، له مؤلفات كثيرة منها: الإفادة، والتلخيص، كلاهما في أصول الفقه، والإشراف على مسائل الخلاف وغيرها، ولد سنة 362هـ، وتوفي بمصر بعد أن حمل لواءها سنة 422هـ.

انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب: 2/26 - 29، تحقيق الدكتور الأحمدي، والأعلام للزركلي 4/335.

2 هو: إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادي صاحب اللمع وشرحه، والتبصرة في أصول الفقه، ولد سنة 353هـ، وتوفي سنة 476هـ.

انظر: طبقات الشافعية 3/88 - 89، والفتح المبين 1/228.

3 انظر: نبراس العقول 1/216.

4 المعتزلة يسمون أصحاب العدل، والتوحيد، ويلقبون بالقدرية، وقد جعلوا لفظ القدر مشتركاً بين القدر خيره وشره من الله تعالى هرباً مما ألصق بهم، مما قالوه من أن الله تعالى لا يخلق فعل العبد، وقد نوه عنهم حديث "القدرية مجوس هذه الأمة"، وقد قالوا بخلق القرآن، ونفوا رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، وأولوا آيات الصفات.

انظر: الملل والنحل بذيل الفصل 1/65 - 68، والفصل بأعلى الملل والنحل 3/41، والعقيدة الطحاوية مع شرحها ص215.

5 انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري 2/705، نهاية السول 3/39، غاية الوصول ص114.

ص: 43

الأحكام عندهم تكون تابعة لما أدركه العقل من ذلك، على معنى أن العقل يحكم بوجوب القصاص بمجرد القتل العمد العدوان من غير توقف على الشارع، كما أن العلل العقلية عندهم مؤثرة بذاتها كالنار، فإنها مؤثرة بطبعها في الإحراق، بقوة أودعها الله فيها، فالحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل، والشرع إنما جاء مؤكداً لما أدركه العقل، وكاشفاً لما خفي عليه منهما1.

وقد أبطل أهل السنة هذا المذهب بما يأتي:

الأول: أنه لو حسن العقل أو قبح لذاته، لما اختلف الفعل الواحد حسناً وقبحاً، لكنه اختلف، فلا يكون كل منهما ذاتياً، لأن بالذات لا يختلف، وإلا لزم اجتماع النقيضين.

بيان الملازمة هو أن الذاتي للشيء لا ينفك عنه، فيستلزم ذلك أن لا يختلف، لأن الاختلاف يؤدي إلى الانفكاك.

وبيان دفع التالي هو أن الفعل الواحد يحسن تارة، ويقبح أخرى، فالقتل يحسن حداً، ويقبح ظلماً، والصدق يحسن إنقاذاً لنبي أو مظلوم، ويقبح إهلاكاً لنبي أو مظلوم.

وهذا يبطل القول بالحسن والقبح العقليين، وبالتالي يبطل التعريف المبني عليهما2.

غير أن ما ذكر يرد عليه أن الكذب لإنقاذ المظلوم ما انفك عن القبح، وما اختلف، ولكنه عندما تعين اجتمع قبيحان: الكذب، وترك إنقاذ البريء المظلوم، فكان الثاني أكثر قبحاً من الأول، فارتكب أقل الأمرين قبحاً، وأيضاً لو قيل: أنه صار حسناً، فحسنه لغيره، وهو الإنقاذ.

1 انظر: المحلى وحاشية العطار 2/273، حاشية البناني على المحلى 2/232، ونهاية السول 3/39، والتوضيح مع حاشية التلويح 2/62، وإرشاد الفحول ص207، نبراس العقول 1/218، ومباحث القياس ص102، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 انظر: تعليقات الدكتور مريزيق على القياس.

ص: 44

الثاني: أن العلة الشرعية لو اقتضت الحكم الشرعي لذاتها، لما صح أن يجتمع على الحكم الواحد علل مستقلة، لكنه قد يحصل أن يجتمع عليه علل، فلزم أن لا تقتضيه لذاتها.

بيان الملازمة: أن الحكم واجب الحصول بعلته المستقلة، فلا يمكن أن يوجد بغيرها، وإن حصل بغيرها لزم تحصيل الحاصل، أو انقلاب الأثر الواحد أثرين أو أكثر، وهو باطل. بيان ذلك ما إذا اجتمع على الحكم علتان فأكثر في وقت واحد، كما إذا مسّ ذكره من غير حائل، وخرج منه ريح في وقت واحد، أو ارتد وزنى وهو محصن في وقت واحد، فالحكم في الصورتين واحد، ولا يمكن أن يكون النقض والقتل بمجموعهما، وإلاّ كان كل منهما جزء علة، والمفروض أنه علة، ولا يمكن أن يكون لكل واحد منهما، وإلا لزم تحصيل الحاصل، أو انقلاب الأثر أثرين أو أكثر، وهو باطل1.

الثاني للغزالي: وهو أن العلة هي الوصف المؤثر بجعل الشارع لا لذاته2.

شرح التعريف:

فالوصف هو المعنى القائم بالغير، وهو جنس في التعريف يشمل سائر الأوصاف سواء كانت معتبرة أو ملغاة، أو كانت بمعنى المؤثر.

والمؤثر معناه الموجب لأن التأثير معناه الإيجاد، وهو قيد في التعريف يخرج العلامة، لأنه لا تأثير فيها، فلا تسمى علة ويجعل الشارع قيد احترز به عما يوهمه اللفظ من التأثير بالذات، ولذا قال: لا لذاته.

فمعنى التأثير في كلامه هو الربط والاستلزام العاديان بين الوصف والحكم، على معنى أن الله تعال أجرى عادته بأنه كلما وجد الوصف وجد معه الحكم، وكل منهما من قبل الله تعالى، فليس الحكم ناشئاً ذاتاً من الوصف ولا متولداً منه،

1 انظر: المحصول ص300 - خ -، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق، ونبراس العقول 1/219.

2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/274، ونهاية السول 3/39.

ص: 45

لأن الغزالي من أهل السنة الذين يشددون النكير على من يقول بالطبع والتوليد1، ويدل لذلك ما جاء في تعريفه للعلة في كتابه شفاء الغليل حيث قال:"والعلل الشرعية أمارات، والمناسب والمخيل لا يوجب الحكم بذاته، ولكن يصير موجباً بإيجاب الشرع، ونصبه إياه سبباً له، وتأثير الأسباب في اقتضاء الأحكام عرف شرعاً كما عرف كون مسّ الذكر وخروج الخارج من السبيلين مؤثراً في إيجاب الوضوء، وإن كان لا يناسبه، فكما عرف كون القتل والزنا والسرقة أسباباً لأحكامها إلى ما يناسبها"2.

الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والإجابة عنها:

الاعتراض الأول: أنه يقتضي تأثير الحادث في القديم، لأن الزنا مثلاً فعل حادث وإيجاب الحد قديم؛ لأنه حكم، والحكم قديم، والحادث لا يؤثر في القديم، وإلا كان القديم متأخراً عن الحادث، أو مقارناً له، وذلك باطل.

وأجاب صاحب التوضيح3 عنه بأن الحكم المصطلح عليه هو أثر حكم الله تعالى القديم، فإن إيجاب الله قديم، والوجوب حادث، فالمراد بالمؤثر في الحكم ليس أنه مؤثر في الإيجاب القديم، بل في الوجوب الحادث، بمعنى أن الله تعالى رتب بالإيجاب القديم الوجوب على أمر حادث كالدلوك مثلاً، فالمراد كونه مؤثراً، أن الله تعالى حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر كالقصاص بالقتل، والإحراق بالنار4.

1 التوليد هو أن يوجب فعل لفاعله فعلاً آخر كحركة اليد، وحركة المفتاح، فإن الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أم لم يقصدها.

انظر: شرح المواقف في علم الكلام ص520.

2 انظر: شفاء الغليل ص/47.

3 هو: عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري، الحنفي، الملقب بصدر الشريعة الأصغر، تاج الشريعة الفقيه الأصولي، الجدلي، المحدث، المفسر، النحوي، اللغوي، الأديب، النظار، المتكلم، من مؤلفاته التنقيح، وشرحه المسمى بالتوضيح في أصول الفقه، توفي سنة 747هـ.

انظر: الفتح المبين 2/256.

4 انظر: التوضيح مع حاشية التلويح 2/62.

ص: 46

كما يجاب عنه أيضاً بأن الزنا مثلاً ليس مؤثراً بهذا المعنى، وإنما هو أمارة على الإيجاب، أو أن التأثير في التعلق التنجيزي، والتعلق التنجيزي حادث، فقد أثر حادث في حادث، ولم يؤثر حادث في القديم.

الاعتراض الثاني: أن القول بالتأثير معناه اشتمال الأوصاف على صفات توجب الحكم لذاتها، وهذا هو عين مذهب المعتزلة.

وأجيب عنه بما يأتي:

أ - أن هناك فرقاً بين مذهب المعتزلة، وبين مذهب الغزالي، لأن الغزالي يقول باشتمال الأفعال على صفات، لكنها لا تقتضي عنده حسناً ولا قبحاً، بخلاف المعتزلة.

ب - أن التأثير فسر بالربط العادي، لا بمعنى إيجاب الوصف للحكم. وبين مذهب الغزالي، ومذهب المعتزلة بون كبير1.

مما تقدم يتضح سلامة تعريف الغزالي رحمه الله سيما وأنه صرح بما يفسر مذهبه بأن تأثير العلل، إنما هو يجعل الله تعالى، فهو بيان لمذهبه.

الثالث: وإليه ذهب ابن الحاجب، والآمدي والحنفية، أن العلة هي الباعث على الحكم، وفسروا الباعث على الحكم باشتماله على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، كتحصيل مصلحة، أو تكميلها، أو دفع مفسدة، أو تقليلها، فالمراد بالباعث المشتمل على الحكمة، كما صرحوا بذلك2، لا الباعث المشترك للشارع على شرع الحكم، كما هو ظاهر اللفظ، لأن الله تعالى لا يبعثه شيء على شرح حكم سوى إرادته له، يخلق ما يشاء ويختار.

1 انظر: حاشية البناني على المحلى 2/232، والشربيني بهامش البناني 2/232، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس، ورسالة مباحث القياس للشيخ يسن سويلم طه ص100 - 101.

2 انظر: الأحكام للآمدي 3/186، المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/213، والتوضيح مع التلويح 2/63.

ص: 47

وحمل البعض اللفظ على ظاهره، وقال: إن المراد منه الحامل للشارع على شرع الحكم، وعلى هذا فالتعريف فاسد، لأن البعث على الفعل ينافي الاستغناء التام، والاختيار المطلق، فلا يصح التعبير به في جانب الله تعالى، ولذا قال التاج السبكي، نقلاً عن والده1:"ونحن معاشر الشافعية، إنما نفسر العلة بالمعرف، ولا نفسرها بالباعث أبداً، ونشدد النكير على من فسرها بذلك، لأن الرب تعالى لا يبعثه شيء على شيء، ومن عبر من الفقهاء عنها بالباعث أراد أنها باعثة للمكلف على الامتثال"2.

ولأصحاب المذهب أن يقولوا: إنه لا وجه لهذا الاعتراض بعد تفسير الباعث بالاشتمال على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، مع الاتفاق على أن أفعال الله تعالى مشتملة على حكم ومصالح تعود على العباد تفضلاً منه سبحانه وتعالى.

ولذا قال الشيخ حسن العطار بعد أن ذكر تفسير ابن الحاجب للباعث: "وإذا كان هذا هو المراد بالباعث لم يلزم التشنيع المذكور".

كما أنه لا وجه لتفسير ابن السبكي ووالده: الباعث بأنه باعث للمكلف على الامتثال لمخالفته لما فسره به أصحاب المذهب لمذهبهم، وهم أعلم به.

التعريف الرابع: وهو اختيار الفخر الرازي في المحصول، وتبعه عليه البيضاوي في المنهاج، وصاحب جمع الجوامعه "أن العلة هي الوصف المعرف

1 هو: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن موسى، السبكي، المكنى بأبي الحسن، الملقب بتقي الدين، الفقيه الشافعي، الحافظ الأصولي، النحوي، المفسر اللغوي، البياني، الجدلي، ولد سنة 683هـ ورحل إلى دمشق والحرمين وسمع فيهما، ثم عاد إلى القاهرة بعد أن ذاعت شهرته وعرف بالتبحر في العلوم، لقب بشيخ الإسلام، له مؤلفات كثيرة منها في الأصول شرح منهاج البيضاوي غير أنه لم يكمله، وغيره، توفي سنة 756هـ.

انظر: طبقات الشافعية 1/ 4 من المقدمة، ذيل تذكرة الحفاظ ص39 - 40، الفتح المبين 2/168 - 169.

2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/274.

ص: 48

للحكم"1. بحيث يكون الحكم مضافاً إليها، بمعنى أنه علامة على ثبوت الحكم في جميع محال الوصف، "مثال ذلك أن السكر كان موجوداً في الخمر، ولم يدل على تحريمها، حتى جعله صاحب الشرع عله في تحريمها، فصار الإسكار علامة على وجود التحريم في كل ما وجد فيه".

وبهذا المعنى يكون التعليل بالإسكار معرفاً لحكم الأصل من جهة أنه أصل يقاس عليه، ويلحق به غيره.

وهذا المعنى لا يستفاد إلا من التعليل - ومعرف أيضاً لحكم الفرع. فالوصف معرف لهما معاً.

قال صاحب مراقي السعود2:

معرف الحكم يوضع الشارع

والحكم ثابت بها فاتبع3

فعلى هذا يكون التعريف هكذا "العلة هي الوصف المعرف للحكم بحيث يضاف إليه الحكم".

شرح التعريف:

فالوصف جنس، وفي التعريف يشمل سائر الأوصاف كما تقدم، والمعرف قيد أول أخرج الشرط، لأنه لا يعرف المشروط، ولا يكون علامة عليه، إذ قد يوجد الشرط ولا يوجد المشروط، وللحكم قد ثان خرج به المانع؛ لأنه معرف لنقيض الحكم، لا للحكم، فالحيض مثلاً معرف لعدم وجوب الصلاة، لا

1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/272، منهاج الوصول بذيل نهاية السول 3/37، ونهاية السول 3/37، والمحصول ص302.

2 هو: سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم بن الإمام محنض أحمد العلوي، نسبة إلى قبيلة العلويين "ادوعل" إحدى القبائل الموريتانية المشهورة بكثرة العلماء والأدباء والشعراء، ولد رحمه الله بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وتلقى العلوم على علماء بلده ثم ارتحل إلى المغرب والمشرق ورجع إلى وطنه، واشتغل بالتدريس والتأليف حتى علا صيته واشتهر علمه، وقد عده علماء بلده من المجتهدين، له مؤلفات عديدة منها في أصول الفقه، نظمه المسمى بمراقي السعود، وشرحه نشر البنود، توفي سنة 1233هـ.

انظر: مقدمة مراقي السعود إلى مراقي السعود ص9 فما بعدها، الأعلام 4/187 - 188.

3 انظر: نشر البنود 2/129 - 130.

ص: 49

لوجوبها، والأبوة معرفة لعدم وجوب القصاص للولد، لا لوجوبه.

وبحيث يضاف إليه الحكم، قيد ثالث في التعريف تخرج به العلامة التي لا يضاف إليها الحكم، كالأذان للصلاة إذ لا يقال: وجبت الصلاة بالأذان، وإنما يقال: وجبت بدخول الوقت، فدخول الوقت هو العلة والأذان علامة العلامة1.

الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والجواب عنها:

الأول: أنه غير مانع، لصدقه على العلامة، وهي ما يعرف به وجود الحكم من غير أن يتعلق به وجوده ولا وجوبه كالأذان للصلاة، والإحصان للرجم2.

وأجيب عنه بما نقله صاحب نبراس العقول عن صاحب فصول البدائع3، ونصه قال:"وأجاب صاحب فصول البدائع بأن العلامة المختصة كالأذان معرف الوقت، أو مطلق الحكم، والكلام في معرفة حكم الأصل من حيث هو حكم الأصل".ا. هـ

قال عيسى: "وهذا الجواب ينافيه الجواب الآتي عن الاعتراض الثاني من أن العلة معرف لحكم الفرع فقط، وإن كان التحقيق كما سيأتي خلاف مقتضى هذا الجواب"4.

الثاني: أنه غير جامع، لخروج المستنبطة، لأنها عرفت بالحكم، على معنى أن الله تعالى لو شرع حكماً في محل، ولم ينص على علته، فقد يمكن المجتهد

1 انظر: نشر البنود 2/129 - 130، التوضيح 2/62، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 انظر: التلويح على التوضيح 2/62.

3 هو: محمد حمزة الفناوي، الملقب بشمس الدين الفقيه، الحنفي، الأصولي المنطقي، الجدلي، الأديب، ولد سنة 751هـ له مؤلفات منها: فصول البدائع في أصول الشرائع في أصول الفقه، وتوفي سنة 834هـ.

انظر: الفتح المبين 3/30.

4 انظر: نبراس العقول 1/216.

ص: 50

استنباط علة ذلك الحكم كالإسكار مثلاً لحرمة الخمر، والقتل العمد العدوان لوجوب القصاص، وحينئذٍ يكون الحكم هو المعرف للعلة فهو سابق عليها، لأنا لا نعلمها إلا بعد علمنا به، فلو عرفته لكان علمنا به بعد علمنا بها، وهذا دور سبقي، والدور باطل1.

وأجاب عنه البيضاوي بأن حكم معرف لها في الأصل، وهي معرفة له في الفرع، فانفكت الجهة، فلا دور2.

الثالث: قال سعد الدين: "فإن قيل: هما مثلان، فيشتركان في الماهية ولوازمها، قلنا: لا ينافي كون أحدهما أجلى من الآخر بعارض"3.

يريد أنه لا مانع من أن يكون أحد المثلين أظهر، فيكون معرفاً بكسر الراء والآخر أخفى، فيكون معرفاً بفتحها، لكن هذا الجواب تلزمه محاذير ثلاثة هي:

الأول: أن تعريف البيضاوي ناقص، يلزمه زيادة قيد، فيكون التعريف هكذا "العلة هي الوصف المعرف لحكم الفرع".

الثاني: أن العلة لو كانت معرفة لحكم الفرع دون حكم الأصل - والتقدير أنه ليس بباعث - لم يكن للأصل مدخل في الفرع.

الثالث: أنه يخالف ما أطبق عليه الأصوليون من أن العلة وصف مشترك بين الأصل والفرع، وقولهم أن حكم الأصل معلل بالعلة المشتركة بينه وبين حكم الفرع، فلو كان الوصف ليس علة في الأصل، فلا اشتراك في العلة، فلا قياس، وقد قال الأسنوي: هذه إرادات ضعيفة فاحذرها4.

قال أستاذنا الدكتور عثمان رحمه الله: نرى أنها ليست بضعيفة، وإنها ترد على التعريف نقضاً، والجواب الصحيح أن العلة كما تعرف حكم الفرع،

1 انظر: التلويح على التوضيح 2/62، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 انظر: المنهاج مع شرحه نهاية السول 3/38.

3 انظر: التلويخ على التوضيح 2/62.

4 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

ص: 51

تعرف أيضاً حكم الأصل من جهة أنه يلحق به غيره، ويقاس عليه، فهي معرفة للحكم فيهما1.

فإن قيل: ما الداعي لتعريفها لحكم الأصل مع وجود النص أو الإجماع؟ قيل: لأنها تعرف كون الحكم منوطاً بها، حتى إذا وجدت بمحل آخر ثبت الحكم فيه أيضاً، والنص يعرف الحكم دون النظر إلى ذلك، ولذا قال السعد في حاشيته على العضد: "ليس معنى كون الوصف معرفاً للحكم أنه لا يثبت الحكم إلا به، كيف وهو حكم شرعي لا بد له من دليل نص أو إجماع، بل معناه أن الحكم يثبت بدليله، ويكون الوصف أمارة بها يعرف أن الحكم الثابت حاصل في هذه المادة.

مثلاً إذا ثبت بالنص حرمة الخمر، وعلل بكونه مائعاً أحمر يقذف بالزبد، كان ذلك أمارة على ثبوت الحرمة في كل يوجد ذلك الوصف فيه من أفراد الخمر، وبهذا يندفع الدور.

والحاصل أن العلة تتوقف على العلم بشرعية الحكم بدليله، والمتوقف على العلة هو معرفة ثبوت الحكم في المواد الجزئية2.

وقرر صاحب نشر البنود وجه ثبوت حكم الأصل بالعلة بقوله: "وقد يقال: معناه أنه إذا لوحظ النص عرف الحكم، ثم إذا لوحظت العلة حصل التفات جديد للحكم، ومعرفة كون محله أصلاً يقاس عليه، مستفاد من العلة، فإفادتها لذلك الحكم على هذا الوجه هو مرادهم بقولهم أنها تفيد حكم الأصل بقيد كون محله أصلاً يقاس عليه"3.

وبهذا التقرير يصح أن يقال: بأن الخلاف بين الحنفية - القائلين بأن حكم الأصل ثبت بالنص لا بالعلة -، وبين الشافعية - القائلين بأن حكم الأصل ثبت

1 نشر البنود 2/130، وغاية الوصول ص114، ونبراس العقول 1/217.

2 انظر: حاشية السعد على العضد 2/214.

3 انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/130.

ص: 52

بها - خلاف لفظي، لأنه لا نزاع بينهم أن النص أثبت الحكم من حيث هو، وأن العلة معرفة لحكم الأصل من حيث أنه أصل يقاس عليه، والله تعالى أعلم.

الموازنة بين التعريفات السابقة:

يتضح من التعريفات السابقة، أن الخلاف فيها مبني على الخلاف في تعليل أفعال الله تعالى. والخلاف في تعليل أفعال الله تعالى مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأصول الكلام، لتعليل الأحكام والأفعال، وارتباط العلل بالمعلولات، ومن هنا نشأ الخلاف بين الأصوليين في التعريف.

فمن نظر إلى أن أفعال الله تعالى لا تعلل، عرف العلة بالمعرف، وأهم ما استدل به على ذلك هو أن من فعل فعلاً لعلة كان مستكملاً بها، لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها، لم تكن علة، والمستكمل بغيره ناقص بنفسه، وذلك ممتنع على الله تعالى1.

ومن هنا لم ير تعليل أفعال الله تعالى، ولا التعبير بما يوهم ذلك.

ومن نظر إلى أن أفعاله تعالى معللة بمصالح وحكم ترجع إلى العباد عبر عنها بالباعث، والمؤثر، وهؤلاء ما عدا المعتزلة - الذين تقدم إبطال مذهبهم - يرون رجوع المصالح والمنافع في أحكامه وأفعاله تعالى إلى العباد تفضلاً منه سبحانه عليهم، وعلى القول بذلك "فلا يلزم على القول بأنها مؤثرة أن هناك تأثيراً لغير الله تعالى، ولا يلزم على القول بأنها باعثة على الحكم استكماله تعالى بها، وأنها تحمله على الفعل أو الحكم، بل رعاية المصالح والمنافع، وفعله وحكمه تعالى على حسبها تفضلاً هو مقتضى كماله تعالى، لأنه لما كان حكيماً كان لأحكامه وأفعاله غايات وحكم تترتب عليها، ولما كان جواداً اقتضى جوده أن يراعي مصالح

1 انظر: منهاج السنة 1/97، لشيخ الإسلام ابن تيمية، حاشية البناني 2/233.

ص: 53

عباده، فلا جرم كانت أحكامه وأفعاله على ما هو مقتضى المصالح، فالأحكام المتعلقة باقتضاء المصالح إنما هي فرع حكمته وجوده ورحمته"1.

أدلة القائلين بتعليل أفعال الله تعالى:

استدل القائلون بتعليل أفعال الله تعالى بما جاء في كثير من آيات القرآن الكريم، التي تدل على ثبوت الحكمة والتعليل في أفعاله تعالى، وهذه الآيات كثيرة نقتصر على ما يأتي منها:

1 -

آيات ورد فيها التصريح بلفظ الحكمة، كقوله تعالى:{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} 2، وقوله:{وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 3 وقوله: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً} 4، ومعلوم أن معطي الحكمة غيره، يجب أن يكون حكيماً.

2 -

آيات أخبر سبحانه فيها أنه فعل كذا وكذا، وأنه أمر بكذا لكذا كقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 5، وقوله تعالى:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 6، وقوله:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} 7، وقوله:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} 8.

1 انظر: سلم الوصل على نهاية السول 4/55 - 56.

2 سورة القمر آية: 5.

3 سورة النساء آية: 113.

4 سورة البقرة آية: 269.

5 سورة الطلاق آية: 12.

6 سورة النساء آية:156.

7 سورة النساء آية: 105.

8 سورة النحل آية: 102.

ص: 54

فاللام المذكورة في هذه الآيات، ومثيلاتها هي لام التعليل، وليست لام العاقبة، كما يدعي نفاة التعليل، لأن لام العاقبة إنما تكون في حق من هو جاهل بالعاقبة كما في قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 1، وأما من هو بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، فيستحيل في حقه دخول هذه اللام، وإنما اللام الواردة في أفعاله وأحكامه لام الحكمة، والغاية المطلوبة2.

3 -

آيات تضمنت ما هو من صرائح التعليل، كقوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} 3، وقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} 4، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 5، إلى غير ذلك من النصوص التي اعتبرها الأصوليون نصاً أو ظاهراً في التعليل، مما سيأتي له زيادة بيان - إن شاء الله - عند الكلام على مسالك العلة.

4 -

آيات تضمنت إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لحكمة وغاية، كقوله تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} 6، وقوله:{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} 7، فالآيتان تدلان على أنه سبحانه خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية محبوبة له ومطلوبة، هي عبادته وتوحيده اللذان هما مقتضى شكره على ما أنعم به على عباده8.

1 سورة القصص آية: 8.

2 انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ص190 - 195، مع تصرف واختصار.

3 سورة المائدة آية: 32.

4 سورة المائدة آية: 38.

5 سورة النور آية: 2.

6 سورة المؤمنون آية: 115.

7 سورة القيامة آية: 36.

8 انظر: شفاء العليل ص196 - 200 مع تصرف واختصار.

ص: 55

ودلالة نصوص الكتاب والسنة على تعليل الأحكام أكثر من أن تحصى، والمتتبع لنصوص الشريعة يدرك أنها إنما وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً.

"ولما كانت النصوص الشرعية متناهية، وتفاصيل الوقائع والحوادث متجددة على الدوام لا تقف عند حد، جعل "الشارع" شرعه قواعد عامة، إما باعتبار ألفاظها، أو باعتبار عللها، وجعل في الأمة علماء يستخرجون حكم الله في كل واقعة "حدثت"، مثل أحكام الوقائع المنصوصة في تحصيل المصالح"1، ويدل لهذا ما قرره الشاطبي2، ونصه:

"والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها إنما وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثته الرسل، وهو الأصل {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 4.

وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 7.

1 انظر: سلم الوصول على نهاية السول 4/57.

2 هو: إبراهيم بن موسى، الغرناطي، المكنى بأبي إسحاق، المشهور بالشاطبي، العلامة المحقق، المؤلف النظار الأصولي المفسر، الفقيه اللغوي المحدث، الورع الزاهد، له مؤلفات نفيسة اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات الفوائد منها: الموافقات في أصول الفقه، والاعتصام في الحوادث والبدع، وغيرهما، توفي في شعبان سنة 790هـ.

انظر: الفتح المبين 2/204 - 205.

3 سورة النساء آية: 165.

4 سورة الأنبياء آية: 107.

5 سورة هود آية: 7.

6 سورة الذاريات آية: 56.

7 سورة الملك آية: 2.

ص: 56

وأما التعليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة، فأكثر من أن يحصى، كقوله بعد آية الوضوء:{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 1.

وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2.

وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء َالْمُنكَرِ} 3.

وفي القبلة: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} 4.

وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} 5.

وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} 6.

وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 7.

والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة ثبت القياس، والاجتهاد" 8.

1 سورة المائدة آية: 6.

2 سورة البقرة آية: 183.

3 سورة العنكبوت آية: 45.

4 سورة البقرة آية: 150.

5 سورة الحج آية: 39.

6 سورة البقرة آية: 179.

7 سورة الأعراف آية: 172.

8 انظر: الموافقات 2/6 - 7، تعليق وتحقيق دراز.

ص: 57

وأجاب ابن القيم1 عما استدل به المانعون من تعليل أفعال الله تعالى بما نصه: "إنّ قولك أن كل من فعل فعلاً لغرض يكون ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره، ما تعني بقولك أنه ناقص بذاته؟ أتعني أن يكون عادماً لشيء من الكمال الذي يجب أن يكون له قبل حدوث ذلك المراد، أم تعني به أن يكون عادماً لما ليس كمالاً قبل وجوده، أم تعني به معنى ثالثاً؟

فإن عنيت الأول، فالدعوى باطلة، فإنه لا يلزم من فعله لغرض حصوله أولى من عدمه أن يكون عادماً لشيء من الكمال الواجب، قبل حدوث المراد، فإنه يمتنع أن يكون كمالاً قبل حصوله.

وإن عنيت الثاني، لم يكن عدمه نقصاً، فإن الغرض ليس كمالاً قبل وجوده وما ليس بكمال في وقت، لا يكون عدمه نقصاً فيه، فما كان قبل وجوده عدمه أولى من وجوده، وبعد وجود وجوده أولى من عدمه لم يكن عدمه قبل وجوده نقصاً، ولا وجوده بعد عدمه نقصاً، بل الكمال عدمه قبل وقت وجوده، ووجوده وقت وجوده، وإذا كان كذلك فالحكم المطلوبة والغايات من هذا النوع، وجودها وقت وجودها هو الكمال، وعدمها حينئذ نقص، وعدمها وقت عدمها كمال، ووجودها حينئذ نقص، وعلى هذا فالنافي هو الذي نسب النقص إلى الله، لا المثبت، وإن عنيت أمراً ثالثاً، فلا بد من بيانه لننظر فيه" 2.

فإن قيل: إن ابن القيم هنا وافق المعتزلة في إطلاق لفظ الغرض على الله تعالى، وهو خلاف ما ذهب إليه أهل السنة، لعدم ورود النص به، أجيب بأنه إنما ذكره لرد دعوى الخصم فقط، لأنه صرح في كتابه مفتاح دار السعادة بأن هذا

1 هو: العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الحنبلي الفقيه، الأصولي، المفسر النحوي، المتكلم الشهير بابن قيم الجوزية، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، له مؤلفات كثيرة منها: زاد المعاد، وإعلام الموقعين، والصواعق المرسلة، وشفاء العليل، وغيرها، ولد سنة 691هـ، وتوفي سنة 751هـ.

انظر: مقدمة الصواعق المرسلة لزكريا علي يوسف - مطبعة الإمام - بمصر.

2 انظر: شفاء العليل ص206 - 207.

ص: 58

اللفظ بدعي، لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا أطلقه أحد من أئمة الإسلام وأتباعهم على الله تعالى1.

"والحق أن جميع أفعاله وشرعه لها حكم وغايات، لأجلها شرع وفعل"2. وإن الخلاف لفظي، لأنه لا خلاف بين العلماء في أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا تخلو عن حكم ومصالح بالغة تعود على العباد، وإنما الخلاف بين التعريفات في العبارة فقط، ما عدا تعريف المعتزلة الذين تقدم إبطال مذهبهم - لأن من عرف العلة بالمؤثر والباعث ممن يمنع تعليل أفعال الله تعالى كالغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، فسرها بما يتفق في الغاية والقصد مع من عرفها بالمعرف، لأن الغزالي فسر المؤثر بما كان بجعل الشارع لا بذاته، والآمدي وابن الحاجب فسرا الباعث بأنه مشتمل على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم يقيناً أو ظناً كما تقدم.

ومن قال بتعليل أفعال الله تعالى من أهل السنة، لم يرد غير ذلك، لاتفاقهم جميعاً على أن أفعال الله تعالى وأحكامه مشتملة على حكم ومصالح ترجع إلى العباد تفضلاً منه سبحانه عليهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية3: "فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة، والمصالح في أحكام الشريعة".4

1 انظر: مفتاح دار السعادة ص66.

2 انظر: شفاء العليل ص 214.

3 هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني، الدمشقي، الملقب بتقي الدين، المكنى بأبي العباس، الإمام المحقق، الحافظ المجتهد، المحدث المفسر الأصولي، النحوي، الخطيب، الكاتب، نادرة عصره، شيخ الإسلام، وقدوة الأنام، امتحن رحمه الله في مصر، ودمشق وسجن بكل منهما، ولم يثنه ذلك عن قول الحق الذي يراه، توفي سنة 728هـ، مؤلفاته كثيرة منها: الفتاوى، واقتضاء الصراط المستقيم، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، والسياسة الشرعية، وغيرها.

انظر: الفتح المبين 2/130 - 133، ومقدمة اقتضاء الصراط المستقيم ص "هـ" فما بعدها.

4 انظر: منهاج السنة: 1/95.

ص: 59

ونقل البناني1 في حاشيته على المحلى عن السيد الشريف2 ما نصه: "بل كماله في ذاته وصفاته يقتضي الكمال في فاعليته وأفعاله، وكمالية أفعاله تقتضي مصالح ترجع إلى العباد، فلا شيء خال عن الحكمة، ولا سبيل للنقصان والاستكمال إليه تعالى.

وهذا هو المذهب الصحيح، والحق الصريح الذي لا يشوبه شبهة ولا يحوم حوله ريبة" 3.

وقال صاحب نهاية الأقدام4 في الرد على المعتزلة: "قال أهل الحق: مسلم أن الحكيم من كانت أفعاله محكمة متقنة، وإنما تكون محكمة إذا وقعت على حسب علمه، وإذا وقعت على حسب علمه لم تكن جزافاً، ولا وقعت بالاتفاق"5.

1 هو: عبد الرحمن بن جاد الله البناني، المكنى بأبي يزيد، العلامة المعتمد في المذهب المالكي، المحقق المؤلف، قدم مصر وأخذ عن علماء عصره بالأزهر حتى مهر في المعقول والمنقول، وتصدر للتدريس برواق المغاربة، له تصانيف مفيدة منها حاشيته على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع، توفي سنة 1198هـ.

انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/143، الأعلام للزركلي 4/73.

2 هو: علي بن محمد بن علي، المعروف بالسيد الشريف الجرجاني، المكنى بأبي الحسين، الحنفي، العالم بالعربية في عصره، ولد سنة 740هـ، وارتحل في طلب العلم وحصل، ثم توطن شيراز، وكان فرداً في علوم العربية والمنطق، عارفاً بالعلوم الشرعية، جرت بينه وبين سعد الدين التفتازاني مناظرات، انتصر فيها الجرجاني على التفتازاني، وكان الحكم بينهما نعمان الدين الخوارزمي، فذاعت شهرته وطار صيته، له مؤلفات في النحو والصرف بالفارسية، والمنطق، وله في أصول الفقه حاشية على مختصر المنتهى لابن الحاجب، وأخرى على شرح الأيجي للمختصر أيضاً، والتوضيح شرح به التنقيح، وحاشية التلويح، توفي سنة 816هـ بشيراز.

الفتح المبين: 3/21.

3 انظر: حاشية البناني على المحلى 2/233.

4 هو: محمد بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتح الشهرستاني من فلاسفة الإسلام، كان إماماً في علم الكلام، وأديان الأمم، ومذاهب الفلاسفة، الملقب بأبي الفضل، ولد سنة 479هـ، بشهرستان وتوفي بها سنة 548هـ، له مؤلفات منها الملل والنحل، ونهاية الأقدام في علم الكلام وغيرهما.

الأعلام للزركلي 7/83 - 84.

5 انظر: نهاية الأقدام في علم الكلام ص 401 - 402.

ص: 60

وقال الشيخ محمد عبده1: "اتفق الجميع على أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن حكمة"2.

وقال الآمدي في الرد على المعتزلة: "إننا لا ننكر كون الباري تعالى حكيماً، وذلك بتحقيق ما يتقنه من صنعه، ويخلقه على وفق علمه له وبإرادته"3.

وإذا كان هذا هو المراد بالباعث، وهو بعينه مراد من قال: إنها مؤثرة أو معرفة، فالخلاف لفظي، ولذلك نجد الغالب عليهم عند الكلام في الفقه وأصوله، التعليل، وإن لم يروا إطلاق لفظ الغرض على الله تعالى - خلافاً للمعتزلة - لأنه يشعر بنوع من النقص، إما: ظلم، وإما حاجة، فإن كثيراً من الناس إذا قال: فلان له غرض في هذا، أراد أنه فعله لهواه ومراده المذموم، والله تعالى منزه عن ذلك.

فعبر أهل السنة بلفظ الحكمة والرحمة، ونحو ذلك مما جاء به النص، بخلاف المعتزلة، فإنهم عبروا بلفظ الغرض4، فاتفقت التعريفات في الغاية والقصد، وإن اختلفت عباراتها، ما عدا تعريف المعتزلة الذي تقدم إبطاله، والله تعالى أعلم.

1 هو: محمد عبده بن خير الله التركماني، المصري المفتي، من كبار رجال الإصلاح والتجديد في الإسلام في مصر في عصره، ولد في إحدى قرى مصر سنة 1266هـ، وتعلم على علماء بلده حتى صار فيلسوفياً، وكان صوفياً، تولى التدريس والكتابة في الصحف والتأليف والقضاء، وتوفي سنة 1323هـ بالإسكندرية، له مؤلفات منها رسالة التوحيد - مطبوعة -.

انظر: الأعلام للزركلي 7/131.

2 انظر: رسالة التوحيد ص43.

3 انظر: غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص232 - ط -.

4 انظر: منهاج السنة 1/230.

ص: 61

الفصل الثالث: في شروط العلة

تمهيد

من المعلوم أن الأصل الذي ورد النص بحكمه قد يكون مشتملاً على أوصاف متعددة، وليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، بل لا بد من أن تتوفر في الوصف الذي يعلل به عدة شروط.

وهذه الشروط إنما استمدها الأصوليون من استقراء العلل المنصوص عليها، ومن مقصود التعليل، وهو تعدية حكم الأصل إلى الفرع.

وهذه الشروط منها ما اتفق عليه الأصوليون، ومنها ما اختلفوا فيه، كما اختلفت مناهجهم في محل ذكر هذه الشروط، إذ منهم من ذكرها بعد القوادح، كالإمام الفخر الرازي، والبيضاوي، وغيرهما، ومنهم من ذكرها بعد تعريف العلة مباشرة، وقبل المسالك كابن السبكي، وابن الحاجب والآمدي.

وقد اخترت أن أسلك الطريقة الأخيرة، لما فيها من تتمة الفائدة، لأنني لو سلكت الطريقة الأولى، لما أمكنني التعرض لذكر هذه الشروط، لخروجها حينئذ عن موضوعي.

وحيث أن تعرضي لهذه الشروط إنما هو من باب التمهيد للموضوع، لذا فإنني لن أتقصى كل ما قيل فيها بل سأقتصر على ما أرى أنه لا بد منه، والله أسأل العون والتوفيق.

الشروط المتفق عليها هي:

الأول: أن تكون العلة وصفاً ظاهراً متميزاً عن غيره، لأن العلة هي المعرف للحكم في الفرع، فلا بد أن تكون أمراً ظاهراً، يدرك في الأصل، ويدرك في

ص: 63

الفرع كالإسكار، ولهذا اختلفوا في التعليل بالخفي كعلوق الرحم بالإنزال والوطء، فلم تعلل به العدة، على القول الراجح كما سيأتي.

وإنما تعلل بالخلوة، وكذلك لا يعلل نقل الملكية في البيع بتراضي المتبايعين لخفائه، بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي الإيجاب والقبول1.

الثاني: أن تكون وصفاً منضبطاً، وذلك بأن تكون له حقيقة معينة يمكن التحقق من وجودها في الفرع، ومساواته للأصل، لأن أساس القياس هو مساواة الفرع للأصل في علة حكم الأصل، وهذا التساوي يستلزم أن يكون الوصف منضبطاً محدداً بحيث لا يختلف بالنسب والإضافات، والكثرة والقلة، كالمشقة بالنظر إلى القصر والفطر، فلا يعلل بها، لأنها تختلف باختلاف الأفراد والأحوال والزمان، فلم تنضبط، وغير المنضبط لا يعرف القدر الذي علق به الحكم، بل يعلل بمظنتها بالسفر، كمل يعلل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان، لأن لكل منهما حقيقة منضبطة يمكن تحقق وجودها في الفرع، والأصل.

الثالث: أن تكون وصفاً مناسباً، وهذه المناسبة، وإن اختلفوا في التعبير عنها، فإنهم متفقون على اشتراطها، ذلك أن ابن الحاجب، والآمدي عبرا عنها بأنه يشترط أن تكون بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمة صالحة لأن تكون مقصوداً للشارع من شرع الحكم، لأنها لو كانت وصفاً طردياً2 لا حكمة فيه، فلا يصلح التعليل بها3.

والإمامُ والبيضاوي، وإن عبرا عنها بالمعرف، فإنهما يشترطان أيضاً في

1 انظر: المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/275، ونشر البنود شرح مراقي السعود 2/132.

2 هو الذي لم يعهد من الشارع اعتباره، والالتفات إليه في إثبات الأحكام بالنسبة إليها جميعاً، كالطول والقصر، أو في بعضها كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق، بخلاف الشهادة والميراث.

انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص258، المحلى مع حاشية العطار 2/315، شرح تنقيح الفصول ص395.

3 انظر: الأحكام للآمدي 3/186، والمختصر مع شرحه 2/213.

ص: 64

الوصف المعرف للحكم أن يكون مشتملاً على حكمة، لأنها المقصود من شرع الحكم.

فمنشأ اختلافهم راجع إلى الاختلاف في تعريف العلة كما تقدم، وإلا فهم متفقون على اشتراط كون الوصف المعلل به مناسباً، لأن ذلك هو المحقق لتعدية حكم الأصل إلى الفرع، كالإسكار فإنه مناسب لتحريم الخمر، لما في بناء التحريم عليه من حفظ العقل.

والقتل العمد العدوان مناسب لا يجاب القصاص، لما في ترتيب وجوب القصاص عليه من حفظ النفوس.

ولهذا لا يصح التعليل بالأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها، والمعروفة بالأوصاف الطردية كالقصر والطول، واللون والجنس1.

ثم بعد اتفاقهم على ما تقدم، فهناك مسائل اختلفوا فيها نفردها بالبحوث الآتية:

المبحث الأول في تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي

اختلف الأصوليون في تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، على ثلاثة مذاهب:

الأول: أنه لا يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، سواء كان باعثاً على مصلحة خالصة، أو مصلحة راجحة على مفسدة تضمنها شرع الحكم الأول، وطلب إزالتها بالكلية2.

1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/275، نشر البنود شرح مراقي السعود 2/132، التقرير والتحبير 3/141، وإرشاد الفحول ص207.

2 انظر شرح تنقيح الفصول ص408، الأحكام للآمدي 3/193.

ص: 65

الثاني: أنه يجوز مطلقاً، وهو اختيار الإمام الفخر الرازي، والبيضاوي، والحنفية1.

الثالث: التفصيل، وهو أنه يجوز التعليل بالحكم الشرعي، إذا كان باعثاً على مصلحة ولا يجوز إذا كان باعثاً على مفسدة، وهو اختيار ابن الحاجب2.

استدل أهل المذهب الأول بما يأتي:

الأول: أن شأن الحكم أن يكون معلولاً، فلو جعل علة، لانقلبت الحقائق، وأجيب عنه بأنه "ليس في ذلك قلب الحقائق، بل يكون ذلك الحكم، معلولاً لعلته، وعلة معرفة لحكم آخر غير علته وقلب الحقائق، إنما يتأتى فيما لو كان علة معرفة لنفس العلة التي هو معلول لها".

وإذا ادعيتم أن شأن الحكم أن لا يكون علة البتة، فهذا محل النزاع.

الثاني: أن الحكمين متساويان في كون كل واحد منهما حكماً شرعياً، فليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس.

ويجاب عنه بأن المناسبة تعين أحدهما للعلية، والآخر للمعلولية، كما تقول: نجس، فيحرم، وطاهر فتجوز به الصلاة، فإن النجاسة مناسبة للتحريم، والطهارة مناسبة لإباحة الصلاة، فما وقع الترجيح إلا بمرجح، ولو عكس هذا فقيل:" لا يجوز بيعه، فيحرم، لم ينتظم، فإنه قد يحرم بيعه لغصبه، أو لعجز عن تسليمه أو غير ذلك"3.

الثالث: أن الحكم الذي يفرض علة يحتمل أن يكون متقدماً على الحكم الآخر ويحتمل أن يكون متأخراً عنه، ويحتمل أن يكون مقارناً له.

فعلى تقدير التقدم لا يصلح للعلية، لأنه يلزم منه وجود العلة مع تخلف حكمها، وهو نقض للعلة، والنقض قادح في العلية.

1 انظر: المحصول ص336، - خ -، شرح المنار وحواشيه ص788، والتوضيح 2/66.

2 انظر: المختصر مع شرحه 2/230.

3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 408.

ص: 66

وعلى تقدير التأخير لا يصلح للعلية أيضاً، لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم.

وعلى تقدير المقارنة يحتمل أن يكون هو العلة، ويحتمل أن يكون غيره، فهو إذاً على تقديرين لا يكون علة، وعلى تقدير واحد يكون علة، ولا شك أن العبرة في الشرع بالغالب لا بالنادر، فوجب الحكم بأنه ليس بعلة1.

ويجاب عنه بأن ما ادعوه من وجوب نقض العلة غير مسلم، لأن الحكم لم يكن علة بنفسه وذاته، بل بجعل الشارع، وذلك كما في تعليل تحريم شرب الخمر بالإسكار، فإن الإسكار وإن كان متقدماً على التحريم، فلا يقال إن الإسكار علة قبل اعتباره من الشرع بقران التحريم به، فلا تنتقض العلة لتخلف التحريم عنه قبل ورود الشرع2.

ويجاب عن امتناع التأخير بأن المراد من العلة المعرف، والمتأخر يجوز أن يكون معرفاً للمتقدم3.

وعن امتناع المقارنة بأن التقديم إنما هو بالمناسبة التي وجدت في أحدهما دون الآخر، ويحتمل أن يكون الثابت بالدليل علية أحدهما دون الآخر، فلا يلزم التحكم4.

الرابع: أنه لو كان الحكم علة للحكم، فإما أن يكون بمعنى المعرف، أو الباعث، فإن كان بمعنى المعرف امتنع تعليل حكم الأصل بحكم آخر، لأن المعرف لحكم الأصل هو النص أو الإجماع، وإن كان بمعنى الباعث فباطل، لأن من يقول بالمؤثر يقول: إن المؤثر جهات المصالح والمفاسد، فالقول بأن الحكم الشرعي مؤثر خرق للإجماع، وهو باطل5.

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/194، والمحصول ص336 - خ -.

2 انظر: الأحكام للآمدي 3/194.

3 انظر: المحصول - من القسم الثاني ص 411 - ط -.

4 انظر: التلويح على التوضيح 2/66.

5 انظر: المحصول ص 336 - خ -.

ص: 67

ويجاب عنه بأنه على تفسير العلة بالمعرف، فإن وجه تعريف العلة لحكم الأصل هو ما قدمناه من أنها معرفة له باعتبار كونه أصلاً يقاس عليه.

وعلى تفسيرها بالباعث، فإن الحكم الذي وجدت فيه المناسبة دون الآخر يكون علة لما لم توجد في المناسبة، أو أن كل واحد منهما علة للآخر، بمعنى أنه معرف لصاحبه1.

أدلة المذهب الثاني:

استدل أهل المذهب الثاني القائلون بالجواز مطلقاً بما يأتي:

الأول: أن أحد الحكمين قد يكون دائراً مع الحكم الآخر وجوداً وعدماً، والدوران2 يفيد ظن العلية، فإذا حصل في الحكم الشرعي حصل ظن العلية3.

الثاني: "أن علل الشرع معرفات، فللشارع أن ينصب حكماً على حكم آخر كما ينصب النجاسة التي هي حكم شرعي على تحريم البيع، والأكل الذي هو حكم شرعي"4. ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الحج عن أبيه: "أرأيت لو كان على أبيك دين"5؟ حيث قاس إجزاء قضاء الحج عن الأب على إجزاء قضاء دين العباد عن الأب، والعلة كونها ديناً، وهو حكم شرعي، لأن الدين لزوم حق في الذمة6.

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/195، المحصول ص336 - خ -.

2 هو في اصطلاح الأصوليين أن يوجد الحكم كلما وجد الوصف، ويعدم كلما عدم، كالتحريم مع الإسكار في الخمر، فإنه كلما وجد الإسكار وجد التحريم، وإذا لم يكن إسكاراً كما في عصير العنب، قبل التحريم وبعد التخلل، فإنه غير حرام، وبعد وجود الإسكار يحرم.

قال صحاب المراقي:

إن يوجد الحكم لدى وجود

وصف وينتفى لدى الفقود

انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/200، شرح تنيقيح الفصول ص396.

3 انظر: المحصول ص336 - خ -.

4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 408.

5 الحديث أخرجه مسلم في 3/55.

6 انظر: التوضيح شرح التنقيح مع التلويح 2/66، وحاشية الرهاوي على شرح المنار ص788.

ص: 68

أدلة المذهب الثالث:

استدل أهل المذهب الثالث القائلون بالتفصيل، بأن الحكم الشرعي إذا كان باعثاً على حكم الأصل لتحصيل مصلحة يقتضيها حكم الأصل جاز، كما يقال: بطلان بيع الخمر علته النجاسة لمناسبتها المنع من الملابسة تكميلاً لمقصود البطلان، وهو عدم الانتفاع.

وأما إذا كان لدفع مفسدة يقتضيها حكم الأصل، فلا يجوز، لأن الحكم الشرعي لا يكون منشأ لمفسدة مطلوبة الدفع، لأنه لو كان منشأ مفسدة مطلوبة الدفع لم يشرع ابتداء1.

لكن يرد على هذا أنه لا فائدة حينئذ من هذا التفصيل ما دام الحكم المشتمل على مثل هذه المفسدة غير موجود، والله تعالى أعلم.

المبحث الثاني التعليل بالوصف المركب

اختلف العلماء في التعليل بالوصف المركب من أجزاء لا يستقل كل واحد منها بالعلية على مذهبين:

المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور - أنه يجوز التعليل به، ومن قال به الإمام الفخر الرازي، والآمدي، وابن الحاجب.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز التعليل به.

واستدل أهل المذهب الأول بما يأتي:

الأول: أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة مما

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/230.

ص: 69

تفيد العلية بالدليل، إما بدلالة نص صريح، أو مناسبة، وإما باستنباط من شبه أو سبر1.

فإذا وجدنا وصفاً مناسباً مركباً، ودائراً مع الحكم وجوداً وعدماً حصل عندنا ظن العلية، والظن يجب العمل به، وذلك كما في الوصف المفرد؛ لأن كلا من المناسبة والدوران طريق من طرق إثبات العلية للوصف، وتثبت به علية المفرد، وما ثبتت به علية المفرد، تثبت به علية المركب من غير فرق، والفرق تحكم2.

الثاني: أن المصلحة قد لا تحصل إلا بالتركيب، لأن الوصف الواحد قد يقصر عن ترتب المصلحة عليه، كما يقال: إن وصف الزنا لا يستقل بمناسبة الحد إلا بشرط أن يكون الواطئ عالماً بأن الموطوءة أجنبية، فلو جهل ذلك بأن وطئ من يظنها زوجته فبانت أجنبية، لم يناسب وجوب الجد، وكما أن القتل وحده لا يناسب وجوب القصاص حتى يضاف إليه العمد العدوان3.

واستدل أهل المذهب الثاني القائلون بأنه لا يجوز التعليل به بما يأتي:

الأول: أن القول بجواز التركيب في العلة الشرعية، يفضي إلى نقض العلة العقلية، لأنه لو صح التعليل بالمركب، لكان عدم كل واحد من أجزائه علة تامة لعدم العلية، لأن العلية تنعدم بانعدام الأجزاء، ضرورة أن عدم جزء المركب عدم للمركب، لأن المركب لا يوجد إلا بوجود جميع أجزائه، فلو كان عدم كل جزء علة لعدم العلية للزم النقض، أو تحصيل الحاصل، وكل منهما باطل، بيان ذلك أن الأجزاء إذا انعدمت كلها، وقلنا أن عدم كل واحد منها علة لعدم

1 عرفه الأصوليون بأنه حصر المجتهد أوصاف الأصل المقيس عليه، وإبطاله ما لا يصلح للعلية بطريق من طرق إبطال العلية، كعدم الإطراد أو الانعكاس وإثباته ما هو صالح للعلية منها، ويقال له السبر والتقسيم، والسبر فقط، والتقسيم فقط.

انظر: نشر البنود 2/164 فما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص397 فما بعدها، ونهاية السول 3/71.

2 انظر: المحصول ص 337 - خ -، والعضد على المختصر 2/230 - 231، والأحكام للآمدي 3/196.

3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 409.

ص: 70

العلية، فلا شك أنه إذا عدم جزء من أجزائها فقد عدمت العلية، فإذا عدم بعد ذلك جزء آخر، لم يكن هذا الجزء الثاني علة لعدم العلية، لأن ذلك قد حصل عند عدم الجزء الأول، فلا يحصل مرة أخرى بعدم الجزء الثاني، فقد حصل عدم جزء الماهية مع أنه لم يترتب عليه عدم علية تلك الماهية، فقد وجد النقض في العلة العقلية1.

وأجيب عليه بثلاثة أجوبة:

الأول: للقرافي ونصه: "أن نقض العلة العقلية غير لازم، لأنه إذا عدم جزء من الثلاثة، عدمت الثلاثة، والباقي بعد ذلك هو جزء الاثنين لا جزء الثلاثة، فإذا عدم أحد الاثنين الباقيين الآن بعدم مجموع الاثنين، فعدمه علة لعدم الاثنين، لا لعدم الثلاثة، لأن عدم الباقي ليس جزء الثلاثة، فإن جزئية الثلاثة أمر نسبي يذهب عند ذهاب أحد الطرفين، وهو الثلاثة"2.

الثاني: لا نسلم أن عدم الجزء علة لعدم العلية حتى يلزم بتكرر الانتفاء تحصيل الحاصل، بل من قبيل عدم الشرط، فعدم العلية لانتفاء شرط وجودها، لأن هذا اللزوم إنما يتأتى في العلل العقلية، لا المعرفات التي هي أمارات، وكل من الانتفاءات هنا أمارات لعدم العلية، ولا استحالة في اجتماع أمارات على الشيء الواحد مرتبة تارة، وضربة واحدة أخرى، كما في البول بعد المسّ، والمسّ بعد البول، وكما لا يلزم تخلف فكذا هنا3.

الدليل الثاني: قالوا: لو صح تركب العلة، لكانت العلية صفة زائدة على مجموع تلك الأوصاف، ودليل ذلك أمران:

1 انظر: المحصول ص337 - خ -، والمختصر وشرحه 2/231، ونهاية السول مع حاشية سلم الوصول 4/288 فما بعدها.

2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص409.

3 انظر: المختصر مع شرحه 2/231، الأحكام للآمدي 3/199، المحلى وحاشية العطار وتقريرات الشربيني 2/276، ونهاية السول مع سلم الوصول 4/292.

ص: 71

الأول: أنا نعقل الهيئة الاجتماعية من الأوصاف، ونجهل كونها علة، للذهول وللحاجة إلى النظر، والمعلوم غير المجهول.

الثاني: أن صفة الكل إن لم تقم بشيء من أجزائه، فليست صفة، وإن قامت، فإن ما أن تكون العلية قائمة بمجموع الأفراد، أو قائمة بكل واحد منهما، أو قائمة بواحد غير معين، أو بواحد معين، والكل باطل، لأنها إن قامت بالجميع من حيث هو جميع، والعلة وصف واحد، والجميع كثير، فلا يصح قيام الواحد بالكثير، لأن ذلك يوجب قيام المتحد بالمتعدد واتحاد المتعدد، وهو محال وإن قامت العلية بكل جزء، فكل جزء منها حينئذ علة مستقلة، فلا يكون المجموع، وهو خلاف الفرض، ولا يصح أن تكون جزءاًَ معيناً، لأنه حينئذ يكون هو العلة، فلا تكون مركبة.

وإن كانت جزء غير معين، فلا يصح أيضاً، لأن من شرط العلة أن تكون وصفاً معيناً كما تقدم، ولأنه يؤدي إلى أن تكون مركبة أيضاً1.

وأجيب عن هذا الدليل بما يأتي:

الأول: أنه لا معنى لكون مجموع الأوصاف علة إلا أن الشارع قد قضى بثبوت الحكم عندها رعاية لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة، وليست صفة لها، فلا يلزم ما ذكرتموه.

الثاني: أنه إن كانت العلية صفة وجودية، فممنوع، لأنها لو كانت وجودية لكانت عرضاً2، والصفات المعلل بها أعراض، والعرض لا يقوم بالعرض3.

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/231، الأحكام للآمدي 3/196 - 197، نهاية السول مع سلم الوصول 4/290، المحصول ص337 - خ -.

2 هو الوصف القائم بالغير، وهو عند المناطقة الكلي الخارج عن الماهية، فإن كان شاملاً لها ولغيرها كالمشي والتحرك بالنسبة للإنسان، فهو عام، وإن كان مساوياً لها كالضاحك بالنسبة للإنسان فهو خاص، ويعبرون عنه بالخاص.

انظر: آداب البحث والمناظرة - القسم الأول ص30.

3 لأن قيام الصفة بالموصوف معناه تحيز الصفة تبعاً لتحيز الموصوف، وكون الشيء متبوعاً لتحيز غيره به لا يتصور إلا في المتحيز بالذات، لأن المتحيز بتبعية غيره لا يكون متبوعاً لثالث، إذ ليس كونه متبوعاً لذلك الثالث أولى من كونه تابعاً له، والعرض ليس بمتحيز بالذات، بل هو تابع في التحيز للجوهر، فلا يقوم به غيره.

انظر: شرح المواقف ص197.

ص: 72

وأيضاً فإنها صفة إضافية1، والمفهوم من الصفة الإضافية غير وجودي2، وما ذكروه من المحال إنما يلزم من تقدير كون العلية صفة وجودية، وليست كذلك3.

الثالث: أنه "منقوض بكون القول المخصوص خبراً أو استخباراً، أو وعداً أو وعيداً، أو غير ذلك مع تعدد ألفاظه وحروفه، فإن كل ما ذكروه من الأقسام بعينه متحقق فيه، ومع ذلك لم يمنع وصفه بما وصف به، فما هو الجواب ههنا يكون جواباً في محل النزاع"4.

1 هي الصفة التي لا تعقل حقيقتها إلا بإضافة أمر لأمر آخر ينافيه منافاة تامة، بحيث يستحيل اجتماع الوصفين في شيء واحد في وقت واحد، كما أنه يستحيل إدراك أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه كالأبوة والبنوة، والقبل والبعد والفوق والتحت، ونحو ذلك، فالذات الواحدة مثلاً يستحيل أن تكون أباً للشخص وابناً لذلك الشخص بعينه، كما يستحيل اجتماع البياض والسواد في نقطة واحدة، إلا أن الأبوة والبنوة لا يدرك معنى أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه، وكذلك الباقي.

انظر: إملاء الشيخ محمد الأمين محمد المختار، على مراقي السعود، دفتر 2/186 - 187.

2 لأنه عدمي، والعدمي عند الفقهاء هو ما كان العدم داخلاً في مفهومه كعدم كذا، وانتفاء كذا، أو سلب كذا، بخلاف الوجودي فهو عندهم ما ليس العدم داخلاً في مفهومه.

انظر: إملاء الشيخ محمد الأمين، على مراقي السعود، دفتر 2/186.

3 انظر: الأحكام للآمدي 3/198 - 199، العضد على المختصر 2/231.

4 انظر: الأحكام للآمدي 3/199.

ص: 73

المبحث الثالث التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط

تقدم أن الأصوليين اتفقوا على أن الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على الحكمة يصح تعليل الحكم به، مثل تعليل وجوب القصاص في النفس بالقتل العمد العدوان، ووجب الحد بالزنا، وقصر الصلاة بالسفر.

واختلفوا في التعليل بنفس الحكمة المقصودة من شرع الحكم كالرضى في البيع والمشقة في السفر، وحفظ النفس وغيرها على ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: يجوز التعليل بالحكمة مطلقاً، سواء كانت منضبطة، أو غير منضبطة، ظاهرة كانت أم خفية، واختار هذا القول الإمام الفخر الرازي والبيضاوي.

قال الأسنوي: "وكلام ابن الحاجب يقتضي رجحانه أيضاً1.

ولعل الأسنوي أخذ ذلك من قول ابن الحاجب "ومنها أن تكون وصفاً ضابطاً لحكمة، لا حكمة مجردة لخفائها أو لعدم انضباطها"2.

لكن يعكر هذا ما صرح به ابن الحاجب بعده حيث قال: "ولو أمكن اعتبارها جاز على الأصح".

قال العضد مبيناً لما ذكره ابن الحاجب "فلو وجدت حكمة مجردة، وكانت ظاهرة بنفسها منضبطة بحيث يمكن اعتبارها ومعرفتها جاز اعتبارها وربط الحكم بها على الأصح، لأنا نعلم قطعاً أنها هي المقصود للشارع، واعتبر المظنة لأجلها، لمانع خفائها واضطرابها، فإذا زال المانع من اعتبارها جاز اعتبارها قطعاً"3.

1 انظر: نهاية السول مع سلم الوصول 4/260 - 261.

2 انظر: المختصر مع شرحه 2/213.

3 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/213 - 214.

ص: 74

فقول ابن الحاجب "ولو أمكن اعتبارها جاز على الأصح، صريح في أن الراجح عنده اعتبار التعليل بالحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة، وأن عدم اعتبارها مرجوح، وأن المنع إنما هو في الخفية المضطربة كما أوضحه العضد.

المذهب الثاني: لا يجوز التعليل بالحكمة مطلقاً، ونسبه الآمدي للأكثرين1.

قال المطيعي2: "وظاهر ما في جمع الجوامع اختبار المنع مطلقاً، فإنه قال مع شرحه: ومن شروط الإلحاق بها أن تكون وصفاً ضابطاً لحكمة كالسفر في جواز القصر مثلاً، لا نفس الحكمة كالمشقة في السفر، لعدم انضباطها، وقيل يجوز أن انضبطت لانتفاء المحذور"3.

المذهب الثالث: وهو اختيار الآمدي أنه يجوز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة بنفسها، أما الخفية المضطربة، فلا يجوز التعليل بها4.

دليل أهل المذهب الأول:

استدل أهل المذهب الأول على ما ذهبوا إليه بأنه إذا جاز التعليل بالوصف، فأولى أن يجوز التعليل بالحكمة، لأنها هي مقصود الشارع من شرع الحكم، لأن جواز التعليل بالوصف إنما هو لأجل اشتماله على تلك الحكمة إذ هي نفس المصلحة، والمفسدة وحاجات الخلق، وهذا هو سبب ورود الشرائع، وحيث اتفق على التعليل بالوصف المناسب لاشتماله عليها، كان التعليل بها أولى من التعليل به، لأنها أصله، وأصل الشيء أولى بالاعتماد علية من فرعه5.

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/186.

2 هو: محمد بن بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية الأسبق، ولد سنة 1271هـ وتلقى العلوم على مشايخ عصره حتى تبحر في العلوم العقلية والفلسفية، حنفي المذهب، تولى القضاء، واشتغل بالتدريس والتأليف، من مؤلفاته سلم الوصول على نهاية السول في أصول الفقه، توفي رحمه الله سنة 1935م.

انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/181 - 187.

3 انظر: سلم الوصول على نهاية السول 4/260.

4 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/186.

5 انظر: شرح تنقيح الفصول ص406.

ص: 75

واعترض عليه بأن الوصف المشتمل على الحكمة إنما جاز التعليل به لاشتماله على الحكمة، ولأنه ظاهر منضبط، والحكمة لما كانت خفية غير منضبطة لم ينط بها الحكم كالمشقة في السفر، فإن لها مراتب لا تحصى، وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال اختلافاً عظيماً، وليست كل مرتبة منها مناطاً للحكم، ولا يمكن تعيين مراتب منها إذ لا طريق إلى تمييزها بذاتها وضبطها في نفسها، وحين رأينا الشارع أناط الحكم بالوصف الظاهر المنضبط علمنا أو المعتبر حينئذ عند الشارع إنما هو المظنة، وإن تخلفت تلك الحكمة كما في سفر الملك المرفه، ولو كانت الحكمة هي المعتبر لم يعتبر الشارع المظان عند خلوها عن الحكمة، إذ لا عبرة بالمظنة في معارضة المئنة، واللازم منتف لأن الشارع قد اعتبرها حيث أناط الحكم بالسفر، وإن خلا عن الحكمة كما مر في سفر الملك المرفه، ولم ينطها بالحضر وإن اشتمل على المشقة كما في أرباب الصنائع الشاقة في البلاد الحارة في شدة القيظ كالحمالين مثلاً1، وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله تعالى في الكلام على أدلة أهل التفصيل الآتية:

أدلة أهل المذهب الثاني:

استدل أهل المذهب الثاني على ما ذهبوا إليه من منع التعليل بالحكم مطلقاً بما يأتي:

الأول: قالوا: لو صح تعليل الحكم بالحكمة، لما صح تعليله بالوصف، وتعليل الحكم بالوصف جائز اتفاقاً، فالتعليل بالحكمة غير جائز، لأن كل ما يقدح في استناد الحكم إلى الحكمة يقدح في استناده إلى الوصف، إذ القادح في الأصل قادح في الفرع، وقد يوجد ما يقدح في الوصف، ولا يكون قادحاً في الحكمة، لأن القادح في الفرع قد لا يكون قادحاً في الأصل، فإسناد الحكم إلى الوصف مع إمكان إسناده إلى الحكمة تكثير من غير حاجة إليه، والتكثير قد يؤدي إلى الغلط، وهو لا يجوز.

1 انظر: العضد 2/214، نهاية السول مع سلم الوصول 4/263.

ص: 76

ولما رأينا إنه جاز التعليل بالوصف علمنا أنه إنما جاز لتعذر التعليل بالحكمة1.

وأجيب عنه بأن "التعليل بالحكمة وإن كان راجحاً على التعليل بالوصف من الوجه الذي ذكر "المستدل"، فإن التعليل بالوصف الراجح على التعليل بالحكمة من وجه آخر، وهو سهولة الاطلاع على الوصف، وعسر الاطلاع على الحكمة، فلما كان كل واحد منهما راجحاً من وجه، ومرجوحاً من وجه آخر حصل الاستواء"2.

الثاني: أن القدر الذي رتب الشارع علة الحكم فيه لا يعلم وجوده في الفرع، لأن المصالح والمفاسد من الأمور الباطنة التي لا يمكن الوقوف على حقائق مقاديرها، لاختلاف مراتبها التي لا نهاية لها بحسب الأشخاص والأحوال، وليس كل قدر منها صالحاً لإناطة الحكم، ولما تعذر تعيين القدر الصالح لإناطة الأحكام منها، نيط بوصف ظاهر منضبط كالسفر، للترخص لقصر الصلاة والإفطار في رمضان مثلاً، ولم ينط بالمشقة التي هي الحكمة.

وأجيب عنه بأنه لو لم يجز التعليل بالحكمة، لكونها غير معلومة لما جاز بالوصف المشتمل عليها، لأنه إذا انتفى العلم بها، انتفى العلم بالوصف المشتمل عليها، لاستحالة العلم به دون العلم بها، لكن الوصف المشتمل عليها يصح التعليل به بالاتفاق كالسفر مثلاً، فإنه علة لجواز القصر، لاشتماله على المشقة، لا لكونه سفراً، فإذا حصل الظن بأن الحكم في الأصل لتلك المصلحة، أو المفسدة المقدرة، وحصل الظن أيضاً بأن قدر تلك المصلحة أو المفسدة، حاصل في الفرع، لزم بالضرورة حصول الظن بأن الحكم وهو الترخص بالقصر قد وجد في الفرع، والعمل بالظن واجب3.

1 انظر: المحصول ص333 - خ -، وشرح تنقيح الفصول ص406.

2 انظر: المحصول ص 334 - خ -.

3 انظر: المنهاج مع شرحه نهاية السول وحاشية سلم الوصول 4/262 - 263.

ص: 77

لكن يرد على ما ذكر هنا أن الحكمة لما لم تنضبط، ولم تعلم، فإن الشارع أناط الحكم بالوصف الظاهر المنضبط، ولذا علمنا أن المعتبر عند الشارع إنما هو المظنة، وإن تخلفت الحكمة كما في سفر الملك المرفه.

أدلة المذهب الثالث:

استدل الآمدي على ما ذهب إليه من التفصيل بما ملخصه:

أن الحكمة إن كانت ظاهرة منضبطة غير مضطربة جاز التعليل بها، للإجماع على أن الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها أنه يصح التعليل به، وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم، بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية، فإذا كانت الحكمة وهي المقصود من شرع الحكم مساوية للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها.

وأما إذا كانت الحكمة خفية مضطربة غير منضبطة، فيمتنع التعليل بها، لثلاثة أوجه:

الأول: أنها إذا كانت خفية مضطربة مختلفة باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال، فلا يمكن معرفة مناط الحكم منها، والوقوف عليه إلا بعسر وحرج، ودأب الشارع فيما هذا شأنه على ما ألفناه إنما هو رد الناس فيه إلى المظان الظاهرة المنضبطة دفعاً للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام، ولهذا فإنا نعلم أن الشارع إنما قضى بالترخيص في السفر دفعاً للمشقة المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين، ولم يعلقها بنفس المشقة، لأنها مما لا ينضبط، ولذا لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر، وإن ظن أن مشقته تزيد على المسافر الذي يقطع فرسخاً في كل يوم، وإن كان في غاية الرفاهية والدعة؛ لأن ذلك مما يختلف ويضطرب.

الثاني: أن الإجماع منعقد على صحة تعليل الحكم بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم، كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد

ص: 78

العدوان لحكمة الزجر أو الجبر1، وتعليل صحة البيع الصادر من الأهل في المحل لحكمة الانتفاع، وتعليل تحريم شرب الخمر بإيجاب الحد به لحكمة دفع المفسدة الناشئة منه، ونحوه.

ولو كان التعليل بالحكمة الخفية مما يصح لما احتيج إلى التعليل بضوابط هذه الحكمة والنظر إليها، لعدم الحاجة إليها، ولما فيه من زيادة الحرج بالبحث عن الحكمة، وعن ضابطها مع الاستغناء بأحدهما.

الثالث: أن التعليل بالحكمة المجردة إذا كانت خفية مضطربة، فالبحث عنها للاطلاع عليها مما يفضي إلى العسر والحرج في حق المكلف، وذلك منفي بقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2.

1 ذهب الجمهور إلى أن الحدود كما هي زواجر فهي كفارات للذنوب، وإن لم يتب صاحبها، واستدلوا على ذلك بما أخرجه البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتولوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاَ ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك" ا. هـ من صحيح البخاري مع فتح الباري 1/64.

قال ابن حجر: "ويستفاد من الحديث أن إقامة الحدود كفارة وإن لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور. اهـ، وساق آثار تدل على ذلك منها للبزار مرفوعاً عن عائشة رضي الله عنها "لا يمر القتل لذنب إلا محاه".

قال الحافظ: "ولم ينفرد عبادة بالحديث، فقد أخرجه الترمذي والحاكم وصححه عن علي رضي الله عنه وفيه: "من أصاب ذنباً فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة".

وقيل: لا بد من التوبة، وعليه فهي زواجر فقط، وبه جزم بعض التابعين، وهو قول المعتزلة، ووافقهم ابن حزم، ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة، واستدلوا باستثناء من تاب في قول الله تعالى {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} الآية من سورة المائدة آية:34.

وأجيب بأنه في عقوبة الدنيا.

ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" أخرجه الحاكم في المستدرك، والبزار، لكن حديث عبادة أصح منه إسناداً.

انظر: الفتح 1/66 - 68، نيل الأوطار 7/56 فما بعدها، الجامع لأحكام القرآن 6/158، وفتح القدير شرح الهداية 5/211.

2 سورة الحج آية: 78.

ص: 79

لكن قد يقال: خالفتم عموم الآية في التعليل بالوصف الظاهر المنضبط مع ما في ذلك من المشقة.

ويجاب عنه بأن التعليل بالوصف لا ينافي العمل بعموم الآية، لأن المشقة فيه أدنى من المشقة في الحكمة المجردة الخفية المضطربة، فهي في الوصف الظاهر مشقة معتادة، والحرج إنما يتأتى في غير المعتادة، لتضمنها الضيق الذي هو الحرج.

الاعتراضات الواردة على ما استدل به الآمدي، والجواب عنها:

الأول: أنه قد يقال: ما ذكرتموه في جواز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة هو فرع إمكان ذلك، وهو غير مسلم في الحكمة، لأنها راجعة إلى الحاجات، إلى المصالح ودفع المفاسد، والحاجات مما تخفى، وتزيد وتنقص، فلا تكون ظاهرة، ولا منضبطة، وإن سلم إمكان ذلك نادراً، وأجيب عنه بأن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها في بعض الصور، لا في ما لم تكن كذلك.

وقولهم: "إنَّ الاطلاع عليها والبحث عنها أشق من البحث عن الضابط" ليس كذلك، فإنها إن كانت ظاهرة منضبطة كالوصف فلا تفاوت.

الاعتراض الثاني على الوجه الأول:

إن البحث عن الحكمة الخفية وإن كان فيه نوع حرج ومشقة، غير أنه لا بد منه عند التعليل بالوصف الظاهر المشتمل عليها، ضرورة أنها علة لكون الوصف علة إذ لولا اشتمال الوصف عليها لما كان علة للحكم، وإذا لم يكن بد من معرفتها في جعل الوصف علة للحكم وقد جعلت علة للعلة أمكن أن تجعل علة للحكم من غير حاجة إلى ضابط.

وما ذكر من عدم اعتبار الترخص للحمال في الحضر دفعاً للمشقة عنه، فغايته امتناع تعليل الرخص بمطلق المشقة، بل بالمشقة الخاصة بالسفر، ولا يلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة.

ص: 80

وأجيب عنه بأن البحث عن الحكمة عند تجردها عن الضابط لا بد فيه من معرفة كميتها وخصوصيتها، حتى نأمن الاختلاف بين الأصل والفرع فيها، وذلك غير ممكن في الحكمة الخفية المضطربة، ولا يكفي فيها مجرد معرفة احتمالها، بخلاف ما إذا كانت مضبوطة بضابط، فإنا نكتفي بمعرفة الضابط، ومعرفة أصل احتمال الحكمة.

الاعتراض الثالث على الوجه الثاني:

هو أن غاية ما فيه جواز التعليل بالضابط المشتمل على الحكمة، وليس فيه ما يدل على امتناع التعليل بالحكمة.

وقولكم أنه لا حاجة إليه، لا نسلم ذلك، فإن الاطلاع عليه أسهل من الاطلاع على الحكمة.

وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه لو أمكن التعليل بالحكمة لما احتيج إلى التعليل بالضابط.

وقولهم أن الوقوف عليه أسهل من الوقوف على الحكمة بمجردها، قلنا: فيلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة، لما فيه من تأخر إثبات الحكم الشرعي إلى زمان إمكان الاطلاع على الحكمة، مع إمكانه بالضابط في أقرب زمان، وذلك ممتنع.

الاعتراض الرابع على الوجه الثالث:

وهو أن الحرج اللازم من البحث عن الحكمة الخفية، وإن كان شاقاً، غير أنه لا يزيد على البحث عنها عند التعليل بضابطها، بل المشقة في تعرفها مع تعرف ضابطها أشق من تعرفها دون ضابطها.

وقد أجمعنا على مخالفة النص المذكور عند التعليل بالضابط، وكانت مخالفته عند التعليل بالحكمة لا غير، أقل مشقة وحرجاً، فكان أولى بالمخالفة.

وأجيب عنه بمنع التساوي في الحرج والمشقة في البحث عن الحكمة مع

ص: 81

ضابطها، ومع خلوها عن الضابط، وذلك للافتقار في البحث عنها عند خلوها عن الضابط إلى معرفة خصوصيتها وكميتها حتى يأمن التفاوت فيها بين الأصل والفرع، ولا كذلك البحث عنها مع ضابطها، فإنه لا يحتاج إلى البحث عنها أكثر من معرفة أصل احتمالها، ولا يخفى أن الحرج في تعرفها على جهة التفصيل أتم من معرفتها لا بجهة التفصيل1.

هذا والذي ترجح عندي هو القول بمنع التعليل بالحكمة، لأن الحكمة من الأمور الباطنة التي لا يمكن الوقوف على حقائق مقاديرها، لاختلاف مراتبها التي لا نهاية لها، لأنها تختلف باختلاف الصور والأشخاص والأحوال والأزمان، فلا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم منها إلى بعسر وحرج، والتكليف بما فيه عسر وحرج خلاف ما دلت عليه نصوص الشريعة، كما في قوله تعالى:{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2، وقوله:{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} 3. ولذلك أناط الشارع الحكم بالوصف، فظهر أن المعتبر عند الشارع إنما هو المظنة، وإن تخلفت الحكمة كما في سفر الملك المرفه، ولو كانت الحكمة معتبرة لم يعتبر المظان عند خلوها عن الحكمة، إذ لا عبرة بالمظنة في معارضة المئنة، واللازم منتف، لأنه قد اعتبرها حيث أناط الترخص بالسفر وإن خلا عن الحكمة كما في سفر الملك المرفه، ولم ينطها بالحضر، وإن اشتمل على المشقة، كما في أرباب الصنائع الشاقة في البلاد الحارة في شدة القيظ، كالحمالين وغيرهم4، والله أعلم.

1 انظر تفاصيله في: الأحكام للآمدي 3/187 - 189، مع تصرف بالاختصار تارة، والتقديم والتأخير تارة أخرى.

2 سورة الحج آية: 78.

3 سورة المائدة آية: 6.

4 انظر: تقريرات الشربيني مع حاشية العطار 2/238، وسلم الوصول على نهاية السول 4/263.

ص: 82

المبحث الرابع: في تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي

اتفق الأصوليون على جواز تعليل الحكم الثبوتي بالوصف الثبوتي، كالتحريم بالإسكار، والعدمي بالعدمي كتعليل عدم نفاذ التصرف بعدم العقل، والعدمي بالوجودي، كتعليل عدم نفاذ التصرف بالإسراف1.

واختلفوا في تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي على مذهبين:

الأول: أنه لا يجوز، وعزاه صاحب تيسير التحرير2 لصاحب البديع3، وهو اختيار الآمدي، وابن الحاجب4.

المذهب الثاني: يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي، وهو قول الأكثر، وممن قال به الفخر الرازي، والبيضاوي5.

واستدل أهل المذهب الأول بما يأتي:

الأول: أن الإعدام لا تتميز عن غيرها، وما لا يتميز عن غيره لا يصح أن يكون علة، لأن العلة لا بد وأن تكون متميزة عما ليس بعلة، وإلا لم تكن علة6.

1 انظر: المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطاؤ 2/281، والعضد على المختصر مع حاشية السعد 2/214، وتقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/280.

2 هو: محمد الأمين الشهير بأمير بادشاه الحسيني نسباً، الحنفي مذهباً، الخراساني مولداً، البخاري منشأ، المكي موطناً، له كتاب تيسير التحرير شرح به الكمال بن الهمام في أصول الحنفية. انظر: خطبة كتاب تيسير التحرير 1/ 2.

3 هو: أحمد بن علي بن تغلب، مظفر الدين المعروف بابن الساعاتي الحنفي الإمام الحافظ المتقن، الأصولي الفقيه، له مؤلفات في الفقه وأوله، منها في الفقه مجمع البحرين، وفي الأصول كتاب البديع جمع فيه بين طريقتي الآمدي في الأحكام والبزدوي، توفي سنة 694هـ.

انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/94 - 95.

4 انظر: الأحكام للآمدي 3/189،المختصر مع شرحه 2/214، تيسير التحرير 4/2، نهاية السول مع سلم الوصول 4/269 - 270.

5 انظر: المحصول 2 من القسم الثاني ص 400 - ط -، ونهاية السول مع منهاج العقول 3/107.

6 انظر: نهاية السول مع سلم الوصول 4/269 - 270.

ص: 83

وأجيب عنه "بأن العدم الذي يقع التعليل به لا بد وأن يكون عدم شيء بعينه، فهو عدم متميز، فيصح التعليل به، كما تقول: عدم علة التحريم علة الإباحة في جميع موارد الشريعة، لأن الإسكار علة التحريم والتنجيس، فإذا عدم ثبت التطهير والإباحة"1.

الثاني: أن المجتهد يجب عليه سبر كل وصف يمكن أن يكون علة ليميز الوصف الصالح للعلية عن غيره، فلو كانت الإعدام صالحة للعلية، لوجب عليه سبرها، لكنه لا يجب عليه سبرها، وذلك يدل على أن الوصف العدمي لا يصلح للعلية2.

ويجاب عن هذا الدليل بأنه وإن سلم أن المجتهد لا يبحث في السبر والتقسيم عن الأوصاف العدمية، فإن ذلك إنما سقط عنه لعدم قدرته عليها، لأن الإعدام غير متناهية3.

الثالث: لو كان الوصف العدمي علة للحكم الثبوتي لكان مناسباً، لأن العلة هي الأمر المناسب لمشروعية الحكم أو مظنته، لما علم من أن الوصف الجامع لا بد وأن يكون مشتملاً على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، والعدم المعلل به إما: عدم مطلق أو عدم مخصص بأمر يضاف إليه.

أما العدم المطلق فواضح أنه لا يعلل به، لأنه ليس مناسباً ولا مظنة للمناسب، لأنه نسبته إلى جميع المحال والأحكام سواء، فلا يصلح أن يكون علة.

وأما العدم المخصص بأمر، فلأنه إما أن يكون وجود ذلك الأمر منشأ لمصلحة أو لمفسدة، أو لا يكون، فإن كان منشأ لمصلحة فباطل، لأن اعتبار عدمه تفويت لتلك المصلحة، فلا يصلح مقصوداً.

1 انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص 407.

2 انظر: المحصول ص 335 - خ -، نهاية السول مع سلم الوصول 4/270.

3 انظر: المحصول ص335 - خ -.

ص: 84

وإن كان منشأ لمفسدة، فهو مانع، وعدمه عدم مانع، وعدم المانع ليس علة، بل لا بد معه من مقتض، كما يقال: أعطاه لعلمه، أو لفقره، وسافر للعلم وللتجارة، ولو علل شيء منها بعدم المانع لعد جنوناً أو سخفاً1.

هذا إن كان وجوده منشأة لمصلحة، أو لمفسدة حتى يكون عدمه مناسباً.

وإن لم يكن كذلك حتى يكون عدمه مظنة، فإما أن يكون وجوده منافياً، لمناسب أولاً، فإن كان وجود ذلك الأمر منافياً لمناسب لمشروعية ذلك الحكم، فذلك الأمر بحيث يستلزم وجوده عدم المناسب تحقيقاً للمنافاة، ويجب أيضاً أن يستلزم عدمه وجود نقيض المناسب لتحصل بذلك العدم الحكمة، وحينئذ يكون هو نقيض المناسب، ويكون حاصله أنه كلما عدم نقيض المناسب فالحكم كذا، ويجعل عدم نقيض المناسب مظنة لوجود المناسب.

وهذا لا يصح، لأن نقيض المناسب، إن كان وصفاً ظاهراً منضبطاً أغنى عن المظنة بنفسه، وإن كان هو العلة في الحقيقة، وإن كان خفياً فنقيضه وهو ما عدمه مظنة أيضاً خفي، لاستواء النقيضين2 جلاء وخفاء، والخفي لا يصلح مظنة للخفي.

وإن لم يكن منافياً لمناسب، فالمناسب يحصل عند وجوده كما يحصل عند عدمه، فيكون وجوده وعدمه سواء في تحصيل المصلحة، فليس كون عدمه علة بأولى من أن يكون وجوده علة، فلا يصلح عدمه علة، وقد فرض علة3.

مثال ذلك قولك: يقتل المرتد لعدم إسلامه، فذلك إما لأن في قتله مع

1 السخف بالضم والفتح، وكقرصة وسحابة رقة العقل وغيره. انظر: القاموس: 3/155 - 156.

2 ضابط النقيضين هو إنهما لا يجتمعان، ولا يرتفعان، بل لا بد من وجود أحدهما، وعدم الآخر كما في النفي والإيجاب، من نحو قولك: زيد قائم الآن، وزيد ليس بقائم الآن.

انظر: آداب البحث والمناظرة قسم 1ص26.

3 انظر: المختصر وشرحه وحاشية السعد 2/114، والتقرير والتحبير 3/117 فما بعدها، وتيسير التحرير شرح التحرير 4/2 فما بعدها.

ص: 85

الإسلام مصلحة، فيلزم من اعتبار عدمه تفويتها، أو فيه مفسدة فغايته أن إسلامه مانع، فما المقتضى لقتله؟

وإن كان القتل مع الإسلام بنافي مناسباً للقتل وهو الكفر مثلاً، فإن كان الكفر ظاهراً فيقال يقتل لأنه كافر، وإن كان مع الإسلام ينافي مناسباً للقتل خفياً، وهو الكفر، فالإسلام كذلك أخفى، لأنه نقيضه، والنقيضان، مثلان، إذ لا فرق ضرورة بين معرفة الكفر، ومعرفة عدم الإسلام في الخفاء، وإن كان القتل لا ينافي مناسباً، فليس الكفر هو المناسب، ولذلك قال الإمام مالك1 رحمه الله يقتل وإن رجع إلى الإسلام2.

فالمناسب شيء آخر يجتمع مع الإسلام، فالإسلام وعدمه سواء في تحصيل المصلحة، فلا يكون عدمه مظنة3.

وأجاب عنه السعد بما نصه: "إن ما ذكر مغلطة حلها أنا نختار أن ذلك الأمر الذي يضاف إليه العدم كالإسلام في المثال السابق ينافي مناسباً، ولا يلزم ما ذكر من جعل عدم نقيض المناسب مظنة المناسب، لجواز أن يكون عدم نقيض المناسب، وهو عدم الإسلام نفس المناسب، بأن يتعلق به إيجاب القتل، ويحصل ذلك المقصود الذي هو التزام الإسلام.

1 هو: الإمام مالك بن أنس الأصبحي، المكنى بأبي عبد الله، ينتهي نسبه رحمه الله إلى قحطان، وهو إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة الأعلام، وإليه ينسب المذهب المالكي، أخذ عن تسعمائة شيخ فأكثر، ولم يفت حتى شهد له سبعون إماماً أنه أهل لذلك، وجلس للتدريس وهو ابن سبعة عشر عاماً، ولد سنة 93هـ من مؤلفاته كتابه الموطأ، وقد روى عنه، وتوفي رحمه الله سنة 177هـ، وقيل سنة 179هـ، ودفن بالبقيع بالمدينة المنورة.

انظر: مآثره في مقدمة الزرقاني على الموطأ 1/ 4 فما بعدها، والديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب 1/88 فما بعدها، ومالك بن أنس لأبي زهرة.

2 مراده الزنديق وهو من كان يسر الكفر ويظهر الإسلام، فإن هذا إذا ظهر عليه يقتل ولا يستتاب، لأنه لا تعرف توبته، بخلاف من لم يكن يبطن الكفر ممن كان مسلماً وارتد، فإنه يستتاب فإن تاب قبل منه، وإلا قتل.

انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/116 - 117، والزرقاني على الموطأ 4/404، تحقيق إبراهيم عطوة، ط الحلبي.

3 انظر: العضد على المختصر 2/215 - 216، والتقرير والتحبير شرح التحرير 3/168.

ص: 86

وإن أردتم أن هناك أمراً آخر وجودياً هو المناسب، نختار أن ذلك الأمر الذي يضاف إليه العدم، وليس منافياً له، بل يجامعه، ولا يلزم ما ذكرتم من أن وجود ذلك الأمر، أعني الإسلام وعدمه سواء في تحصيل المصلحة، بل عدم الإسلام أعني ترتب القتل على عدم الإسلام يستلزم المصلحة، التي هي التزام الإسلام، ووجود الإسلام أعني القتل مع الإسلام لا يستلزمها، كما أنه لا ينافيها"1.

كما يجاب عن أدلة المانعين أيضاً بأنه إن صح ما ذكر من منع تعليل الوجودي بالعدمي، لزم أن لا يصح تعليل العدمي بالعدمي أيضاً، بعين ما ذكر، مع أنهم متفقون على تعليل العدمي بالعدمي2.

لكن يرد على ما ذكر من اتفاق الأصوليين على تعليل العدمي بالعدمي، ما صرح به صاحب التحرير وشارحاه، فإنهم بعد أن ذكروا محل الخلاف والوفاق قالوا: إن الحنفية يمنعون التعليل بالعدم مطلقاً، أي المطلق والمضاف، أن يكون علة لوجودي أو عدمي، والدليل المذكور للنافين تعليل الوجودي بالعدمي خاصة يصلح للحنفية النافين له مطلقاً، لأن الدليل المذكور يبطل كون العدمي علة لوجودي أو عدمي، لانتفاء المناسبة ومظنتها فيه، كيف لا وهو ليس بشيء؟ فلا يصلح حجة لإثبات الأحكام، وعدم الحكم لا يحتاج إلى علة، لأنه ثابت بالعدم الأصلي، فلا يصلح العدم علة للعدم، ولا للوجود3.

غير أن أدلة المانعين تعليل الوجودي بالعدمي قد تقدمت الإجابة عنها بما ملخصه أن ما ادعوه من عدم التمييز في الإعدام غير مسلم؛ لأن العدم الذي يقع التعليل به لا بد أن يكون عدم شيء بعينه، فهو عدم متميز.

1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/216.

2 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/168، تيسير التحرير 4/4، وانظر: نقل الإجماع في المحلى مع حاشية العطار 2/281، والعضد على المختصر 2/216، وتقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/280.

3 انظر: التقرير والتحبير 3/168، وتيسير التحرير 4/3 - 4.

ص: 87

وما استدلوا به من أنه لو كانت الإعدام يعلل بها لوجب على المجتهد سبرها، كما هو الشأن في الأوصاف الصالحة للعلية، فقد أجيب عنه بأن ذلك إنما سقط عنه لعدم قدرته عليها، لأنها غير متناهية.

وما ادعوه من عدم المناسبة في العدم، فقد أجيب عنه بأنه ثبت أن في ترتب القتل على عدم الإسلام تحقيق المصلحة التي هي التزام الإسلام خوفاً من القتل.

مع أن ما ذكروه من الاتفاق على تعليل العدمي بالعدمي يقتضي تعليل الوجودي بالعدمي من باب أولى، لأن الخفاء الذي به منع من منع تعليل الوجودي بالعدمي أشد فيما كان طرفاه عدميين منه فيما كان طرفه وجودياً، والآخر عدمياً.

ولما كان يرد على الحنفية إنهم عللوا كثيراً من الأحكام بالعدم كما في المثال السابق، أجابوا عنه بأنه المناسب في المثال المذكور الكفر، وهو اعتقاد قائم بذات الكافر وجودي ضد الإسلام، ويستلزم الكفر عدم الإسلام كما هو شأن الضدين في استلزام كل عدم الآخر، فإضافة القتل في المثال إلى عدم الإسلام - حيث قيل: يقتل لعدم إسلامه - إنما تكون لفظاً أي بحسب الظاهر، وفي المعنى والحقيقة إلى أمر وجودي وهو الكفر في المثال، غير أنه تجوز بالإضافة إلى لازمه.

قالوا: ويضطرد تعليل العدم بالعدم في عدم علة ثبت اتحادها بمعنى ليس لحكمها علة غيرها لعدم حكمها1.

غير أن ما أجابوا به عما أورد عليهم في تعليلهم كثيراً من الأحكام بالعدم عدولاً منهم عن الحقيقة إلى الأخذ بظاهر اللفظ والتجوز، فإن ذلك إنما يسوغ عند تعذر الحقيقة، وهي هنا غير متعذرة، إذ لا محذور شرعاً في تعليل قتل المرتد لعدم إسلامه، وقد تقدم أن في ترتب قتله على عدم الإسلام إبقاء لمصلحة الإسلام خوفاً من القتل، والله تعالى أعلم.

1 انظر تفاصيله في: التقرير والتحبير 3/168، تيسير التحرير 4/4.

ص: 88

أدلة المذهب الثاني:

استدل أهل المذهب الثاني على ما ذهبوا إليه من تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي بما يلي:

الأول: قالوا: صح تعليل الضرب بعدم الامتثال مع أن الضرب وجودي، وعدم الامتثال عدمي، فإنه يصح أن يقال فيما إذا أمر السيد عبده بفعل فلم يمتثل أمره، فضرب السيد عبده: إنما ضربه لأنه لم يمتثل أمره، ولو لم يجز التعليل بالعدم لما صح هذا.

الثاني: أن معرفة كون المعجز معجزاً أمر وجودي، وهو معلل بالتحدي بالمعجزة مع انتفاء المعارض لها بمثلها، وانتفاء المعارض جزء العلة، وهو عدم، وما جزؤه عدم، فهو عدم، وقد علل به وجودي.

الثالث: أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعد الإعدام، وهو علة لمعرفة كون المَدار علة، وكونه علة وجودي، وجزء الدوران عدم لأن الدوران مركب من الطرد1، والعكس2، والعكس عدم، إذ الدوران عبارة عن الوجود مع الوجود، والعدم مع العدم.

نوقشت هذه الأدلة بما يأتي:

أما الأول فقيل عنه: بأن التعليل إنما هو بالكف عن الامتثال، وهو أمر ثبوتي محقق.

وعن الثاني والثالث: بأن العدم في المعجز، والدوران شرط، وكون العكس معتبراً في الدوران لا يستلزم دخوله في ماهيته، لجواز أن يكون أحد جزئيه وهو الطرد علة، والآخر وهو العكس شرطاً، فيتوقف تأثير المشروط عليه حتى لا يؤثر الطرد بمجرده، ويؤثر معه، ولا بدع في كون الشرط عدمياً، ولو سلم كون التحدي لا يستقل علة لمعرفة المعجز، بل يحتاج إلى شيء آخر معه في العلية، فهو

1 هو في الاصطلاح: الملازمة في الثبوت، يعني أنه كل ما وجد الحد وجد المحدود.

2 هو في الاصطلاح: الملازمة في الانتفاء بمعنى أنه كل ما انتفى الحد انتفى المحدود.

انظر: حاشية الباجوري على السلم ص 43، آداب البحث والمناظرة قسم 1/37.

ص: 89

معرف للمعجزة، والكلام في العلة المشتملة على المناسب الباعث على الحكمة لا بمعنى المعرف1.

لكن يرد على هذا ما جاء في حاشية السعد ونصه: "وذكر بعض الشارحين أن المراد من شروط العلة أن لا يكون العدم جزءاً من علة الوجودي، وهو مصرح به في بعض النسخ، ولا خفاء في أن التعريف لا يحصل إلا بمجموع الأمرين، ولا نعني بكون العدم جزءاً له سوى هذا، وهذا هو المراد بقوله - يعني العضد - ولا يخفى أن نفس التحدي لا يستقل بتعريف المعجز، بمعنى أن لا يكون لشيء آخر مدخل في التعريف"2.

وإذا كان التعريف لا يحصل إلا بمجموع الأمرين: التحدي مع انتفاء المعارض، والطرد مع العكس، وكان كل من الأمرين معتبراً في إثبات العلة تعين أن يكون جزء العلة عدماً، وذلك يصحح تعليل الوجودي بالعدمي، مع "أن المحتاج إليه في التعليل مجرد العلم بأنه علامة، فحيث حصل العلم بذلك من الشارع نصاً أو استباطاً أمكن الاستدلال به في الجزئبات المعينة، وكونه أخفى في ذاته لا يؤثر في ذلك، والعدم يقبل الظهور بالمعنى المراد في المقام، ولولا ذلك لامتنع تعليل العدمي بالعدمي، مع أنه كذلك اتفاقاً"3.

والصفات الإضافية وجودية عند الفقهاء والفلاسفة، عدمية عند المتكلمين، إلا أن وجودها في الذهن فقط.

أما في الخارج فهي عدمية، وأما الأوصاف العدمية فهي عدمية في الذهن والخارج، فهذا هو الفرق بين القسمين.

1 انظر: التقرير والتحبير 3/169، تيسير التحرير 4/5، المختصر مع شرحه 2/216، الأحكام للآمدي 3/193.

2 انظر: حاشية السعد على العضد: 2/217.

3 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/135 - 136.

ص: 90

فعلى القول بوجود الصفات الإضافية يجوز التعليل بها مطلقاً وعلى القول بعدمها بجوز تعليل العدم بها على ما تقدم.

ويجري الخلاف في تعليل الوجودي بها على ما تقرر أيضاً، كما يجري الخلاف في العلة المركبة من جزئين أحدهما وجودي والآخر عدمي.

وإذا كان المعنى الواحد عبارتان إحداهما نفي والأخرى إثبات صح التعليل بالإثبات بلا خلاف، وجرى الخلاف في النفي1.

وظاهر كلام الجلال المحلى صحة التعليل بالعدم المستلزم للمصلحة، وإن كان معه وجودي نظراً لترتب المصلحة على كل، قال:"ومن أمثلته تعليل الثبوتي بالعدمي ما يقال: يجب قتل المرتد لعدم إسلامه، وإن صح أن يقال لكفره، كما يصح أن يعبر عن عدم العقل بالجنون؛ لأن المعنى الواحد قد يعبر عنه بعبارتين: منفية ومثبتة، ولا مشاحة في التعبير"2.

1 انظر: نشر البنود 2/136، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 2/187، وشرح تنقيح الفصول ص 408.

2 انظر المحلى 2/281.

ص: 91

المبحث الخامس التعليل بالعلة القاصرة

العلة القاصرة إما أن تكون: منصوصة، أو مستنبطة، فإن كانت ثابتة بنص أو إجماع، فقد اتفق الأصوليون على جواز التعليل بها1، "لأن النص تعبد من الشارع يجب تلقيه بالقبول"2.

وإن كانت ثابتة باستنباط، فقد اختلفوا فيها على مذهبين:

الأول: أنه يجوز تعليل الحكم بالعلة القاصرة، وإن كان الحكم لا يتعدى بها إلى محل آخر لعدم تحققها فيه، وإلى هذا ذهب ابن الحاجب، والإمام الفخر الرازي، وأتباعه، ونقله الآمدي عن الشافعي3، وأصحاب أحمد بن حنبل4،

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/200، والعضد على المختصر 2/217، المحصول ص 338 - خ -، شرح تنقيح الفصول ص 410، التوضيح 2/66.

2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 410.

3 هو: الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، ينتهي نسبه إلى هاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف، المكنى بأبي عبد الله، أحد الأئمة الأربعة، وإليه ينسب المذهب الشافعي، ولد بغزة سنة 150هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 204هـ، نشأ في مكة وتلقى العلوم عن علمائها، ثم رحل إلى المدينة ولازم مالكاً وروى عنه موطأه، وإلى اليمن وتولى بعض الأعمال، وإلى العراق وأخذ عن علماء العراقيين، له مؤلفات منها في أصول الفقه الرسالة - ط -، والتي يعدها أكثر الأصوليين أول مؤلف في الأصول، ومنها الأم وغيرهما، مآثره كثيرة.

انظر: طبقات الشافعية 1/192، الشافعي لأبي زهرة، الفتح المبين 1/127 فما بعدها.

4 هو: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، المحدث الفقيه، رحل في طلب العلم إلى الكوفة والبصرة ومكة والشام، وغيرها، وأخذ عن الشافعي وغيره من علماء عصره حتى صار إماماً، وامتحن في عهد المأمون والمعتصم بفتنة القول بخلق القرآن، فثبت على الحق ثباتاً نادراً، ولد سنة 164هـ، وتوفي سنة 241هـ رحمه الله، له مؤلفات نفيسة منها كتابه المسند في الحديث، ومآثره كثيرة.

انظر: الوفيات 1/63، وأحمد بن حنبل لأبي زهرة، والفتح المبين 1/149.

ص: 92

والقاضي أبي بكر1، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري، وأكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال: إنه المختار2.

وعزاه صاحب تيسير التحرير إلى جمهور الفقهاء، ومنهم السمرقنديون، والشافعي وأحمد، قال: واختاره صاحب الميزان3، والمصنف4 يعني الكمال بن الهمام.

المذهب الثاني: لا يجوز التعليل بها، وعزاه صاحب التحرير وشارحه لجمع من الحنفية كالكرخي5 من المتقدمين، وأبي زيد6 من المتأخرين، ومشايخ العراق، وأكثر المتأخرين7.

1 هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، المعروف بالقاضي الباقلاني، المكنى بأبي بكر البصري المتكلم، العالم المشهور من كبار علماء الكلام، ومن رؤساء المذهب المالكي، انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، ولد بالبصرة وسكن بغداد وتوفي بها سنة 403هـ، له مؤلفات كثيرة في علم الكلام وغيره.

انظر: وفيات الأعيان 4/269 - 270.

2 انظر: الأحكام للآمدي 3/200، المحصول ص 338 - خ -، والمختصر مع شرحه 2/217، ونهاية السول مع سلم الوصول 4/277،وشرح تنقيح الفصول ص 409.

3 هو: محمد بن أحمد، المكنى بأبي بكر، الملقب بعلاء الدين شمس النظر السمرقندي، الحنفي الأصولي، المتوفي سنة 553هـ.

انظر: كشف الظنون 2/1916.

4 انظر: تيسير التحرير 4/5.

5 هو عبيد الله بن الحسن بن دلال بن دلهم، المكنى بأبي الحسن الكرخي، عد من المجتدهين، وانتهت إليه رياسة الحنفية في عصره، وعرف بالقناعة والصبر والعبادة، له مؤلفات منها رسالة مطبوعة في أصول الفقه، ذكر فيها الأصول التي عليها مدار كتب أصحاب أبي حنيفة، ولد سنة 260هـ، وتوفي سنة 340هـ.

انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/186.

6 هو: عبد الله بن عمر بن عيسى، القاضي الحنفي، وهو أول من وضع علم الخلاف وأبرزه للوجود، له مؤلفات منها: كتاب تأسيس النظر فيما اختلف فيه أبو حنيفة وصاحباه، ومالك والشافعي، وكتاب الأسرار والأمد الأقصى وغيرها. توفي رحمه الله سنة 430هـ.

انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/236، الأعلام للزركلي 4/248.

7 انظر: التقرير والتحبير 3/169، تيسير التحرير 4/5.

ص: 93

أدلة المذهب الأول:

استدل أهل المذهب الأول القائلون بجواز تعليل الحكم بالعلة القاصرة بما يأتي:

الأول: قالوا: إن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها، لأنه المفروض، وهو معنى صحة التعليل بها، بدليل صحة العلة القاصرة المنصوصة اتفاقاً، والمجمع عليها أيضاً، وإن لم يفد كل منهما إلا الظن، ولو كان معنى التعليل القطع بأن الحكم لأجلها لم يصح التعليل بها1.

الثاني: "أنه لو كانت صحة العلية موقوفة على تعديتها، لم تكن تعديتها موقوفة على صحتها، لامتناع الدور، واللازم منتف، للاتفاق على توقف التعدية على ثبوت العلية الموقوف على صحتها"2.

وأجيب على الدور بأنه دور معي، لا دور تقدم3، لأن العلة لا تكون إلا متعدية، لا أن كونها متعدية ثبت أولاً، ثم تكون علة، والمتعدية لا تكون إلا علة، لا أنها تكون علة ثم تكون متعدية.

1 انظر: العضد على المختصر 2/217.

2 انظر: العضد على المختصر 2/217.

3 الدور السبقي معناه أن تكون معرفة الحد يشترط لها معرفة بعض ألفاظ المحدود؛ لأن الغرض توقف معرفة المحدود على معرفة الحد، فإن توقفت معرفة الحد على معرفة المحدود كان دوراً سبقياً؛ لأن معرفة كل منهما تتوقف على سبق معرفة الآخر، فلا يمكن الإدراك، كتعريف العلم بأنه معرفة المعلوم على ما هو به، لأن المعلوم مشتق من العلم، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه.

أما الدور المعي فلا محال فيه، ككون ما يسميه المناطقة الجرم متصفاً بما يسمونه العرض، إذ لا يعقل جرم خال عن جميع الأعراض كالحركة والسكون، والاجتماع والافتراق واللون ونحو ذلك، كما لا يعقل عندهم عرض قائم بنفسه دون جرم.

فمعرفة كل منهما تتوقف على معرفة الآخر، إلا أنه لا يشترط سبق أحدهما للآخر، بل يعلمان معاً في وقت واحد، وذلك هو معنى كونه دوراً معياً.

انظر: آداب البحث والمناظرة القسم الأول ص39.

ص: 94

والدور المحال إنما هو دور التقدم، وهو ما يلزم منه اجتماع النقيضين بتقدم شيء على نفسه، وتأخره عن نفسه1.

الثالث: أن الوصف القاصر قد يدور مع الحكم وجوداً وعدماً، والدوران دليل العلية، فيكون الوصف القاصر علة2.

أدلة المذهب الثاني:

واستدل أهل المذهب الثاني القائلون بعدم جواز التعليل بها بما يأتي:

الأول: أنه لا فائدة في التعليل بالعلة القاصرة، لأن فائدة العلة منحصرة في إثبات الحكم بها، وإثبات الحكم بها منتف، لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص أو الإجماع، وأما في الفرع، فلأن المفروض أنها قاصرة، وإثبات ما لا فائدة فيه لا يصح شرعاً ولا عقلاً3، نوقش هذا الدليل بأمرين:

الأول: النقض بالعلة القاصرة إذا ثبتت بنص أو إجماع، فإن هذا الدليل بعينه يجري فيها، مع جواز التعليل بها اتفاقاً4.

الأمر الثاني: أنه وإن سلم امتناع إثبات الحكم بالعلة القاصرة، لكونه ثابتاً بالنص أو الإجماع، وأن فائدة العلة إنما هي إثبات الحكم بها، لكن لا يسلم انحصار فائدتها في ذلك، بل لها فوائد أخرى هي:

الأولى: معرفة كونها باعثة على الحكم بما اشتملت عليه من المناسبة، فإن الحكم إذا عرفت حكمته كان أقرب إلى القبول والإذعان، مما لم تظهر مناسبته، وكان أبعد من التعبد المحض، وإذا كان كذلك كان أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع من شرع الحكم، فكان التعليل بها مفيداً5.

1 انظر: شرح مختصر ابن الحاجب 2/217، والتقرير والتحبير 3/169.

2 انظر: الأحكام للآمدي 3/200.

3 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/169.

4 انظر: المختصر مع شرحه 2/218.

5 انظر: المختصر مع شرحه 2/218.

ص: 95

الثانية: إذا كانت العلة قاصرة، وقدر وصف آخر متعد، امتنع القياس على محلها، لمعارضة المتعدي لها، فيتوقف عن القياس، لأجل تلك المعارضة، إذ يجوز أن تكون العلة مركبة من الوصفين، وحينئذ فلا تعدية؛ لأن المركب من متعد وغير متعد، غير متعد، إذ لا يوجد في الفرع إلا بعض العلة الذي هو جزؤها المتعدي، والعلة يشترط وجودها في الفرع بتمامها.

فإن قيل: يجوز أن يكون كل من الوصف القاصر والمتعدي علة مستقلة، أجيب بأنه تسقط العلية للاحتمال.

فإن قيل: التعدية كافية في ترجيح استقلال المتعدي على كونه جزءاً1.

أجيب بأنه هنا معارض بمرجح آخر لكونه جزءاً، وذلك المرجح هو أن احتمال اجتماع علتين خلاف الغالب، وموافقة الغالب من المرجحات، فيتعارض الترجيح بالترجيح، فيلزم التوقف عن القياس، كما في تعليل طهورية الماء بالرقة واللطافة، ولا يوجد ما يماثل الماء فيها حتى يتعدى ذلك الوصف إليه، فهذه علة قاصرة على الماء، فلو عللها مستدل آخر بالإزالة لكل ما يتقذر، وهذا الوصف متعد لغير الماء من المائعات، فإنه لا يجوز الإلحاق بهذا الوصف المتعدي، لاحتمال عدم استقلاله بالعلة، إذ يحتمل أن تكون العلة مركبة منه ومن الوصف القاصر، كما تقدم2.

الثالثة: أنها تفيد العلم أو الظن بما كان مجهولاً، والعلم بالمجهول هو غاية النفوس ومحبوب القلوب، ولا يمتنع أيضاً أن تكون فيه مصلحة أخرى3.

الرابعة: أنها تقوي النص الدال عل معلولها، لأن التعليل كنص آخر، فإذا

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/218، الأحكام للآمدي 3/201 - 202، والمحصول ص339 - خ -، إملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/3.

2 انظر: نشر البنود 2/139، وحاشية العطار على المحلى 2/283، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود دفتر 3/3 - 4.

3 انظر: المحصول ص 339 - خ -.

ص: 96

كان النص ظاهراً قابلاً للتأويل تقوى بالعلة، وامتنع تأويله، وكذلك إذا كان قطعياً بناء على أن اليقين يتفاوت1.

الدليل الثاني: أن العلة الشرعية أمارة، فلا بد وأن تكون كاشفة عن شيء، والعلة القاصرة لا تكشف عن شيء، فلا تكون إمارة، فلا تصح علة2.

نوقش هذا الدليل بأنا لا نسلم أنها لا تكشف عن حكم، بل تكشف عن المنع عن استعمال القياس، وإن سلم لكنها تكشف عن حكمة الحكم3.

قال سعد الدين التفتازاني: "واعلم أنه لا معنى للنزاع في التعليل بالعلة القاصرة غير المنصوصة؛ لأنه إن أريد عدم الجزم بذلك، فلا نزاع، وإن أريد عدم الظن فبعد ما غلب على رأي المجتهد علية الوصف القاصر، وترجح عنده ذلك بأمارة معتبرة في استنباط العلل، لم يصح نفي الظن ذهاباً إلى أنه مجرد وهم"4.

الخلاف لفظي:

الخلاف لفظي؛ لأن التعليل في اصطلاح الحنفية النافين للتعليل بالعلة القاصرة - هو القياس بمعنى أن العلة عندهم لا تكون إلا متعدية، وأما القاصرة فهي إبداء الحكمة وليست علة، والمثبت للتعليل بالعلة القاصرة يرى أن العلة أعم من المتعدية، فهي شاملة للمتعدية والقاصرة، غاية الأمر أن النافي للتعليل بالقاصرة يريد بذلك نفي المتعدية، وهذا لا يخالف فيه أحد، للاتفاق على أن القاصرة لا تعدية لها، والمثبت لجواز التعليل بها يريد به العلة القاصرة التي هي عند المانع إبداء الحكمة، وهذا لا يخالف فيه أحد أيضاً، فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد، فلا خلاف في المعنى.

1 انظر: إملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/ 4.

2 انظر: المحصول ص 339 - خ -.

3 انظر: المحصول ص 339 - خ -.

4 انظر: التلويح على التوضيح 2/67.

ص: 97

وقد قرر ابن أمير الحاج ذلك بقوله: "ولا شك أنه لفظي، لأن التعليل هو القياس عند الحنفية، وأعمّ عند الشافعية، فالنافي يريد القياس، والمثبت يريد ما ليس منه بقياس، وكلاهما حق، إذ لا قياس بدون التعدية، ولا مانع من إبداء الحكمة، وإن لم يعم مواقع الحكم كلها"1.

صورة العلة القاصرة:

الأولى: أن تكون العلة القاصرة محل الحكم كتعليل الربا في الذهب والفضة بالذهبية والفضية.

اختلف الأصوليون في جواز التعليل بالعلة القاصرة إذا كانت محل الحكم، فمنعها بعض، وأجازها البعض الآخر، وخرج الإمام الفخر الرازي التعليل بمحل الحكم على العلة القاصرة، وصحح التعليل به، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، لأنه لا يستبعد أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه براً، أن يعرف كون البر مناسباً لحرمة الربا2.

وأجازه الآمدي، وقال: لأنه لا بد من استلزام محل الحكم لحكمة داعية إلى ذلك الحكم كاستلزام الأوصاف العامة لمحل الأصل والفرع3.

وقد بين القرافي الفرق بين العلة القاصرة، ومحلها ووجه المناسبة بقوله: "إن الفرق بين المحل والعلة القاصرة من حيث الصورة والمعنى، لا من حيث جواز التعليل، أن العلة القاصرة قد تكون وصفاً اشتمل عليه محل النص لم يوضع اللفظ له، والمحل ما وضع اللفظ له كوصف البرية مثلاً، إذا قيل: إن البر اشتمل على نوع من الحرارة والرطوبة لاءم به مزاج الإنسان ملاءمة لا تحصل بين الإنسان والأرز، فإن الأرز حار يابس يبساً شديداً ينافي مزاج الإنسان، فحرم الربا في البر، ومنع بدل واحد منه باثنين لأجل هذه الملاءمة الخاصة التي لا توجد

1 انظر: التقرير والتحبير 3/170، وانظر تفاصبله فيه، وفي تيسير التحرير 4/6.

2 انظر: المحصول ص 332 - خ -.

3 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/185.

ص: 98

في غير البر، فهذه علة قاصرة لا محل، وأما وصف البرية بما هي برية فهو المحل.

فلذلك حسن من الإمام تخريج التعليل بالمحل على التعليل بالعلة القاصرة، ولو كان شيئاً واحداً لم يحسن التخريج، ولا التعريف، "قال:"إذا ظهر لك الفرق بينهما، فكل ما يذكر في العلة القاصرة من الحجاج بين الفريقين نفياً وإثباتاً، فهو بعينه يذكر ههنا"1.

الثانية: أن تكون جزء المحل الخاص به دون غيره، كتعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج منهما، إذ الخروج جزء معنى الخارج، فإن معناه ذات متصفة بالخروج.

الثالثة: أن تكون وصف المحل الخاص به دون غيره، كتعليل الربا في الذهب والفضة، بكونهما أثمان الأشياء، وهذا الوصف لازم لهما في غالب أقطار الدنيا.

فخرج بالخاص واللازم غيرهما، فلا ينتفي التعدي عنه، لكونه علة غير قاصرة، كتعليل الحنفية النقض فيما ذكر، وهو الخارج من السبيلين بخروج النجس من البدن الشامل لما ينقض عندهم من الفصد ونحوه من كل نجس، فالخروج من البدن جزء معنى الخارج، وهو غير خاص بالخارج من السبيلين، لصدقه بخروج الدم بالفصد والرعاف، وغيرهما2.

وقد عقد صاحب مراقي السعود فائدة التعليل بها، وصورها بقوله:

وعللوا بما خلت من تعديه

ليعلم امتناعه والتقويه

منها محل الحكم أو جزء وزد

وصفاً إذا كلاً لزومياً يرد3

1 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 406.

2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/283 - 284، ونشر البنود 2/141 - 142، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/4 - 5.

3 انظر: نشر البنود 2/139 - 140.

ص: 99

المبحث السادس تعليل الحكم بعلتين أو علل كل علة مستقلة

اتفق الأصوليون على جواز تعليل الحكم الواحد بعلل في كل صورة بعلة، واختلفوا في جواز تعليله في صورة واحدة بعلتين أو أكثر معاً على مذاهب:

الأول: أنه لا يجوز مطلقاً، سواء كانت منصوصة أو مستنبط، وهو اختيار الآمدي، وعزاه للقاضي أبي بكر، وإمام الحرمين.

الثاني: أنه يجوز مطلقاً، وبه قال الجمهور1.

الثالث: يجوز في المنصوصة دون المستنبطة، وبه قال القاضي أبو بكر، وابن فورك2، والإمام الفخر الرازي، وعزاه الآمدي للغزالي3.

الرابع: بجوز في المستنبطة دون المنصوصة، حكاه ابن الحاجب في مختصره، وقال ابن السبكي: لم أره لغيره4.

الخامس: ذكر ابن السبكي والمحلى أن إمام الحرمين أجازه عقلاً، ومنعه شرعاً5.

أدلة المذهب الأول:

استدل أهل المذهب الأول القائلون بالمنع مطلقاً بما يأتي:

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/218، والتقرير والتحبير 3/181.

2 هو: محمد بن الحسن بن فورك، المكنى بأبي بكر، الفقيه المتكلم الأصولي، الشافعي، كانت له مناظرات تدل على رسوخه في العلم وتمكنه من الحجة، له مؤلفات في أصول الفقه، وأصول الدين، ومعاني القرآن توفي سنة 406هـ بالحيرة.

انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/226، الأعلام للزركلي 6/313.

3 انظر: الأحكام للآمدي 3/218، التقرير والتحبير 3/181، المختصر مع شرحه 2/225.

4 انظر: المختصر مع شرحه 2/223، المحلى مع حاشية العطار 2/286.

5 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/286.

ص: 100

الأول: أنه لو جاز تعليل الحكم الواحد بعلتين كل منهما علة مستقلة، لزم التناقض، لأن كل واحدة تكون مستقلة، وغير مستقلة؛ لأن معنى الاستقلال ثبوت الحكم بكل واحدة منهما من غير حاجة إلى الأخرى، والفرض أنه لا يثبت الحكم بها، لفرض استقلال غيرها بثبوته، فيلزم التناقض، لثبوت الحكم بكل، وعدم ثبوته به، لثبوته بالآخر1.

واعترض عليه بمنع لزوم الأمرين: الاستقلال، وعدمه، ووجوب الحكم بهما وعدمه، وذلك لأنه إنما يلزم لو كان معنى الاستقلال ما ذكر، وليس كذلك، بل معناه كونها بحيث إذا وجدت منفردة ثبت بها الحكم، وهذه الحيثية ثابتة للعلية في الترتيب والمعية، كما هي ثابتة لها في الانفراد، فلا يلزم عدم الاستقلال أصلاً، كما لا يلزم في صورة الاجتماع الثبوت بها، وعدمه، لأن الثبوت حينئذ بهما جميعاً، فهي مستقلة في هذه الحالة بمعنى أنها بحيث إذا وجدت منفردة ثبت الحكم بها، وبذلك يندفع عدم الاستقلال2.

"وكذلك لزوم التناقض عند الاجتماع، فإن انتفاء الاستقلال عند الاجتماع، لا ينافي الاستقلال على تقدير الانفراد، وثبوت الاستقلال على تقدير الانفراد أمر ثابت عند الاجتماع"3.

كما اعترض عليه القرافي "بأن علل الشرع معرفات، لا مؤثرات، والمحال المذكور إنما يلزم في المؤثرات، ويجوز اجتماع معرفين فأكثر على مدلول واحد كما يعرف الله تعالى وصفاته العلية بكل جزء من أجزاء العالم"4.

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/118، التقرير والتحبير 3/181.

2 انظر: المختصر مع شرحه 2/224، التقرير والتحبير 3/182 - 183.

3 انظر: العضد على المختصر 2/225، وانظر تفاصيل ذلك كله في المرجع نفسه 2/224 - 225، وحاشية السعد على العضد 2/225، والتقرير والتحبير 3/183.

4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 405.

ص: 101

الثاني: قالوا: جواز تعدد العلل يجيز اجتماع المثلين، لجواز اجتماعهما في محل واحد، وكل منهما يوجب ما يوجبه الآخر، فموجباهما مثلان، وقد اجتمعا في محل واحد، واجتماع المثلين يوجب اجتماع النقيضين؛ لأن المحل يستغني في ثبوت حكمهما له بكل واحد منهما عن الآخر، فيكون مستغنياً عن كل واحد منهما غير مستغن عنهما كعلمين لمعلوم واحد في محل ثبت له حكم العلم، وهو العالمية، والحال أنه حكم واحد لا تعدد فيه، فيكون في العالمية يحتاج إلى كل من العلمين، مستغنياً عنه بالآخر، فهذا لازمه مطلقاً.

قالوا: وإذا فرض الترتيب بحصول أحدهما بعد الآخر، لزم تحصيل الحاصل أيضاً1.

وأجيب عنه: بأنه إنما يلزم ذلك لو كانت العلة المستقلة عقلية، لأنها هي التي تفيد وجود أمر، وأما العلة الشرعية المفيدة للعلم بالوجود، فلا يلزم التناقض في تعددها واجتماعها، لأنها بمعنى الدليل، واجتماع أدلة على مدلول واحد جائز2.

وقد يجاب عنه أيضاً بما سبق من أنه في حالة الاجتماع يكون كل جزء علة، والعلة المجموع، وعلى تقدير الاستقلال قد يتخلف عنه المعلول لمانع هو الحصول بعلة أخرى3.

الثالث: اشتغال الأئمة بالترجيح في علل الربا أهي: الطعم، أو الكيل، أو القوت، يدل على استقلال كل بالعلية؛ إذ لو جاز تعدد العلل لقالوا به، ولم يشتغلوا بالترجيح لتعيين واحدة منها، ونفي ما سواها4.

وأجيب عنه: بأن تعلق الأمة بها لم يكن للترجيح، وإنما كان لتعيين ما يصلح علة مستقلة، وإبطال التعليل بما سواها، وعلى فرض التسليم، فالإجماع على أن

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/225، وفصول البدائع ص323.

2 انظر: المختصر مع شرحه 2/225، وفصول البدائع ص 324.

3 انظر: حاشية السعد على العضد 2/225.

4 انظر: المختصر مع شرحه 2/225، وفصول البدائع ص 324.

ص: 102

العلة إحدى المذكورات، ولولا الإجماع على هذا لوجب جعل كل واحدة منها جزء علة، ومنع المصير إلى الترجيح، لأن المفروض أنهم يرون صلاحية كل للعلية، ولا دليل على إلغاء واحدة منها، فوجب اعتبارها جميعاً، وذلك قول بالجزئية، ليكون الكل داخلاً في العلية، لا سيما عند عدم ظهور وجه الترجيح1.

الرابع: أن تعليل الحكم بعلتين يفضي إلى نقض العلة، وهو قادح في العلة، بيان ذلك أنه إذا وجدت إحداهما ترتب عليها الحكم، فإذا وجدت الأخرى بعد ذلك لم يترتب عليها شيء، فقد وجدت العلة الثانية من غير أن يترتب عليها حكمها، لتقدم ترتبه على الأخرى، فيلزم وجود العلة بدون وجود مقتضاها، وهو نقض للعلة2.

وأجيب عنه: بأن النقض لقيام المانع لا يقدح في العلة، هذا إذا كانتا منصوصتين، أما إذا كانتا مستنبطتين، فلا سبيل إلى التعليل بهما، لأن الشرع إذا ورد بحكم مع أوصاف مناسبة، وجب اعتبار كل واحد منها جزء علة لا علة مستقلة، لأن الأصل عدم الاستقلال حتى يرد من الشرع ما يدل على استقلال واحد منها، فيستقل3.

أدلة المذهب الثاني:

واستدل أهل المذهب الثاني القائلون بالجواز مطلقاً بما يأتي:

الأول: أنه لو لم يجز، لم يقع ضرورة، وقد وقع، فإن البول واللمس والمذي والرعاف والغائط أمور مختلفة الحقيقة، وهي علل مستنبطة للحدث، وكل واحدة منها توجب الحدث، وإيجاب الحدث بكل واحدة منها بانفرادها دليل الاستقلال،

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/225، التقرير والتحبير 3/183، فصول البدائع ص 324.

2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 405.

3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 405.

ص: 103

وكذلك القتل العمد العدوان والردة والزنا بعد الإحصان، كل واحدة منها علة مستقلة تحل القتل، لثبوت القتل بكل واحدة منها1.

الثاني: "أنه لو امتنع تعدد العلل، لامتنع تعدد الأدلة، لأن العلل الشرعية أدلة، لا مؤثرات"2.

اعترض على ما استدلوا به بما يأتي:

أما الأول: فقد اعترض عليه الآمدي بما ملخصه أن اتحاد الحكم ممنوع، بل هو متعدد شخصاً، وإن اتحد نوعاً، ولذا فإنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بعد العودة عن الردة إلى الإسلام، انتفاء الإباحة في باقي الأسباب، ولا من انتفاء الإباحة بسبب إسقاط القصاص بعفو ولي الدم انتفاؤها في باقي الأسباب، وأيضاً فإنه بدل على تعدد الحكم أن الإباحة بجهة القتل العمد العدوان غيرها في الباقي، لأنها في القتل العمد العدوان حق للآدمي خالص، ولذلك يمكن إسقاطه مطلقاً.

وأما بجهة الزنا والردة فحق الله تعالى خالص دون الآدمي، وذلك غير متصور في شيء واحد، ثم على تقدير الاستيفاء يقدم حق الآدمي، لأن حقه مبني على الشح والمضايقة، أما حق الله تعالى فهو مبني على التسامح والمساهلة من حيث أن الآدمي يتضرر بفوات حقه دون الباري تعالى.

وأما المسّ واللمس وباقي الأسباب في الأحداث المترتبة عليها متعددة على رأي لنا، وعلى هذا فلو نوى رفع حدث واحد منها، لارتفع الباقي، فأحكامها أيضاً متعددة، لا أنها حكم واحد، والنزاع إنما هو في تعليل الحكم الواحد بالشخص بعلتين3.

وأجيب عن هذا الاعتراض: بأنه لو تعددت الأحكام ثم، لكان تعددها

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/224، التقرير والتحبير 3/181،تيسير التحرير 4/23.

2 انظر: المختصر مع شرحه 2/224.

3 انظر: الأحكام في أصول الأحكام 3/219 فما بعدها.

ص: 104

بالإضافات إلى أدلتها، إذ ليس ثم ما به الاختلاف إلا ذلك، وتعدد العلل بالإضافات باطل، لأن إضافة الحكم إلى أحد الدليلين تارة، وإلى الآخر تارة أخرى لا توجب تعدداً في ذات المضاف، وهو الحكم كما في الحدث في المثال الأول، وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط مثلاً، فكان يتصور أن يرتفع أحد الأحداث بالوضوء الواحد ويبقى غيره1.

وأورد صاحب التحرير وشارحاه على هذا الجواب أنَّ وجوب الوضوء لكل، وارتفاع أحدهما مرة دون الآخر إنما هو إلى الشرع، فجاز أن يعتبر التلازم بين المسببات في الارتفاع كالحدث المسبب عن البول والمذي والرعاف مثلاً.

فإذا ارتفع أحدها لا يبقى الآخر، ولا يعتبر التلازم في مسببات أخرى كالقتل المسبب عن الردة، والقتل العمد العدوان، وعن زنى المحصن، إذا ارتفع أحدها ولا يرتفع الآخر، فثبوت ارتفاع بعض هذه الأحكام دون بعض يكفي دليلاً على تعدد الأحكام في تلك الصورة بسبب خصها، لا في غيرها كما في القتل، لأن القتل فيها كما تقدم منه ما هو حق الله تعالى، يجب على الإمام، ولا يصح فيه العفو ولا البدل، والآخر هو قتل القصاص حق للعبد بجوز له بإذن الإمام، ويصح فيه العفو والبدل2.

ثم ذكروا ما تقدم عن الآمدي من منع كون الحكم في المذكورات واحداً بالشخص، بل هو واحد بالنوع، واستظهروا بعد الواحد بالشخص من الشرع، واستدلوا على ذلك بأن شخصية متعلق الحكم كماعز3 مثلاً لا توجب تشخص الحكم، لأن ثبوته في ذلك لواحد إنما هو باعتبار اندراجه في كلى كالزاني، أما ما يوجب شخصية الحكم فإنما يكون مخصوصاً بمتعلق خاص بعينه شرعاً كشهادة

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/224، التقرير والتحبير 2/183، تيسير التحرير 4/23 فما بعدها.

2 انظر: التقرير والتحبير 3/182، تيسير التحرير 4/23 فما بعدها.

3 هو ماعز بن مالك الأسلمي، ويقال: اسمه غريب، وماعز لقبه، معدود من المدنيين، كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً بإسلام قومه.

انظر: الاستيعاب بذيل الإصابة 9/298 - 299، الإصابة 9/32 - 33.

ص: 105

خزيمة1 في الاكتفاء بها وحدها من حيث هو متعلقها، ولا تعدد في مثل هذا2.

غير أن ما ذكروه مدفوع بما تقدمت الإجابة به عما أورده الآمدي آنفاً من أنه لو تعددت الأحكام ثم لكان تعددها بالإضافات الخ.

واعترض على الثاني: بأن الأدلة الباعثة أخص من مطلق الأدلة، ولا يلزم من امتناع الأخص امتناع الأعم3.

لكن يرد عل هذا أن العلل الشرعية غير موجدة ولا عادية، وإنما هي أمارات اعتبرها الشارع للإقدام على الإحكام، ولذا جاز تواردها ولو على شخص، وإذا جاز فلا تدافع، ولا ترجيح4.

أدلة المذهب الثالث:

استدل أهل المذهب الثالث القائلون بجوازه في المنصوصة دون المستنبطة بما يأتي:

أما في المنصوصة، فقالوا:"إن لصاحب الشرع أن يعين الحكم بأكثر من علة، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولأن المصالح قد تقتضي ذلك كما في الصغر والبكارة، فينص الشارع عليهما، كما له أن ينص على استقلال كل واحدة منهما تحصيلاً لتلك المصلحة وتكثيراً لها"5.

وأما في المستنبطة، فقالوا: "إنه إذا اجتمعت الأوصاف التي يصلح كل منها للعلية، كما إذا احتمل أن يكون كل واحد علة مستقلة وأن يكون كل واحد منها

1 هو: خزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري، الأوسي من السابقين الأولين، شهد بدراً وما بعدها، ومات بصفين مع علي رضي الله عنهما.

انظر: الإصابة 3/93 فما بعدها - ط - الأولى، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، وانظر القصة فيه، وفي الاستيعاب 3/197 بذيل الإصابة، أبي داود 2/276 - 277.

2 انظر: التقرير والتحبير 3/183، تيسير التحرير 4/24 فما بعدها.

3 انظر: العضد على المختصر 2/224، التقرير والتحبير 3/182.

4 انظر: فصول البدائع في أصول الشرائع ص 323.

5 انظر: شرح تنقيح الفصول ص404، وفصول البدائع ص 324.

ص: 106

جزء علة، فالحكم بترجيح أحد الاحتمالين على الاحتمال الآخر تحكم، لقيام الاحتمالين عقلاً، ولعدم وجود نص يدل على تعيين استقلال بعضها دون بعض، وإلا عادت منصوصة، وهو خلاف المفروض.

وأجيب عنه بمنع التحكم، لإمكان استنباط الاستقلال بالعقل، وذلك أنه كما ثبت الحكم بها مجتمعة ثبت بها منفردة، فيعلم أن ثبوت الحكم بها منفردة دليل استقلال كل واحدة منها كما يوجد ذلك في المسّ وحده واللمس وحده في محلين، ويوجد بثبوت الحدث معهما، فعلم أن كل واحد منهما علة، وإلا لما ثبت الحكم في محل إفرادهما، فيحكم بثبوته بهما عند الاجتماع"1.

أدلة المذهب الرابع المقتضي جوازه في المستنبطة دون المنصوصة:

استدل له بأن المنصوصة قطعية بتعيين الشارع، فهي باعثة على الحكم، لتعيين الشارع إياها له، وذلك ينفي احتمال غيرها للعلية كلا وجزءاً للمنافاة بينهما.

وأما المستنبطة فهي وهمية غير قطعية، وقد يتساوى الإمكان في كون العلة المجموع، أو الجزء، ويترجح كل بمرجح، فيغلب على الظن علية كل منهما، فيجب اتباعه.

وأجيب عنه: بمنع القطع في المنصوصة المراد بها السمعية، لجواز أن تكون دلالتها ظنية، وأن يكون إسنادها ظنياً، وإن سلم فلا يمنع القطع بالاستقلال، لجواز تعدد البواعث، لأن الحكم الواحد قد يكون محصلاً لمصالح متعددة، دافعاً لمفاسد مختلفة2.

دليل المذهب الخامس، المقتضي جواز ذلك عقلاً، ومنعه شرعاً:

ودليل ذلك ما جاء في البرهان ونصه: قال: "تعليل الحكم الواحد بعلتين

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/226، التقرير والتحبير 3/184.

2 انظر: المختصر مع شرحه 2/226، التقرير والتحبير 3/184.

ص: 107

ليس ممتنعاً عقلاً وتسويغاً، ونظراً إلى المصالح الكلية، ولكنه يمتنع شرعاً، وآية ذلك أن إمكانه من طريق العقل في نهاية الظهور، فلو كان هذا ثابتاً شرعاً لما كان يمتنع وقوعه على حكم النادر، والنادر لا بد أن يقع على مرور الدهور، فإذا لم يتفق وقوع هذه المسألة، وإن لم يتشوف إلى طلبه طالب، لاح كفلق الصبح أن ذلك ممتنع شرعاً، وليس ممتنعاً عقلاً"1.

ثم ادعى لتصحيح دعواه عدم وقوع فيما تقدم ذكره من أسباب الحدث والقتل، أن الأحكام متعددة لانفكاك الجهة، لأن الحكم مستند إلى واحد منها، غير الحكم المستند إلى الآخر، إذ قد يوجد حد القتل بالقصاص دون القتل بالارتداد، وبالعكس، كما يوجد حدث اللمس دون حدث المسّ، وبالعكس، هذا على أنه لو ألزم بأن جواز الانفكاك في الوجود يوجب الجواز في العدم، فيجب جواز أن يرتفع أحدهما ويبقى الآخر، فربما التزمه على ما ذهب إليه البعض من أنه إذا نوى أحد أحداثه لم يرتفع الباقي"2.

وأجيب عنه بمنع عدم الوقوع، فإن ما ذكر من أسباب الحدث والقتل يفيد الوقوع والتعدد، وما ادعاه من تعدد الحكم يحتاج في إثباته إلى دليل، فإن اكتفى بتجويز كون الحكم متعدداً كما ذهب إليه البعض، لم يكفه لأنه في معرض الاستدلال على امتناع تعدد العلل، وعلى أن الحكم في صورة تعدد العلل متعدد.

وما ادعاه من أنه قد ينتفي أحد الحكمين، ويبقى الآخر، فقد تقدم اقتصاره على القتل لتحقق تعدد المستحق على ما تقدم توجيهه، وانتفاء الانفكاك في الحدث ظاهر، ولذا فالصحيح أن من نوى رفع الحدث مع تعدد الأسباب، صح وضوءه3.

1 انظر: البرهان 2/832، ط الأولى سنة 1399، الناشر أمير دولة قطر.

2 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/226.

3 انظر: المختصر مع شرحه 2/226 - 227، التقرير والتحبير 3/184.

ص: 108

اتفق القائلون بتعدد العلل المستقلة لحكم واحد على أنها إذا وقعت مرتبة، فإن الحكم بالأولى.

وإذا وقعت دفعة كما بال، وتغوط، ومسّ معاً، فقيل: العلة المجموع، وكل جزء علة.

وقيل: العلة واحدة لا بعينها، واختار ابن الحاجب أن كل واحدة علة مستقلة.

واستدل القائل بأن العلة المجموع، بأنه لو استقل كل منها بالعلية لزم اجتماع المثلين.

وهذا الدليل تقدم تقريره، والجواب عنه في الكلام على الدليل الثاني، من أدلة المانعين تعدد العلل حيث قالوا في تقرير الدليل: إن جواز تعدد العلل، يجيز اجتماع المثلين، واجتماع المثلين يوجب اجتماع النقيضين.

وقد أجيب عنه بما مر ذكره من لزوم ذلك في العلة العقلية، دون الشرعية.

واستدل القائلون بأن العلة أحد الأوصاف لا بعينه، بأنه لولا ذلك لزم التحكم في تعيين ما يثبت به الحكم دون غيره، أو يلزم كون كل علة وكلاهما باطل، فتعين أن تكون العلة أحد الأوصاف لا بعينه.

ويجاب عنه بأنه يثبت بكل دفعة، وذلك لا ينافي الاستقلال، لثبوته عند الانفراد، كما يثبت المدلول بالأدلة السمعية مع استقلال كل دليل بإثباته حتى لو انفرد أحد الأدلة لم يمتنع إثباته بالأخرى1.

واستدل ابن الحاجب على ما اختاره بما يأتي:

الأول: أنه لو لم تكن كل واحدة علة مستقلة، لكانت كل واحدة جزء علة، وهو باطل، لثبوت الاستقلال.

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/226 - 227، والتقرير والتحبير 3/184.

ص: 109

الثاني: أنه لو امتنع كون كل علة مستقلة، لامتنع اجتماع الأدلة السمعية على مدلول واحد، وذلك لأن العلل الشرعية أدلة، واللازم منتف، للاتفاق على اجتماع الأدلة الشرعية على مدلول واحد1.

والذي يترجح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من جواز تعدد العلل الشرعية لحكم واحد، وذلك لوروده كما في البول والغائط والمسّ، واللمس، وكما في وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وانقطاع دم الحيض، لاجتماع هذه العلل على حكم واحد كما هو واضح، مع أن كل واحدة منها توجب الحكم بانفرادها، وذلك دليل الاستقلال، ولأنه لو نوى رفع أحد هذه الأحداث، لارتفع الباقي، كما في اجتماع الأدلة السمعية على المدلول الواحد مع حصوله بأحدها عند تخلف غيره.

وما استدل به الآمدي وغيره على أن الحكم متعدد شخصاً، وإن اتحد نوعاً هو ما أوردوه على مثال إباحة القتل بالردة عن الإسلام، والقتل العمد العدوان، والزنا بعد الإحصان - أعاذنا الله منها - من أنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بالعود عن الردة إلى الإسلام، انتفاء الإباحة في الباقي وبالعكس، وهو ظاهر، لأن الإباحة في جهة القتل العمد العدوان حق للآدمي بجهة الخلوص، وفي الباقي حق لله تعالى الخ ما تقدم تقريره، والجواب عنه مما جعلوه دليلاً على تعدد الحكم.

فإن ما أوردوه على هذا المثال، لا يكفي دليلاً على تعدد الحكم، وإن سلم لهم، فإنه لا يرد على ما ذكرت من الأمثلة التي تعددت العلل فيها لحكم واحد.

ويدل على هذا ما ذكره الغزالي ونصه: قال: "اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين، والصحيح عندنا جوازه، لأن العلة الشرعية علامة، ولا يمتنع نصب علامتين على شيء واحد، وإنما يمتنع هذا في العلل العقلية، ودليل الجواز

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/227.

ص: 110

وقوعه، فإن من لمس، ومسّ وبال في وقت واحد ينتقض وضوءه، ولا يحال على واحد من هذه الأسباب، ومن أرضعته زوجة أخيك وأختك أيضاً، أو جمع لبنهما، وانتهى إلى حلق المرضع في لحظة واحدة، حرمت عليك، لأنك خالها وعمها، والنكاح فعل واحد، وتحريمه حكم واحد، ولا يمكن أن يحال على الخئولة دون العمومة، أو بعكسه، ولا يمكن أن يقال: هما تحريمان، وحكمان، بل التحريم له حد واحد، وحقيقة واحدة، ويستحيل اجتماع مثلين.

نعم لو فرض رضاع ونسب، فيجوز أن يرجح النسب لقوته، أو اجتمع ردة وعودة وحيض، فيحرم الوطء، فيجوز أن يتوهم تعديد التحريمات، ولو قتل وارتد، فيجوز أن يقال: المستحق فلان، ولو قتل شخصين فكذلك ولو باع حراً بشرط خيار مجهول ربما قيل: علة البطلان الحرية دون الخيار، فهذه أوهام ربما تنقدح في بعض المواضع، وإنما فرضناه في اللمس والمسّ، والخئولة والعمومة لدفع هذه الخيالات.

فدل هذا على إمكان نصب علامتين على حكم واحد، وعلى وقوعه أيضاً"1. والله تعالى أعلم.

1 انظر: المستصفى 2/342 - 343، بأعلاه فواتح الرحموت.

ص: 111

المبحث السابع تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة

الوصف الذي يكون علة لحكمين فأكثر إما إن يكون: بمعنى الإمارة، أو بمعنى الباعث.

فإن كان بمعنى الإمارة، فحكى ابن الحاجي الاتفاق على جوازه1، كالغروب لجواز الإفطار، ووجوب صلاة المغرب.

وقال الآمدي: "فإن كان بمعنى الأمارة، فغير ممتنع عقلاً، ولا شرعاً نصب أمارة واحدة على حكمين مختلفين، وذلك مما لا نعرف فيه خلافاً كما لو قال الشارع: جعلت طلوع الفجر أمارة على وجوب الصوم والصلاة ونحوه"2.

وصرح صاحب التحرير وشارحه بأنه ثابت بلا خلاف، وأن تسميته علة اصطلاح3، هذا إذا كان بمعنى الأمارة.

أما إذا كان بمعنى الباعث، فللعلماء فيه ثلاثة مذاهب:

الأول: المنع.

الثاني: جواز تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة، وبه قال الفخر الرازي، وهو اختيار ابن الحاجب، والآمدي، وابن السبكي، وصاحب التحرير وشارحه4.

الثالث: الجواز إن لم يتضادا، أما إذا تضادا فلا يجوز5.

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/228.

2 انظر: الأحكام للآمدي 3/221.

3 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/184.

4 انظر: المحصول ص 340 - خ -، والمختصر مع شرحه 2/228، الأحكام للآمدي 3/220، جمع الجوامع مع شرحه للمحلى وحاشية العطار 2/289، والتقرير والتحبير 3/184، تيسير التحرير 4/29.

5 انظر: المحلى مع حاشية العطاؤ 2/289.

ص: 112

دليل المذهب الأول:

استدل القائل بالمذهب الأول، القائل بالمنع بأن في جواز تعدد الحكم بعلة واحدة بمعنى الباعث تحصيل الحاصل، لأن المصلحة المقصودة من شرع الحكم الذي بعثت عليه العلة حاصلة بأحد الحكمين، فإذا حصل الحكم الآخر حصلها مرة أخرى، وفي هذا تحصيل الحاصل1.

وأجيب عنه بمنع تحصيل الحاصل، لجواز أن تحصل بالحكم الآخر مصلحة أخرى لم تحصل بالأول، كما في السرقة المترتب عليها القطع زجراً عنها، للسارق ولغيره، وغُرم المسروق جبراً لما تلف من المال.

أو أن المصلحة المقصودة، لا تحصل إلا بالحكمين كما في الزنا المثبت للجلد والتغريب، ليحصل بهما الزجر التام2، وبهذا يتضح منع تحصيل الحاصل.

دليل المذهب الثاني:

واستدل أهل المذهب الثاني القائلون بالجواز بأنه لا يمتنع أن يناسب الوصف الواحد لحكمين، فأكثر، كما في شرب الخمر، فإنه مناسب للتحريم، ولوجوب الحد، والحيض، فإنه مناسب لوجوب الفطر في رمضان وترك الصلاة، وحرمة مسّ المصحف، ودخول المسجد، وغيرها3.

وبهذا ظهر اشتمال الوصف الواحد على مصالح متعددة، وأن الحاصل بأحدها غير الحاصل بالآخر.

دليل المذهب الثالث:

قالوا: يجوز تعليل حكمين بعلة واحدة، إن لم يتضادا كالسرقة لوجوب القطع والغرم.

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/228، والتقرير والتحبير 3/184، الأحكام للآمدي 3/221.

2 انظر: المختصر مع شرحه 2/228، المحلى مع حاشية العطار 2/289، التقرير والتحبير 3/184.

3 انظر: الأحكام للآمدي 3/221، المحصول ص 340 - خ -.

ص: 113

أما إذا تضادا، فلا يجوز كالتأبيد لصحة البيع، وبطلان الإجارة؛ لأن الشيء الواحد لا يناسب المتضادين1.

وأجيب عنه بأن محل المنع هو ما إذا اتحد المحل، أما إذا اختلف المحل كما في المثال المذكور، فلا يمتنع، ويدل لذلك ما صرح به الشيخ حسن العطار ونصه قال:"لأن شرط التضاد اتحاد المحل، والبيع لا يضاد الإجارة، لأن البيع نقل الذوات، والإجارة نقل المنافع، فلا يلزم من تصحيح الأول تصحيح الثاني، وبهذا تعلم رد قوله - يعني الجلال المحلى - لأن الشيء الواحد الخ، لأن التناسب للمتاضدين2 من جهتين مختلفتين"3.

1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/289.

2 الضدان أمران وجوديان، لا يتوقف إدراك أحدهما على الآخر، كالسواد والبياض، والحركة والسكون.

وضابطهما أنهما لا يجتمعان، ولكنهما قد يرتفعان معاً وقد يرتفع أحدهما ويبقى الآخر، وارتفاعهما إنما يكون بضد ثالث، أو بانعدام الجرم.

انظر: آداب البحث والمناظرة القسم الأول ص 27.

3 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/289.

ص: 114

المبحث الثامن تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عنه

اختلف الأصوليون في تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عنه في الوجود على مذهبين:

الأول: أنه جائز بناء على تفسير العلة بالمعرف1.

الثاني: أنه غير جائز، وممن قال به: ابن الحاجب، وابن السبكي، وصاحب التحرير، وهو اختيار الآمدي.

واستدلوا على ذلك بأن العلة إما أن تكون بمعنى الباعث، أو الأمارة المعرفة، فإن كانت بمعنى الباعث لزم ثبوت حكم الأصل بلا باعث، وهو محال، أو أنه ثبت بباعث غير العلة المتأخرة عنه2.

وأيضاً فإن تأخر العلة عن الحكم يدل على أن الحكم لم يشرع لها3، وإن كانت بمعنى الأمارة المعرفة لزم منه أيضاً تعريف المعرف، والمفروض أن الحكم عرف قبلها لسبقه عليها في الوجود، وتعريف المعرف ومحال4.

قال العطار: "لكن الثاني إنما يتم إذا فسر المعرف بأنه الذي يحصل به التعريف، أما إذا فسر بما من شأنه التعريف فلا، كما لا يتم قول المحلى "بناء على تفسيرها بالمعرف" إلا بتفسير المعرف بما من شأنه التعريف، لا بتفسيره بالذي يحصل به التعريف، إذ سبق إحدى العلتين بالتعريف مانع من حصول التعريف بما بعده، لأنه تحصيل للحاصل، بخلاف تفسير المعرف بما من شأنه التعريف،

1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/290.

2 انظر: الأحكام للآمدي 3/223 فما بعدها، المختصر مع شرحه 2/228، المحلى مع حاشية العطار 2/289، التقرير والتحبير 3/184، 185.

3 انظر: التقرير والتحبير 3/184.

4 انظر: الأحكام للآمدي 3/224.

ص: 115

لأن التعريف المتأخر حينئذ لمتقدم جائز وواقع، إذ الحادث يعرف بهذا المعنى القديم، كالعالم لوجود الصانع"1.

لكن يرد على هذا ما صرح به العضد من أن تفسيرها بغير الباعث غير المبحث2، وقد مثلا لذلك بمثالين:

الأول: كما يقال في إصابة عرق الكلب، إصابة عرق حيوان نجس، فيكون نجساً كلعابه، فيمنع المعترض كون عرق الكلب نجساً، فيجيب المستدل بأنه مستقذر كاللعاب، فيكون نجساً، فإن استقذاره إنما يحصل بعد الحكم بنجاسته3.

فإن قيل: الاستقذار لا يدل على النجاسة كما في لعاب الإنسان.

أجيب عنه بأن المراد الاستقذار الشرعي، مع أن المقصود التمثيل4، لكن يرد على هذا ما ذكره صاحب التحرير وشارحه من أن ما ادعى من تأخر الاستقذار عن الحكم بالنجاسة غير لازم، لجواز المقارنة بأن يثبتا معاً5.

الثاني: تعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون قياساً على الصغير، لأن ولاية الأب على الصغير ثابتة قبل عروض الجنون له بالصغر، هكذا مثل الآمدي وصاحب التحرير6.

وقال صاحب التحرير وشارحه: "أن هذا المثال متفق عليه"7.

وأما عضد الدين فقد عبر عنه بما نصه: "كأن يعلل سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارضي للولي"8، غير أنه اعترض عليه صاحب التقرير

1 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/289.

2 انظر: المختصر مع شرحه 2/228.

3 انظر: العضد على المختصر 2/228، المحلى مع حاشية العطار 2/290.

4 انظر: تقريرات الشربيني على هامش العطار 2/290.

5 انظر: التقرير والتحبير 3/185.

6 انظر: التقرير والتحبير 3/185.

7 انظر: التقرير والتحبير 3/185، والأحكام للآمدي 3/223.

8 انظر: العضد على المختصر 2/228.

ص: 116

والتحبير بأن ما عبر به عكس المراد، فإن ظاهره أن الولاية كانت ثابتة للولي على الصغير، وإنما سلبها عنه عروض جنونه، وليس في هذا تأخر العلة عن حكم الأصل بل تقدمها عليه.

قال: "فيستقيم أن يتفرع عليه سلب ولايته عن البالغ المجنون بتزويجه بعلة جنونه نقسه قياساً"1.

وقال التفتازاني مصوباً لتعريف الآمدي السابق وغيره، وموجهاً لعبارة العضد:

وأما المثال الثاني فكلام الآمدي وجميع الشارحين هو أن يعلل - سلب - ولاية الأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون، فإن الولاية ثابتة قبل عروض الجنون بالصغر، وهذا في غاية الظهور.

وأما عبارة الشارح، وهو أن يعلل سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارض للولي، فغاية ما أدى إليه نظر الناظرين في هذا الكتاب أنه وضع الظاهر موضع المضمر، والمعنى سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارض له والفرع في الأول إثبات الولاية عن البالغ، المجنون، وفي الثاني سلبها عنه لجنونه.

والأقرب أن يجعل سلب الولاية عن الولي الذي عرض له الجنون كالأب مثلاً فرعاً، وعن الصغير المجنون أصلاً، والمعنى كما يعلل سلب الولاية عن الصغير المجنون بالجنون الذي هو عارض في الولي البالغ المقيس على الصغير المجنون"2.

1 انظر تفاصيله في التقرير والتحبير 3/185.

2 انظر حاشية السعد على العضد 2/228.

ص: 117

المبحث التاسع يشترط في صحة العلة أن لا تعود على الأصل بالإبطال

يشترط في صحة العلة أن لا تعود على الأصل الذي استنبطت منه بالإبطال، لأنه أصلها، إذ التعليل فرع الثبوت، وإبطال الأصل يستلزم إبطال فرعه.

وذلك كتعليل الحنفية وجوب الشاة في الزكاة بدفع حاجة الفقراء المفضي لجواز دفع قيمتها، فإنه يفضي إلى عدم وجوبها على التعيين، بالتخيير بينها، وبين قيمتها1.

فالأصل وجوب الشاة، وقد استنبطوا منه أن العلة هي دفع حاجة الفقراء، فاقتضى التخيير بين دفع الشاة، وبين قيمتها، فالقول بالتخيير إبطال لوجوب دفع الشاة على التعيين دون القيمة الذي هو الأصل.

وكتعليلهم الحكم المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" 2، بالكيل مع أن من حكمه حرمة ذلك في القليل من الطعام الذي لا يكال لعمومه، والتعليل بالكيل يخرج القليل الذي لا يكال من حكم حرمة التفاضل.

وفي ذلك إبطال لحكم الأصل الذي هو حرمة بيع الطعام متفاضلاً قليلاً كان أو كثيراً3.

وللحنفية عن هذين المثالين إجابات نذكر منها ما يأتي:

أما عن الأول فقد أجابوا عنه بما عزاه لهم المطيعي، ونصه: "أجاب الحنفية بأننا نسلم أن استنباط العلة المبطلة للنص لا يجوز، لكن العلة المستنبطة هنا ليست مبطلة، لأن الذي غير النص هو نص آخر، وهو ما سنذكره لاستنباط

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/228، الأحكام للآمدي 3/226، المحلى مع حاشية العطار 2/290.

2 انظر صحيح مسلم 5/47، ولفظ الحديث هو: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل

" الحديث.

3 انظر: المختصر مع شرحه 2/228.

ص: 118

العلة، فالنص هو الذي جعل المراد من الشاة المالية دون الصورة، لأن إيجاب الشاة يتضمن جواز بدلها بالأداء، لأن المنظور في أداء الزكاة هو المالية دون الصورة، لأنها لدفع حاجات الفقراء، والقيمة أولى به، وقد دل عليه جواز الإتيان بأداء القيمة بدلاً منها، وأن المنظور في إيجابها المالية نص حديث معاذ رضي الله عنه كما علقه البخاري:"ائتوني بخمسين أو لبيس "1، مكان الذرة والشعير الواجبين عليكم، وهو أهون عليكم، وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة" 2.

وأيضاً ورد في كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصديق الأكبر رضوان الله تعالى عليه، ما رواه البخاري:"من بلغت عنده الصدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن تيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده حقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون، وليست عنده بنت لبون، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطى معها عشرين درهماً، أو شاتين"3.

1 الخميس: ثوب طوله خمسة أذرع، واللبيس: الملبوس.

انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/312.

2 لفظ الحديث كما في صحيح البخاري: "ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة".

انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/312، المطبعة السلفية ومكتبتها.

3 ونص الحديث كما في البخاري بسنده عن ثمامة أن أنساً رضي الله عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن تيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده حقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطة شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويعطية المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطى معها عشرين درهماً أو شاتين". انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/316.

ص: 119

وفي صدر هذا الكتاب "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام، فحينئذ ظهر جلياً أن ذكر الشاة لتعيين مالية الواجب، وأعلامه أن الواجب صورة الشاة، فعلم أن هذا استنباط للمناط بالنص.

فقال الشافعية: هذا تأويل بعيد لا يقبل، قلنا: ليس بتأويل أصلاً، فإن الشاة باقية على معناها وذكرها، لأنها معيار معرفة الواجب.

ومن تأمل فيما قلنا علم اندفاع ما يرد أيضاً أنه أبقى لفظ الشاة على معناها فهو الواجب، ولا تجزئ القيمة، وإن أريد به القيمة فهو تأويل، لأنا نقول: نعم إنه تأويل، بل دليل، وهو ما ذكرناه، فليس بعيداً ولا يلزم منه عدم إجزاء القيمة لما قلناه1.

وأما عن الثاني: فقد أجابوا عنه بأن الطعام المنهي عن بيعه متفاضلاً يختص بالكثير دون القليل الذي لا يكال، لأنه عليه الصلاة والسلام استثنى الحال بقوله "إلا سواء بسواء" فكان المراد منه حال التساوي في الكيل، والمذكور في صدر الكلام، وهو الطعام عين، واستثناء الحال من العين لا يستقيم، إذ الأصل في الاستثناء الاتصال، فدل على أنه مستثنى من أحوال المبيع التي هي: التساوي، والتفاضل، والمجازفة، والتسوية لا تتصور إلا في الكثير، فكان آخر الحديث دليلاً على أنه أوله لما يتناول القليل الذي لا يكال، فصار التغيير بدلالة النص مصاحباً للتعليل، لا بالتعليل2.

ويدل على أن الحنفية لا يخالفون في لزوم هذا الشرط تمثيلهم بما أوردوه على الشافعية في تعليلهم النص الدال على السلم بدفع الحرج لإحضار السلعة محل البيع ونحوه، فإن نص السلم مخصص لحديث "لا تبع ما ليس عندك"3.

1 انظر: سلم الوصول على نهاية السول 4/302 - 303.

2 انظر: شرح المنار لابن ملك وحاشية الرهاوي عليه ص 777 فما بعدها، وكشف الأسرار 3/334.

3 أخرجه مسلم بلفظ "من ابتاع طعاماً فلا يبيعه حتى يستوفيه"، قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله" 5/7 ط محمد علي صبيح - مصر.

ص: 120

ودليل التخصيص يعلل، والتعليل بدفع الحرج يشمل الحالَّ والمؤجل.

غير أن هذا التعليل واقع في مقابلة نص السلم القائل "من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"1.

فقد أوجب في السلم الأجل، فالتعليل بتجويز الحال مبطل للنص الموجب للتأجيل، والتعليل المبطل للنص باطل2.

ولما كان المراد من الأمثلة إنما هو توضيح المسألة، لم أر مناقشتها لا سيما وقد قيل:

والشأن لا يعترض المثال

إذ قد كفى الفرض والاحتمال3

وحيث إن تعرضي لمباحث العلة إنما هو من باب التمهيد، لأنها لم تكن من صلب موضوعي، لذا فإنني أقتصر في البحث على ما تقدم مع تنبيه القارئ على أن بعض الأصوليين اشترط شروطاً أخرى في العلة هي:

1 -

أن لا تكون العلة المستنبطة معارضة بمعارض موجود في الأصل مناف لمقتضاها، بأن يبدي على أخرى من غير ترجيح، كقول الحنفية في تبييت نية صوم رمضان: صوم عين فيتأدى بالنية قبل الزوال كالنفل، فيعارض بأنه صوم فرض يحتاط فيه، فلا يبنى على السهولة.

2 -

يشترط في العلة أن لا تخالف نصاً، أو إجماعاً، لأنهم مقدمان على القياس.

3 -

أن لا تتضمن زيادة إن نافت الزيادة مقتضاها، بأن يدل نص على علية وصف، ويزيد الاستنباط قيداً فيه منافياً للنص، فلا يعمل بالاستنباط لأن النص مقدم عليه.

1 أخرجه مسلم 5/55، والبخاري 3/106.

2 انظر: تيسير التحرير 3/281.

3 انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/244، ط الرباط.

ص: 121

4 -

يشترط في العلة أن لا تكون وصفاً مقدراً، كتعليل العتق عن الغير بتقدير الملك.

5 -

أن لا يتناول دليلها حكم الفرع بعمومه أو خصوصه، للاستغناء حينئذ بالدليل عن القياس كما في حديث "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" 1، فلا حاجة إلى إثبات ربوية التفاح مثلاً بقياسه على البر بجامع الطعم، للاستغناء عنه بعموم الحديث2.

6 -

اشترط بعضهم كون حكم الأصل قطعياً، والقول المختار الاكتفاء بالظن، لأن الظن غاية الاجتهاد فيما يقصد به العمل3.

7 -

اشترط بعضهم أن لا تخالف مذهب صحابي، قال العضد: "والحق جوازها، لجواز أن يكون مذهب الصحابي لعلة مستنبطة من أصل آخر

ولعل من شرط عدم مخالفة الصحابي، فلأن الظاهر أخذه من النص، والاحتمال لا بدفع الظهور، وهو محل الاجتهاد"4.

8 -

اشترط بعضهم القطع بوجود العلة في الفرع، قال السعد:"والصحيح يكفي الظن كما في الأصل، وفي كونها علة"5.

هذه هي الشروط التي رأيت أن أكتفي بتنبيه القارئ عليها من غير أن أتعرض لبحثها خشية الإطالة بما ليس من صلب موضوعي.

والآن أنتقل إلى الكلام على ما قبل الموضوع من مسالك العلة إن شاء الله تعالى.

1 أخرجه مسلم 5/47، ط محمد علي صبيح - مصر.

2 انظر تفاصيله في المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/291 فما بعدها.

3 انظر: المختصر مع شرحه: 2/232.

4 انظر نفس المصدر السابق 2/232.

5 انظر: حاشية السعد على العضد 2/232.

ص: 122

الفصل الرابع فيما قبل الوصف المناسب من مسالك العلة

وفيه مباحث:

تمهيد:

المسالك جمع مسلك، والمراد به الطريق الذي يسلكه المجتهد لإثبات علية الوصف، وكون الوصف الجامع علة، حكم خبري غير ضروري، فلا بد من دليل يميز الوصف الصالح للعلية عن سائر الأوصاف الموجودة في الأصل لينبني على الاشتراك في الاشتراك في الحكم وكون الوصف علة لحكم الأصل يعرف بمسالك1.

وهذه المسالك منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، ولما كان تعرضي لها إنما هو من باب التمهيد لذا فإنني سوف يكون تعرضي لما قيل الوصف المناسب بطريق الاختصار خشية الإطالة، فأقول:

1 -

الإجماع، وهو أن يذكر ما يدل على إجماع الأمة في عصر من الأعصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على كون الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني، إما قطعاً، وإما ظناً، لأن الظن كاف في إثبات الأحكام كالإجماع على كون الصغر على لثبوت الولاية على الصغير في ولاية المال، فتقاس ولاية النكاح على ولاية المال.

وكالإجماع على أن علة تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث هي امتزاج النسبين، فيقاس عليه تقديمه في ولاية النكاح، والصلاة على جنازته، وغيرهما بجامع امتزاج النسبين.

1 انظر: شفاء الغليل ص 23، المختصر مع شرحه 2/233، التقرير والتحبير 3/189، وتيسير التحرير 4/38.

ص: 123

وكالإجماع على أن العلة في حديث "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" 1، هي تشويش الغضب للفكر، فيقاس عليه كل مشوش للفطر كالحقن2 والجوع والعطش، وغيرها.

فإن قيل: كيف يسوغ الاختلاف فيما كانت علته مجمعاً عليها من مسائل الاجتهاد؟

أجيب بأن الاختلاف إنما يتصور فيما إذا كان الإجماع ظنياً كالثابت بالآحاد والسكوتي، أو يكون وجود العلة ظنياً في الأصل أو الفرع3.

2 -

النص من جهة الشارع: قال الآمدي: "وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال4، ثم قسمه هو والإمام، والبيضاوي، وابن السبكي إلى:

- قاطع، وهو الذي لا يحتمل غير العلية.

- وإلى ظاهر، وهو ما يحتمل غير العلية احتمالاً مرجوحاً.

وأما ابن الحاجب فقد أراد به ما يشمل الإيماء والتنبيه، وقسمه إلى: صريح، وإيماء، فأدخل الإيماء في النص5.

قال العطار: "وابن الحاجب أدرج فيه الظاهر، وقابل بالصريح التنبيه والإيماء، وأدرج الثلاثة في النص، وكل صحيح، لكن ما صنعه المصنف - يعني ابن السبكي - اقعد"6.

1 أخرجه مسلم 5/132، أبو داود 2/271.

2 هو حبس البول. انظر: المصباح المنير 1/157، مطبعة الحلبي.

3 انظر: المختصر مع شرحه 1/233-234، الأحكام للآمدي 3/233، نهاية السول 3/52، المحلى مع حاشية العطار 2/305.

4 الأحكام للآمدي 3/233.

5 المختصر مع شرحه 2/234.

6 حاشية العطار 2/305.

ص: 124

ولعله أقعد؛ لأن دلالة النص وضعية، ودلالة الإيماء والتنبيه لزومية، فإن قيل: كيف يجعل الظاهر قسماً من النص مع أن الأصوليين جعلوه قسيماً له؟ أجيب بأن المراد هنا مطلق الدليل الوارد من الكتاب والسنة، فهو أعم من النص المصطلح عليه وهو أحد اطلاقاته1، كما هو معلوم2.

هذه هي طرق الأصوليين في تقسيم هذا المسلك، وسأسلك طريق من قسمه إلى: قاطع وظاهر، فأقول:

الأول: القاطع وله ألفاظ:

"أ" التصريح بلفظ الحكمة كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} 3

ذكر ذلك الزركشي وقال: وهذا أهمله الأصوليون، وهو أعلاها4.

"ب" لعلة كذا.

"ج" لسبب كذا ولموجب كذا ولمؤثر كذا.

قال صاحب النبراس: "ولم يذكر الأصوليون لهذه أمثلة ولعلهم لم يظفروا بذلك في كتاب ولا في سنة"5.

"د" من أجل، أو لأجل وهو دون ما قبله.

ذكره الزركشي، وعزاه لابن السمعاني6، لأن لفظ العلة تعلم به العلة من غير واسطة، بخلاف قوله: لأجله،

1 للنص اطلاقات هي: ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، وقد تقدم ذكره، وهو حينئذ قسيم الظاهر، وعلى ما دل دلالة ظاهرة مع احتمال غير الظاهر، وهو حينئذ قسم من الظاهر، وعلى ما دل على معنى كيف ما كان، وهو غالب استعمال الفقهاء، ومنه قولهم: نصوص الشريعة متظافرة على كذا.

انظر: شرح تنقيح الفصول ص36-37، العضد على المختصر 2/168.

2 انظر: نهاية السول 3/41، المحلى مع العطار 2/306، وتعليقات د. عثمان.

3 سورة القمر آية: 4، 5.

4 انظر: البحر المحيط 3/141، -خ-.

5 نبراس العقول 1/230.

6 هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد أبو المظفر المعروف بابن السمعاني، الشافعي السلفي، صاحب اليد الطولى في الفنون، له مؤلفات منها في أصول الفقه، القواطع وكتاب الانتصار، توفي سنة 489هـ.

الفتح المبين 1/266.

ص: 125

فإنه يفيد معرفتها بواسطة معرفة أن العلة ما لأجلها الحكم والدال بلا واسطة أقوى. قال: وكذا قاله الأصفهاني1 في النكت2، مثال ذلك كما في قوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} 3، أي كتبنا على بني آدم القصاص من أجل قتل ابن آدم أخاه.

وقوله علية الصلاة والسلام: "إنما نهيتكم عن لحوم الأضاحي لأجل الدافة"4 أي إنما نهيتكم عن ادخارها لتتصدقوا بها على المستحقين لما في ذلك من كثرة الثواب5.

"هـ" كي، وتكون مثبتة ومنفية: فمثالها مثبتة قول الله تعالى: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} 6، ومثالها منفية قوله تعالى:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ}

1 هو: محمد بن محمود بن عياد العجلي، الملقب بشمس الدين الأصفهاني، المكنى بأبي عبد الله، الشافعي، ولد بأصفهان سنة 616هـ، الإمام النظار المتكلم الفقيه الأصولي، تولى قضاء قوص بمصر وغيرها، ودرس بالمشهد الحسيني والمشهد الشافعي، وغيرهما، له مؤلفات منها شرح المحصول في أصول الفقه، توفي سنة 688هـ.

انظر: الفتح المبين 2/91.

2 انظر: البحر المحيط 3/141 -خ-.

3 سورة المائدة آية 32.

4 أصله ما رواه مسلم في صحيحه 6/80 عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دف علينا أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا وادخروا ثلاثاً، ثم تصدقوا" فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟ " قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال:"إنما نهيتكم من أجل الدافة، التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا".

وذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم 13/230 في قول عائشة رضي الله عنها (حضرة الأضحى) إن الحاء فيها الفتح والضم والكسر والضاد ساكنة في كلها وحكى فتحها وهو ضعيف، وإنما تفتح إذا حذفت الهاء نحو بحضر فلان ا. هـ منه بتصرف، وحضرة مفعول لأجله، والدافة بتشديد الفاء قوم يسيرون جماعة سيراً خفيفاً، المراد هنا من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة.

انظر: الأبى على صحيح مسلم 5/303، وحاشية مكمل إكمال الإكمال للسنوسي عليه نفس المجلد والصفحة.

5 انظر: المختصر مع شرحه 2/ 234 المحلى مع حاشية العطار 2/306، ونهاية السول مع منهاج العقول 3/41، وتعليقات د. عثمان مريزيق.

6 سورة طه آية: 41، وسورة القصص آية:13.

7 سورة الحشر آية: 7.

ص: 126

أي إنما وجب تخميس الفيء، كي لا يتداوله الأغنياء منكم فلا يحصل للفقراء منه شيء، فإن قيل: كيف تعد كي في الصريح مع أنها تكون مصدرية والمحتمل لغير التعليل، ليس صريحاً في التعليل به؟

أجيب عنه بأن كي المصدرية تلزمها لام التعليل ظاهرة أو مقدرة فهي مؤكدة للام التعليل، فلم تخرج عن كونها للتعليل بالأصالة أو التأكيد.

"و" إذن كما في قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} 1، أي ولولا أن ثبتناك على الحق بعصمتك عن الباطل، لقد كدت تركن إليهم ركوناً قليلاً، إذن لأذقناك عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، كما نعذب غيرك فيهما2.

الثاني: الظاهر وهو أن يحتمل غير العلية احتمالاً مرجوحاً وله ألفاظ هي:

الأول: اللام ظاهرة ومقدرة، فالظاهر كقوله تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 3، وقوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} 4، وقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 5، وقوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 6، أي لزوال الشمس، وقد نقل الغزالي عن القاضي عدم صلاحية اللام للتعليل في هذا المثال ونظر فيما نقله عنه بما نصه:"قال القاضي: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} من هذا الجنس لأن هذا لام التعليل والدلوك لا يصلح أن يكون علة، فمعناه صل عنده فهو للتعقيب".

1 سورة الإسراء آية: 74، 75.

2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/306، ونهاية السول مع منهاج العقول 3/41، المختصر مع شرحه 2/234، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود دفتر 3/12- 13، وتعليقات د. عثمان مريزيق.

3 سورة إبراهيم آية: 1.

4 سورة الأنفال آية: 11.

5 سورة الذاريات آية: 56.

6 سورة الإسراء آية: 78.

ص: 127

قال الغزالي: "وهذا فيه نظر إذ الزوال والغروب لا يبعد أن ينصبه الشرع علامة للوجوب ولا معنى لعلة الشرع إلا العلامة المنصوبة، وقد قال الفقهاء: الأوقات أسباب، ولذلك يتكرر الوجوب بتكررها، ولا يبعد تسمية السبب علة"1.

ووجه كونها ظاهرة التعليل هو أنها قد تحتمل غير العلة احتمالاً مرجوحاً وذلك لورودها لغير التعليل كقولهم ثبت هذا الحكم لعلة كذا، وقول القائل أصلي لله تعالى، وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب، فقصد الفعل لا يصلح أن يكون علة للفعل وغرضاً له، وذات الله تعالى لا تصلح أن تكون علة للصلاة، ولا الموت علة للولادة، والخراب علة للبناء لأن العلة هي الباعث على الفعل2، وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

وأما المقدرة فكقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَاّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَد أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} 3، التقدير لا تطع من هذه مثاليه، لإن كان ذا مال وبنين أو التقدير: يكفر لإن كان ذا مال وبنين، وقيل غير ذلك4.

وقد اعترض الفخر الرازي على دلالة اللام على التعليل وظهورها فيه بوجوه، وأجاب عنها بما نصه: قال: "فإن قلت: اللام ليست صريحة في العلية، ويدل عليه وجوه:

الأول: أنها تدخل على العلة فيقال: ثبت هذا الحكم لعلة كذا ولو كانت اللام صريحة في التعليل لكان ذلك تكراراً.

1 انظر: المستصفى بأعلى فواتح الرحموت 2/288-289.

2 انظر: الأحكام للآمدي 2/234.

3 سورة القلم آية: 10-14.

4 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/306-307، روح المعاني للألوسي 29/28، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/236.

ص: 128

الثاني: أنه تعالى قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} 1، وبالاتفاق لا يجوز أن يكون ذلك غرضاً.

الثالث: قول الشاعر:

لدوا للموت وابنوا للخراب

فليست اللام ههنا غرضاً.

الرابع: يقال: أصلي لله تعالى، ولا يكون أن تكون ذات الله تعالى غرضاً قال: قلت: أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة، وإذا ثبت ذلك وجب القول بكونها مجازاً في هذه الصور"2.

وقد تابع البيضاوي، والأسنوي الإمام في كون اللام مجازاً في هذه الصور دفعاً للاشتراك لأنه خير منه3، وذلك لأمرين:

أحدهما: أن الاشتراك اللفظي يلزمه تعدد الوضع والأصل عدمه.

الثاني: أن اللفظ مع الاشتراك إن لم تكن معه قرينة فهو غير دال على شيء بعينه وإن كانت معه قرينة دل على ما دلت عليه القرينة فهو دال في حال واحدة. وأما اللفظ مع الحقيقة والمجاز4 فهو دال على الحالين؛ لأنه إن لم تكن معه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي فهو دال على المعنى الحقيقي، وإن كانت معه قرينة صارفة فهو دال على المجاز.

ووجه العلاقة هنا بين الحقيقة والمجاز أن عاقبة الشيء مترتبة عليه في الحصول ترتب العلة الغائية على معلولها5.

1 سورة الأعراف آية: 179.

2 انظر: المحصول ص 302-خ-.

3 نهاية السول مع منهاج العقول 3/41-42.

4 الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح المخاطب بكسر الطاء كالأسد للحيوان المفترس، والمجاز المفرد هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي كقولك: رأيت أسداً يرمي، يريد رجلاً شجاعاً.

انظر: حلية اللب المصون شرح الجوهر المكنون ص 75-76، ط الثانية، الحلبي.

5 انظر: نهاية السول 3/42، وتعليقات د. عثمان مريزيق.

ص: 129

الثاني: إن المكسورة المشددة نحو: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} 1.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم" 2 لكن يرد على هذا ما نقله الأسنوي عن التبريزي3 في التنقيح، أنه قال:"والحق أن إنّ لتأكيد مضمون الجملة ولا إشعار لها بالتعليل، ولهذا يحسن استعمالها ابتداء من غير سبق حكم"4.

قال صاحب نبراس العقول: "وعبارة التبريزي كما في القرافي "والحق إنها لتحقيق الفعل، وليس لها في التعليل حظ، ولهذا يحسن استعمالها ابتداء من غير سابقة حكم، والتعليل في الحديث مفهوم من قرينة سياق الكلام" ا. هـ.

وقال وقد استبعد القرافي كلام التبريزي، وقال: إن السابق إلى الفهم من قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} 5، التعليل6.

ونقل الزركشي عن الكمال بن الأنباري7 إنكار كونها للتعليل وإجماع النحاة

1 سورة نوح آية: 25، 26.

2 أخرجه أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، وابن ماجه 1/131، ونيل الأوطار 1/48 ط الأخير، الحلبي.

3 هو: المظفر بن أبي الخير محمد بن إسماعيل أبو سعيد الواراني التبريزي الملقب بأمين الدين، الفقيه الشافعي، الأصولي، النظار، ولد سنة 558هـ، وتفقه حتى صار إماماً مبرزاً، وكان معيداً بالمدرسة النظامية ثم استوطن مصر مدرساً ومفتياً، ثم سافر إلى العراق وشيراز، وكان ينشر العلم ويأخذ عن العلماء، له مؤلفات منها التنقيح، اختصر به المحصول في أصول الفقه، توفي سنة 621هـ.

الأعلام 8/165، 166، والفتح المبين 2/55.

4 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/42.

5 سورة الإسراء آية: 53.

6 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/235.

7 هو: أبو البركات عبد الرحمن بن أبي الوفاء محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد الأنباري الملقب بكمال الدين النحوي، سكن بغداد من صباه إلى أن مات بها، وقرأ على مشايخها حتى برع وصار معيداً للنظامية، وكان يعقد مجالس الوعظ، كان إماماً صدوقاً ثقة، فقيهاً مناظراً غزير العلم تقياً، عفيفاً له مؤلفات قيل: إنها تزيد 130 مصنفاً، ولد سنة 513هـ، وتوفي سنة 577هـ.

انظر: هداية العارفين الأول ص 479-480.س

ص: 130

على أنها لا ترد للتعليل وأنها في قوله: "إنها من الطوافين عليكم" للتأكيد، وقال: أن علية طهارة سؤر الهرة هي الطواف، ولو قدرنا مجيء قوله:"هي من الطوافين" بغير "أن" لأفاد التعليل، فلو كانت إن للتعليل لعدمت العلية بعدمها، ولا يمكن أن يكون التقدير لأنها، وإلا لوجب فتحها ولا استفيد التعليل من اللام.

قال: وتابعه جماعة من الحنابلة منهم إسماعيل البغدادي وأبو محمد يوسف بن الجوزي1.

ويعكر ما ذهب إليه ما ذكره السعد وغيره، قال السعد:"وأما كلمة إن بدون الفاء مثل: "إنها من الطوافين عليكم" فالمذكور في أكثر الكتب أنها من الصريح بما ذكره الشيخ عبد القادر أنها في مثل هذه المواقع تقع موقع الفاء وتغني غناءها2.

قال الزركشي: "وممن صرح بمجيئها للتعليل أبو الفتح بن جني3، ونقل القاضي نجم الدين في فصوله4 قولين للعلماء فيه وأن الأكثيرين على إثباته وليس مع النافي إلا عدم العلم، وكفى بابن جني حجة في ذلك"5.

الثالث: الباء كقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} 6، أي منعناهم منها لظلمهم، وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ

1 انظر: البحر المحيط 3/143، مع تصرف.

وابن الجوزي هو: يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن الجوزي التميمي البكري البغدادي، الحنبلي، أستاذ دار الخلافة المعتصمية وسفيرها من أهل بغداد وهو ابن العلامة ابن الجوزي أبي الفرج، ولد سنة 580?، وتفقه على أبيه وغيره حتى برع في الفقه والأصول والخلاف، ولى الولايات الجليلة في بغداد ثم عزل وانقطع للوعظ والتدريس والتأليف له مؤلفات منها معاني لابريز في تفسير الكتاب العزيز، والمذهب الأحمد في مذهب أحمد وغيرهما. توفي سنة 656هـ.

انظر: شذرات الذهب 5/286، الأعلام 9/312.

2 انظر: التلويح على التوضيح 2/69.

3 هو: عثمان ابن جني، الموصلي أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو وله شعر، ولد بالموصل وتوفي ببغداد سنة 392هـ عن نحو 65 سنة، كان أبوه مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد الأزدي، له مؤلفات منها الخصائص في اللغة، مطبوع منه مجلد وحد، والمنهج في اشتقاق أسماء رجال الحماسة، ط، والمقتضب من كلام العرب وغيرها.

انظر: الأعلام للزركلي 4/364، وابن خلكان1/313، وشذرات الذهب3/140.

4 ينظر من هو، لأنني ما عثرت على ترجمته.

5 انظر: البحر المحيط 3/143.

6 سورة النساء آية: 160.

ص: 131

لِنتَ لَهُمْ} 1، أي بسبب الرحمة لنت لهم، وقوله:{جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.

غير أنه يرد على هذا أن الباء تأتي للمصاحبة وللتعدية والإلصاق، وغيرها.

وأجاب الإمام عنه بأن "أصل الباء للإلصاق، وذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هناك، فحسن استعمالها فيه مجازاً"3.

قال الأسنوي: "وهذا الكلام صريح في أنها لا تحمل عند الإطلاق على التعليل وحينئذ لا تكون ظاهرة فيه، وهذا هو الصواب"4.

قال صاحب النبراس: "وفيه نظر، لأنه إذا لم تكن الباء من قسم الظاهر، ومن المعلوم أنها ليست من قسم القاطع، ولا من الإيماء - فمن أي قسم تكون حينئذ؟ ثم إن مقتضى كلامه أن اللفظ لا يكون ظاهراً في التعليل إلا إذا كان بحيث إذا أطلق ينصرف إليه.

وهذا كما أنه يخرج المستعمل في التعليل مجازاً يخرج عنه المشترك بين التعليل وغيره.

فالتحقيق "

أن كون اللفظ مشتركاً بين التعليل وغيره، أو مستعملاً في التعليل على سبيل المجاز، لا ينافي أنه من النص الظاهر في التعليل غايته أنه يحتاج إلى قرينة تصرف اللفظ عن إرادة غير التعليل منه"5.

الرابع: الفاء، وتكون في كلام الشارع، وفي كلام الراوي أما في كلام الشارع فتكون في الحكم، كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ

1 سورة آل عمران آية: 159.

2 سورة السجدة آية: 17.

3 انظر: المحصول ص 302 -خ-.

4 نهاية السول مع منهاج العقول 3/42، وانظر الأمثلة في المحلى مع العطار 2/306، الأحكام 3/234، المختصر مع شرحه 2/234.

5 نبراس العقول 1/234.

ص: 132

أَيْدِيَهُمَا} 1، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 2، وقوله:{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِح الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 3، وقوله:{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} 4، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:"من أحيا أرضاً ميتة، فهي له" 5، وقوله:"من بدل دينه فاقتلوه"6.

وتكون في الوصف كما في حديث المحرم الذي وقصته ناقته: "ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً"7.

وكما في الحديث "زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك"8.

أما في كلام الراوي فتكون فيه في الحكم كقول عمران بن حصين سها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسجد9.

وأما في الوصف في كلام الراوي فذكر الأسنوي ما يدل على جوازه بقوله: "لم يظفروا له بمثال"10، لأن مقتضى عدم العثور على مثاله، يقتضي إمكان حصوله،

1 سورة المائدة آية: 38.

2 سورة النور آية: 2.

3 سورة النساء آية: 25.

4 سورة النساء آية: 43.

5 أخرجه أبو داود 2/158 فما بعدها والبخاري تعليقاً وذكر الحافظ من أوصله وقال: له شواهد تة وإن كانت ضعيفة، البخاري والفتح معه 5/18-19، والجامع الصغير مع فتح القدير 6/39، ورمز له (حم ت د) ، والضياء في المختارة عن سعيد بن زيد (ص) .

6 أخرجه البخاري في باب لا يعذب بعذاب الله، انظر البخاري مع الفتح 6/149، والموطأ مع تنوير الحالك 2/116، بلفظ من غير دينه فاضربوا عنقه.

7 انظر: البخاري 3/19، في باب ما ينهى من الطيب للمحرم، أبو داود 2/196.

8 لفظ البخاري: "أمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" البخاري مع الفتح 3/209، أبو داود 2/174، ونصب الراية 2/307-308، ط الثانية.

9 ما وقفت على من خرجه، وفي معناه حديث ذي اليدين، انظر البخاري 2/81، 82، وأبو داود 1/231 فما بعدها.

10 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/44.

ص: 133

غير أنه لم يحصل، أو لم يعرف، لكن قول المحلى "وتكون في ذلك في الحكم فقط"1، يقتضي عدم إمكانه، غير أن عدم الظفر له بمثال أعم من إمكان حصوله فلا يقتضيه.

وعلله الشربيني بقوله: "إنما كان كذلك، لأن الراوي من حيث هو راو إنما يريد حكاية ما وقع، فلا بد أن يحكيه على ترتيبه، ثم السامع ينتقل إلى فهم التعليل وليس هو كالشارع حتى يؤخر ما كان مقدماً في الوجود بناء على فهم السامع التعليل.

فإن قلت: حكاية ما في الخارج تحصل مع التأخير؛ لأن تقدم العلة لازم، قلت: وضع الفاء إنما هو ترتب مدخولها وهو الذي ساق له الراوي كلامه، لا التعليل اللازم له التقدم"2.

وسواء في ذلك الفقيه وغيره، وإن كانت رواية الفقيه تقدم على رواية غير الفقيه عند التعارض لإتقانه، لأن الراوي عدل يحكي ما وقع، وهو عارف بمعاني الألفاظ فعبر عما وقع أمامه بعبارة تدل عليه، ولو لم يفهم ترتب الحكم على الوصف بالفاء لم يقله، فالفاء فيما ذكر للسببية التي هي بمعنى العلية3.

هذا وقد اختلف الأصوليون في الترتيب بالفاء هل هو من النص، أو الإيماء؟

فمنهم من اعتبره من النص كابن الحاجب وابن السبكي من النص الظاهر الدال على العلية وضعاً، لا نظراً واستدلالاً وهذا هو الظاهر، لتبادر السلبية منها، كما في قوله تعالى:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} 4، وقوله:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 5 "لأن القضاء مسبب عن الوكز الذي هو سبب الموت

1 المحلى مع حاشية العطار 2/407.

2 تعليقات الشربيني على هامش العطار 2/307.

3 المحصول ص 302-خ-، شفاء الغليل ص 27 فما بعدها، المختصر مع شرحه 2/234، المحلى مع حاشية العطار 2/207.

4 سورة القصص آية: 15.

5 سورة البقرة آية: 37.

ص: 134

والتوبة مسببة عن تلقي الكلمات بالأخذ والقبول والعمل بها التي هي سبب التوبة" إلى غير ذلك"1.

ومنهم من اعتبره من الإيماء والتنبيه كالإمام في المحصول وتبعه البيضاوي في المنهاج والآمدي في الأحكام.

وذكر الشيخ حسن العطار أن بعض شراح البيضاوي وفق بين قول البيضاوي وبين قول ابن الحاجب، بأنه لما احتاجت دلالة الفاء على العلية إلى النظر لم تكن وضعية صرفة فلذا جعلها البيضاوي من الإيماء، ولما دلت على الترتيب بالوضع جعلها غيره من أقسام ما يدل بوضعه.

قال: وطريق النظر أن يقال: الفاء للتعقيب، وحينئذ يلزم أن يثبت الحكم عقيب ما رتب عليه فتلزم سببيته للحكم إذ لا نعني بها سوى ذلك2.

وقرر السعد في حاشيته على العضد وجه كون الفاء من النص مع أن النص عند العضد هو ما دل على العلية بوضعه "بأن الفاء بحسب الوضع إنما تدل على الترتيب ودلالتها على العلية إنما تستفاد بطريق النظر والاستدلال من الكلام على أن هذا ترتب حكم على الباعث المتقدم عليه عقلاً أو ترتب الباعث على حكمه الذي يتقدم "هو" عليه في الوجود، فمن جهة كونها للترتيب بالوضع جعل من أقسام ما يدل بوضعه، ومن جهة احتياج ثبوت العلة إلى النظر جعل استدلالية لا وضعية صرفة"3.

قال صاحب النبراس: "وفيه نظر، لأنه صريح في أن الفاء ليست موضوعة للتعليل ومجرد كونها موضوعة لشيء يستلزم التعليل لا يقتضي اعتبارها من النص على رأيه"4.

1 انظر: رسالة مباحث القياس للشيخ سويلم طه ص 120.

2 حاشية العطار على المحلى 2/308.

3 حاشية السعد على العضد 2/234.

4 نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/249.

ص: 135

وقد وجه الآمدي دلالة الترتيب بالفاء على العلية في جميع الصور بقوله: "وذلك في جميع هذه الصور يدل على أن ما رتب عليه الحكم بالفاء يكون علة للحكم لكون الفاء في اللغة ظاهرة في التعقيب.

ولهذا فإنه لو قيل: جاء زيد فعمرو، فإن ذلك يدل على أن مجيء عمرو عقيب مجيء زيد من غير مهلمة ويلزم من السببية لأنه لا معنى لكون الوصف سبباً إلا ما ثبت الحكم عقيبه، وليس ذلك قطعاً بل ظاهراً، لأن الفاء في اللغة قد ترد بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق، وقد ترد بمعنى ثم في إرادة التأخير مع المهلة كما سبق تعريفه غير أنها ظاهرة في التعقيب بعيدة فيما سواه"1.

وذكر العطار - بعد ذكر أمثلة الفاء - أنها "للسببية التي هي بمعنى العلية، ففي الأخير مثلاً المعنى، فبسبب سهوه سجد، وفي ذلك التنبيه على رد اعتراض العراقي2 على المصنف بأن البيضاوي جعل الفاء مطلقاً من قبيل الإيماء وظاهر أن كلاً منهما صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح مع أنه ما قاله المصنف التابع لابن الحاجب اقعد من قول البيضاوي التابع للمحصول3.

وعبارة البيضاوي في المنهاج هي "الثاني: الإيماء وهو خمسة أنواع:

الأول: ترتيب الحكم على الوصف بالفاء وتكون في الوصف أو الحكم وفي لفظ الشارع، أو الراوي، مثاله:"والسارق والسارقة لا تقربوا طيباً، زنى ماعز فرجم"4.

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/235.

2 هو: عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن أبو الفضل، المعروف بالحافظ العراقي، من كبار حفاظ الحديث، كردي الأصل، ولد في رازان من أعمال إربل، وتحول مع أبيه إلى مصر فتعلم بها ونبغ ورحل إلى الحجاز والشام وفلسطين وعاد لمصر (له مؤلفات جليلة منها: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، ونكت منهاج البيضاوي في الأصول والتحرير في أصول الفقه، والألفية في المصطلح وغيرها) ولد سنة 725هـ وتوفي بمصر سنة 806هـ. الأعلام 4/119.

3 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/308.

4 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/42-43.

ص: 136

قال العطار: "ووفق بعض شرحه بينه وبين ابن الحاجب بأنه لما احتاجت دلالة الفاء على العلية إلى النظر لم تكن وضعية صرفة، فلذا جعلها من الإيماء، ولما دلت على الترتيب بالوضع جعلها غيره من أقسام ما يدل بوضعه.

قال: "وطريق النظر أن يقال: الفاء للتعقيب، وحينئذ يلزم أن يثبت الحكم عقيب ما رتب عليه فتلزم سببيته للحكم، إذ لا نعني بها سوى ذلك"1.

والحاصل أنهم متفقون على أن ترتيب الحكم على الوصف بالفاء يفيد العلية مطلقاً سواء كان الوصف ظاهر المناسبة للحكم أو لم يكن ظاهر المناسبة له؛ لأن الترتيب إما نص أو في قوة النص، والنص لا يشترط فيه ظهور المناسبة؛ لأنه متى نص الشارع على علية وصف لحكم ثبتت عليته له بقطع النظر عن المناسبة وعدمها، وستأتي زيادة بيان وجه كون الترتيب يفيد العلية في الإيماء إن شاء الله تعالى.

الخامس: إذ، نحو ضربت العبد إذ أساء، أي لإساءته2.

السادس: "أن المفتوحة المخففة فإنها بمعنى لأجل، والفعل المستقبل بعدها تعليل لما قبله نحو أن كان ذا مال، ومنه {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} 3، فإنه مفعول لأجله قدره البصريون كراهة أن يقولوا والكوفيون لئلا تقولوا أو لأجل أن تقولوا"4.

السابع: "إن المكسورة ساكنة النون الشرطية، بناء على أن الشروط اللغوية أسباب، فلا معنى لإنكار من أنكر عدها من ذلك5، نحو:{رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} 6.

1 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/308.

2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/308.

3 سورة الأنعام آية: 156.

4 انظر: البحر المحيط 3/142 -خ-.

5 انظر: البحر المحيط 3/143-خ-.

6 سورة نوح آية: 25، 26.

ص: 137

الثامن: بيد نحو "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش"1.

التاسع: على، نحو قوله تعالى:{لِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 2.

العاشر: في، كما في قوله تعالى:{لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3.

الحادي عشر: من، بكسر الميم، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ} 4.

ذكر الأربعة الأخير المحلى، وقال:"إنما فصل هذا - يعني ابن السبكي عما قبله بقوله "ومنه" لأنه لم يذكره الأصوليون5، ومراده بالأصوليين متقدموهم، فلا ينافي ذكر بعض متأخريهم أنه من المسالك، هكذا قال العطار.

قال: "وقيل: عدم ذكره هو الصواب؛ لأن استعمال هذه في التعليل إنما يكون لقرينة، فلا يصدق تعريف الظاهر عليه؛ لأن الظاهر ما دل دلالة ظنية أو ظاهرة بطريق الوضع كالأسد أو العرف6، كالغائط بأن يكون موضوعاً لذلك المعنى

1 قال العجلوني قال في اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب ولا يعرف له إسناد ورواه ابن سعد عن يحيى بن يزيد مرسلاً بلفظ:"أنا أعربكم أنا من قريش ولساني لسان سعد بن بكر"، ورواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري بلفظ أنا أعرب العرب، ولدت في بني سعد، فأنى يأتيني اللحن، ثم قال فيه والعجب من المحلى حيث ذكره في شرح جمع الجوامع من غير بيان حاله، وكذا من شيخ الإسلام زكريا حيث ذكر في شرح الجزرية.

انظر: كشف الخفاء ومزيل الألباس للعجلوني 1/200-201.

2 سورة الحج آية: 37.

3 سورة النور آية: 14.

4 سورة الأنعام آية: 151.

5 انظر: المحلى مع العطار 2/308، وشرح مراقي السعود للشيخ محمد الأمين أحمد زيدان ص 172.

6 الوضع في اللغة، هو: جعل اللفظ دليلاً على المعنى كأن يسمى الإنسان ولده زيداً مثلاً، والعرف هو استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره، وهو عام كالدابة وخاص كالجوهر والعرض عند المتكلمين.

انظر: شرح تنقيح الفصول ص 20.

ص: 138

الراجح لغة أو عرفاً، وما يحتاج إلى قرينة مؤول"1.

لكن يرد على ما ذكره أنا العبادي2 وجه ظهورها في التعليل "بأنهم أرادوا بكون هذا القسم ظاهراً في العلية ما يعم كونه ظاهراً فيها بواسطة القرائن، وحينئذ فلا إشكال فيما فعله المصنف؛ لأن تلك الحروف والأسماء وإن كانت موضوعة لغير العلية وكان استعمالها في العلية إنما هو بقرينة، فقد تكون ظاهرة فيها بواسطة القرائن، فيجب أن تكون من القسم الظاهر في العلية، ولما لم يذكروها فيه نبه المصنف على ذلك بفصلها يقوله "ومنه"3.

هذه هي الصيغ التي ذكر الأصوليون أنها تدل على التعليل بطريق النص القاطع أو الظاهر، وهي وإن كانت دلالة بعضها على التعليل بالقرينة عل العلية إلا أنها ظاهرة فيها على ما مر تقريره.

والظاهر يجب الأخذ به حتى يدل الدليل على عدم إرادته ويدل لذلك ما ذكره الآمدي - بعد أن ذكر الحروف الظاهرة في التعليل، وهي: اللام وكي، ومن، وأن، والباء أنها صريحة في التعليل حيث قال:"هذه الصيغ الصريحة في التعليل، وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على إنها لم يقصد بها التعليل، فتكون مجازاً فيما قصد بها"4 ومراده بالصريحة ما يشمل الظاهر.

قال البدخشي5: "والحق أن معنى الظهور والتعليل في هذه الحروف تبادر

1 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/308.

2 هو: أحمد بن قاسم العبادي، الشافعي الملقب بشهاب الدين، درس حتى برع وتفوق على أقرانه بتحريراته التي ملأت أسماع علماء عصره، ومؤلفاته شاهدة بغزارة علمه، منها الآيات البينات حاشية على المحلى على جمع الجوامع، توفي سنة 994هـ.

انظر: الفتح المبين 3/81.

3 انظر: الآيات البينات حاشية على المحلى 4/79.

4 الأحكام لآمدي 3/234.

5 هو: الإمام محمد بن حسن البدخشي صاحب منهاج العقول شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، لم أرَ من ترجم له غير أن المطلع على كتابه منهاج العقول يدرك سعة علمه وقوة اطلاعه وجودة تحريره.

ص: 139

الذهن إلى فهم التعليل منها في أمثال هذه المواقع ولا بدلالة السياق والسياق لا أنها موضوعة للتعليل بخصوصه دون غيره من المعاني1.

والحاصل أنها ظاهرة في التعليل وإن كانت قد ترد لغيره لأن كونها موضوعة للتعليل ولغيره، سواء بطريق الاشتراك اللفظي أم بكونها حقيقة في غير التعليل مجازاً في التعليل لا يمنع من ظهورها فيه لدلالة القرائن على إرادة التعليل دون غيره، فمعنى ظهورها فيه هو تبادر الذهن إلى فهم التعليل ولو بدلالة السياق لا أنها موضوعة للتعليل، دون غيره كما سبق نقله عن البدخشي، وغيره.

هذا وقد ختم الزركشي البحث بما يفيد دلالتها على التعليل مع اختلاف مراتبها فيه بما نصه: قال: "هذه الألفاظ كما تختلف مراتبها في نفسها في الدلالة على التعليل كذلك تختلف بحسب وقوعها في كلا القائلين، فهي في كلام الشارع أقوى منها في كلام الراوي، وفي كلام الراوي الفقيه أقوى منها في غير الفقيه مع صحة الاحتجاج بها في الكل خلافاً لمن توهم أنه لا يحتج بها إلا في كلام الراوي الفقيه".

قال: وهذا البحث توهمه بعض المتأخرين وليس قولاً وزعم الأسدي أن الوارد في كلام الله أقوى من الوارد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والحق تساويهما وبه صرح الهندي لعدم احتمال تطرق الخطأ إليهما"2، والله تعالى أعلم.

3 -

الإيماء والتنبيه، ويسمى بكل منهما دون الآخر.

الإيماء في اللغة: مصدر أومأ إلى الشيء إيماء أشار إليه إشارة خفيفة، ويقال: ومأت إليه أمأ وأما مثل وضعت أضع وضعاً3.

وأما في اصطلاح الأصوليين فقد عرفوه بتعريفين:

الأول: تعريف ابن الحاجب وهو: "اقتران وصف بحكم لو لم يكن هو أو

1 انظر: منهاج العقول مع نهاية السول 3/42.

2 البحر المحيط 3/146 -خ-.

3 انظر: القاموس المحيط 1/34، مختار الصحاح ص 337، المصباح المنير 2/351.

ص: 140

نظيره للتعليل لكان بعيداً"1.

شرح التعريف:

قوله: "اقتران" وصف بحكم، معناه أن يجتمع في كلام الشارع وصف وحكم سواء كانا ملفوظين معاً، أو مقدرين معاً، أو كان أحدهما ملفوظاً والآخر مقدراً.

وقوله: "أو نظيره" أي نظير هذا الوصف لنظير هذا الحكم بمعنى أنه لو لم يكن الوصف علة في الحكم، أو لم يكن نظير هذا الوصف علة لنظير هذا الحكم لكان القران بينهما بعيداً لا يليق بفصاحة الشارع لخلوه عن الفائدة فوجب حمله على التعليل دفعاً لاستبعاد عدم الفائدة عن كلام الشارع العالم بأسرار البلاغة، ومواقع الألفاظ والذي لا تخلو أفعاله عن فائدة2.

فمثال ما كان الوصف والحكم مذكورين فيه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} 3، ومثال المقدرين قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} 4.

ومثال ما إذا كان الوصف مذكوراً والحكم مقدراً حيث "تمرة طيبة وماء طهور"5.

ومثال ما كان الحكم مذكوراً والوصف مقدراً: "اعتق رقبة"، فإن التقدير واقعت فاعتق.

ومثال النظيرين ما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "إني أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: "أرأيت لو

1 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/234.

2 المحلى مع حاشية العطار 2/308-310، المختصر مع شرحه 2/234، وتعليقات د. عثمان مريزيق على القياس.

3 سورة المائدة آية: 38.

4 سورة البقرة آية: 222.

5 أخرجه أبو داود 1/20، ابن ماجه 1/135، وقال: مداره على أبي زيد وهو مجهول عند أهل الحديث، وقال ابن حجر في الفتح 1/354، أطبق العلماء على تضعيفه، وقال الزيلعي في نصب الراية 1/137: ضعفه العلماء.

ص: 141

على أمك دين أكنت تقضينه؟ " قالت: نعم، قال: "فدين الله أحق بالقضاء"، وفي رواية "أكان يؤدى ذلك عنها"؟ 1 أي: فإنه يؤدى عنها. فإنها سألته عن دين الله تعالى على الميت وجواز قضائه عنه، فذكر لها دين الآدمي عليه، وقررها على جواز قضائه عنه، وهما نظيران فلو لم يكن جواز القضاء فيهما لعلة الدين له لكان بعيداً2.

وستأتي هذه الأمثلة في أنواع الإيماء، وإنما قدمتها هنا للإيضاح والمراد من الوصف المعنى القائم بالغير ولو كان شرطاً أو استثناء أو غاية أو استدراكاً.

والمراد بالحكم: الحكم الشرعي، بدليل قوله "لو لم يكن للتعليل" أي: لكونه علة لكان بعيداً، وإنما نسب الاقتران إلى الوصف مع أن الاقتران من الجانبين لأن الحكم هو المقصود والوصف إنما جيء به وقرن بهذا الحكم ليكون معرفاً له، وعلامة على مواقعه"3.

فظهر أن المراد من الإيماء المراد مسلكاً من مسالك العلة هو الاقتران المقيد بكونه بين الوصف والحكم ويكون الوصف لو لم يكن هو أو نظيره لتعليل لكان بعيداً.

فالاقتران جنس في التعريف يشمل كل اقتران سواء كان اقتران وصف بحكم، أو اقتران وصف بغير حكم، أو اقتران حكم بذات، خرج عنه ما دل على العلية بلفظ كالفاء، و "وصف" قيد أول خرج به اقتران حكم بذات نحو أكرم زيداً، وبحكم قيد ثان خرج به اقتران وصف بغير حكم نحو:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 4 فالوصف هو الإنزال، والمقترن به هو لفظ كتاب، وهو ليس بحكم، لأن جملة "أنزلناه" في موضع رفع صفة لكتاب، وقوله "لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيداً قيد ثالث لإخراج اقتران وصف بحكم لو لم يكن هو أو

1 انظر: صحيح مسلم 3/155-156، ابن ماجه 1/559.

2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/312-313.

3 انظر: نبراس العقول 1/237.

4 سورة الأنعام آية: 92.

ص: 142

نظيره للتعليل لم يكن بعيداً كأن خرج الوصف مخرج الغالب كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَاّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَاّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} 1، فذكر الوصف وهو الكون في الحجر مع الحكم، وهو التحريم إنما هو لمراعاة الغالب لأن الغالب في الربيبة كونها تتربى كذلك، وليس المراد به التعليل.

ومخرج أيضاً لما عدا الإيماء من طرق العلية لأن المفيد للعلية فيها شيء آخر، كالنص أو المناسبة أو السبر أو غيرها2.

هذا وقد اتفق الأصوليون على أن الوصف والحكم إن كانا مذكورين فإيماء باتفاق، وإن كان مستنبطين فليس بإيماء باتفاق، وإن كان أحدهما مذكوراً دون الآخر بأن ذكر الوصف، وكان الحكم مستنبطاً منه غير مصرح به، أو العكس ففيه ثلاثة مذاهب:

الأول: أنه إيماء بناء على أن الإيماء اقتران الوصف والحكم وإن كان أحدهما مقدراً تنزيلاً للمستنبط منزلة الملفوظ، فيقدمان عند التعارض على المستنبطة بلا إيماء.

الثاني: ليس شيء منهما بإيماء، بناء على أنه لا بد من ذكرهما ليتحقق الاقتران بالجمع بينهما لأن انفراد أحدهما لا يحقق الاقتران.

الثالث: إن كان الوصف ملفوظاً، والحكم مستنبطاً، فإيماء أما إذا كان الحكم منصوصاً والوصف مستنبطاً، فليس بإيماء لجواز أن يكون الوصف أعم من الحكم فلا يستلزمه لأنه يوجد بدونه تحقيقاً لمعنى الأعمية وهو كثير، ومنه أكثر العلل المستنبطة.

مثال ما كان الوصف منصوصاً، والحكم مستنبطاً، قول الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} 3 فإن اللفظ بصريحه يدل على الحل، والصحة مستنبطة منه.

1 سورة النساء آية: 23.

2 انظر: تعليقات د. عثمان مريزيق على القياس، وأصول الفقه لأبي النور زهير 4/69.

3 سورة البقرة آية: 275.

ص: 143

ووجه استنباطه أنه لو لم يصح لم يكن مفيداً وإذا لم يكن مفيداً كان عبثاً والعبث قبيح، والقبيح حرام، فلم يكن حلالاً فيلزم كونه حلالاً أن يكون صحيحاً لتعذر الحل مع انتفاء الصحة1.

قال الآمدي: "وهو الحق، وذلك لأنه إذا كان اللفظ بصريحه يدل على الوصف، وهو الحل والصحة لازمة له، لما تقرر فإثبات الحل وضعاً يدل على إرادة ثبوت الصحة ضرورة كونها لازمة للحل فيكون ثابتاً بإثبات الشارع له مع وصف الحل وإثبات الشارع للحكم مقترناً بوصف مناسب دليل الإيماء إلى الوصف كما لو ذكر معه الحكم بلفظ يدل عليه وضعاً ضرورة تساويهما في الثبوت، وإن اختلفا في طريق الثبوت بأن كان أحدهما ثابتاً بدلالة اللفظ وضعاً والآخر مستنبطاً من مدلول اللفظ وضعاً لأن الإيماء إنما كان مستفاداً عند ذكر الحكم والوصف بطريق الوضع من جهة اقتران الحكم بالوصف لا من جهة كون الحكم ثابتاً بطريق الوضع"2.

ومثال ما كان الحكم منصوصاً والوصف مستنبطاً حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"، وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "ينهى عن الذهب بالذهب"، الحديث3.

فإن النهي عن التفاضل عند اتحاد الجنسين لا يستلزم وصفاً معيناً، ولذا ذهب الشافعي إلى أنه الطعم، ومالك إلى أنه الاقتيات والادخار، وأبو حنيفة وأحمد إلى أنه الكيل أو الوزن.

فظهر أن الفرق بين الصورتين أن الوصف في الأول يستلزم الحكم، فيظهر

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/242، المحلى مع العطار 2/312-313، المختصر مع شرحه 2/236.

2 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/242-243.

3 صحيح مسلم 5/43-44.

ص: 144

اعتباره مقارناً له، فيتحقق الإيماء بخلاف الثاني، لجواز أن يكون الوصف الذي يستلزمه الحكم أعم مما عينه المستنبط، وحينئذ لا يكون في الحكم دلالة على خصوص ما عينه المستنبط حتى يكون فيه إيماء إليه كما في المثال الآنف الذكر1.

هل للخلاف ثمرة؟

قال العضد: "والخلاف لفظي مبني على تفسير الإيماء، فالأول مبني على أن الإيماء اقتران الحكم والوصف سواء كان مذكورين أو أحدهما مذكوراً والأخر مقدراً.

والثاني مبني على أنه لا بد من ذكرهما؛ إذ به يتحقق الاقتران.

والثالث مبني على أن إثبات مسلتزم الشيء يقتضيه إثباته، والعلة كالحل تستلزم المعلول كالصحة فيكون بمثاية المذكور فيتحقق الاقتران، واللازم حيث ليس إثباته إثباتاً لملزومه بخلاف ذلك"2.

التعريف الثاني: "هو ما دل على علية وصف لحكم بواسطة قرينة من القرائن"3.

شرح التعريف:

قوله: "ما" يعني لفظاً بدليل قوله ما دل والمراد من الدلالة هنا الدلالة الالتزامية بدليل عبارة الآمدي ونصها "الثاني: ما يدل على العلية بالتنبيه والإيماء وذلك بأن يكون التعليل لازماً مدلول اللفظ وضعاً لا أن يكون اللفظ دالاً بوضعه"4.

فقوله: "ما" جنس في التعريف يشمل جميع الألفاظ سواء كانت مستعملة أم مهملة وسواء دلت على العلية أم دلت على غيرها، وقوله "دل" قيد أول مخرج

1 انظر: نبراس العقول 1/239، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 انظر: العضد على المختصر 2/236.

3 انظر: نهاية السول 3/44.

4 الأحكام للآمدي 3/235.

ص: 145

للمهمل، والدلالة هي فهم أمر من أمر بعد العلم بالوضع أو كون أمر يفهم منه أمر فهم أو لم يفهم.

وقوله: "على علية وصف لحكم" فالعلية معناها كون الشيء علة والمراد كون الوصف علة للحكم، وأما الموصوف والحكم فقد تقدم تعريفهما بما أغنى عن إعادته، وهو قيد ثان مخرج لما دل على غير العلية كما تقدم.

وقوله: "بقرينة من القرائن" أعم من أن تكون لفظاً، أو غير لفظ فتشمل الترتيب بالفاء الملفوظة أو المقدرة والقرينة المعنوية كقرينة الاستبعاد، وخلو الاقتران به عن الفائدة، وهو قيد ثالث يخرج ما كان التعليل به بالنص أو المناسبة أو السبر أو غيرها.

الموازنة بين التعريفين: يظهر للمتأمل في التعريفين السابقين أن تعريف ابن الحاجب لا يشمل الترتيب بالفاء الملفوظة؛ لأن دلالتها بالقرينة اللفظية فالفاء عنده من الصريح؛ لأنه جعل المقيد للإيماء هو بعد القران فقط.

أما التعريف الثاني: فقد اعتبر المفيد للعلية في الإيماء هو مطلق القرينة الشاملة للفظية والمعنوية، فيشمل الترتيب بالفاء المذكورة فهي عنده من باب الإيماء1، والله تعالى أعلم.

أنواع الإيماء:

النوع الأول: ما لو حدثت واقعة فرفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم عقيبها بحكم فإن حكمه يدل على كون ما حدث علة لذلك الحكم وذلك كما في قول الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "يا رسول الله هلكت وأهلكت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ماذا صنعت"؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عامداً، وأنا صائم، فقال له عليه الصلاة والسلام: "اعتق رقبة" 2، فإنه يدل على كون

1 انظر: أصول الفقه لأبي النور زهير 4/70-71، تعليقات د. عثمان مريزيق.

2 أصل الحديث كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، ثم جلس، فأوتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا، قال: أفقر منا؟ فما بين لا بتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك".

انظر: صحيح مسلم 3/138-139، صحيح البخاري 4/163، 173، 5/223.

ص: 146

الوقاع علة في الإعتاق، لأن الأعرابي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن واقعته لبيان حكمها شرعاً فكان ذكره صلى الله عليه وسلم جواباً للأعرابي ليحصل غرضه من بيان الحكم، ولئلا يخلو السؤال عن الجواب، لأن الكلام الصالح للجواب إذا كان عقيب السؤال يغلب على الظن أن يكون جواباً له.

وإذا كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً للأعرابي، كان السؤال مقدراً في الجواب، كأنه قال: واقعت فأعتق، والداعي لتقرير السؤال مع الجواب تحقق الاقتران بين الوصف والحكم، في كلام واحد، إذ الاقتران بينهما في كلامين غير ممكن1.

وحينئذ يلحق هذا النوع بترتيب الحكم على الوصف بالفاء، لكنه دونه في الظهور وذلك لأمرين:

الأول: أن الفاء هنا مقدرة وثمة ملفوظة، والملفوظ أقوى من المقدر.

الثاني: لاحتمال عدم قصد الجواب كما لو قال العبد لسيده طلعت الشمس، فقال له: اسقني ماء فإنه لا يفهم منه الجواب لسؤال العبد، ولا التعليل بل هو أمر له ابتداء بسقي الماء، وعدول عن السؤال بالكلية، وذلك إما للذهول عن السؤال أو لعدم الالتفات إليه لعدم تعلق الغرض به غير أن هذا الاحتمال وإن كان وارداً إلا أنه بعيد في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيما فرض السؤال عنه؛ إذ الغلاب عليه عدم الذهول، ولأنه لو لم يقصد الجواب للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة مع أنه خلاف الظاهر2.

1 انظر: المحلى مع العطار 2/309، وحاشية العطار 2/309، تقريرات الشربيني مع العطار 2/310، الأحكام للآمدي 3/236.

2 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/236، المحصول ص 303 -خ-، المختصر مع شرحه 2/234 فما بعدها، نهاية السول 3/48.

ص: 147

فائدة ومنصب الشارع مما ينزه عنه، وذلك لأن الوصف المذكور إما أن يكون مذكوراً مع الحكم في كلام تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم".

فإن كان كلام الله تعالى وقدر أنه لو لم يقدر التعليل به فذكره لا يكون مفيداً، ولا يخفى أن ذلك غير جائز في كلام الله تعالى إجماعاً، نفياً لما لا يليق بكلامه عنه.

وإن كان في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى "أن" الأصل إنما هو انتفاء العبث عن العاقل في فعله وكلامه ونسبة ما لا فائدة فيه إليه، لكونه عارفاً بوجوه المصالح والمفاسد فلا يقدم في الغالب على ما لا فائدة فيه وإذا كان ذلك الظاهر من حال العقلاء فمن هو أهل للرسالة عن الله تعالى، ونزول الوحي عليه وتشريع الأحكام أولى، وإذا عرفت ذلك فيجب اعتقاد كون الوصف المذكور في كلامه مع الحكم علة"1.

وهذا النوع اختلفت فيه طريقة الأصوليين:

فمنهم من ذكره من غير أنه يقسمه إلى أقسام كابن الحاجب ومنهم من قسمه إلى أقسام كالآمدي، وقد رأيت أن أسلك طريقة من قسم إلى أقسام لما في ذلك من زيادة الإيضاح، وهذه الأقسام هي:

1 -

أن يكون ذكر الوصف مع الحكم دافعاً لسؤال أورده من توهم الاشتراك بين الصورتين كما روي أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، فقيل له: إنك دخلت على قوم عندهم هرة، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنها ليست نجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 2، فلو لو يكن طوافها علة لعدم نجاستها لم يكن

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/237.

2 أخرجه أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، وابن ماجه في 1/131، ثم قال في الزوائد: في إسناده حارثة بن أبي الرجال، ضعيف ا. هـ.

ولم يتعرضا في روايتهما له إلى أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، غير أن الزيلعي ذكر في أثناء كلامه على حديث "الهر سبع" قال: رواه الدارقطني في سننه بقصة فيه عن أبي النضر عن عيسى بن المسيب قال: حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دار، فشق ذلك عليهم، فقالوا يا رسول الله تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام:"لأن في داركم كلباً"، قالوا: كان في دارهم سنوراً، فقال عليه الصلاة والسلام:"السنور سبع" اهـ من نصب الراية 1/134-135.

ص: 148

لذكره عقب الحكم بطهارتها فائدة1.

2 -

"أن يذكر الشارع وصفاً في محل الحكم لو لم يكن علة لم يحتج إلى ذكره، وذلك كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ليلة الجن أنه أحضر للنبي صلى الله عليه وسلم ماء نبيذ فيه تمر، فتوضأ منه، وقال: "تمرة طيبة، وماء طهور" 2، فإن وصف المحل وهو النبيذ بطيب ثمرته وطهورية مائه دليل على بقاء طهورية الماء"3.

وذلك دليل على بقاء الماء على الطهورية.

وهذا الحكم غير مصرح به، وإنما قلنا أن وصف المحلى بطيب الثمرة وطهورية الماء دليل على بقاء الماء على الطهورية، لأنه لو لم يكن كذلك لكان ذكره ضائعاً من فائدة، لأنه ظاهر في ذاته لا يحتاج إلى بيان"4.

قال القرافي: "هذا المثال غير مطابق، لأن ذكر طيب الثمرة ليس إشارة إلى العلة بل إلى عدم المانع، فلو كانت الثمرة مستقذرة أمكن أن تكون نجسة تمنع من بقاء طهورية الماء، إذ العلة هي ما يستند إليه الحكم وجوداً وطهورية الماء حاصلة من قبل نبذ التمر، فالمراد من ذكر هذا الوصف أنه ليس بمانع لبقاء الطهورية لا أنه مثبت لحكم بقائها"5.

1 انظر: المحصول ص 304 -خ-، نهاية السول 3/48.

2 الحديث أخرجه أبو داود 1/20، عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن:"ما في أداوتك؟ قال: نبيذ، قال: ثمرة طيبة، وماء طهور"، ثم ساق بسنده عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد.

وأخرجه ابن ماجه في سننه 1/135-136، قال: ومداره على أبي زيد، وهو مجهول عند أهل الحديث، ما ذكره الترمذي ثم ساق له رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما في سندها ابن لهيعة وهو ضعيف، وقد ذكره الزيلعي ثم تكلم عن رواياته، وقال: الحديث ضعيف عند العلماء.

انظر كلام الزيلعي في كتابه نصب الراية 1/137 فما بعدها.

3 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/48.

4 انظر: نبراس العقول 1/260.

5 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

ص: 149

غير أن ما ذكره من أن ذكر طيب الثمرة ليس بإشارة إلى العلة، بل إلى عدم المانع لعدم نجاسة الثمرة، يرد عليه أنه لو كان الأمر كذلك، لاطرد ما ذكره في باقي الطاهرات الطيبة إذا خالطت الطهور، لكن الواقع خلافه، فلو اختلط الطهور بغيره من الثمار الطيبة فإنه لا يبقى على طهوريته.

فالذي أراه أن العلة في بقاء طهورية الماء هي خصوصية ما ذكر في المثال من ذكر الشارع وصفاً في محل حكم الخ، وهو كون المخالط ثمرة طيبة، والله تعالى أعلم.

3 -

أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم شيء فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف له فإذا أجاب عنه المسئول أقره عليه، ثم يذكر بعده الحكم كما في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر:"أينقص الرطب إذا جف؟ " قيل: نعم، قال:"فلا إذن" 1، فلو لم يكن نقصانه باليبس علة في المنع من البيع للتقرير عليه لما كان لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم فائدة.

وكون التعليل في هذا المثال يفهم أيضاً من الترتيب بالفاء، ومن إذن لا ينافي ذلك؛ لأنه لو قدر انتفاؤهما بأن فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجوز" لبقي التعليل إذ لو لم يكن للتعليل، لكان السؤال عنه غير مفيد2.

4 -

أن يعدل في بيان الحكم إلى نظيره لمحل السؤال، وذلك كما في حديث "الصحيحين" أن امرأة قالت:"يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت نعم، قال: "فصومي عن أمك"، أي فإنه يؤدي عنها3.

سألته عن دين الله على الميت وجواز قضائه عنه، فذكر لها دين الآدمي عليه، وقررها على جواز قضائه عنه وهما نظيران فلو لم يكن جواز القضاء فيهما لعلية

1 أخرجه أبو داود 2/225.

2 انظر: المحصول ص 304 -خ-، الأحكام للآمدي 3/237-238.

3 انظر: أصله في صحيح مسلم 3/155-156.

ص: 150

الدين له كان بعيداً"1، ومثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس، لأنه مشتمل على أركان القياس الأربعة: المقيس، وهو دين الله تعالى، والمقيس عليه، وهو دين العباد والحكم وهو جواز القضاء والعلة هي الدينية في كل منهما2.

النوع الثالث: أن يفرق الشارع بين شيئين في الحكم بذكر صفة فإن ذلك يشعر بأن تلك الصفة علة لذلك الحكم حيث خصصها بالذكر دون غيرها فلو لم تكن علة له كان ذلك خلاف ما أشعر به اللفظ وهو تلبيس يصان عنه منصب الشارع، وهذا النوع تحته قسمان:

أحدهما: أن يكون حكم أحد الشيئين مذكوراً مع الوصف دون حكم الآخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"القاتل لا يرث" 3، ففي الحديث التفريق بين القاتل المذكور في عدم الإرث، وبين غيره من الورثة بذكر القتل، وليس فيه حكم ميراث من لم يقتل، فلو لم يكن القتل عله لعدم الإرث لكان بعيداً، وأما علة إرث غير القاتل فهي النسب وغيره من أسباب الميراث.

وثانيهما: أن يكون حكم كل من الشيئين مذكوراً مع الوصف وهو خمسة أقسام:

1 -

أن تكون التفرقة بين الشيئين بلفظ الشرط كما في حديث مسلم "الذهب الذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"4.

فالتفريق بين منع البيع في هذه الأشياء متفاضلاً وبين جوازه عند اختلاف الجنس لو لم يكن لاختلاف العلة للجواز لكان بعيداً.

1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/313.

2 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/313.

3 لفظ الحديث كما في أبي داود 2/496 "ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاني شيئاً".

4 صحيح مسلم 5/43-44، الموطأ مع تنوير الحوالك 2/58 فما بعدها.

ص: 151

2 -

أن تكون التفرقة بين الشيئين بالغاية كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} 1، أي: فإذا تطهرن فلا مانع من قربانهن، كما صرح به عقيبه بقوله تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، فالشيئان هما: قربانهن وعلته الطهر والمنع من قربانهن وعلته الأذى، فالتفريق بين المنع من قربانهن قبل الطهر، وبين جوازه في الطهر لو لم يكن لعلية الطهر لكان بعيداً.

3 -

أن تقع التفرقة بالاستثناء كما في قوله تعالى:

{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلَاّ أَن يَعْفُونَ} 2، أي: الزوجات على ذلك النصف فلا شيء لهن.

فتفريقه بين ثبوت النصف لهن وبين انتفائه عند عفوهن لو لم يكن لعلية العفو للانتفاء لكان بعيداً، وأما ثبوت النصف لهن فعلته العقد.

4 -

أن تكون التفرقة بالاستدراك كما في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} 3، فتفريقه بين عدم المؤاخذة بالأيمان التي هي لغو وبين المؤاخذة بها عند تعقيدها لو لم يكن لعلية التعقيد للمؤاخذة لكان بعيداً.

5 -

أن يكون التفريق بذكر صفة لأحدهما بعد ذكر الأخرى بشرط أن تكون تلك الصفة صالحة للعلية مثال ذلك حديث الصحيحين ولفظه كما في البخاري4: "جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً"5، فالحكمان هما: جعل

1 سورة البقرة آية: 222.

2 سورة البقرة آية: 237.

3 سورة المائدة آية: 89.

4 هو شيخ الإسلام وإمام الحفاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ابن بردزبه الجعفي، مولاهم البخاري، صاحب التصانيف، ولد سنة 194هـ، أخذ عن علماء عصره حتى صار رأساً في العلم والورع والعبادة، وحدث عنه الترمذي، ومحمد بن نصر المروزي وابن خزيمة، والفربري وخلق كثير، مؤلفاته جليلة منها الجامع الصحيح، توفي سنة 256هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 2/555-556.

5 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 6/67، صحيح مسلم 5/156.

ومعنى الحديث هو أن لصاحب الفرس ثلاثة أسهم، سهمان للفرس وسهم له هو فإن لم يكن معه فرس، فله سهم واحد، ويدل لهذا ما رواه أبو داود 2/69 عن أحمد بن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر بلفظ "أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهماً له، وسهمين لفرسه" وبهذا قال الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، وقد بين الحافظ بن حجر رجحان هذا التفسير وضعف ما سواه بجمعه لورايات الحديث والكلام عليها، فمن أراد الاطلاع على ذلك فليرجع إلى المصدر المذكور.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن للفارس سهمين: سهم له، وسهم لفرسه، واستدل بما روى عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفارس سهمين وللراجل سهماً".

انظر تفاصيل أقوال الأئمة في: الشرح الكبير مع حاشية الجسوقي 2/193، الأم 4/144، كشاف القناع 3/81، وفتح القدير 5/493.

ص: 152

سهمين وجعل سهم والوصفان هما: الفرسية والرجلية فتفريقه بين هذين الحكمين بهذين الوصفين لو لم يكن لعلية كل منهما لكان بعيداً1.

النوع الرابع: نهى الشارع عن فعل قد يفوت الواجب نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 2، المنع من البيع وقت نداء الجمعة الذي يفوتها لو لم يكن لمظنة تفويتها لكان بعيداً3.

ولا يرد إلى قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} صيغته صيغة أمر، لأنه في معنى النهي إذ النهي طلب ترك الفعل والصيغة كما ترى لطلب ترك البيع، فكانت نهياً4.

النوع الخامس: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً مناسباً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" 5، فتقييده المنع من الحكم بحالة الغضب المشوش للفكر، يدل على أنه علة له وإلا لخلا ذكره عن الفائدة، وذلك بعيد6.

فإن قيل: ظاهر الحديث يدل على أن العلة هي الغضب، كما ذهب إليه

1 انظر: الأحكام للآمدي 3/239، المحصول ص 304 خ، المحلى مع العطار 2/310 فما بعدها، المختصر مع شرحه 2/235 فما بعدها.

2 سورة الجمعة آية: 9.

3 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/311.

4 انظر: الأحكام للآمدي 3/240.

5 انظر: صحيح مسلم 5/132.

6 انظر: الأحكام للآمدي 3/240، المختصر مع شرحه 2/236، والمحلى مع حاشية العطار 2/310.

ص: 153

البعض، أجيب عنه بما ذكره الإمام ونصه "ظاهره يدل على أن العلة هي الغضب، لكن لما علمنا أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر لا يمنع من القضاء، وأن الجوع المبرح والألم المبرح، يمنع علمنا أن علة المنع ليست الغضب بل تشويش الفكر.

وقول من يقول: الغضب هو العلة لكن لكونه مشوشاً خطأ، لأن الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجوداً وعدماً وارتفع عن الغضب وجوداً وعدماً، وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلاً، لأن تشويش الفكر قد يوجد حيث لا غضب، والغضب يوجد حيث لا تشويش علمنا أنه ليس بينهما ملازمة، وحينئذ نعلم أنه لا يمكن أن يكون الغضب علة، بل العلة إنما هي التشويش فقط1.

هل تشترط المناسبة في الوصف المومئ إليه، أم لا تشترط؟

للأصوليين في ذلك ثلاثة أقوال:

الأول: أنها تشترط واستدلوا "بأن الغالب في تصرفات الشارع أن تكون على وفق تصرفات العقلاء، وأهل العرف، ولو قال الواحد من أهل العرف لغيره "أكرم الجاهل، وأهن العالم" قضى كل عاقل أنه لم يأمر بإكرام الجهل لجهله، ولا أن أمره بإهانة العالم لعلمه، وأن ذلك لا يصلح للتعليل، نظراً إلى أن تصرفات العقلاء لا تتعدى مسالك الحكمة وقضايا العقل.

وأيضاً فإن الاتفاق من الفقهاء على امتناع خلو الأحكام الشرعية من الحكمة، إما بطريق الوجوب على رأي المعتزلة، وإما بحكم الاتفاق على رأي أصحابنا، وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر.

وما يعلم قطعاً أنه لا مناسبة فيه ولا أوهم المناسبة يعلم امتناع التعليل به"2.

1 انظر: المحصول ص 305 خ.

2 انظر: الأحكام في أصول الأحكام 3/241.

ص: 154

الثاني: أنه لا تشترط المناسبة واستدل له "بأنه لو قال القائل: "أكرم الجاهل وأهن العالم" لكان ذلك قبيحاً عرفاً، وليس قبحه لمجرد الأمر بإكرام الجاهل وإهانة العالم، فإن الأمر بإكرام الجاهل قد يحسن لدينه أو شجاعته أو نسبه، أو سوابق نعمه، وكذلك الأمر بإهانة العالم قد يحسن أيضاً لفسقه أو بدعته، أو سوء خلقه.

وإذا لم يكن القبح لمجرد الأمر فهو لسبق التعليل "بالترتيب" أي لكونه يسبق إلى الفهم "في العرف" تعليل هذا الحكم بهذا الوصف، لأن الأصل عدم علة أخرى، وإذا سبق إلى الأفهام التعليل مع عدم المناسبة لزم أن يكون حقيقة"1.

قال الأسنوي: "واعترض الخصم بأن الدلالة الترتيب الذي لا يناسب على العلية في هذه الصورة، لا يستلزم دلالته عليها في جميع الصول، لأن المثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية لجواز اختلاف الجزئيات في الأحكام.

وأجاب المصنف "يعني البيضاوي" بأن هذا الترتيب لو لم يدل على العلية في باقي الصور، لكان مشتركاً لكونه يدل على العلية تارة وعلى عدمها أخرى.

فإن قيل: لا نسلم دلالته على عدم العلية "في الصور الأخرى" إذ لا يلزم من عدم الدلالة وجود الدلالة على العدم، "لأن عدم العلم بالشيء لا يدل على العلم بعدمه"، فالجواب أن هذا الترتيب قد وقع على مقتضى العلة فلا بد أن يدل على شيء فمدلوله في غير هذه الصور، إن كان هو التعليل فلا كلام، وإن كان غيره، فقد دل على عدم العلية.

ولقائل يقول: "الترتيب – أي اللفظ الدال - فرد من أفراد المركبات عند الإمام والمصنف، و"المركبات" غير موصوفة، كما تقدم غير مرة، ووصف اللفظ بالاشتراك والمجاز فرع عن وضعه"2.

والمراد بالاشتراك هنا هو الدلالة على العلية تارة، وعلى عدمها تارة أخرى فاندفع

1 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/45.

2 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/45.

ص: 155

الاعتراض من القائلين باشتراط المناسبة فيما يفهم التعليل فيه من المناسبة1.

الثالث: تشترط المناسبة إن كان التعليل فهم من المناسبة، واستدل أهله بأن ما كان مثل المثال السابق "لا يقضي القاضي وهو غضبان" الذي فهم التعليل فيه مستنداً إلى ذكر الحكم مع الوصف المناسب، فلا يتصور فهم التعليل فيه دون فهم المناسبة، لأن عدم المناسبة فيما المناسبة شرط فيه يكون تناقضاً وهذا هو اختيار الآمدي وابن الحاجب.

قالا: وما سواه من الأقسام فلا يمتنع التعليل فيها بما لا مناسبة فيه لأن التعليل يفهم من غيرها، وقد وجد2، والله تعالى أعلم.

1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 انظر: الأحكام للآمدي 3/141، المختصر مع شرحه 2/236.

ص: 156