الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: في رأي الغزالي في قبول المرسل
…
الفصل الثامن في رأي الغزالي وبيان وجه قبوله للمرسل إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية
وهو كما تقدم اختيار البيضاوي.
وقبل عرض ما استدل به الغزالي على ما ذهب إليه لا بد من بيان تحديد ما اعتبره من المرسل، وما لم يعتبره على ما ذكره هو بنفسه لا ما نقل عنه، وذلك لأن الغزالي رحمه الله اختلفت مناهجه في كتبه: المستصفى وشفاء الغليل والمنخول، وليس من همي ذكر تلك المناهج وبيان وجه الخلاف، والوفاق بينها، وإنما الذي يهمني إنما هو مذهبه في المرسل ودليل اعتباره لما اعتبره منه، فأقول: مهد الغزالي لاعتبار المرسل في كتابه المستصفى بذكر أقسام المصلحة، بالإضافة إلى شهادة الشرع لها، فذكر أقسامها الثلاثة: ما شهد الشرع باعتباره، وما شهد الشرع برده، وما سكتت عنه شواهد الشرع بالاعتبار والرد1.
ثم قال في الثالث: "وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيماً آخر وهو: أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى: ما هي في رتبة الضرورات وإلى ما هي في رتبة الحاجيات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد عن رتبة الحاجات2.
ثم بين أنه يعني "بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهي: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم، وما لهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة، فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول، فهو مفسدة ودفعها مصلحة3.
ثم قال: "فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا
1 انظر: المستصفى 1/284 فما بعدها.
2 انظر: المستصفى 1/286.
3 انظر: المستصفى 1/287.
يجوز الحكم بمجرده، إن لم يعتض بشهادة أصل، إلا أنه يجري مجرى الضرورات، فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشرع الشرع بالرأي، فهو كالاستحسان، فإن يعتضد بأصل، فذاك قياس، وأما الواقع في رتبة الضرورات، فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين"1.
ثم مثل للمصلحة الضرورية بالمثال الذي نقله عنه الأصوليون وهو "أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام، وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ويقتلون الأسارى أيضاً2.
ثم بين أن حفظ جميع المسلمين أو أكثرهم مصلحة ضرورية، وأنه أقرب إلى مقصود الشرع، فقال: "لأنا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإذا لم نقدر على الحسم، قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتاً إلى مصلحة علم بالضرورة، كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر3.
ثم قال: "فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أو صاف: أنها ضرورية قطعية كلية".
ثم أوضح محترزات المثال الذي مثل به عما لم يكن ضرورياً ولا قطعياً ولا كلياً، حيث قال: "وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فبنا غنية عن القلعة فنعدل عنها، إذا لم نقطع بظفرنا بها، لأنها ليست قطعية بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة، لو طرحوا واحداً منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليس كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور،
1 انظر: المستصفى 1/293 - 294.
2 المرجع السابق 1/294.
3 المرجع السابق 1/295.
وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق، إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحداً بالقرعة، لنجوا، فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية"1.
وعلى أساس ما ذكره هنا اختلفت آراء الأصوليين في مذهبه المرسل، فذهب كثير منهم إلى أن الغزالي لا يقبل من المرسل إلى ما كانت المصلحة فيه ضرورية قطعية كلية، أخذاً من كلامه هنا في المستصفى.
وممن ذهب إلى هذا العضد في شرحه لمختصر ابن الحاجب والكمال بن الهمام في التحرير وغيرهما واختاره البيضاوي في المنهاج2.
وذهب ابن السبكي إلى أن الغزالي إنما اشترط في المصلحة أن تكون ضرورية قطعية كلية لإخراجها عن محل النزاع، وبيان أنّ مثل هذه المصلحة يجب أن يكون محل اتفاق أما ما لم تكن ضرورية قطعية كلية، فهي التي فيها الخلاف بين العلماء.
قال: "وليس منه - أي المناسب المرسل - مصلحة ضرورية كلية قطعية، لأنها مما دل الدليل على اعتبارها قطعاً، واشترطها الغزالي للقطع بالقول به لا لأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع3.
وعلق البناني على ابن السبكي بقوله: "الذي يفيده صنيع المصنف، بل تكاد أن تصرح عبارته به أن الغزالي قال بالمرسل إن لم تكن المصلحة بالصفات المذكورة، إذ لو كان مذهب الغزالي أنه لا يقول بالمرسل إلا إذا كانت المصلحة بتلك الصفات، لكان سياق الحكاية عنه أن يقول: وقبله الغزالي إذا كانت المصلحة ضرورية الخ.
وأما قول الشارح فجعلها منه مع القطع بقبولها فمعناه أن كون المصلحة
1 المستصفى 1/296.
2 انظر: شرح المختصر مع حاشية السعد 2/242، والتحرير مع شرحه التقرير والتحبير 3/139، المنهاج مع شرحيه نهاية السول والمنهاج 3/135، ونهاية السول 3/136، والأحكام 4/140.
3 انظر: جمع الجوامع مع شرحه وحاشية البناني 2/284.
بتلك الصفات لا يخرجها عن الإرسال، وهذا لا يفهم منه عدم قوله بالمرسل، إذا لم تكن المصلحة بتلك الصفات قطعاً.
وليس معناه أنه جعل المرسل ما كانت فيه المصلحة بتلك الصفات حتى يفهم منه عدم القول به إذا لم تكن كذلك1.
فعلى هذا فإن الشروط الآنفة الذكر، التي اشترطها الغزالي في اعتبار المصلحة حجة لا تعني أنه لا يأخذ بالمرسل، إلا إذا كانت المصلحة متصفة بتلك الشروط، ومما يدل على هذا أن الغزالي رحمه الله لم يحصر اعتباره للمصلحة المرسلة في كتابه شفاء الغليل على المصلحة الضرورية فقط، بل صرح فيه بقبوله للمصلحة الحاجية أيضاً، فهو يقول: "وأما الواقع من المناسبات في رتبة الضرورات أو الحاجيات، كما فصلناها فالذي نراه فيها أنه لا يجوز الاستمساك بها، إن كان ملائماً لتصرفات الشرع، ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريباً لا يلائم القواعد2.
فهو هنا لم يعرج على اشتراط كون المصلحة ضرورية قطعية كلية، فالذي يقتضيه كلامه هنا أنه قائل بكل من المصلحة الضرورية والحاجية مطلقاً سواء كانتا عامتين أو غالبتين أو خاصتين، لكنه اشترط لذلك أن لا يكون الوصف غريباً وأن لا يصادم نصاً فيتعرض له بالتغيير.
وقد صرح بهذا بعد ذكره لأقسام المصلحة باعتبار كونها ضرورية وحاجية وتحسينية، فقال:"وتنقسم قسمة أخرى بالإضافة إلى مراتبها في الوضوح والخفاء: فمنها ما يتعلق بمصلحة عامة في حق الخلق كافة، ومنها ما يتعلق بمصلحة الأغلب، ومنها ما يتعلق بمصلحة شخص معين في واقعة نادرة، وتتفاوت هذه المراتب بتفاوت مصالحها في الظهور كل ذلك حجة بشرط أن لا يكون غريباً بعيداً وبشرط أن لا يصادم نصاً ولا يتعرض له بالتغيير"3.
وصرح بأن المصلحة التحسينية لا يجوز التمسك بها ما لم يشهد لها نص معين، يشهد لعين المصلحة حتى يكون العمل بها من باب القياس على الأصل
1 انظر: حاشية البناني على المحلى 2/285.
2 انظر: شفاء الغليل ص 209.
3 انظر: شفاء الغليل ص210 - 211.
الذي يشترك مع الفرع في العلة وينتقل منه إلى الفرع نوع الحكم، لا حكم عن جنسه حيث قال بعد أن ذكر انقسام المصلحة إلى: ضرورية، وحاجية، وتحسينية، فالواقع منها في هذه الرتبة الأخيرة لا يجوز الاستمساك بها ما لم يعتض بأصل معين، ورد من الشرع الحكم فيه على وفق المناسبة، فأما إذا لم يرد من الشرع حكم على وفقه، فاتباعه وضع للشرع بالرأي والاستحسان، وهو منصب الشارعين لا منصب المتصرفين في الشرع1.
وواضح من هذا أنه قائل بكل مصلحة ما لم تكن تحسينية، وأن الشرط المهم هو كون المصلحة ملائمة لتصرفات الشارع، وأن لا تصادم نصاً، أما الغريبة والمصادمة للنص، فلا يعمل بها.
ومما يدل على هذا أنه ذكر في كتابه المنخول "إن أصول الشريعة شاهدة له على الإجمال، وإن لم تتعين قطعاً"2.
ومعلوم أن شهادة الأصول على الإجمال هي غير شهادة الأصول على التعيين.
وهذه الشهادة هي المعبر عنها بالملاءمة، وذكره لها هنا غير مقيد بشرط كونها ضرورية قطعية كلية، أو حاجية، أو غالبة، أو جزئية، دليل على اعتباره للمرسل ما لم تكن المصلحة فيه تحسينية كما صرح به قبل، وعلى هذا لا يكون فيه فرق بين مذهبه، ومذهب غيره من الشافعية3.
فالحاصل أن الغزالي قائل بكل مصلحة مرسلة إذا كانت ضرورية أو حاجية، ونعني بالضرورية إذا كانت متعلقة بإحدى الضروريات الخمس كما في مسألة الترس، ولكنه يشترط في قبولها أن تكون ملائمة لجنس تصرفات الشارع حتى يمكن اعتبارها حجة، وأن لا تصادم نصاً شرعياً.
وهذا في الحقيقة ليس
1 انظر: المنخول ص 361.
2 انظر: رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 368.
3 انظر: رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 368.
شرطاً في كونها مرسلة، ولا شرطاً زائداً في قبول الاحتجاج بها؛ لأن المصلحة المناقضة للشرع مصلحة ملغاة، ولذا فهو يقول:"كل معنى مناسب للحكم مطرد في أحكام الشرع، لا يرده أصل مقطوع به مقدم عليه من كتاب أو سنة أو إجماع، فهو مقول به، وإن لم يشهد له أصل معين"1.
فالمصلحة عنده راجعة إلى مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، يدل لهذا قوله:
"فإن قيل: قد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح، ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة، فليلحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلاً خامساً بعد الكتاب والسنة، والإجماع والعقل.
قلنا: هذا من الأصول الموهومة، إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجاً عن هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياساً، بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، تسمى لذلك مصلحة مرسلة"2.
فالمصلحة على هذا عنده ليست دليلاً زائداً على الكتاب والسنة والإجماع، بل طريق من طرق الاستدلال التي تعتمد على النصوص.
وإذا أريد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع فهي حجة قطعية لا ينبغي
1 انظر: المنخول ص 364.
2 انظر: المستصفى 1/310 - 311.
الخلاف فيها بين العلماء، وإذا ثار خلاف بينهم بشأنها فهو خلاف يرجع إلى تطبيق الأصل لا إلى أصل صحة الاحتجاج به، والرجوع إليه1.
يقول الغزالي: "وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقاصد الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافاً فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى"2.
ولما كان مقتضى ما ذهب إليه من قبول المصلحة إذا كانت ضرورية أو حاجية، يوهم اتفاقه مع مالك رحمه الله حيث إنهما اتفقا في قبولها وفي كون كل منهما يشترط في قبولها أن تكون ملائمة لتصرفات الشرع بدخولها تحت قواعده العامة، وأن لا تصادم نصاً من كتاب أو سنة أو إجماع فقد أجاب ببيان الفرق بينه وبين مالك رحمهما الله بقوله:"الفرق بيننا أننا نبهنا لأصل عظيم لم يكترث مالك به، وهو أنا قدمنا إجماع الصحابة على قضية المصلحة، وكل مصلحة يعلم على القطع وقوعها في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وامتناعهم عن القضاء بموجبها، فهي متروكة، ونعلم على القطع أن الأعصار لا تنفك عن السرقة، وكان ذلك يكثر في زمن الصحابة، ولم يعزوا بالتهمة، ولم يقطعوا قط لساناً في المهذر مع كثرة المهذران ولا صادروا غنياً مع كثرة الأغنياء ومسيس الحاجة، وكل ما امتنعوا عنه نمتنع عنه، ومالك لم يتنبه لهذا الأصل"3.
فالفرق إذاً بينهما هو أن الغزالي يشترط في المصلحة المرسلة أن تكون حديثة بمعنى أنه لم يقع مثلها في زمن الصحابة رضي الله عنهم من غير أن يشرعوا حكماً على وفقها، وأما مالك فلم يشترط ذلك، وبهذا يتضح أن الغزالي قال بالمرسل ما لم تكن المصلحة فيه تحسينية، شأنه في ذلك شأن غيره من الأئمة، والله تعالى أعلم.
والآن ننتقل إلى عرض أدلته على اعتبار المرسل.
1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 425.
2 انظر: المستصفى 1/311.
3 انظر: المنخول ص 366.
أدلة اعتبار الغزالي للمرسل:
استدل الغزالي على اعتبار المرسل فيما إذا لم تكن المصلحة فيه تحسينية، وتوفرت فيه الشروط المتقدمة، وهي كونه ملائماً لتصرفات الشارع، وأن لا يعارض نصاً، وأن تكون المصلحة حديثة لم يتقدم مثلها في زمن الصحابة رضي الله عنهم بدليلين:
أحدهما: الدليل على إثبات القياس، وهو إجماع الصحابة على القول بالقياس، ومستندهم في الإجماع أمران:
الأول: علمهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم، ومقاصد الشرع في مراعاة المعاني والأسباب من حيث بناء الأحكام عليها، كما في حديث "أنها من الطوافين عليكم" 1، فقد رتب طهارة سؤر الهرة على سبب هو كثرة تطوافها علينا، ومخالطتها لنا.
الثاني: إذنه صلى الله عليه وسلم لهم في بناء الأحكام على المعاني التي يفهمونها من أدلة الشرع كما في إقراره لمعاذ رضي الله عنه على الاجتهاد حيث قال له: أجتهد رأيي" والاجتهاد هو استنباط الأحكام واستخراجها على ما فهموه من معاني النصوص2.
قال الغزالي: "فإن قال قائل: لم قلتم إن هذا الجنس حجة؟ وما وجه التمسك به؟ وما الدليل عليه؟ وقد اضطربت فيه مسالك العلماء، وقد قطعتم القول بقبوله؟ قلنا إنما دلنا عليه ما دلنا على قبول أصل القياس3، فإنا بينا أن حاصل ذلك كله راجع إلى القول بالرأي الأغلب في فهم مقاصد الشرع.
1 ابن ماجه 1/131، أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18.
2 انظر تفاصيل ذلك في رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 279.
3 استدل الغزالي على قبول القياس بأمرين:
أحدهما: أن مستند القول بالقياس إجماع الصحابة، والمنقول عنهم التعليل بالمعاني الملائمة، دون المناسبات الغريبة التي لا نظير لها في الشرع.
الثاني: أن نكشف عن مستند المستند فنقول: حكم الصحابة بالرأي والقياس لا من تلقاء أنفسهم، بل فهموا من مصادر الشرع وموارده ومداخله وأحكامه ومجاربه ومباعثه - أنه عليه السلام كان يتبع المعاني ويتبع الأحكام الأسباب المتقاضية لها من وجوه المصالح، فلم يعولوا على المعاني إلا لذلك، ثم فهموا أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه، كقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ:(بم تحكم؟)، وتقريره على قوله:(أجتهد رأيي) ا. هـ
من شفاء الغليل ص 190 - 191.
وإلى هذا يرجع ما يجوز التمسك به، وكل مثال نذكره ففيه دليل على قبوله إذا أظهرنا وجه الرأي فيه، ويشهد على جنس ذلك أمر كلي، وهو مثال منقول عن الصحابة واشتهر بين أئمتهم وتطابقوا عليه، وذلك ما روي عن أناس لما تتابعوا في شرب الخمر واستخفوا الحد المشرع فيه، جمع عمر رضي الله عنه الصحابة، واستشارهم واستطلع آراءهم، فضربوا فيه بسهام الرأي حتى قال علي رضي الله عنه: من شرب سكر، ومن سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى عليه حد المفتري1.
فأخذوا بقوله واستصوبوه واستمروا عليه، وهذه هي المصلحة المرسلة التي يجوز اتباع مثلها"2.
وقال في موضع آخر: "فإن الفتوى بالمصلحة اجتهاد، وقد قال معاذ رضي الله عنه: "أجتهد رأيي"3.
وقال: "وعلى الجملة المفهومة من الصحابة اتباع المعاني، والاقتصار في درك المعاني على الرأي الغالب دون اشتراط درك اليقين، فإنهم حكموا في مسائل مختلفة بمسالك متفاوتة الطرق، ومتباينة المناهج لا يجمع جميعها إلا الحكم بالرأي الأغلب والأرجح، وهو المراد بالاجتهاد الذي قرر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً عليه، فعلينا أن نتبين أن هذا يفيد غلبة الرأي"4.
فاتباع الصحابة للمعاني المأخوذة من نصوص الشرع يفيد حصول الظن الغالب بدرك الأحكام منها، وذلك هو معنى الاجتهاد الذي أقر النبي صلى الله عليه وسلم عليه
1 أبو داود 2/475، ولفظه:"عن علي أن الرجل إذا شرب افترى، فأرى أن تجعله كحد الفرية".
ولفظ مسلم: عن عبد الرحمن بن عوف "أرى أن تجعلها كأخف الحدود"، صحيح مسلم 5/125.
2 انظر: شفاء الغليل ص 211 - 212.
3 انظر: شفاء الغليل ص 221، والحديث أخرجه أبو داود 2/472.
4 انظر: شفاء الغليل ص 195.
معاذاً رضي الله عنه، والاجتهاد معنى عام شامل لاستنباط الأحكام بطريق القياس، كما يشمل استنباطه بطريق فهمه من مقاصد الشرع، والنظر في أدلته الإجمالية، وهذا هو المعبر عنه بالمصلحة المرسلة، وكلا الأمرين مفيد للحكم.
ولذا أجمع الصحابة على العمل بها اعتماداً على الإذن لهم في الاجتهاد الشامل بها، ويدل لهذا ما صرح به الغزالي ونصه:"إن معاذ بن جبل قال: "أجتهد رأيي" حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن عدمت النص"؟ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإعدام النص يشعر بإعوازه، وإعوازه المفهوم عنه، واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في المصلحة، ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص معه"1.
الثاني: قال الغزالي: "وكون هذه المعاني عرفت بلا دليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، وتفاريق الأمارات، تسمى لذلك مصلحة مرسلة.
وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافاً فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى"2.
وما ذهب إليه هنا من أن اعتبار المصلحة المرسلة عرف لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة، وأن ذلك يفيد القطع، هو ما ذكره الشاطبي أيضاً على ما سنقرره قريباً، ولعل الشاطبي اتبع الغزالي في حيث قال: "إنما الأدلة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد، حتى أفادت فيه القطع، فإن للإجماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه.
فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم، فهو الدليل المطلوب، وشبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه،
1 انظر: المنخول ص 358، والحديث أخرجه أبو داود في سننه 2/272.
2 انظر: المستصفى 1/311.
وجود حاتم1، المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما2.
ثم مثل لذلك بقوله: "فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد، ولو استندت إلى شيء معين، لوجب عادة تعيينه، وأن يرجع أهل الإجماع إليه، وليس كذلك، لأن محلّ واحد منها بانفراده ظني، ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي وغيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد، وإن كان الظن يختلف باختلاف أحوال الناقلين، وأحوال دلالات المنقولات، وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه، وكثرة البحث وقلته إلى غير ذلك"3.
ثم استدل على صحة هذا بالتمثيل لها بقوله: "فالنفس نهى عن قتلها، وجعل قتلها موجباً للقصاص متوعداً عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك، كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجب الزكاة والمواساة، والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفيه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف إلى هذا"4.
1 هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن حزم الطائي الفارسي الجواد المشهور، أحد شعراء الجاهلية، يكنى أبا عدي، وأبا سفانة، - بقتح السين وتشديد الفاء - ابنه عدي أدرك الإسلام وأسلم، وأتي بابنته سفانة مسبية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفت أباها بأنه كان يفك العاني، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، رجاء أن يخلي سبيلها، فخلى سبيلها.
قال الزركلي مات سنة 46، ورمز بحرف (ق) .
انظر: الأعلام 2/151، وخزانة الأدب للبغدادي 1/494.
2 انظر: الموافقات 1/36.
3 انظر: الموافقات 1/38.
4 انظر: الموافقات 1/39.
ثم أوضح أن هذا يدل على اعتبار المصلحة المرسلة، مما يدل أنه تبع فيه الغزالي حيث قال:"وينبني على هذه المقدمة أن كل أصل شرعي لم يشهد له أصل معين، وكان ملائماً لتصرفات الشارع، ومأخوذاً معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه إذا كان الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها، كما تقدم، لأن ذلك كالمتعذر، ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين، فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين، وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما أنه قد يكون مرجوحاً في بعض المسائل، حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح"1.
وواضح من كلام الشاطبي هنا أنه يسير على نهج الغزالي، إذ أن ما ذكره هنا لا يعدو أن يكون كالشرح لما ذكره الغزالي، ولا يهمني هنا بيان وجه الخلاف والوفاق بينهما في الطريقة التي سلكاها في هذا الموضوع، وإنما الذي يهمني هو أنهما اتفقا على أن اعتبار المصلحة المرسلة ثابت بالاستقراء من أدلة الشرع في الجملة بما يشبه التواتر المعنوي، حيث شهدت لها أصول الشريعة وقواعدها العامة، وإن لم يشهد لاعتبارها نص معين.
وعلى هذا يكون الغزالي قائلاً بالمرسل ما لم تكن المصلحة فيه تحسينية، شأنه في ذلك شأن غيره من الأئمة إلا ما تقدم أنه يشترط في المصلحة أن تكون حديثة بمعنى أنه لم يقع مثلها في زمن الصحابة رضي الله عنهم
…
الخ.
ولذا فهو يقول: "كل معنى مناسب للحكم مطرد في أحكام الشرع لا يرده أصل مقطوع به، مقدم عليه من كتاب أو سنة أو إجماع، فهو مقبول وإن لم يشهد له أصل معين"2، والله تعالى أعلم.
1 انظر: الموافقات 1/39 - 40.
2 انظر: المنخول ص 364.