الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع في رأي أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المناسب المرسل
تمهيد
أشرت فيما سبق إلى أن أبا حنيفة رحمه الله لم يدون أصول مذهبه التي كان يعتمد عليها في الاستنباط وتفريع الأحكام، شأنه في ذلك شأن مالك وأحمد رحمهما الله تعالى، غير أنه مما لا شك فيه أنه كان يقيد نفسه في الأقيسة التي كان يقيسها، وفي طريقة استنباطه للأحكام واستخراج العلل بأصول وقواعد يلزم نفسه بها، ولا يخرج عنها، وإن لم يدونها.
وكيف لا تكون له أصول يعتمد عليها وهو إمام مدرسة أهل الرأي في زمنه؟! وقد عرف بكثرة تفريع المسائل فهو وإن لم تؤثر عنه أصول مفصلة للأحكام التي كان يستنبطها، فلا بد أن تكون له أصول يلاحظها ويربط نفسه بها في استنباط الأحكام، وإن يدونها كما لم يدون فروعه، فإن التناسق والتجانس الفكري بين أنواع الفروع التي رويت عنه يدل على أنه كان يقيد نفسه بقواعد لا يخرج عنها، وكونه لم يدون أصول مذهبه فهذا ليس دليلاً على عدم وجودها فشأنه في ذلك شأن غيره من أئمة المذاهب الذين لم يدونوا أصول مذاهبهم غير أن أتباعهم دونوها.
وليس للباحث إلا أن يسلم صحة ما نسبه علماء المذهب لإمامهم وإذا كان علماء الأحناف دونوا أصولاً اعتبروها أصول مذهب إمامهم والتزموها في استنباط الأحكام وتفريع الفروع على أنها أصول مذهب الإمام، فليس لنا إلا اعتبار ذلك، وإن لم تتصل لنا نسبة ذلك إليه، ويدل لهذا ما جاء في تاريخ بغداد، نقلاً عن أبي حنيفة ونصه: "آخذ بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى
الأمر، أو جاء الأمر إلى: إبراهيم1، والشعبي2، وابن سيرين3، والحسن4، وعطاء5، وسعيد بن المسيب6، وعد رجالاً قوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا7.
وجاء في الانتقاء لابن عبد البر8 مثل هذا9.
1 هو: إبراهيم بن يزيد بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حارثة بن سعد ابن مالك النخعي، المكنى بأبي عمارة وأبي عمار، الفقيه الكوفي أحد الأئمة الأعلام المشاهير، تابعي، روى عن عائشة رضي الله عنها، ودخل عليها ولم يثبت له منها سماع، توفي سنة ست وقيل خمس وتسعين هـ.
انظر: وفيات الأعيان 1/251، وتذكرة الحفاظ 1/73، 74.
2 هو: عامر بن شراحيل الهمداني، الكوفي الحميري، ولد في خلافة عمر رضي الله عنه، كان إماماً حافظاً فقيهاً متفنناً، وكان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، ممن أخذ عنه الأعمش، وأبو حنيفة وغيرهما.
انظر سيرته ومآثره في تذكرة الحفاظ 1/79 فما بعدها.
3 هو: محمد بن سيرين البصري، مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، تابعي، روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأنس وغيرهم، وعنه قتادة وخالد الحذاء وأيوب السختياني وغيرهم، من الأئمة، وأحد فقهاء أهل البصرة وعرف بتعبير الرؤيا، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وتوفي سنة 110هـ.
انظر: وفيات الأعيان 4/181 - 182، وتذكرة الحفاظ 1/77 فما بعدها.
4 هو: الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد البصري الأنصاري مولاهم، من كبار علماء التابعين الإمام شيخ الإسلام، ثقة فاضل مشهور، كان يرسل الحديث ويدلس، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: رأس أهل الطبقة الثالثة، مات سنة 110هـ.
انظر: تذكرة الحفاظ 1/71 - 72، وتقريب التهذيب 1/165.
5 هو: عطاء بن أبي رباح مفتي أهل مكة، ومحدثهم القدوة العلم، أبو محمد بن أسلم، القرشي مولاهم المكي، ولد في خلافة عثمان، وقيل: عمر رضي الله عنهما، سمع من عائشة وأبي هريرة وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهم وطائفة، وعنه أيوب وابن جريج وإسحاق والأوزاعي، وأبو حنيفة، وغيرهم، مات على الأصح سنة 114هـ.
انظر: تذكرة الحفاظ 1/98.
6 هو: الإمام سعيد بن المسيب المخزومي، شيخ الإسلام المكنى بأبي محمد، كان من أجل التابعين علماً وفقهاً، ولد سنة 15هـ في خلافة عمر رضي الله عنه، أخذ العلم عن الصحابة حتى صار أحد فقهاء المدينة السبعة وعلمائها المفتين بها، توفي رحمه الله سنة 94هـ على أصح الأقوال في وفاته.
انظر مآثره في تذكرة الحفاظ 1/54 فما بعدها، والفتح المبين 1/87.
7 انظر: تاريخ بغداد 13/368.
8 هو: أبو عمر بوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الحافظ القرطبي شيخ علماء الأندلس، وكبير محديثها في وقته، وأحفظ من كان فيها، ولد سنة 368هـ وتوفي سنة 463هـ، مؤلفاته تنبئ عن جلالة علمه منها: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، والاستذكار، وجامع بيان العلم وفضله وغيرها.
انظر: الديباج المذهب 2/367 - 370.
9 انظر: الانتقاء لابن عبد البر ص143.
فهذا النص يدل على أن أبا حنيفة1 كان يعتمد في استنباط الأحكام وتفريع المسائل على كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أقوال أصحابه يختار منها ما شاء ويدع ما شاء، ولا يخرج عنهم، فإن لم يجد مطلبه في الأدلة المذكورة اجتهد رأيه.
وذكر الموفق المكي2 في كتابه مناقب أبي حنيفة ما نصه: "كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلح عليه أمرهم يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، فكان يوصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغاً، ثم يرجع إلى استحسان3 أيهما كان أوفق رجع إليه.
1 هو: النعمان بن ثابت بن زوطي، المكنى بأبي حنيفة، الإمام العالم الثبت الفقيه المتطلع إلى الحقائق، الحاضر البديهة، الرحب الصدر للمناظرة أسنّ الأئمة الأربعة، ولد سنة 80هـ، اتفق العلماء على إمامته وعلمه، من تأليفه المسند في الحديث وينسب إليه الفقه الأكبر، قيل: إنه أدرك أنس بن مالك رضي الله عنه، وقيل غير ذلك، نشأ بالكوفة وتربى فيها بدأ بالجدل حتى صار رأساً فيه، ثم اتجه إلى الفقه، ودرس على علماء بلده كحماد بن أبي سليمان وغيره من علماء التابعين حتى صار إماماً، توفي رحمة الله سنة 150هـ.
انظر: أبو حنيفة لأبي زهرة، والفتح المبين 1/101 فما بعدها.
2 الذي عثرت على ترجمته ممن ألف في مناقب أبي حنيفة هو محمد بن محمد الكردري، حافظ الدين الفقيه الحنفي المشهور بابن البزاري، من مؤلفاته مناقب الإمام الأعظم وقد طبع، توفي سنة 827هـ.
انظر: شذرات الذهب 7/183، الأعلام 7/274، غير أنهما لم يصرحا بأنه ملقب بالموفق المكي، والله أعلم.
3 الاستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه، وقيل: هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه، وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، وقيل: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته، وقد عقد ذلك صاحب المراقي بقوله:
والأخذ بالذي له رجحان
…
من الأدلة هو استحسان
أو هو تخصيص بعرف ما يعم
…
ورأي اسستصلاح بعضهم يؤم
ورَدّ كونه دليلاً ينقدح
…
ويقصر التعبير عنه متضح
انظر: المحلى مع الآيات البينات 4/193، ومختصر ابن الحاجب مع شرحه 2/288، ونشر البنود شرح مراقي السعود 2/262 فما بعدها.
قال سهل1: "هذا علم أبي حنيفة رحمه الله علم العامة"2.
وواضح مما نقله عنه إنه كان يعتبر القياس أصلاً حيث لا نص ولا قول صحابي ما دام سائغاً، فإن لم يبق سائغاً أخذ بالاستحسان ما استقام له، فإن لم يستقم له أخذ بما يتعامل به الناس، وهو العرف، والأخذ بالعرف والاستحسان يقتضي اعتبار المناسب المرسل.
فعدم ورود عدم الاستدلال المرسل أصلاً من الأصول التي نقل أنه كان يعتمد عليها في استنباط الأحكام لا يعني أنه لم يأخذ به، بل لعل في تصريحه بعمله بالاجتهاد ورجوعه إلى ما يتعامل به الناس عند عدم صلاحية القياس دليلاً على اعتبار الأخذ بالمناسب المرسل، لأن اعتبار ما يتعامل به المسلمون هو الأخذ بالعرف3.
وبعد هذا التمهيد نعود إلى ذكر الأدلة الدالة على اعتبار الحنفية المناسب المرسل مما يقتضي أن يكون اعتبارهم له اتباعاً لإمامهم، وهذه الأدلة هي:
1 -
أنهم يعتمدون على الاستحسان والعرف في استنباط الأحكام، وتفريع الفروع عليهما، مما يدل على اعتبارهم للمناسب المرسل.
2 -
نقول عن الأحناف تدل على ذلك.
3 -
فروع تدل على أن الأخذ بها كان اعتماداً على المناسب المرسل.
الدليل الأول: ما تقدم نقله عن الموفق المكي حيث قال: "كلام أبي حنيفة
1 لعله أن يكون هو سهل بن عمار بن عبد الله العنكي أبو يحيى النيسابوري القاضي، ذكره في منتخب تاريخ هراة، وقال: كان من أصحاب أبي حنيفة وكان قاضي هراة، حدث عن يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه العباس بن حمزة وأبو يحيى البزاز وغيرهما، توفي سنة 267هـ.
انظر: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية 2/239.
2 انظر: المناقب للمكي 3/87، نقلاً عن كتاب أبي حنيفة لأبي زهرة ص 266.
3 العرف ما تعارفه الناس، وما ساروا عليه من قول أو فعل ويسمى العادة وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة، أصول عبد الوهاب خلاف ص 89، وقال الجرجاني: العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول
…
وكذا العادة وهي ما استمر الناس عليه على حكم المعقول، وعادوا إليه مرة أخرى. انظر: التعريفات ص 149.
أخذ بالثقة، وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلح عليه أمرهم يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به"1.
فهذا النص صريح في أن أبا حنيفة رحمه الله كان يأخذ بالاستحسان والعرف، وأما الاستحسان فهو كما نقله عنه أصحابه كان أرحب مجال له في المناقشة والاستدلال، ولذا قال محمد بن الحسن2:"إن أصحابه كانوا ينازعونه القياس، فإذا قال: استحسن لم يلحق به أحد"3.
وكان في إكثاره من الاستحسان والاعتماد عليه مثار نقد وطعن في فقهه ممن لم يقف على حقيقة معنى الاستحسان عند أبي حنيفة حيث حمله على محض القول المجرد عن الدليل، كما فهمه الشافعي رحمه الله ورد عليهم.
وعلى فرض أن الاستحسان شامل للقول المجرد عن الدليل العاري عن أي دليل فهو أيضاً شامل من باب أولى لدليل الرأي المستند إلى ما يعضده من المصالح التي شهدت أصول الشرع وقواعده العامة باعتبارها "ومعنى هذا أن القدر الذي أنكره الشافعي من الاستحسان غير شامل لما ينطبق عليه اسم الاستصلاح بدليل
…
إنه هو بنفسه كان يأخذ به تحت اسم القياس، وإذا فالقدر الذي يدخل منه في باب الاستصلاح، وهو ما سموه باستحسان المصلحة، ليس هو المراد بإنكار الشافعي للاستحسان، وما جاء في كلامه حوله"4.
ولذلك حاول الحنفية بيان معنى الاستحسان بما يخرجه عن كون الأخذ به
1 انظر: المناقب للمكي 3/87، نقلاً عن أبي حنيفة لأبي زهرة ص 266.
2 هو: محمد بن الحسن الشيباني الإمام الفقيه الأصولي اللغوي، المكنى بأبي عبد الله صاحب أبي حنيفة، وناشر علمه، ولد سنة 131هـ بواسط بالعراق، وتفقه على أبي حنيفة وأبي يوسف، وتبحر في الفقه والأصول حتى كان مرجع أهل الرأي بالعراق، اجتمع به الشافعي وأخذ عنه وقال فيه: ما رأيت أعلم بالقرآن والحلال والحرام والعلل والناسخ والمنسوخ من محمد بن الحسن، له مؤلفات في الأصول والفقه، توفي سنة 189هـ بعد أن كان قاضياً للرشيد.
انظر: شذرات الذهب 1/321 فما بعدها، والأعلام 6/309، الفتح المبين 1/110 - 111.
3 انظر: أبو حنيفة لأبي زهرة ص 387.
4 انظر: ضوابط المصلحة ص 381.
عملاً بالتشهي، وقولاً بمحض الرأي العاري عن الدليل الشرعي، بل حاولوا بيان أن القول به قول بالدليل الشرعي، وإليك أهم التعريفات الدالة على ذلك:
1 -
ما نقله السعد عن الكرخي حيث قال: "إنه العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلا خلافه بوجه هو أقوى"1 يقتضي العدول عن الأول.
2 -
قال السرخسي: "الاستحسان في الحقيقة قياسان: أحدهما جلي ضعيف الأثر، فيسمى قياساًَ، والآخر خفي قوي الأثر، فيسمى استحساناً أي قياساً مستحسناً، فالترجيح بالأثر لا بالخفاء والظهور".
ويقول: "كان شيخنا يقول: الاستحسان ترك القياس، والأخذ بما هو أوفق للناس" وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام.
وقيل الأخذ بالسعة، وابتغاء الدعة، وقيل الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة.
وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر وهو أصل في الدين قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، وقال صلى الله عليه وسلم:"خير دينكم اليسر"3.
وبيان هذا أن المرأة عورة من قرنها إلى قدمها، وهو القياس الظاهر، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"المرأة عورة مستورة" 4 ثم أُبيح به النظر إلى بعض المواضع منها للحاجة والضرورة، فكان ذلك استحساناً لكونه أرفق بالناس"5.
1 انظر: التلويح 2/81.
2 سورة البقرة آية: 185.
3 لفظ البخاري: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" رواه تعليقاً، ثم ساق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" الحديث.
انظر: البخاري 1/17، 63.
4 انظر: الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/337.
5 انظر: المبسوط 10/145 ط الأولى، مطبعة السعادة بمصر سنة 1326هـ.
3 -
ما ذكره صاحب التوضيح ونصه: "أنا نعني به - يعني الاستحسان - دليلاً من الأدلة المتفقة عليها يقع في مقابلة القياس الجلي، فلا يمكن إنكاره لأنه إما من باب الأثر
…
وإما من باب الإجماع، أو الضرورة، وإما بالقياس الخفي1.
فمعنى كلام الكرخي أنه قد "يجيء الحكم مخالفاً لقاعدة مطردة لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من الاستمساك بالقاعدة، فيكون الاعتماد عليه أقوى استدلالاً في المسألة من القياس.
ويصوران الاستحسان كيف ما كانت صوره وأقسامه، يكون في مسألة جزئية ولو نسبياً في مقابلة قاعدة كلية، فيلجأ إليه الفقيه في هذه الجزئية لكيلا يؤدي إلى الإغراق في القاعدة إلى الابتعاد عن الشرح في روحه ومعناه"2.
وأما قول شمس الأئمة السرخسي: "إنه الأخذ بما هو أرفق بالناس، وأنه طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام"، فإنه تنبيه على أن معظم الأحكام التي أخذ بها كثير من الأئمة استصلاحاً خرجت مخرج الاستحسان عند أبي حنيفة عن القاعدة العامة، وذلك لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع.
ولذا قال: "وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر، وهو أصل الدين" ثم استدل على ذلك بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3.
ويقول: "إن المرأة عورة ثم أُبيح النظر إلى بعض المواضع منها للحاجة والضرورة، فكان ذلك أرفق بالناس".
1 انظر: التوضيح مع التلويح 2/81 - 82.
2 انظر: أبو حنيفة ص 389.
3 سورة البقرة آية: 185.
ومن المعلوم أن الحاجة العامة في حق عامة الناس تتنزل منزلة الضرورة في حق الفرد لما تقدم عن السرخسي في قوله في الاستحسان: "إنه ترك العسر لليسر" ثم يقول: أنه أصل قطعي في الدين الخ.
ويدل له أيضاً ما قاله ابن نجيم1 ونصه: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، ولهذا جوزت الإجارة على خلاف القياس للحاجة.
ولذا قلنا: لا يجوز إجارة بيت بمنافع بيت لاتخاذ جنس المنفعة فلا حاجة، بخلاف ما إذا اختلف، ومنها ضمان الدرك2 جوز على خلاف القياس.
ومن ذلك جواز السلم3 على خلاف القياس، لكونه بيع المعدوم دفعاً لحاجة المفاليس4 ومنها جواز الاستصناع للحاجة، ودخول الحمام مع جهالة مكثه فيها، وما يستعمله من مائها وشربة السقاء، ومنها الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى وهكذا بمصر، وقد سموه بيع الأمانة والشافعية يسمونه الرهن المعاد5، فكلام ابن نجيم هنا ظاهر في أنه أطلق تنزيل الحاجة منزلة الضرورة سواء كانت عامة أو خاصة، والمعروف هو أنه إنما تنزل الحاجة منزلة
1 هو: زين الدين بن إبراهيم بن محمد المشهور بابن نجيم، العالم الفقيه المصري، الحنفي، الأصولي، له مؤلفات تدل على عزارة علمه وتدقيقه، منها: الأشباه والنظائر في قواعد الفقه، ومنها في الأصول: شرح المنار، ولب الأصول، توفي سنة 970هـ.
انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/78، الأعلام للزركلي 3/104.
2 الدرك التبعة، وضمان الدرك هو أن يقول كفيل لمن يريد شراء سلعة أنا ضامن لك ثمن المبيع إن استحقه أحد، مع جواز أن يظهر استحاق بعضه أو كله.
ووجه مخالفته للقياس هو أنه ضمان بالمجهول.
انظر: فتح القدير شرح الهداية 7/181، والعناية بأسفله 7/182.
3 السلم بفتحتين السلف، وزناً ومعنى، والسلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز، وهو في اصطلاح الشرع بيع موصوف في الذمة إلى أجل معين بثمن معجل، وهو نوع من البيع، يعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع وينعقد بما ينعقد به.
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 4/428، المغني لابن قدامة 4/246.
4 جمع مفلس، وهو من لا فلوس له، لانتقاله من حال اليسر إلى حال العسر.
انظر: المصباح المنير 2/137.
5 انظر: الأشباه والنظائر ص 91 - 92.
الضرورة إذا كانت عامة، ثم إن الأمثلة التي ذكرها لم تتضمن مثالاً يتضمن تنزيل الحاجة الخاصة منزلة الضرورة، كما أن الأمثلة التي مثل بها ما هو منصوص عليه كالسلم والإجارة وقد عد البعض هذا من الاستحسان بالنص، وذكر أمثلة اعتبرها البعض الآخر من باب الاستحسان بالإجماع كالاستصناع ودخول الحمام، والشرب من السقاء، وهذه أساس الفتوى فيها هو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، غير أنه أورد عليه أن الفتوى فيها كانت بعد تعارف الناس عليها فهي من العرف على هذا.
وقد يجاب عنه: بأن بدأ العرف الخاص بها لا يمنع من صحة فتوى الفقيه بها، وعلى هذا فمن نظر إلى بدأ العمل بها قال: إن أساس الاستحسان فيها هو العرف، ومن نظر إلى صحة فتوى الفقيه بهذا العرف قبل أن يصير عرفاً عاماً وإجماعاً عملياً قال: إن أساس الاستحسان فيها هو المصلحة، ومن نظر إلى اتفاق المجتهدين أخيراً على جواز التصرف بهذا النوع قال: إن أساس الاستحسان فيها هو الإجماع، وعلى هذا فلا تناقض حيث إن كل واحد نظر في هذه التصرفات إلى مرحلة من مراحل العمل بها1.
وأما الأخذ بالعرف في غير موضع النص، فإنما يرجع إلى اعتبار المصلحة؛ لأن الناس إنما تستقر أعرافهم وعاداتهم في معاملاتهم على أساس مصالح حياتهم ومعاشهم، فالأخذ به أخذ بالاستصلاح؛ لأنه من باب الأخذ بما شهدت له مقاصد الشرع وقواعده العامة، فلذا كان محل اعتبار من الأئمة بصفة عامة وأبي حنيفة بصفة خاصة، كما نقله عنه الموفق المكي، ولأن في الأخذ به رفقاً بالناس ويسراً ورفعاً للحرج.
يقول البوطي: "والناظر أبداً في المعاملات من كتب الفقه الحنفية يجدها مملوءة بمسائل الاستصلاح باسم الاستحسان آناً، وباسم عرف الناس آناً أخر"2.
فما أخذ به الأئمة من الاستحسان والعرف "يرجع في الواقع إلى استحسان
1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 596 - 597، مع تصرف واختصار.
2 ضوابط المصلحة ص 383.
المصلحة إذ الفقهاء إنما يجمعون على صحة ما تعارف عليه الناس، لأن الحكم بصحته مصلحة تتفق مع تصرفات الشارع في الجملة"1.
كما أن مستند الاستحسان في الواقع إنما هو رعاية المصلحة التي شهدت لها نصوص الشرع إما بشهادة نص معين، وإما بشهادة معقولة.
وإما بشهادة جملة نصوص الشرع وقواعده العامة، لذا كان محل اعتبار من جميع الأئمة بصفة عامة، وأبي حنيفة بصفة خاصة.
الدليل الثاني: إن الحنفية يشترطون في صلاحية الوصف لأن يكون علة أن يكون مناسباً وأن يكون مؤثراً في الحكم، ويعرفون التأثير بما يدخل المناسب المرسل في المؤثر عندهم، وعلى هذا فالمناسب المرسل معتبر عندهم وإن لم يصرحوا بذلك، فإذاً لا بد من بيان أقسام المرسل عندهم أولاً، ثم بيان ما فيه الخلاف من أقسامه وما ليس فيه خلاف، وما يلزم الحنفية قبوله فإلى ذلك.
أما صاحب التحرير وشارحه فقد قسما المرسل إلى: ما علم إلغاؤه، وغريب وملائم، وذكرا أن الملغي والغريب مردودان اتفاقاً وأجريا لخلاف في الملائم، وبيناه بأنه هو ما علم فيه اعتبار جنس الوصف في عين الحكم، أو عين الوصف في جنس الحكم، أو جنس الوصف في جنس الحكم2.
فهذا هو المرسل الملائم قالا: "وسنذكر أنه يجب من الحنفية قبول ملائم المرسل"، وأن اتفاق العلماء المذكور إنما هو رد ما علم إلغاؤه والغريب من المرسل3.
فقد صرحا بأن ملائم المرسل هو المرسل، وأنه يجب من الحنفية قبوله وأن اتفاق العلماء إنما هو في رد الملغى والغريب من المرسل، ولذا قالا: فالتعليل بالمرسل تعليل بمصالح خاصة ابتداء اعتبرت في جنس الحكم الذي يراد إثباته
1 نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 599.
2 انظر: التقرير والتحبير 30/150.
3 نفس المرجع السابق 3/151.
أو جنس المصلحة في عين الحكم، أو جنسه، لكن بشرط الضرورية والكلية فيها، على ما تقدم عند قائله أي المرسل وهو الغزالي.
فإن قلت: المثال حنفي، والحنفي يمنع المرسل، فكيف يتم على قوله؟
قلنا: سبق أنه يجب القول بعملهم ببعض ما يسمى مرسلاً عند الشافعية، ويدخل ذلك في المؤثر عند الحنفية كما سيظهر1.
ووجه دخوله في المؤثر هو أن المؤثر عند الحنفية هو - كما في مسلم الثبوت -: الوصف المناسب الملائم عند العقول الذي ظهر تأثيره شرعاً، بأن يكون لجنسه تأثير في عين الحكم كإسقاط الصلاة الكثيرة بالإغماء، فإن لجنسه الذي هو العجز عن الأداء من غير حرج تأثيراً في سقوطها كما في الحائض، أو في جنسه كإسقاطها عن الحائض بالمشقة وقد أسقطت مشقة السفر الركعتين، فقد أثر جنس المشقة في جنس السقوط أو بأن يكون لعينه تأثير في جنس الحكم كالأخوة لأب وأم في قياس التقدم في ولاية النكاح، وقد تقدم هذا الأخ في الميراث، فقد أثر في مطلق التقدم أو يكون لعينه تأثير في عينه، أي الحكم وذلك كثير في الأقيسة الجزئية2.
"وإذا كان هذا هو معنى التأثير عند الحنفية فإن ملائم المرسل حجة عندهم، ذلك لأنهم عرفوا ملائم المرسل بأنه الوصف الذي لم يثبت الحكم معه في أصل ما، ولم يثبت بنص ولا إجماع اعتبار عينه في عين الحكم ولكن قام النص أو الإجماع على اعتبار وصف من جنسه في حكم من جنس الحكم الذي يوجهه، وكأن اعتبار الشارع للوصف الذي من جنسه في الحكم الذي من جنس حكمه اعتبار لجنس الوصف في جنس الحكم.
وهذا التعريف لملائم المرسل يجعل شرط التأثير متوفراً فيه، ذلك أن الحنفية لا يطلبون في التأثير أن يدل النص أو الإجماع على أن عين الوصف مناط لعين الحكم فقط، بل يدخلون فيه دلالة النص أو الإجماع على أن جنس الوصف مناط ومؤثر
1 انظر: التقرير والتحبير 3/156.
2 انظر: فوات الرحموت مع المستصفى 20/267.
في جنس الحكم، وذلك بالنص أو الإجماع على أن وصفاً من جنس الوصف مناط لحكم من جنس الحكم، وبعبارة أخرى فإن التأثير عندهم يشمل صورتين إحداهما دلالة النص أو الإجماع على أن وصفاً بعينه مناط لحكم بعينه وذلك
…
كما في جعل الطواف بعينه مناطاً للطهارة بعينها.
وثانيتهما: دلالة النص أو الإجماع على أن جنس الوصف مناط أو علة أو مؤثر في جنس الحكم، وذلك ليس بالنص على أن جنساً من الوصف مناط لجنس من الحكم، كأن يرد نص الشارع بأن المشقة موجبة لمطلق التخفيف أو أن المصلحة العامة مقدمة على الخاصة، وإلا اتحد مع القسم الأول وكان مما دل النص فيه على أن عين الوصف مناط لعين الحكم.
وإنما مراد الأحناف بورود النص أو الإجماع أن جنس الوصف مناط لجنس الحكم أن ينص الشارع أو يقوم الإجماع على أن وصفاً مغايراً للوصف، ولكنه من جنسه مناط لحكم مغاير للحكم ولكنه من جنسه، وذلك لأنهم يعتبرون أن النص على أن نوعاً من الوصف مناط لنوع من الحكم دليل من الشارع على اعتبار أن جنس الوصف مناط لجنس من الحكم.
وعلى هذا يكون ملائم المرسل علة توافر بالنسبة لها شرط التأثير الذي يلتزمه الحنفية في صحة العلل"1.
وعلى هذا يكون الحنفية قائلين بالمرسل كما يقول به غيرهم أو يجب عليهم قبوله كما قال صاحب التحرير بأنه يجب على الحنفية قبوله فقال: "وما علم اعتبار أحدهما أي الجنس في الجنس وهو الملائم المرسل، وهو المسمى بالمصالح المرسلة، وسنرى أن الحنفية قبلوا القسم الأخير أي الملائم المرسل
…
فاتفاقهم في نفي الأولين مما علم إلغاؤه هو والغريب"2.
ويقول: وظهر أن المؤثر عند الحنفية أعم من المؤثر عند الشافعية، وهو ما
1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 573 - 575.
2 انظر: التقرير والتحبير 3/150.
ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم، ومن الملائم الأول أي الذي هو من أقسام المناسب بأقسامه الثلاثة
…
وما من المرسل أي وثلاثة أقسام الملائم المرسل، وهو ما لم يثبت العين مع العين في المحل، لكن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عينه أو جنسه، فشمل المؤثر عند الحنفية سبعة أقسام في عرف الشافعية، إذ لم يقيدوا أي الحنفية الثلاثة التي هي تأثر الجنس في عين الحكم أو في جنسه، وتأثير العين في الحكم بوجود العين مع العين في المحل أي الأصل، وكذا تصريحهم أي الحنفية فيما تقدم أن التعليل بما اعتبر جنسه مقبول وقد لا يكون قياساً بأن لم يتركب مع أحد الأمرين أي العين أو الجنس في العين1.
وأما صاحب مسلم الثبوت فيقول: وإن لم يعتبر "أي الوصف" أصلاً لا مع الحكم ولو في صورة ما ولا مؤثراً فيه، فهو المرسل، وينقسم إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لم يعلم، فإن لم يعلم فيه أحد اعتبارات الملائم من اعتبار نوعه أو جنسه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم فهو الغريب المرسل، وهو المسمى بالمصالح المرسلة حجة عند مالك
…
وإن علم فيه ذلك أي أحد اعتبارات الملائم فهو المرسل الملائم قبله الإمام ونقل الشافعي وعليه جمهور الحنفية2.
ويقول: فالمؤثر ثلاثة من الملائم وثلاثة من ملائم المرسل في عرف الشافعية كلها، مقبولة مؤثر عند الحنفية دون الغريب من المرسل لعدم ظهور تأثيره شرعاً3.
فهذا يدل على أن ملائم المرسل يعد عند الحنفية من المؤثر الذي يعتبرونه حجة في بناء الأحكام عليه، وذلك لأن توفر شروط التأثير فيه يجعله علة معتبرة عندهم.
1 انظر: التقرير والتحبير 3/159.
2 انظر: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى 2/266.
3 انظر: المرجع السابق 2/266.
فعلى هذا يكون الوصف المرسل عندهم حجة وإن كان صاحب مسلم الثبوت اعتبر المرسل هو الغريب وجعل الخلاف حاصلاً فيه، ونسب إلى مالك القول به غير أن ما ذكره من أن مالكاً رحمه الله يعتبر الغريب حجة غير صحيح لما تقدم من بيان أن الذي قال به مالك إنما هو ملائم المرسل، أما الغريب فقد صرح المالكية بأنه مردود اتفاقاً؛ لأن اعتباره يعد قولاً بالتشهي وتشريعاً بالهوى1.
الدليل الثالث: أمثلة فقهية من فقه السادة الأحناف، اعتمدوا في الأخذ بها على الاستحسان والعرف مستندين إلى الأخذ بالمناسب المرسل.
1 -
ما جاء في الدر مختار من قول أبي حنيفة بعدم قبول توبة الزنديق إذا تاب بعد القبض عليه، قال:"إذا أخذ الساحر أو الزنديق المعروف قبل توبته ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل".
وعلق ابن عابدين2 على ذلك قائلاً: "وهو قياس قول أبي حنيفة، وهو حسن جداً"3.
2 -
تضمن الأجير المشترك: وإن لم يخالف عمله ما اتفق عليه مع المؤجر إلا ما هلك تحت يده بغير فعله كموت وسرقة ونحوهما، ولكن لا يصدق على دعوى ذلك إلا ببينة يقيمها.
قال شمس الأئمة السرخسي: "لو كان الراعي مشتركاً يرعى لمن يشاء على قول أبي حنيفة رحمه الله هو ضامن لما يهلك بفعله من سباق أو سعي، أو غير ذلك، لأن الأجير المشترك ضامن ما حنت يده، وإن لم يخالف في إقامة العمل
1 انظر: الاعتصام للشاطبي 2/115، والمختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/242.
2 هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم المعروف بابن عابدين، ولد بدمشق سنة 1198هـ الحنفي العلامة، اشتغل بالتدريس والتصنيف حتى صار يشار إليه بالبنان، له مؤلفات كثيرة منها في الفقه: رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار وغيره، وفي أصول الفقه: شرح المنار، توفي سنة 1252هـ.
انظر: الفتح المبين 3/147 - 148.
3 انظر: الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3/458 - 459.
ظاهراً كما في القصار إذا دق الثوب فتخرق"1.
فتضمين الأجير المشترك قول بالاستدلال المرسل رعاية لمصلحة الناس فيما يلحقهم من الضرر بفوات أموالهم إذا لم يضمن الأجير المشترك، إذ الأصل أنه مؤتمن، وإذا علم أنه لا يضمن ما أدعى تلفه، سهل عليه دعوى ذلك، وترك الاستئجار يلحق بالناس الضرر والحاجة، فكان القول بتضمين الأجير المشترط مصلحة مستحسنة اعتبرتها قواعد الشرع ونصوصه في الجملة.
ولذا قال صاحب بدائع الصنائع: "وأما على أصليهما - يعني أبا يوسف2، ومحمد بن الحسن - فلأن وجوب الضمان في الأجير المشترك ثبت استحساناً صيانة لأموال الناس"3.
3 -
"إن أبا حنيفة قال: إذا شهدت أربعة على رجل بالزنا، ولكن عين كل واحد غير الجهة التي عينها الآخر، فالقياس أن لا يحد، ولكن استحسن الحد4.
قال صاحب البداية: "وإن اختلفوا في بيت واحد - يعني شهود الزنا - حد الرجل والمرأة".
قال صاحب الهداية5 موضحاً ذلك: "معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا
1 انظر: المبسوط 15/161، وضوابط المصلحة ص 384.
2 هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، المكنى بأبي يوسف، الملقب بالقاضي، صاحب الإمام أبي حنيفة وراوية مذهبه، الإمام المجتهد، ولد سنة 113هـ، وقد خالف إمامه في بعض المسائل، من تلاميذه محمد بن الحسن الشيباني والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وغيرهم، تولى القضاء والتدريس، له مؤلفات منها: كتاب الخراج، توفي سنة 182هـ.
الفتح المبين 1/109.
3 انظر: بدائع الصنائع 4/211.
4 انظر: الاعتصام 2/140.
5 هو: برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيثاني، المكنى بأبي الحسن الحنفي الفقيه، صاحب كتاب الهداية شرح البداية والمنتقى وغيرهما، كان حافظاً مفسراً محققاً أديباً، عد من المجتهدين، ولد سنة 530هـ وتوفي سنة 593هـ.
انظر: الأعلام للزركلي 5/73، تعليق د. عبد العزيز القاري على الفكر السامي 2/182، أسماء الكتب المتمم لكشف الظنون لعبد اللطيف رياض زاده ص79 - 80.
في زاوية وهذا استحسان، والقياس أن لا يجبي الحد، لاختلاف المكان حقيقة، وجه الاستحسان التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب "ولأن الواقع في وسط البيت فبحسبه من في المقدم في المقدم ومن في المؤخر في المؤخر، فيشهد بحسب ما عنده"1.
4 -
ما جاء في البحر من "رواية أبي عصمة2 عن الإمام - أبي حنيفة - أنه يجوز دفع الزكاة لبني هاشم في زمانه، لأن عوض الزكاة وهو خمس الخمس لم يصل إليهم لإهمال الناس أمر الغنائم وإيصالها إلى مستحقيها وإذا لم يصل إليهم العوض عادوا إلى المعوض"3.
ودفع الزكاة لبني هاشم مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تحل لهم4 وكان القول بذلك اعتماداً على دفع حاجة الفقر عنهم وسد خلة المحتاج منهم، وسد خلة المحتاج مصلحة شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة.
وأما أمثلة العرف فكثيرة جداً، وقد تقدم أن الحنفية اعتبروا الأخذ بالعرف قاعدة لتفريع الأحكام.
ومما يدل على ذلك أن ابن عابدين وطأ لذكر بعض المسائل المخرجة على العرف بما نقله عن البحر ونصه "قال: الأحكام تنبني على العرف فيتعبر في كل أقليم عرف أهله"5.
ثم أوضح ابن عابدين ذلك بأن قال: "المسائل الفقهية الثابتة بالاجتهاد والرأي كثير منها يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان
1 انظر: الهداية مع شرحه وحواشيه 5/286.
2 هو: نوح بن أبي مريم أبو عصمة، الفقيه القاضي بمرو، لقب بالجامع، لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والحديث عن الحجاج بن أرطأة والمغازي عن ابن إسحاق والتفسير عن مقاتل، وهو متروك الحديث، قاله في العبر.
انظر: شذرات الذهب 1/283.
3 انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق 2/266.
4 انظر: سنن أبي داود 1/384.
5 انظر: رد المختار 5/188.
العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً، ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، ولحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ورفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام، ولهذا نرى مشائخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه.
فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة أو صنعة يلزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان كذلك مع أنه مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن وغير ذلك"1، وهذا يدل على ما يأتي:
1 -
إنه اعتبر العرف أصلاً تبنى عليه الأحكام ولذا قال: "فيعتبر في كل أقليم عرف أهله" وهذا صريح في اعتبار العرف أصلاً تبنى عليه الأحكام، وهو صريح في اعتبار المصالح، ومعلوم أن اعتبار العرف يكون حيث وجدت المصلحة، واعتبرتها نصوص الشرع وقواعده العامة وإن لم يشهد لها نص معين، وهذا هو الاستدلال المرسل، الذي أخذ به جميع الأئمة سواء سمي باسم المرسل أم باسم القياس أم باسم الاستحسان والعرف.
2 -
ذكر أن كثيراً من مسائل الفقه بناها المجتهد على العرف في زمنه وأنه لو كان في الزمن الذي حدث بعده لقال بخلاف ما قال به أولاً واستدل على ذلك
1 انظر: رسال ابن عابدين ص 125 - 126.
بأن المصلحة وحفظ نظام العالم يقتضي ذلك، لتغير أهله وفسادهم، وأن مراعاة ذلك هو مقتضى ما جاءت به الشريعة من التيسير والسهولة ودفع الضرر والفساد واعتبار مثل هذا هو عين الأخذ بالاستدلال المرسل.
3 -
أوضح ذلك بالأمثلة التي ساقها كالاستئجار على تعليم القرآن وعلى الأذان والصلاة بالناس، وبين أن ذلك وإن كان مخالفاً لما اتفق عليه الإمام وصاحباه على منع أخذ الأجرة عليها كبقية العبادات، إلا أن حاجة حفظ الدين بإقامة تلك الشعائر وحفظ قوام حياة القائم بها ومن يعوله اقتضى ذلك.
وهذا لا يبقى معه مجال للشك في أن أبا حنيفة وأتباعه رحمهم الله يعتبرون الاستدلال بالمرسل أصلاً تبنى عليه الأحكام وتفرع عليه الفروع، وما ذكرته قليل من كثير كما قال ابن عابدين فإنه بعد ذكر الأمثلة التي نقلت عنه وغيرها قال: وهي كثيرة جداً لا يمكن استقصاؤها1.
وحيث إنه ليس من موضوعي استقصاؤها فإنني أكتفي بما ذكرته كدليل على اعتبار الأحناف للمناسب المرسل أصلاً تبنى عليه الأحكام وأن الأخذ به لا يعد أخذاً بالرأي المجرد عن الدليل، والله تعالى أعلم.
1 انظر: رسائل الإصلاح لابن عابدين 2/127.