الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس في ذكر أدلة مذهب القاضي ومن وافقه ومناقشتها
استدل أهل المذهب الثاني القائلون بمنع الأخذ بالوصف المناسب المرسل مطلقاً بما يأتي:
الأول: ما ذكره الغزالي "أن القاضي أبا بكر تمسك به في نفي اعتبار المناسب المرسل حيث قال أنه تمسك بثلاثة مسالك:
المسلك الأول: أن الاستدلال لو قيل به لصارت الشريعة فوضى بين العقلاء يتجاذبون بظنونهم أطرافها من غير التفات إلى الشريعة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليدعوا الناس إلى أتباعه في قوله والمفهوم من قوله من المصالح، فأما ما يعين ابتداء، ولم يفهم منه فما بعث الشارع للدعاء إليه.
الثاني: أن المستدل إن لاحظ مصالح الشريعة فهو صحيح، وإن أضرب عنها فهو شارع تحقيقاً فيطالب بالمعجزة، فإنه افتتح أمراً لا مستند له في الشرع مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خاتم النبيين، فكيف يفتتح بعده شرع؟
الثالث: إن قال: إذا وجب اتباع المصالح لزم تغيير الأحكام عند تبدل الأشخاص، وتغيير الأوقات، واختلاف البقاع عند تبدل المصالح وهذه تفضي إلى تغيير الشرع بأسره، وافتتاح شرع آخر لم يثبت من الشارع وهذا محال، أو أنهم يقولون نحن مع المصالح بشرط أن لا نهجم على نص الرسول صلى الله عليه وسلم بالدفع"1.
ومقتضى كلامه رحمه الله أن اعتبار الوصف المرسل يلزم عليه إحداث شرع جديد وإحداث شرع جديد باطل بالإجماع، لكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع.
1 انظر: المنخول ص 355-356.
ووجه الإلزام في كون التمسك بالمناسب المرسل يقتضي إثبات شرع جديد من ثلاثة أوجه:
1 -
إن اعتباره يؤدي إلى أن تكون الشريعة فوضى يتجاذبها العقلاء بحسب ظنونهم من غير التفات إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لا يلتفت فيه إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو إحداث لشرع جديد.
وجه ذلك أن الوصف المرسل هو ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء، فالعامل بمقتضى ذلك ليس له مستند سوى الظن، والعمل بالظن المجرد عن الدليل فيه التفات عن الشرع، ثم هو يؤدي إلى إحداث شرع جديد، وإحداث شرع جديد باطل، فالتمسك بالوصف المناسب المرسل باطل.
2 -
إن المعتبر للوصف المرسل إن لاحظ مصالح الشريعة فهذا صحيح مسلم به، وإن أضرب عنها بأن لم يلاحظها، فهو منشئ لشرع جديد، ولا شرع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم الأنبياء، فالعامل بالوصف المرسل غير ملاحظ للشريعة، وإنما هو عامل بشرع جديد، ولا شرع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 -
إن اعتبار الوصف المناسب يقتضي تغيير الأحكام عند تبدل الأشخاص والأماكن والأزمنة، لأن المصلحة تختلف باختلاف الأشخاص، فما يكون مصلحة لشخص، يكون مفسدة لغيره، وكذلك ما يكون مصلحة في زمن يكون مفسدة في زمن آخر، وكذلك الأمكنة، وتغيير الأحكام باعتبار ذلك يؤدي إلى تغيير الشرع، وإثبات شرع جديد، وإثبات شرع جديد باطل.
وظاهر من الأوجه الثلاثة أنها ترجع إلى شيء واحد هو إحداث شرع جديد بسبب اعتبار الوصف المناسب المرسل1.
وأجيب عنه بمنع الملازمة بين اعتبار الوصف المناسب المرسل وبين إحداث شرع جديد بالهوى من غير التفات إلى نصوص الشرع، لأن من اعتبر الوصف المرسل لم يكن مستقلاً بحكمه به من غير التفات إلى الشرع مطلقاً؛ لأنه وإن لم
1 انظر رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان من حيث الحجية
…
ص 192.
يستند إلى دليل خاص غير أنه إنما اعتبره استناداً إلى القواعد العامة، والمقاصد الكلية التي يغلب على الظن دخول المصلحة تحتها، وفيما "ذكره القاضي عنهم من أنهم يقولون بالمصلحة بشرط عدم مصادمتها النص، هو أبلغ رد على مسالكه الثلاثة في رد الاستدلال المرسل.
فهو يرد الاستدلال الذي تتبع فيه الشهوات، وتعطل النصوص، وتغير به الشريعة، ويصبح المستدل فيه مشرعاً.
وأما القائلون بالاستدلال المرسل، فلا يقولون به إلا إذا انعدم النص؛ لأن المصلحة المرسلة فرع انعدامه، وإذا وجد فالمصير إليه أولاً وأخيراً، فلا يمكن أن يتصور التعارض بين النص والمصلحة المرسلة، علاوة على العمل بها في مصادمته وإبطاله"1.
الدليل الثاني: إن المصلحة في الوصف المرسل مترددة بين المصلحة التي اعتبراه الشارع، وبين المصلحة التي ألغاها، فيحتمل أن تكون مما اعتبره الشارع، ويحتمل أن تكون مما ألغاه، ومع قيام الاحتمال لا يصح اعتبارها وبناء الأحكام عليها لعدم وجود شاهد بالاعتبار يعرف أنها من قبيل المعتبر دون الملغى، لأن اعتبارها حينئذ ترجيح بدون مرجح2.
وأجيب عنه بأن العمل بالمصالح المرسلة مبني على ظن اعتبارها وإلحاقها بالمصالح المعتبر اتفاقاً، ويدل لهذا ما قرر به البدخشي ما استدل به البيضاوي للقائلين بالمصلحة المرسلة، قال:"لأن الظن، اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتباره"3 أي الوصف المرسل.
قال البدخشي موجهاً لكلام البيضاوي: "لأنه إذا ظن أن في هذا الحكم
1 انظر: تعليق محمد حسن هيتو على المنخول ص 356-357.
2 انظر: الأحكام للآمدي 4/140.
3 انظر: المنهاج مع شرحيه نهاية السول، ومنهاج العقول 3/136.
مصلحة غالبة على المفسدة ومعلوم أن كل مصلحة كذلك معتبرة شرعاً لزم ظن أن هذه المصلحة معتبرة، والعمل بالظن واجب"1.
فظهر أن لحوقها بكل من المعتبرة والملغاة ليس على السواء حتى يلزم عليه عدم الدليل، بل دل الدليل على أن لحوقها بالمعتبرة أرجح، والله أعلم.
الدليل الثالث: ما استدل به الزنجاني2 للقاضي ومن معه في منع الاستدلال بجنس المصلحة قال: "إن الأصل أن لا يعمل بالظن، لما فيه من خطر فوات الحق إذ الإنسان قد يظن الشيء مفسدة وهو مصلحة، وقد يظنه مصلحة وهو مفسدة، غير أنا صرنا إلى العمل به عند الاستناد إلى أصل خاص، وهو الإجماع وبقينا فيما عدا ذلك على مقتضى الأصل"3.
ومراده أن العمل بالمصلحة المجردة على الدليل عمل بالظن، والأصل عدم العمل بالظن؛ لأنه لا يؤمن فيه من الوقوع في الخطأ، وذلك لأن الإنسان لقصوره قد يرى ما يظنه مصلحة، وهو في الواقع مفسدة، وما يظنه مفسدة، وهو في الواقع مصلحة، والعمل بالظن في الشرع إنما جاز للاستناد إلى الدليل.
وذلك أن المجتهد إذا أعمل فكره في أدلة الشرع، وأداه فكره إلى ظن حكم شرعي، جاز له العمل به، للإجماع على جواز العمل بالظن المستند إلى دليل شرعي، ومنع العمل بالمصلحة التي لم تستند إلى دليل شرعي على ما هو الأصل من منع العمل بالظن المجرد عن الدليل، أجيب عنه بأنه وإن سلم أن الظن الذي لا مستند له إلا اتباع الهوى أنه لا يغني من الحق شيئاً، فإن الظن هنا وإن دخل في جنس الظن، غير أنه هنا مستند إلى قواعد الشرع، وأدلته العامة، وليس
1 انظر: منهاج العقول مع نهاية السول 3/136.
2 هو: أبو المناقب محمود بن أحمد الزنجاني الشافعي أحد الأعلام، درس بالنظامية ثم المنتصرية، وعلا شأنه في اللغة وعلم الخلاف والأصول والتفسير حتى صار من بحور العلم، من مؤلفاته تخريج الفروع على الأصول، توفي سنة 656هـ.
انظر: مقدمة كتابه تخريج الفروع على الأصول لمحمد أديب صالح ص 11.
3 انظر: تخريج الفروع على الأصول ص 324.
للعقل فيه مجال إلا الاجتهاد والنظر في أدلة الشرع، ومن فيه أهلية الاجتهاد فله أن ينظر في أدلة الشرع، ليستنبط منها ما يؤديه إليه عقله واجتهاده.
فالقول المناسب المرسل إنما هو قول بمصالح مندرجة تحت مصالح عامة شهدت لها نصوص الشرع وقواعده، ومثل هذا ليس من الظن المحض الذي لم يستند إلى دليل.
فإن قيل: إن المعتبر من الأدلة، هو ما أفادته النصوص بدلالاتها أو حمل على ما أفادته بالقياس، وما عدا ذلك فليس معتبراً دليلاً شرعياً، أجيب بأن الشارع أقر الاجتهاد عند فقد نص الكتاب والسنة من غير قيد في الاجتهاد بكونه إلحاف فرع بأصل، فهو شامل للاجتهاد المصلحي، فيكون العمل بالمصلحة عملاً بالظن المعتبر، لدخوله في الاجتهاد الذي أذن فيه الشارع1.
الدليل الرابع: قالوا: "لو جاز ذلك - أي الحكم بالمصلحة المرسلة - لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه السياسات إذا راجع المفتين في حادثة وأعلموه أنها ليست منصوصة، ولا أصل لها يضاهيها يجوز له حينئذ العمل بالأصوب عنده واللائق بطريق الاستصلاح، وهذا صعب لا يجترئ عليه متدين"2.
وأجيب عنه: بأن "المصلحة المرسلة هي ما لم يرد فيها دليل بالاعتبار ولا بالإلغاء ومصلحة هذا وصفها تجل عن أن يحوم حولها العلماء الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، فضلاً عن العامة والدهماء"3، فليس كل ما يبدو للعقل أنه مصلحة يدخل في قبيل المصالح المرسلة، وتبني عليه الأحكام، وإنما هي المصالح التي يتدبرها من هو أهل لتعرف الأحكام من مآخذها حتى يثق بأنه لم يرد في الشريعة شاهد على مراعاتها أو إلغائها4.
1 انظر: رأي الأصوليين في المصلحة المرسلة والاستحسان ص 194-195، مع تصرف.
2 انظر: المصدر السابق ص 193، نقلاً عن شرح القرافي للمحصول 3/201.
3 انظر: المصدر السابق ص 198 نقلاً عن تعليل الأحكام للشيخ شلبي ص 275.
4 انظر: المصدر السابق ص 198، نقلاً عن رسائل الإصلاح 2/66.
وإليك كلام القرافي في الرد على من زعم أن قول مالك بالمصلحة يجوز للعامة التجرأ على الإفتاء في الشريعة، قال: "وأما قولهم العالم بالسياسة، إذا أخبره المفتون بعدم الأصول، فيكون له الأخذ برأيه.
قلنا: لا يلزم ذلك فإن مالكاً يشترط في المصلحة أهلية الاجتهاد وأن يكون الناظر متكيفاً بأخلاق الشريعة، فينبو عقله وطبعه عما يخالفها بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول يكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة، فيهجم على مخالفة الشريعه من غير شعور"1.
ويقول الشيخ عمر الفاسي2 في رسالته في الوقف مستبعداً ومستنكراً حول من ليس من أهل البحث والنظر في الأدلة في هذا المقام "وأنى للمقل أن يدعى غلبة الظن أن هذه المصلحة فيها تحصيل مقصود الشارع، وأنها لم يرد في الشرع ما يعارضها ولا ما يشهد لها بالإلغاء مع أنه لا بحث له في الأدلة، ولا نظر له فيها، وهل هذا إلا الاجتراء على الدين، وإقدام على حكم شرعي بغير يقين"3.
1 انظر: المصدر السابق ص 198، نقلاً عن نفائس الأصول 3/201.
2 قال صاحب هدية العارفين في جزء 2/1380: عمر بن عبد الله الفاسي، له تحفة الحذاق شرح لامية الزقاق (فقه مالك) فاس 1306 ص 336، ولم أعثر على من ترجم له بغير هذا.
3 انظر: رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 198، نقلاً عن رسائل الإصلاح 3/66.