المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل - الوصف المناسب لشرع الحكم

[أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في المناسبة وتعريف المناسب

- ‌الفصل الأول: في تعريف المناسبة

- ‌الفصل الثاني في إقامة الدليل على أن المناسبة دالة على العلية

- ‌الفصل الثالث في تعريف المناسب

- ‌الباب الثاني: في تقسيمات المناسب

- ‌الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة

- ‌الفصل الثاني: في تقسيم المناسب الحقيقي باعتبار إفضائه إلى المقصود

- ‌الفصل الثالث: في تقسيم المناسب من حيث اعتبار الشارع له وعدم اعتباره له

- ‌المبحث الأول: أقسام المناسب بحسب القسمة العقلية

- ‌المبحث الثاني أقسام المناسب من حيث الاعتبار

- ‌المبحث الثالث: تقسيم ابن السبكي له

- ‌المبحث الرابع: تقسيم الإمام له

- ‌المبحث الخامس: تقسيم الآمدي له

- ‌المبحث السادس: اشتراط الحنفية في المناسب فوق المناسبة كونه مؤثرا

- ‌الباب الثالث: في المناسب المرسل

- ‌الفصل الأول: في تعريفه وبيان محل الخلاف والوفاق فيه بين العلماء

- ‌الفصل الثلني: في بيان مذاهب العلماء في الوصف المناسب المرسل

- ‌الفصل الثالث في بيان أدلة مذهب الإمام مالك

- ‌الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد رحمه الله هو وأتباعه في الأخذ بالمناسب المرسل

- ‌الفصل الخامس في ذكر أدلة مذهب القاضي ومن وافقه ومناقشتها

- ‌الفصل السادس في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل

- ‌الفصل السابع في رأي أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المناسب المرسل

- ‌الفصل الثامن: في رأي الغزالي في قبول المرسل

- ‌الفصل التاسع في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع

- ‌الفصل العاشر: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها أو راجحة أم لا تنخرم

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل السادس في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل

‌الفصل السادس في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل

تمهيد

تقدمت نسبة المذهب الثالث للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله وأنه يشترط لاعتبار المناسب المرسل: المناسبة وعدم البعد عن شهادة النصوص له.

ومما هو معلوم أنه لم يرد في أصول مذهب كل من الإمامين عدم الأخذ بالمناسب المرسل أصلاً مستقلاً لبناء الأحكام عليه، بل إنهما إنما اعتمدا في بناء الأحكام واستنباطها على الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.

أمام أبو حنيفة فسيأتي بيان أصول مذهبه في الفصل الآتي بعد هذا.

وأما الشافعي فإنه قد دون أصول مذهبه التي اعتمد عليها في الاستنباط وبناء الأحكام، وألزم نفسه بها، فهو الوحيد الذي ألف أصول مذهبه من بين الأئمة، بل هو أول من ألف في هذا الفن كتاباً مستقلاً على أرجح أقوال أهل الأصول، وإن كان بعضهم صرح بأسبقيته قال صاحب المراقي:

أول من ألفه في الكتب

محمد بن شافع المطلب

وغيره كان له سليقه

مثل الذي للعرب من خليقه

يعني أن أول من ألف علم الأصول في كتاب حتى صار فناً مستقلاً هو الإمام الشافعي محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، ألفه في كتابه الرسالة الموجود بأيدينا وغير الشافعي من المجتهدين كالصحابة فمن بعدهم كانت معرفتهم لعلم أصول الفقه سليقة مركوزة في طبيعته كما كان علم العربية من نحو ولغة وتصريف وغيرها طبيعة في فطرهم"1.

1 انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/19.

ص: 305

أما الأدلة التي اعتبرها أصولاً لمذهبه فهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول بعض الصحابة الذي لم يعلم له مخالف، واختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس.

وهذه الأدلة عنده طبقات بعضها أرفع من بعض، يدل لهذا ما ذكره في كتابه الأم حيث قال: العلم طبقات شتى.

الأولى: الكتاب والسنة، إذا ثبتت السنة.

ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.

والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولاً ولا نعلم له مخالفاً منهم.

والرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

والخامسة: القياس على بعض الطبقات.

ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى"1.

ولا يهمني هنا كون الشافعي اعتمد الكتاب والسنة شيئاًَ واحداً، لكونه جعل السنة بياناًَ للكتاب، وإنما الذي يهمني هو تصحيح إثبات نسبة القول بالمناسب المرسل للإمام الشافعي، واعتماده عليه في الاستنباط، وبناء الأحكام عليه، وإن لم يعتبره أصلاً مستقلاً، فإلى أدلة إثبات ذلك.

الدليل الأول: وردت نصوص عن الشافعي تدل على أنه يعتبر المرسل داخلاً في القياس، وإن لم يعده أصلاً مستقلاً من أصوله التي اعتمد عليها في استنباط الأحكام، وجعلها قاعدة لفروع الأحكام، إلا أنه يرى أنه قياس، لأن الاستدلال لا يعدو استنباط الحكم من معقول جملة نصوص شرعية شهدت لجنس المصلحة بالاعتبار.

ذلك أن الشافعي يرى أن نصوص الشرع وافية بحكم كل حادثة تحدث، فلا توجد واقعة إلا ولها دليل يدل عليها، إما بنصه أو معقوله، يدل لهذا قوله:

1 انظر: الأم 7/265.

ص: 306

"فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله دليل على سبيل الهدى فيها"1.

ويقول: "كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم اتبعه، وإذا لم يكن فيه بعينه

طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد القياس"2.

ويقول: "وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إلا وقد علم الحق، ولا يكون الحق معلوماً إلا عن الله نصاً، أو دلالة عن الله، فقد جعل الله الحق في كتابه، ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليست تنزل بأحد نازلة إلا والكتاب ينص عليها نصاً أو جملة

فإن قال قائل: أرأيت ما لم يمضِ فيه كتاب ولا سنة ولا يوجد الناس، اجتمعوا عليه فأمرت بأن يؤخذ قياساً على كتاب أو سنة يقال لهذا قيل عن الله؟ قيل: نعم قيلت جملة عن الله، فإن قيل: ما جملته؟ قيل: الاجتهاد فيه على الكتاب والسنة3.

ويقول: "والحق فيما أمر الله ورسوله باتباعه، أو دل الله ورسوله عليه نصاً أو استنباطاً بدلائل"4.

فهذه النصوص تدل على أن الشافعي يرى أن كل حادثة تقع لمسلم ففي كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دليل على حكمها إما نصاً أو استنباطاً من معقول النص بالقياس، وإذا كان استنباط الحكم فيما ليس فيه نص يعد اتباعاً للنص، وأخذاً للحكم من معقول النص ويقال فيه أنه قيل عن الله تعالى، فالاجتهاد والقياس إذن عند الشافعي بمعنى واحد، وهذا يقتضي القول بالاستدلال؛ لأن الاستدلال لا يعدو استنباط الحكم من معقول جملة نصوص شرعية شهدت لجنس المصلحة بالاعتبار، وإن لم يشهد لها نص معين، وعلى هذا فمتى توصل

1 انظر: الرسالة ص 48.

2 انظر: الرسالة ص 477.

3 الأم 7/298-299.

4 الأم 7/301.

ص: 307

المجتهد إلى حكم فهو متبع للنص، ولذا فهو يقول:"فليست تنزل بأحد من أهل دين الإسلام نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها".

ويقول: "وكل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو علي سبيل الحق في دلالة موجودة وعليه إذا كان فيه بعينه حكم أتبعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد "القياس".

ومما يدل على أن الشافعي يسوي بين القياس والاجتهاد وأن القياس عنده شامل للاستدلال ما نقله عنه الزنجاني ونصه: "ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة جائز"1.

فالاستدلال عند الشافعي داخل في القياس بالمعنى الأعم، يقول البوطي2:"أما الاستصلاح فهو من قبيل الاجتهاد على طلب الشيء والبحث عنه، وذلك لما قلنا من أنه داخل في مقاصد الشارع لاحق بالعهود من أحكامه وقواعده، وهو بذلك يعتبر لوناً من ألوان القياس عنده - يعني الشافعي - ولذا يقول: "الاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلب الشيء لا يكون بدلائل، والدلائل هي القياس"3.

فكلام البوطي صريح في أن الشافعي يرى أن الاستدلال نوع من أنواع القياس، وأنه اعتبره دليلاً لاستنباط الأحكام وتفريعها عليه، لأن الاجتهاد أعم من أن يكون قياس نظير على نظير، فهو كما يكون كذلك يكون بتطبيق مقاصد الشرع، واعتبار كل ما دلت عليه نصوص الشرع في الجملة، وهذا هو الاستدلال المرسل، ويؤيد ذلك ما ذهب إليه العز بن عبد السلام4 من اعتبار المرسل مما يدل

1 انظر: تخريج الفروع على الأصول ص 320.

2 هو: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، أستاذ معاصر، أخذ الدكتوراه في أصول الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر، وأحد مدرسي كلية الشريعة بجامعة دمشق.

3 انظر: ضوابط المصلحة ص 378، والنص في الرسالة ص 505.

4 هو: عبد العزيز بن عبد السلام، أبو القاسم الفقيه الأصولي المحدث الأديب، السلمي الدمشقي الشافعي الملقب بعز الدين المعروف بسلطان العلماء شيخ الإسلام والمسلمين، وإمام عصره وفريد زمانه ولد سنة 577هـ بدمشق ونشأ بها، وقرأ على ابن عساكر وسيف الدين الآمدي وغيرهما حتى صار علماً من الأعلام تولى خطابة الجامع الأموي بدمشق، ثم جامع عمرو بن العاص بمصر، ورياسة قضاء مصر غير القاهرة ثم عزل نفسه عن القضاء وبنى مدرسة الصالحية ودرس بها، حتى تخرج عنه أئمة، مؤلفاته كثيرة منها: قواعد الأحكام، والإلمام في أدلة الأحكام في أصول الفقه وغيرهما. توفي رحمه الله سنة 660هـ بالقاهرة ودفن بالقرافة الكبرى.

انظر: الفتح المبين 2/73.

ص: 308

على أنه سلك مسلك إمامه في اعتبار المرسل فهو يقول: "ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس، خاص فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك"1.

وظاهر من كلام العز أنه يرى اعتبار المناسب المرسل، حيث بنى اعتباره على حصول العلم، أو العرفان باعتبار المصلحة، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص، بمعنى أنه لم يشهد لها نص معين، وإن شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة في الجملة لأن مناسبتها إنما تكون بذلك.

ويدل على المصلحة بهذا الاعتبار تعد قياساً عند الشافعي، ما ذكره الغزالي ونصه: "كل مصلحة ملائمة، فيتصور إيرادها في قالب قياس بجمع متكلف يعتمد التسوية في قضية عامة، لا تتعرض لعين الحكم

بمعنى مناسب فهو الذي نريده بالاستدلال المرسل.

وكيف لا ينتظم هذا الشكل؟ وما من مسألة إلا ويمكن أن يقال: هذه مصلحة على وجه كذا، فينبغي أن تراعى قياساً على مسألة كذا، والمصلحة عبارة تشتمل مختلفة تندرج تحت المتباعدات، وتنتظم بالتحرير فيها صورة القياس، وهذا غير منكر جريانه في الاستدلال المرسل"2.

ثم إن تصريح العز بن عبد السلام باعتبار المصلحة وإن لم يشهد لها قياس خص يدل على أنه يرى أن القياس نوعان:

1 انظر: قواعد الأحكام 2/260.

2 انظر: شفاء الغليل ص 217-218.

ص: 309

أحدهما: خاص وهو الذي يجمع فيه بين النظرين بعلة خاصة.

والثاني: عام، وهو الذين يندرج تحت علة عامة بمعنى أنه يكون اعتبار المصلحة بشهادة الأصول والقواعد العامة، وإن لم يشهد لها نص معين.

فما ذهب إليه هنا من انقسام القياس إلى: خاص وعام، وهو عين ما قررت أن الشافعي ذهب إليه من أن القياس شمال للاستدلال المرسل، وعلى هذا يكون القياس خاصاً وعاماً يشملهما الاجتهاد.

يقول الشافعي: "الاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلب الشيء لا يكون إلا بدلائل، والدلائل هي القياس"1.

فهذا صريح في أن الاستدلال عنده من قبيل الاجتهاد في طلب الشيء والبحث عنه، وذلك لدخوله في مقاصد الشرع2.

الدليل الثاني: ما نقله الزركشي عن ابن برهان أنه قال: "إن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشريعة، أو لأصل جزئي، جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا، ونسبه ابن برهان في الوجيز للشافعي، وقال: إنه المختار"3.

الدليل الثالث: قال إمام الحرمين: "ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى اعتماد الاستدلال، وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل، ولكنه لا يستجيز النأي، والبعد والإفراط، إنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقاً، وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة"4.

الدليل الرابع: ما ذكره إمام الحرمين أيضاً فإنه قال: "وأما الشافعي فإنه

1 انظر: الرسالة ص 505، وذكره معناه في الأم 7/301.

2 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 42، وضوابط المصلحة ص 378.

3 انظر: البحر المحيط 3/240.

4 انظر: البرهان 2/1114.

ص: 310

قال: إنا نعلم قطعاً أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم على ما سنقرر في كتاب الفتوى - والذي يقع به الاستقلال هاهنا هو أن الأئمة السابقين لم يخلوا واقعة على كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى - عن حكم الله تعالى، ولو كان ذلك ممكناً لكانت تقع، وذلك مقطوع به أخذاً من مقتضى العادة، وعلى هذا علمنا بأنهم رضي الله عنهم استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق بانبساطها على الوقائع، متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح متشوف إلى ما سيقع ولا يخفى على المنصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى: ما يعرى عن حكم الله، وإلى ما لا يعرى عنه، فإذا تبين بنينا عليه المطلوب، وقلنا: لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها، لما اتسع باب الاجتهاد فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع في متسع الشريعة غرفة من بحر، ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهد أمثالها، لكان وقوفهم عن الحكم يزيد على جريانهم، وهذا إذا صادف تقريراً لم يبق بمنكري الاستدلال مضطرباً، ثم عضد الشافعي هذا بأن قال: من سبر أحوال الصحابة رضي الله عنهم وهم القدوة والأسوة في النظر، لم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل، أو استثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، فإذا ثبت اتساع الاجتهاد واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات، وانضم إليه عدم احتفال علماء الصحابة بتطلب الأصول - أرشد مجموع ذلك إلى القول بالاستدلال.

ثم قال: ومما يتمسك به الشافعي رضي الله عنه أن يقول: إذا استندت المعاني إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست الأصول وأحكامها حججاً، وإنما الحجج في المعنى، ثم المعنى لا يدل بنفسه حتى يثبت بطريق إثباته وأعيان المعاني ليست منصوصة وهي المتعلق، فقد خرجت المعاني عن ضبط النصوص وهي متعلق النظر والاجتهاد، ولا حجة في انتصابها لا تمسك الصحابة رضي الله عنهم

ص: 311

بأمثالها، وما كانوا يطلبون الأصول في وجوه الرأي، فإن كان الاقتداء بهم فالمعاني كافية، وإن كان التعلق بالأصول فهي غير دالة ومعانيها غير منصوصة.

ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقاً بأصل، ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة، فإن عدمها التفت إلى الأصول مشبهاً كدأبه إذ قال طهارتان فكيف يفترقان؟ 1.

ثم بين أن الشافعي يشترط في قبول المصلحة المرسلة أن تكون شبيهة بالمصالح المعتبرة، فيقول: "وقد ثبتت أصول معللة اتفق القائسون على عللها، فقال الشافعي: أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل الاستدلالات قريبة منها، وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلاً أصول، والاستدلال معتبر بها، أو اعتبار المعنى بالمعنى تقريباً أولى من اعتبار صورة بمعنى جامع، فإن متعلق الخصم من صورة الأصل معناها لا حكمها، فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع، ولم يرده أصل كان استدلالاً مقبولاً2.

ووجه الاستدلال هنا في كلام إمام الحرمين على اعتبار الشافعي المناسب المرسل أصلاً من أصول الاستنباط في بناء الأحكام عليه هو: أنه لا تخلو حادثة عن حكم الله تعالى مع كثرة الحوادث وتجددها قطعاً، ويستدل لذلك بأن الأئمة السابقين لم يخلوا واقعة عن حكم الله تعالى مع كثرة الوقائع إذ لو حصل ذلك لنقل إلينا، فلما لم ينقل إلينا علمنا نه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى مع استرسالهم في إعطاء كل واقعة حكماً يستلزم اعتمادهم على الاستدلال المرسل، لأن النصوص وما حمل عليها بالقياس محصور، والوقائع غير محصورة، والمحصور لا يفي بغير المحصور، لذلك لزم الاعتماد على المعاني الكلية، والقواعد العامة التي دلت نصوص الشرع على اعتبارها في الجملة، وإذا كانت النصوص وما حمل عليها لا تفي بإعطاء كل حادثة حكماً مع كثرة الحوادث وتجددها، لزم أن يعتمد المجتهد

1 انظر: البرهان 2/1116-1118.

2 انظر: البرهان 2/1121-1122.

ص: 312

في إعطاء كل حادثة حكماً على المعاني الكلية العامة، وهذا هو عين الاستدلال المرسل.

ولما كان اعتبار مثل هذا يحتاج إلى دليل فقد بين أن الشافعي عضد استدلاله هذا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتمدون فيما لم يرد فيه نص على المصالح التي شهدت النصوص لاعتبارها في الجملة، وإن لم يشهد لها نص معين فإنه قال: "لم يرو عن أحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل أو استثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، يعني بذلك والله أعلم أن محل ذلك فيما لم يرد فيه نص ميعن أو لم يكن فيه قياس إلحاق بنظير، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتمدون في الفتوى على الأصول التي شهدت لها النصوص بالاعتبار ولو كانت في الجملة وإن لم يذكروا هذه الأصول وتلك الفتوى لقوة معرفتهم بالأصول ومقاصدها فهم لم يكونوا محتاجين بعد إلى ذكر مثل ذلك.

ثم بين أن المراد من النصوص معانيها، والمعاني ليست منصوصة على سبيل التعيين، والمعاني إذا استندت إلى الأصول جاز التمسك بها، وعلى هذا فلا يمكن التمسك بالنصوص وحدها أو الأصول بمفردها، لأنها لا تفي في الدلالة على حكم كل واقعة بعينها، كما أن المعاني الجزئية لا تفي أيضاً بذلك.

وعلى هذا فلا بد من التمسك بالمعاني الكلية التي ترجع إلى أصول الشرع وقواعده العامة، وهذا هو الاستدلال المرسل.

ثم بين أن الشافعي إنما يعتبر المصلحة إذا كانت شبيهة بالمصالح المعتبرة وقريبة من معاني الأصول الثابتة، وإن لم يشهد لها أصل معين، لأنه يرى أن اعتبار المعنى بالمعنى تقريباً أولى من اعتبار صورة بصورة، بمعنى جامع، وهذا هو الاستدلال المرسل، لأنه اعتبار مصلحة لمشابهتها مصلحة أخرى تشترك معها في جنس عام دل الشرع على اعتباره في الجملة بشرط أن لا تعارض نصاً، فإن عارضها نص كان ذلك دليلاً على إلغائها1.

1 انظر تفاصيله في: نظيرة المصلحة في الفقه الإسلامي ص 355-357.

ص: 313

ولقد لخص الغزالي هذا الدليل وذكر اعتراضاً أورد القاضي على ما استدل به من استرسال الصحابة في إعطاء كل حادثة حكماً الخ، وأجاب عنه بما نصه: قال: "لعلهم كانوا يعتمدون معاني يعلمون أن أصول الشريعة تشهد لها، وإن كان لا يعينونها، كالفقيه يتمسك في شأن المثقل بقاعدة الزجر، فلا يحتاج إلى تعيين أصل".

ثم قال جواباً عنه: "والذي نختاره أن هذا في مظنة الاحتمال، والاحتكام عليهم بعد تمادي الزمان لا معنى له"1.

الدليل الخامس: "أن معاذ بن جبل2 رضي الله عنه قال: "اجتهد رأيي حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن عدمت النص" 3 فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعدام نص يشعر بإعوازه، وإعوازه المفهوم عنه واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في المصلحة، ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص معه"4.

فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر معاذاً على الاجتهاد وأثنى عليه، والاجتهاد الذي أقره عليه وأثنى عليه بسببه أعم من أن يكون قياس نظير، فهو كما يكون كذلك، يكون بتطبيق مقاصد الشريعة واعتبار كل ما دلت النصوص على اعتباره في الجملة، وهذا هو الاستدلال المرسل، ويدل لهذا قول الغزالي واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في المصلحة، ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص".

1 انظر: المنخول ص 357-358.

2 هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصار الخزرجي، أبو عبد الرحمن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد بدراً والعقبة، والمشاهد كلها، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، ومناقبه كثيرة جداً، قدم من اليمن في خلافة أبي بكر، وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة 17، أو 18هـ.

انظر: الاستيعاب بذيل الإصابة 10/104 فما بعدها، وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/19 فما بعدها.

3 لفظ الحديث كما في أبي داود 2/272: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذ إلى اليمن، قال له:"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم تجد بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ " قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله".

4 انظر: المنخول ص 358.

ص: 314

والظاهر أن معنى هذه العبارة "أن الشارع لم يقل لمعاذ إن اجتهدت فلاحظ النصوص ومعانيها ولا تخرج عن ذلك أن المعاني التي خرجت عن النصوص والأقيسة، فكأن وجه الاستدلال مكون من جهتين:

الأولى: التمسك في الأحكام بغير النصوص.

الثانية: عدم المطالبة بملاحظة النصوص عند الاجتهاد بل الاكتفاء بالرأي المفيد في فهم مقاصد الشريعة.

وهذه الزيادة، وهي قول ولم يكلفه الشارع الخ، لها مكانتها في تمام الاستدلال بالحديث، إذ القاضي ومن سلك مسلكه من منكري المصلحة لا ينكرون التعلق بما عد الكتاب والسنة مطلقاً، وإنما ينكرون بعض ذلك، وهو المصلحة، فلا بد في الرد عليهم من زيادة عدم مطالبته عليه الصلاة والسلام له بملاحظة الأدلة الخاصة عند الاجتهاد.

واسم الرأي: شامل لما يلتفت فيه إلى الأدلة الخاصة في استنباط الأحكام كالقياس الذي لا بد فيه من وجود أصل دل عليه النص، وإلى ما لا يلتفت فيه إلى ذلك بل إلى الأدلة العامة، ومقاصد الشريعة"1.

"وعلى هذا النحو يعالج قدماء الشافعية رعاية المصلحة فيؤكدون أن الشارع قد راعى المصالح جميعها، ثم يحتمون رعاية كل مصلحة جزئية لم يراعها الشارع بذاتها، هذا ما دامت مصلحة فعلاً لأن فهم نفس الشرع يوجب هذه الرعاية.

أما المتأخرون من فقهاء الشافعية فيدعون أن إمامهم لم يقل بالمصالح، وأن الجويني يوافق مالكاً في القول بها ناسين أن في مذهبهم فروعاً كثيرة لا مستند لها إلا رعاية المصلحة، وأنهم مهما يقولون في تعليل عدول الإمام عن مذهبه القديم إلى مذهب آخر جديد بعد أن قدم مصر - فليسوا مستطيعين أن ينكروا أن المصلحة - كما رأى صورها في مصر تختلف عما رآها عليه في بغداد، وأن هذا كان

1 انظر: رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 183-184.

ص: 315

أحد الأسباب التي عدل على ضوئها بعض آرائه وغير فيها"1.

وإليك بعض الفروع التي كان اعتماد الشافعية فيها على اعتبار المناسب المرسل.

1 -

ما نقله الربيع2 عن الإمام الشافعي أنه قال: "الرجوع عن الشهادات ضربان، فإذا شهد الشاهدان أو الشهود على رجل بشيء يتلف من بدنه أو ينال مثل قطع أو جلد أو قصاص في قتل أو جرح، وفعل ذلك به ثم رجعوا فقالوا: عمدنا أن ينال ذلك منه، فهي كالجناية عليه، ما كان فيه من ذلك قصاص خير بين أن يقتص، أو يأخذ العقل، وما لم يكن فيه قصاص أخذ فيه العقل وعزروا دون الحد"3.

2 -

وهو قريب من الأول قال: ولو شهدوا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً، فرق بينهما الحاكم ثم رجعوا ألزمهم الحاكم صداق مثلها، إن كان دخل بها، وإن لم يكن دخل بها غرمهم نصف صداق، مثلها لأنهم حرموها عليه، ولم يكن لها قيمة إلا مهر مثلها، ولا التفت إلى ما أعطاها قل أو كثر، إنما التفت إلى ما التفتوا عليه، فاجعل له قيمة4.

فالقول بالقصاص من الشهود بما نيل من المشهود عليه بسبب شهادتهم إذا اعترفوا بأن شهادتهم عليه كانت زوراً لقصد أن ينال منه، وتغريمهم ما فات عليه بسبب شاهدتهم لم يدل عليه نص معين، وإنما هو مصلحة اقتضتها عصمة الدم والمال، والأخذ بها ملائم لتصرفات الشرع، إذ لو لم يؤخذ بها لكان كل من أراد

1 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 42-43.

2 هو: الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم صاحب الإمام الشافعي، وراوية علمه، الإمام الحافظ الثقة الثبت في روايته، محدث الديار المصرية، ولد سنة 174هـ سمع من ابن وهب، وشعيب ابن الليث، وبشير بن بكر وغيرهم، وسمع منه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم، توفي سنة 270هـ.

انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 2/586، وطبقات الشافعية لابن السبكي 2/132-134.

3 انظر: الأم للشافعي 7/55.

4 انظر: الأم 7/55.

ص: 316

النيل من غريمه اتخذ الشهادة وسيلة إلى بلوغ مراده، لعلمه أنه لا يقتص منه ولا يغرم ما فوته على من شهد عليه.

3 -

قال عز الدين: "ولم عم الحرام الأرض، بحيث لا يوجد فيها حلال، جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات؛ لأنه لو وقف عليها، لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولا يقطع الناس عن الحرف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام"1.

ثم وضح وجه اعتبار ذلك وأنه لا يقف تحليل استعمال الحرام على الضرورات، لأنه لو وقف عليها، لأدى إلى الحرج بضعف المسلمين وأن اعتبار مثل هذا وإن لم يدل عليه نص معين، غير انه دلت عليه نصوص الشرع وقواعده العامة.

قال: "ومن تتبع مقاصد الشرع بجلي المصالح ودفع المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع، ولا نص، ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك"2.

والحاصل أنه اتضح لنا مما تقدم أن الشافعي رحمه الله يعتبر الاستدلال المرسل، ويأخذ به وإن كان يرى أنه من باب القياس العام أي من باب الأخذ بالمصلحة التي شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة، وإن لم يشهد لها نص معين، وكذلك علماء مذهبه وهذا هو بعينه الاستدلال المرسل، لأنه في الحقيقة قياس في الجملة فقد فيه أحد أركان القياس وهو الأصل.

فإن قيل: هل معنى هذا أن الشافعي يقول بالاستدلال المرسل مطلقاً؟

أجيب بأنه كما تقدم نقله عن إمام الحرمين أنه يقول بالاستدلال بشرط أن

1 انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/159-160.

2 انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/160.

ص: 317

تكون المصلحة قريبة، وشبيهة بالمصالح المعتبرة، وهذا هو بعينه المصلحة المرسلة، إذ هي المصلحة الداخلة تحت مقاصد الشرع الملائمة لها، وإن لم يشهد لها نص بالاعتبار ولا بالإلغاء، وإن كانت نسبة الملائمة فيها تختلف باختلاف جزئيات مسائلها قوة وضعفاً.

أما إذا لم تكن المصلحة ملائمة ولا داخلة تحت مقاصد الشرع، فهي حينئذ ملغاة، فلا تدخل تحت تعريف المصلحة المرسلة، والله تعالى أعلم.

ص: 318