المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل التاسع في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع - الوصف المناسب لشرع الحكم

[أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في المناسبة وتعريف المناسب

- ‌الفصل الأول: في تعريف المناسبة

- ‌الفصل الثاني في إقامة الدليل على أن المناسبة دالة على العلية

- ‌الفصل الثالث في تعريف المناسب

- ‌الباب الثاني: في تقسيمات المناسب

- ‌الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة

- ‌الفصل الثاني: في تقسيم المناسب الحقيقي باعتبار إفضائه إلى المقصود

- ‌الفصل الثالث: في تقسيم المناسب من حيث اعتبار الشارع له وعدم اعتباره له

- ‌المبحث الأول: أقسام المناسب بحسب القسمة العقلية

- ‌المبحث الثاني أقسام المناسب من حيث الاعتبار

- ‌المبحث الثالث: تقسيم ابن السبكي له

- ‌المبحث الرابع: تقسيم الإمام له

- ‌المبحث الخامس: تقسيم الآمدي له

- ‌المبحث السادس: اشتراط الحنفية في المناسب فوق المناسبة كونه مؤثرا

- ‌الباب الثالث: في المناسب المرسل

- ‌الفصل الأول: في تعريفه وبيان محل الخلاف والوفاق فيه بين العلماء

- ‌الفصل الثلني: في بيان مذاهب العلماء في الوصف المناسب المرسل

- ‌الفصل الثالث في بيان أدلة مذهب الإمام مالك

- ‌الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد رحمه الله هو وأتباعه في الأخذ بالمناسب المرسل

- ‌الفصل الخامس في ذكر أدلة مذهب القاضي ومن وافقه ومناقشتها

- ‌الفصل السادس في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل

- ‌الفصل السابع في رأي أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المناسب المرسل

- ‌الفصل الثامن: في رأي الغزالي في قبول المرسل

- ‌الفصل التاسع في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع

- ‌الفصل العاشر: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها أو راجحة أم لا تنخرم

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل التاسع في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع

‌الفصل التاسع في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع

تميهد

تقدم أن القائل بهذا المذهب هو الطوفي1 رحمه الله وأنه قائل بالمناسب المرسل، بل وبالمصلحة مطلقاً حتى لو عارضت النص والإجماع، ذلك أن الطوفي يرى أن المصلحة دليل شرعي مستقل عن النصوص الشرعية، فهي في نظره لا تحتاج إلى شهادة أصل لها بالاعتبار، وإنما تعتمد على حكم العقل أخذاً من العادات والتجارب.

ولذا فهو يقول: "إن الله عز وجل جعل لنا طريقاً إلى معرفة مصالحنا عادة، فلا نتركه لأمر مبهم "يعني النصوص الشرعية" يحتمل أن يكون طريقاً إلى المصلحة، أو لا يكون"2.

ويقول: "ولا يقال أن الشرع أعلم بمصالحهم، فلتأخذ من أدلته.. "لأن"

1 هو: الربيع بن سليمان بن عبد الكريم بن سعيد الملقب بنجم الدين الطوفي، نسبة إلى طوفى، قرية من سواد العراق، كان الطوفي ذا ذكاء شديد وقوة حافظة ومعروف بحرية الرأي، وكان فققيهاً حنبلياً، ثم رمي بالتشيع بل وبالرفض حتى نقل عنه من شعره قوله:

حنبلي رافضي ظاهري

أشعري إنها إحدى العير

وقد اختلف الكتاب في عقيدته ومذهبه: فمنهم المدافع عنه كالدكتور مصطفى زيد في رسالته المصلحة في التشريع الإسلامي.

ومنهم الحامل عليه كالدكتور محمد سعيد البوطي في رسالته ضوابط المصلحة.

فمن أراد الاطلاع على ما كتبناه عنه، فليرجع إلى الكتابين المذكورين.

أما ثروته العلمية فهي كثيرة حيث أوصلها الدكتور مصطفي زيد إلى اثنين وأربعين مؤلفاً، صنفها في القرآن، وأصول الدين، والفقه، وأصول الفقه، واللغة والأدب، وغيرها، ومن مؤلفاته في الأصول: مختصر الروضة وشرحه، وغيرهما، ولد الطوفي سنة 675هـ على ما رجحه صاحب رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي، وتوفي سنة 716هـ.

انظر: طبقات الحنابلة 2/746، والدرر الكامنة 2/154، وشذرات الذهب 6/39 نقلاً عن المصلحة في التشريع الإسلامي ص 67 فما بعدها.

2 انظر: شرح الأربعين النوويية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 233.

ص: 349

هذا إنما يقال في العبادات التي تخفي مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا دليل الشرع متقاعداً عن إفادتها، علمنا أنا أحلنا في تحصيلها على رعايتها"1.

ومن هنا كان الطوفي مخالفاً لجميع من قالوا باعتبار المصلحة دليلاً شرعياً؛ لأن القائلين باعتبارها دليلاً شرعياً صرحوا بأنها لا تعتبر إلا إذا شهدت لها نصوص الشرع بالاعتبار، وذلك بملاءمتها لتصرفات الشرع في الجملة.

وعلى هذا فهم إنما يستدلون بمعقول النصوص الشاهدة لها باعتبار في الجملة فالمصلحة عندهم إنما تستمد حجيتها من نصوص الشريعة.

أما الطوفي فقد ظهر من النصين السابقين أنه يرى استقلال العقل بإدراك المصلحة، بل ويرى تقديمها على النص والإجماع، لأنها أقوى منهما في نظره، إذ يقول - بعد حصره لأدلة الشرع في تسعة عشر دليلاً - "وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما: أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نزاع، إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي: النص والإجماع، ورعاية المصلحة المستفادة، من قوله عليه الصلاة والسلام "لا ضرر ولا ضرار" 2، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الإفيئات عليهما، والتعطيل لهما"3.

لكن كيف يتفق هذا مع ما ذكره من اهتمام الشارع بها جملة وتفصيلاً، واستدلاله على ذلك من جهة الجملة بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} 4.

1 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 240.

2 انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/122.

3 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 209.

4 سورة يونس آية: 57 - 58.

ص: 350

ويوضح وجه دلالة الآيتين على ذلك بالوجوه التي ذكرها، مقرراً بعدها أن الشرع راعى مصلحة المكلفين، واهتم بها، وإنا لو استقرينا أدلة الشرع لوجدنا على ذلك أدلة كثيرة، ثم لا يكتفي بهذا القدر من الاستدلال على اهتمام الشارع برعاية المصلحة، بل يعود مرة أخرى ويقرر أن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد تفضلاً منه على خلقه، واجبة عليه بالتفضل، لا بالوجوب عليه، وإنه حيث راعى مصالحهم راعى في كل محل ما يصلحهم، وينتظم به حالهم، ويخلص من تفصيل الاستدلال على ذلك إلى أنه "من المحال أن يراعى الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم، ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أعم فكانت بالمراعاة أولى، لأنها أيضاً من مصلحة معاشهم، إذ بها صيانة أموالهم، ودمائهم وأعراضهم، ولا معاش بدونها، فوجب القول بأنه راعاها لهم وإذ ثبت رعايته إياها لم يجزاهما لها بوجه من الوجوه"1.

وما ذكره هنا صحيح جملة وتفصيلاً، غير أنه من العجيب أن يتبعه بقوله:"فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع، فلا كلام، وإن خالفهما دليل شرعي وفق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه بها، وتقديمها بطريق البيان"2.

ووجه العجب أنه قد حكم بأن إهمال الشارع للمصلحة محال، ثم فرض أن أدلته قد تصادمها، ورتب على هذا الفرض حكماً، وهو تقديمها عليه عند عدم إمكان الجمع، لأنها أقوى من النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع، وإذا كانت رعاية المصلحة قد ثبتت بأدلة الشرع بالحد الذي حمل الطوفي على تقرير أن الشارع لم يهملها، فكيف يسوغ له أن يفترض بعد هذا أن النص قد يعارضها؟ وكيف يبنى على هذا الافتراض، وهو أساس موهوم في رعاية المصلحة؟

إنه قد ثبت ما لا يقبل الشك أن الشارع قد راعى المصلحة في أدلته جميعاً: أما الكتاب، فلأنه ما من آية منه إلا تشتمل على مصلحة أو مصالح.

1 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 217 - 211.

2 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 217.

ص: 351

وأما السنة فمن حيث هي بيان للكتاب، والبيان على وفق المبين.

وأما الإجماع؛ فلأن العلماء - المعتد بهم - جميعاً يعللون الأحكام بتحصيل المصالح ودرء المفاسد، حتى المخالفون منهم فيكون الإجماع حجة.

وأما النظر، فلأن كل ذي عقل صحيح يؤمن بأن الغاية من أحكام المعاملات والعادات في كل شريعة عادلة، هي تحقيق مصالح الناس، وليس من الشرائع أعدل من الشريعة الإسلامية، فهي إذاً أجدر الشرائع برعاية المصالح.

هكذا قرر الطوفي، فكيف ساغ له في مذهبه بعد هذا أن يفترض مصادمة النصوص والإجماع للمصلحة، وكيف يقرر مبدأ رعاية الشريعة الإسلامية للمصلحة، ثم يقرر إنما جاءت به هذه الشريعة قد يخالف المصلحة1؟ وأنها حينئذ تقدم على النص والإجماع.

فإن قيل: يحتمل أنه إنما يقصد التعارض في الظاهر، وحينئذ ينسجم كلامه.

أجيب عنه بأن ما استدل به على تقديمها على النص والإجماع ينفي إرادته لذلك، فإلى تلك الأدلة:

أدلة الطوفي على تقديم المصلحة على النص والإجماع:

يقول الطوفي مستدلاً على تقديم رعاية المصلحة على النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع: "وإنما يدلنا على تقديم رعاية المصلحة على النص والإجماع

وجوه:

أحدها: أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح، فهي إذاً محل وفاق والإجماع محل خلاف؛ والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.

الوجه الثاني: أن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلافي في الأحكام المذموم شرعاً، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعاً، فكان اتباعه أولى، وقد قال عز وجل:

1 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 143 مع تصرف واختصار.

ص: 352

{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ} {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2، وقال عليه الصلاة والسلام:"لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"3.

الوجه الثالث: أنه قد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح ونحوها في قضايا:

منها: معارضة ابن مسعود للنص والإجماع في التيمم بمصلحة الاحتياط في العبادة.

ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه حين فرغ من الأحزاب: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"4، فصلى بعضهم قبلها، وقالوا: لم يرد منا ذلك.

ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: "لولا قومك حديثوا عهد بالإسلام، لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم" 5، وهو يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب في حكمها، فتركه لمصلحة الناس.

ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام لما أمر بجعل الحج عمرة، قالوا:"كيف وقد سمينا الحج؟ "6 وتوقفوا، وهو معارضة للنص بالعادة7.

ثم قال: "إن تقديم رعاية مصالح المكلفين على باقي أدلة الشرع بقصد إصلاح شأنهم، وانتظام حالهم، وتحصيل ما تفضل الله عز وجل به عليهم من

1 سورة آل عمران آية: 103.

2 سورة الأنعام آية: 159.

3 أخرجه مسلم في صحيحه 2/30.

4 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 227، والحديث أخرجه البخاري، انظره مع فتح الباري 7/408.

5 انظر: صحيح مسلم 4/97.

6 انظر: صحيح مسلم 4/38.

7 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 231.

ص: 353

الصلاح وجمع الأحكام من التفرق، وائتلافها عن الاختلاف يحب أن يكون جائزاً إن لم يكن متعيناً".

وقال: "فوجب أن يكون تقديم رعاية المصالح على باقي أدلة الشرع من مسائل الاجتهاد على أقل أحواله، وإلا فهو راجح متعين كما ذكرنا"1.

مناقشة الأدلة:

أما الوجه الأول، فيرد عليه أن ما ادعاه من أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصلحة، فإنه غير مسلم، لأن الشيعة "لا يقولون برعاية المصلحة، لأنها رأي، والدين لا يقال بالرأي، وإنما يتلقى من معصوم

فليس إذاً أنهم يقولون برعاية المصالح.

وأما النظام2 فلسنا ندري من أين للطوفي أنه يقول برعاية المصالح، مع أن الجاحظ3 قد نقل عنه أنه يجوز أن تجتمع الأمة كلها على ضلالة من جهة الرأي والقياس، وأنه كما لم يؤمن بالإجماع لعدم إمكانه لم يؤمن به لهذا الجواز؛ إذ كان قليل الإيمان بالقياس والرأي، وواضح أن رعاية المصلحة تعتمد - قبل كل شيء - على القياس والرأي، فكيف إذا كان يقول بها"4.

1 انظر: نفس المصدر السابق ص 232.

2 هو: إبراهيم بن يسار بن هاني البصري، المكنى بأبي إسحاق، الملقب بالنظام، قيل: لنظم كلامه، وقيل: لنظمه الشعر، أحد أئمة المعتزلة، وإليه تنسب الفرقة النظامية، أخذ الكلام عن أبي الهذيل العلاف، كان قوى المعارضة في المناظرة، شديد الإفحام في الخصومة، وله مذهب خاص بسبب أن ثقافته كانت مزيجاً من آراء المعتزلة، والفلاسفة، ومذهب المانوية المجوس، مما جعل لمذهبه ميزات خاصة، ولد سنة 185هـ، له مؤلفات في الفلسفة، مات سنة 221هـ، على ما قاله صاحب الفتح المبين في طبقات الأصوليين في 1/141، وقال الزركلي مات سنة 231. انظر: الأعلام 1/36.

3 هو: عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن، شرف الدمياطي، أبو أحمد، وأبو محمد كما يعرف بابن الجامد، تشاغل أولاً بالفقه، ثم طلب الحديث، سمع بالإسكندرية والقاهرة والحرمين، وكتب الكثير وبالغ في الجمع، وحدث وأملى، وكتب عنه وصنف في الصلاة الوسطى والحيل والسيرة النبوية وغيرها، قال فيه الذهبي:"إنه كان فصيحاً لغوياً مقرئاً جيد العبارة كبير النفس، صحيح الكتب، مفيداً جيد المذاكرة"، ومات سنة 705هـ بعد أن عمر.

انظر: الدرر الكامنة 2/417 - 418، نقلاً عن المصلحة في التشريع ص 74.

4 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 153.

ص: 354

فما ادعاه من اعتبار المصلحة من منكري الإجماع لم يثبت، وعلى التسليم الجدلي أن رعاية المصالح أمر متفق عليه، بين منكري الإجماع، وبين من يقول به، فإن الذي يستفيده الطوفي مما ذكره هنا هو أن المصلحة التي يحتج بها الأئمة وعلى رأسهم الإمام مالك رحمه الله هي المصلحة المرسلة، أما المصلحة التي يقصدها الطوفي ويستدل على تقديمها على أدلة الشرع فهي أبلغ من ذلك، فلم تكن تلك التي اتفق الأئمة عليها، سواء من قال بالإجماع، أو من أنكره.

والشيء العجيب هو أن الطوفي ادعى أن المصلحة أقوى من الإجماع، بل أقوى من أدلة الشرع كلها، لأن الأقوى من الأقوى أقوى واستدل على ذلك بيان اهتمام الشارع بها، وبإيراد الاعتراضات على أدلة الإجماع الموهنة لحجيته، ثم قرر أنه ليس من غرضه إهدار الإجماع بالكلية، لأنه يقول به في العبادات والمقدرات، وإن غايته غنما هي بيان أن رعاية المصلحة المستفادة من حديث "لا ضرر ولا ضرار" 1 أقوى من الإجماع، لأن مستندها أقوى من مستنده2، ناسياً أنه استدل على تقديمها على الإجماع، بأن الإجماع قد انعقد على رعاية المصلحة، فصار معنى كلامه: رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، لأن رعاية المصلحة قد أجمع عليها، والإجماع غير مجمع عليه.

ألا يعد هذا تناقضاً، حيث استدل على تقديم رعاية المصلحة بالإجماع، في الوقت الذي قرر فيه أن الإجماع مختلف فيه، بل وقلل من أهميته بإزاء المصلحة المجردة.

وأما الوجه الثاني: فإن ما استدل به على كون المصلحة مقدمة على النصوص لاختلاف النصوص وتعارضها، لذا كانت سبب الخلاف المذموم شرعاً في الأحكام، وأن رعاية المصلحة أمر متفق عليه في نفسه لا يختلف فيه، فهي سبب الاتفاق المطلوب شرعاً، فكان اتباع المصلحة أولى، فإن ما ادعاه من اختلاف

1 انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/122.

2 شرح الأربعين النووية ملحق المصلحة في التشريع الإسلامي ص 227.

ص: 355

النصوص وتعارضها حيث كانت سبباً للاختلاف في الأحكام، أمر باطل، لأنه إما أن يكون مراده أنها مختلفة ومتعارضة في الواقع، وفي نفس الأمر، بمعنى أن الله تعالى يأمر بالشيء وضده، وينهى عن الشيء وضده.

وإما أن يكون مراده أنها مختلفة متعارضة في الظاهر بالنسبة إلى المجتهدين، بحيث يفهم أحدهم حكماً من النص، ويفهم الآخر من النص حكماً آخر.

أما الأول: فلا أرى أن الطوفي رحمه الله يريده، حيث لم يقل به أحد من المسلمين، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بما يدل على بطلانه حيث قال جل شأنه:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيراً} 1، فقد نفى سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن يكون في القرآن اختلاف أو تعارض، وأمرنا سبحانه وتعال بالتحاكم فيما اختلفنا فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2، وقال:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} 3 الآية.

فالرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد موته هو الرد إلى سنته، وليس ذلك إلا لرفع الخلاف والنزاع ورفع الخلاف والنزاع لا يكون بالمختلف المتعارض، وإنما يكون بالمتفق، إلى غير ذلك من آيات القرآن الدالة على هذا، ولو كان فيه ما يقتضي الاختلاف، والتعارض، لم يكن في الرجوع إليه فائدة.

وإن كان يريد الثاني: فهذا مسلم، غير أنه لا يؤدي إلى ما ادعاه من كونه يؤدي إلى الفرقة والتناحر، والخلاف المذمومة شرعاً.

وأما دليل تسليمه، فلأنه الواقع، ولذا يقول الشاطبي: "وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان، فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في أنظار المجتهدين،

1 سورة النساء آية: 82.

2 سورة الشورى آية: 10.

3 سورة النساء آية: 59.

ص: 356

لا في نفس الأمر، فالأمر على ما قالوه جائز، ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة.

وإن أرادوا تجويز ذلك في نفس الأمر، فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه، ولا أظن أن أحداً منهم يقوله"1.

وأما كونه لا يفيد الطوفي في دعواه، فلأنه استدل على اختلاف النصوص وتعارضها، وتقديم المصلحة عليها، "بالخلاف الذي وقع بين الأئمة والفقهاء بسبب النصوص، ولست أدري كيف يتصور عاقل من الناس ضرورة المصلحة بين هذا الدليل، وذلك الزعم.

فالخلاف الذي وقع بين الأئمة في الفروع، إنما هو خلاف في فهم النصوص، والوصول إلى حقيقة مدلولاتها، لتفاوت الإفهام فيما بينهم، لا خلاف بين النصوص في ذاتها، وهذا الخلاف أمر متصور الوقوع في الاجتهاد، ومعلوم أن اختلاف المذاهب في الاجتهاد لا يعني بحال اختلاف النصوص في مدلولاتها، ولكنه يعني أن واحداً غير معين قد وافق الحقيقة، وأخطأها الآخرون، وقد رفعت الشريعة عنهم تبعة هذا الخطأ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال:"إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"2.

ذلك أن الله لم يلزم أهل العلم بأكثر من بذل الجهد للوقوف على ما اشتبه عليهم من الأحكام، وهو في ذاته نوع من العبادة، تعبدهم الله به لحكمة3.

وما ذكره من أن رعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه، لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب، فكانت أولى بالاتباع، وإن النصوص مختلفة متعارضة الخ.

إن كان يقصد باختلاف النصوص اختلافها في حقيقتها، لا الفهم لها فهذا باطل، وقد تقدم من أدلة بطلانه ما يغني عن إعادته.

1 انظر: الموافقات 4/129.

2 أخرجه البخاري مع الفتح 3/318، ومسلم 5/136، وابن ماجه 2/27.

3 انظر: ضوابط المصلحة ص 212 - 213.

ص: 357

وإن كان يريد بكون رعاية المصلحة أمراً حقيقياً أن أصل اتباع المصالح في التشريع بحيث يلجأ المجتهد عند نزول الواقعة إلى معرفة حكمها بناء على تحقيق مناطها باعتبار أدلة الشرع، وشهادة نصوصه لها، فهذه الحقيقة متفق على رعايتها، "ولكنها ليست هي التي يقع بها التعارض مع النص على فرض صحة وقوعه، وإنما يكون التعارض بما يوجد من صور جزئية لها في الخارج"1.

لكننا نقول: إن النصوص الشرعية أمر حقيقي في نفسه، هو كذلك لا نختلف فيه، فإذا نزلت النازلة لجأ الفقيه إلى عرض الواقعة عليها، وهذا أمر لا يقتضي اختلافاً ما دامت الوسيلة إلى معرفة الحكم في الواقعة المستجدة هي تحقيق مناط النص الشرعي على الوقائع، وتطبيقها على الجزئيات، فكل من النص والمصلحة أمر حقيقي لا يختلف فيه بهذا المعنى.

فإذا كان الطوفي يقصد بكون رعاية المصلحة أمراً حقيقياً في نفسه لا يختلف فيه الخ، هذا المعنى فلا خلاف معه في هذا القدر، إذ الفرض عدم الخلاف، ولكن استدلال الطوفي لا يستقيم ما دام يعتبر النصوص تعادل المصلحة2.

"وأما إذا كان الطوفي لا يقصد برعاية المصالح تحقيق مناط الأصل في الوقائع، وتطبيقه على الجزئيات بحيث تعرض الواقعة التي يراد معرفة حكم الشرع فيها على المجتهدين في الأمة ليحكموا فيها وفق المصلحة التي يهدي إليها العقل مسترشداً بالعادات والتجارب، فإننا لا نوافق الطوفي على أن المصلحة بهذا المعنى أمر حقيقي في نفسه، لا يختلف فيه، حتى تكون سبباً للاتفاق المطلوب شرعاً".

ودليلنا على ذلك الواقع المشاهد، فقد رأينا العقول التي لا تصدر في أحكامها عن هدي السماء تختلف في أصل المصالح والمفاسد، بل ومع اتفاقهم على أن الأمر مصلحة ومفسدة، يختلفون في الأحكام الجزئية التي تحصل هذه المصالح وتدفع

1 انظر: المصدر السابق ص 214.

2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 562 مع تصرف واختصار.

ص: 358

تلك المفاسد، فقديماً قال قوم لوط:{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 1، فكانت الطهارة مفسدة عقوبتها النفي في منطق هؤلاء، وأن المستوطن الصالح الذي يتمتع بخيرات بلده هو الذي يزاول فاحشة اللواط، ويدعو إليها، فهل خلق هؤلاء بلا عقول تهتدي إلى معرفة وجه المصالح، والمفاسد؟ وهل يظن الطوفي أن العقول لا تختلف في مصلحة هذا الجرم وفساده2؟

كيف! والواقع المشاهد يقطع بأن العقول تختلف فيما يعتبر مصلحة ومفسدة، وفي طريق تحصيل المصلحة، ودفع المفسدة "وليته تخلف به الزمان حتى رأى عصرنا الحاضر، وتعقد مسائله، وحيرة أهله، وتضارب آراءهم، وتباين مذاهبهم، إذاً لوجد أن المصلحة التي سماها حقيقة لا تختلف ليست إلا سراباً قد ضل سعي الناس وراءه"3، ولأجل هذا جاءت الشريعة السمحاء لتهدي الناس إلى تحصيل مصالحهم، ودرء مفاسدهم، قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 4، وقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 5. الآية.

"فالخالق أدرى حيث تكمن مصالح عباده، وحيث تكمن مضارهم، ومن هنا كانت المصلحة الحقيقية ما عرفت بهدي النصوص أو توابعها، ولا عبرة بمن قد يحسبها مفسدة، وكان كل ما خالفها مفسدة ولا عبرة يوهم من ظنها مصلحة"6.

وأما الوجه الثالث: فإن ما ادعاه من معارضة السنة بالمصلحة، وما سرده من أمثلة لذلك جعلته يرى أن تقديم رعاية المصلحة على باقي أدلة الشرع راجح

1 سورة النمل آية: 56.

2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 562 - 563.

3 انظر: ضوابط المصلحة ص 215.

4 سورة الإسراء آية: 9.

5 سورة الشورى آية: 52.

6 ضوابط المصلحة ص 215.

ص: 359

متعين كما قال، فإن هذه الدعوى باطلة، لأن هذه الوقائع التي ذكرها مشتملة على عمل من الشارع نفسه صلى الله عليه وسلم، فإن المستند فيها هو قوله، أو فعله، أو تقريره صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ترك البيت، ولم يعد بناءه على قواعد إبراهيم، وتركه له على الحالة التي هو عليها نص، لا أنه عارض النص بالمصلحة كما يقول الطوفي، لأن قوله وفعله وتقريره كلها نصوص كما هو معلوم عند الجميع.

وأما مسألة التيمم، فإن سبب مخالفة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إنما هو تفسير للمس في قوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاء} ، بأن المراد به اللمس الذي ينقض الوضوء1، وإنكاره اقتناع عمر بقول عمار، وقد روى عنه وعن عمر رضي الله عنهما، أنهما رجعا عن قولهما، فليس إذاً مخالفة ابن مسعود في هذه المسألة هي أخذه مصلحة الاحتياط كما يقول الطوفي.

وأما صلاة الصحابة رضي الله عنهم لصلاة العصر قبل الوصول إلى بني قريظة، مع نهيه صلى الله عليه وسلم عنها، فإنما كان لأنهم راوا أن مراده صلى الله عليه وسلم من النهي الحث على سرعة الوصول إليها، لا أنه نهى عن الصلاة نفسها وقد صرح الطوفي بذلك في دليله.

وأما التوقف عن فسخ الحج في العمرة بعد تسميته مع أمره صلى الله عليه وسلم لهم بجعله عمرة، فلم يكن لتقديم المصلحة على السنة، وإنما كان تحرجاً منهم لما ألفوه من منع فسخ الحج قبل إتمام مناسكه، ولكونهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم باقياً على إحرامه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة" 2، فتحللوا ولم يبق توقفهم سنة لعدم إقراره صلى الله عليه وسلم"3.

1 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/223، والآية من سورة النساء:43.

2 انظر: صحيح مسلم 4/38.

3 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 147، ونظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 568.

ص: 360