الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن هذه الصورة مشكلة، لأن ابن الحاجب أورد هذا المثال لأحد أقسام الملائم على مذهبه، وهو ما اعتبر عين الوصف في عين الحكم بالترتيب، واعتبر جنسه في جنسه بالنص، فإن أراد الإمام والآمدي وأتباعهما باعتبار الجنس في الجنس في هذه الصورة الاعتبار بالترتيب لا بالنص يكون الملائم عندهم مخالفاً للملائم عند ابن الحاجب من كل وجه، ويكون الاتفاق في التمثيل بالمثال السابق ناشئاًَ عن اختلاف النظر فيه، وعلى ذلك يرد على حكايتهم الاتفاق على قبوله بين القائلين ما سيأتي عن أبي زيد وأتباعه من أنه لا يقبل الوصف المناسب من غير اعتبار الشارع له بالنص أو الإجماع، ولو اعتبر جنسه في جنس الحكم.
وإن أرادوا باعتبار الجنس في الجنس في هذه الصورة الاعتبار بالنص يكون الملائم عندهم أخص من الملائم عند ابن الحاجب، ويرد عليهم أنه لا وجه للاقتصار على هذه الصورة وترك الصورتين الباقيتين مما ذكره ابن الحاجب.
فإن أجابوا بأن هاتين الصورتين لم تقعا في الشرع وردت عليهم الأمثلة التي ذكرها ابن الحاجب وغيره، اللهم إلا أن يقال: أنها ترجع إلى المؤثر كما قاله الكمال والله أعلم".1
1 انظر: نبراس العقول 1/314-316.
المبحث السادس: اشتراط الحنفية في المناسب فوق المناسبة كونه مؤثرا
…
المبحث السادس
وأما الحنفية فإنهم يشترطون في الوصف المناسب فوق مناسبته للحكم أن يكون مؤثراً فيه، ويعرفون التأثير بما يدخل الملائم بأنواعه الثلاثة، وملائم المرسل في المناسب المرسل عندهم كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى من تعريفهم المناسب المؤثر، والمصلحة المرسلة.
وحيث إن قدماء الحنفية لم يقسموا المناسب إلى: مؤثر وملائم، وغريب، ومرسل، مثل ما فعله متأخروهم، وإن كان ذلك التقسيم يؤخذ من ضمن كلامهم في المناسب والمؤثر، فقد رأيت أن أنقل كلامهم ليتضح من ذلك وجه
الاتفاق بين الحنفية أنفسهم، ثم وجه الاتفاق والاختلاف بينهم وبين الشافعية بادئاً بكلام شمس الأئمة السرخسي1.
قال رحمه الله: "دليل صحة العلة أن يكون الوصف صالحاً للحكم، ثم يكون معدلاً بمنزلة الشاهد فإنه لا بد أن يكون صالحاً للشهادة لوجود ما به يعتبر أهلاً للشهادة فيه، ثم يكون معدلاً بظهور عدالته بالتعديل، ثم يأتي بلفظ الشهادة بين سائر الألفاظ، حتى تصير شهادته موجبة العمل بها، ثم لا خلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله إن صفة الصلاحية للعلة بالملاءمة، ومعناها أن تكون موافقة العلل المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة غير نائية عن طريقهم في التعليل، لأن الكلام في العلة الشرعية، والمقصود إثبات حكم الشرع بها، فلا تكون صالحة إلا أن تكون موافقة لما نقل عن الذين ببيانهم عرف أحكام الشرع، ثم لا خلاف وراء ذلك في العدالة.
فقال علماؤنا: "عدالة العلة تعرف بأثرها، ومتى كانت مؤثرة في الحكم المعلل فهي علة عادلة، وإن كان يجوز العمل بها قبل التأثير، ولكن إنما يجب العمل بها إذا علم تأثيرها، ولا يجوز العمل بها عند عدم الصلاحية بالملاءمة، بمنزلة الشاهد فإن الشاهد قبل تثبت الصلاحية للشهادة فيه لا يجوز العمل بشهادته، وبعد ظهور الصلاحية قبل العلم بعدالته كالمستور لا يجب العمل بشهادته، ولكن يجوز العمل، حتى إذا قضى القاضي بشهادة المستور قبل أن تظهر عدالته يكون حكمه نافذاً"2.
1 هو: أبو بكر بن محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، المعروف بشمس الأئمة، الإمام الفقيه، الأصولي النظار، أحد فحول أئمة الحنفية الكبار أصحاب الفنون، له مؤلفات منها في أصول الفقه أصول السرخسي، وفي الفقه المبسوط، اختلف في وفاته فقيل سنة 490، وقيل 483هـ.
انظر: مقدمة أصول السرخسي لأبي الوفاء الأفغاني 1/4 فما بعدها، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/264.
2 انظر: أصول السرخسي 2/177.
وأما فخر الإسلام البزدوي1، فإنه قال رحمه الله: "وقال أئمة الفقه من السلف والخلف: إنه لا يصير حجة إلا بمعنى يعقل، وهذا المعنى هو صلاح الوصف ثم عدالته، وذلك على مثال الشاهد لا بد من صلاحه بما يصير به أهلاً للشهادة، ثم عدالته ليصح منه أداء الشهادة، ثم لا يصح الأداء إلا بلفظ خاص.
واتفقوا في صلاحه أنه إنما يراد به ملاءمته، وذلك أن يكون على موافقة ما جاء عن السلف من العلل المنقولة، لأنه أمر شرعي فتعرف منه، ولا يصح كما لا يصح العمل به قبل الملاءمة لا يصح العمل بشهادة قبل الأهلية لكن لا يجب العمل به إلا بعد العدالة، والعدالة عندنا هي الأثر، وإنما نعني بالأثر ما جعل له أثر في الشرع"2.
وواضح من كلامهما أنهما إنما اشتغلا ببيان وجه اعتبار المناسبة واشتراط التأثير لقبول الوصف المناسب، غير أنه سيتضح من تعريف التأثير عند الحنفية شمول الوصف المؤثر الملائم كما أسلفت.
ويدل لهذا تمثيلهم بما مثل به غيرهما من الأحناف الذين قسموا المناسب إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل.
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في سؤر الهرة: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات"3، تعليل لطهارة سؤرها بما ظهر أثره، وهو الضرورة، فإنها من أسباب التخفيف، وسقوط الحرج، قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 4.
1 هو: علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى، المكنى بأبي الحسين الحنفي الأصولي، اشتهر بالتفقه في الفقه الحنفي، والأصول، له مؤلفات منها كنز الوصول إلى معرفة علم الأصول الذي شرحه عبد العزيز البخاري بكتابه كشف الأسرار، ولد سنة 400هـ وتوفي سنة 482هـ.
انظر: الفتح المبين 1/263، الأعلام للزركلي 5/148.
2 انظر: كشف الأسرار 3/351 فما بعدها.
3 أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18 وابن ماجه 1/131.
4 سورة المائدة آية: 3.
والطواف من أسباب الضرورة، فصح التعليل به لما يتصل به من الضرورة1.
فإن صاحب التحرير وشارحه مثّلا بهذا المثال للمؤثر كما سيأتي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في القبلة للصائم:"أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ "2.
فهذا تعليل بمعنى مؤثر، لأن الفطر نقيض الصوم، والصوف كف عن شهوة البطن والفرج، وليس في القبلة قضاء الشهوة لا صورة ولا معنى كالمضمضة3.
وهذا أيضاً مثل به صاحب التحرير وشارحه للنوع الثاني من الملائم إلى غير ذلك مما سيأتي إن شاء الله.
وأما صاحب التحرير وشارحه ابن أمير الحاج فقد ذكرا أن طرق المناسب المعتبرة أربعة أقسام: مؤثر وملائم وغريب ومرسل، وهي كما يأتي:
1 -
المؤثر: وصف اعتبرت عينه في عين الحكم بنص أو إجماع، ومثاله للحنفية سقوط نجاسة سؤر الهرة لحديث "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 4، فيقاس عليه علية سؤر الفأرة بعين الطواف.
2 -
الملائم: وهو وصف ثبت اعتبار عينه مع عين الحكم في الأصل بمجرد ترتيب الحكم على وفقه مع ثبوت اعتبار عين الوصف المذكور في جنس الحكم بنص أو إجماع، أو مع ثبوت اعتبار جنس الوصف المذكور في عين الحكم أو مع ثبوت اعتبار جنس الوصف المذكور في جنس الحكم، وسمي ملائماً لكونه موافقاً لما اعتبره الشرع.
1 انظر: كشف الأسرار 3/359.
2 أخرجه أبو داود 2/556 ط الأولى الحلبي.
3 انظر: كشف الأسرار 3/359، أصول السرخسي 2/187.
4 أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، وابن ماجه 1/131.
فمثال ما اعتبر عينه في عين الحكم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه مع ثبوت اعتبار عينه في جنس الحكم كون الصغر ملائماً لترتيب ثبوت ولاية الأب على ابنته الصغيرة في إنكاحها قياساً على ولايته على مالها، فإن عين الصغر معتبرة بالإجماع في جنس الولاية، لأن الإجماع على اعتبار الصغر في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية بخلاف اعتباره في غير ولاية النكاح، فإنه إنما ثبت بمجرد ترتيب الحكم على وفقه حيث ثبتت الولاية معه في الجملة بأن وقع الاختلاف في أنه للصغر أو للبكارة، أو لهما جميعاً.
ولما كان في التمثيل بهذا المثال للملائم نظر؛ لأنه لم يعتبر فيه أولاً عين الوصف في عين الحكم، بل جعل ابتداء عين الوصف مؤثراً في جنس الحكم فسقط منه الأصل، فلا يتم مثالاً للملائم بل هو مثال للمؤثر.
"لأن ظاهر قولهم في التمثيل ثبتت ولاية النكاح على الصغيرة، كما ثبتت عليها ولاية المال بجامع الصغر، أن الصغر بالنسبة لولاية المال مقيس عليه، والصغيرة بالنسبة لولاية النكاح هي المقيس والعلة الصغر، وقد اعتبرها الشرع في جنس الولاية بالإجماع، لإجماعهم عليها بالنسبة إلى الأصل، فإنهم أجمعوا على أن علة الولاية في المال هي الصغر وحينئذ تكون العلة في الأصل المقيس عليه مجمعاً عليها وهذا هو المناسب المؤثر"1.
قال صاحب التحرير: وصواب المثال للحنفية قياس الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في تسوية ولاية الأب في إنكاح الثيب الصغيرة قياساً على ثبوت ولاية إنكاحه البكر الصغيرة بجامع الصغر، "لأن عين الصغر اعتبرت في عين الحكم بالترتيب في البكر الصغيرة، فإن الولاية ثبتت معه في المحل"2، واعتبر عين الصغر في جنس الولاية، باعتبارها في ولاية المال بالإجماع، لأن ثبوت اعتبار الوصف علة بنص أو إجماع في الجنس إنما هو باعتبار إظاهره في محل آخر، لا في
1 انظر: نبراس العقول 1/304.
2 نفس المصدر السابق 1/304.
عين حكم الأصل، لأن اعتباره في عين حكم الأصل هو المؤثر، لا الملائم.
وحينئذ فلا تعدد بينهما مع أن الواقع خلافه كما يشهد به التقسيم فإنهما قسمان، والقسيم مخالف للقسيم، وهذا ظاهر فيما ذكرنا أنه الصواب في المثال للملائم، فإن فيه ظهرت ثلاث محال: الأصل وهو نكاح البكر، والفرع وهو نكاح الثيب، ومحل الجنس وهو المال.
وأجيب عما استشكله بأنه "إنما يرد إذا كان تصور المثال كما سبق تقريره، وليس كذلك، بل محط التمثيل الصغر بالنسبة لولاية النكاح".
وتوضيحه أن الشارع أثبت بالنص أن البكر الصغيرة ثابت عليها ولاية النكاح من غير أن ينص على علة هذا الحكم، فالصغر ثبتت معه ولاية النكاح من غير نص ولا إجماع على عليته له، لكن حاصل الإجماع على اعتباره في ولاية المال.
وحينئذ يقال: إن تعليل ولاية النكاح على البكر الصغيرة بالصغر تعليل بوصف ملائم؛ لأن الحكم ثبت معه في المحل ومع ذلك قد اعتبر عين هذا الوصف في جنس هذا الحكم بالإجماع، للإجماع على اعتباره في ولاية المال.
فليس محط التمثيل تعليل ولاية المال بالصغر، لأنه من قبيل المؤثر، بل هو تعليل ولاية النكاح المنصوص عليها بالنسبة للبكر بالصغر، وقد تنبه لهذه الدقائق محقق المحلى، فإنه قال: مثال الأول تعليل ولاية النكاح بالصغر حيث ثبتت معه، وإن اختلفت في أنها له أو للبكارة، أو لهما، وقد اعتبر في جنس الولاية حيث اعتبر في ولاية المال بالإجماع"1.
ومثال الثاني: وهو اعتبار نوع الوصف في نوع الحكم مع اعتبار جنس الوصف في نوع الحكم قياس الحضر حالة المطر على السفر في جواز الجمع بين المكتوبتين بعذر المطر، وجنس الوصف الحرج مؤثر في عين رخصة الجمع بالنص على اعتبار الجنس الذي هو الحرج في عين الجمع في السفر، إذ الحرج جنس
1 انظر: نبراس العقول 1/304.
يشمل الحاصل بالسفر خوف الضلال والانقطاع، والتأذي بالمطر.
فإن قيل: التعليل بمطلق الحرج يدخل صاحب الصنعة الشاقة مع أنه غير داخل قطعاً، أجيب بأن المراد حرج السفر، لا مطلق الحرج.
ومثال الثالث: وهو اعتبار العين في العين مع اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم اعتبار الطواف في طهارة سؤر الهرة، فإن جنس هذا الوصف الضرورة المقتضية للحرج قد اعتبر في جنس الحكم الذي هو التخفيف.
واعترض عليه بأن هذا إنما يتم على فرض عدم النص على اعتبار عين الوصف الذي هو الطواف، أما مع اعتبار النص عليه فهو من المؤثر.
3 -
والغريب: وهو الوصف الذي لم يثبت فيه سوى اعتبار الشارع عين الوصف في عين الحكم بترتيب الحكم عليه فقط، كالفعل المحرم لغرض فاسد كحرمان القاتل إرث من قتله معاملة له بنقيض قصده، ولا نص ولا إجماع على اعتبار عينه في جنس الحكم، ولا جنسه في عين الحكم، أو جنسه، ليلحق به كل من فعل فعلاً محرماً لغرض فاسد كالفار من توريث زوجته بطلاقها طلاقاً بائناً في مرض موته إذا مات وهي في العدة، فيعامل بنقيض قصده كما هناك.
وأورد عليه أنه يمكن اعتبار القتل في الوصف، والحرمان في الحكم فيكون مناسباً من المؤثر، لأنه ثبت اعتبار عين الوصف في عين الحكم بحديث "لا يرث القاتل شيئاًَ"1.
4 -
وأما المرسل: فقسماه إلى ما علم إلغاؤه، وغريب وملائم على ما يأتي في مبحث المرسل2.
هذه هي أقسام الوصف المناسب من حيث اعتبار الشارع له، وعدم اعتباره له التي ذكرها صاحب التحرير وشارحه، وهي كما ترى متفقة مع ما ذكره الشافعية
1 أخرجه أبو داود 2/496.
2 انظر تفاصيله في:التقرير والتحبير 3/147-150، مع اختصار وتصرف.
من حيث التقسيم، غير أن الحنفية يشترطون لاعتبار الوصف المناسب أن يكون مؤثراً، فما هو التأثير عندهم؟
المؤثر عند الحنفية:
التأثير عند الحنفية هو أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه1.
أما عند الشافعية فهو "أخص من ذلك، وهو أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار عين الوصف في عين ذلك الحكم"2.
وقد أوضح صاحب مسلم الثبوت وشارحه المؤثر عند الحنفية بما نصه: "وأما الحنفية فالمؤثر عندهم هو الوصف المناسب الملائم للحكم عند العقول الذي ظهر تأثيره شرعاً، بأن يكون لجنسه تأثير في عين الحكم، كإسقاط الصلاة الكثيرة بالإغماء فإن لجنسه الذي هو العجز عن الأداء من حرج تأثيراً في سقوطها كما في الحائض، أو بأن يكون تأثير في جنسه كإسقاطها عن الحائض معللاً بالمشقة، وقد أُسقط مشقة السفر الركعتين، فقد أثر جنس المشقة في جنس السقوط، أو بأن يكون لعينه تأثير في جنس الحكم كالأخوة لأب وأم في قياس التقدم في ولاية النكاح، وقد تقدم هذا الأخ في الميراث، فقد أثر في مطلق الولاية، أو يكون لعينه تأثير في عين الحكم، وذلك كثير في الأقيسة الجزئية المذكورة في الفقه.
وأورد عليه أنه لا بد من التأثير من النص والإجماع، إذ لا إخالة عندهم، وحينئذ لا يكون المؤثر قسيماً للعلة التي ثبتت بالنص أو لإجماع كما هو المشهور، فإنها قسمت في المشهور إلى: منصوصة ومؤثرة إلا بالاعتبار، فإنها باعتبار أنها ثبتت بالنص منصوصة، وباعتبار أنها مناسبة له مع الاعتبار المذكور مؤثرة3.
فظهر مما تقدم اتفاق الحنفية على اشتراط التأثير في وجوب العمل بالوصف
1 انظر: التوضيح شرح التنقيح 2/71.
2 انظر: التلويح 2/72.
3 انظر: فواتح الرحموت 2/267.
المناسب، وعلى أن التأثير عندهم شامل للمؤثر والملائم لدخول الوصف الملائم في المؤثر عندهم لما تقدم من أن المؤثر عندهم هو الوصف المناسب الملائم للحكم عند العقول الذي ظهر تأثيره شرعاً، بأن يكون لجنس الوصف تأثير في عين الحكم أو في جنسه، أو تأثير لعين الوصف في جنس الحكم أو عينه، ولأنه لا بد في اعتبار التأثير من ثبوته بالنص أو الإجماع، فإنه لا خلاف بين قدمائهم الذين لم يقسموا الوصف المناسب إلى: مؤثر وملائم، وغريب ومرسل، وبين متأخريهم الذين قسموه إلى تلك الأقسام، بدليل أن صاحب التوضيح مثل لاعتبار جنس الوصف في نوع الحكم بالمضمضة للصائم لما جاء في حديث عمر رضي الله عنه "أرأيت لو تمضمضت" 1؛ لأن للجنس وهو عدم دخول الشيء اعتباراً في عدم إفساد الصوم.
ولاعتبار نوع الوصف في جنس الحكم بقياس الولاية على الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة بالصغر، لأن لنوعه اعتبار في جنس الولاية لثبوتها في المال، ولاعتبار الجنس في الجنس بطهارة سؤر الهرة بالطواف، فإن لجنس الضرورة اعتباراً في جنس التخفيف2.
فإن فخر الإسلام مثل بهذه الأمثلة للوصف المناسب المؤثر، وهذا يدل على اتفاقهم كما ترى3.
ولذا قال صاحب التحرير وشارحه: "اعلم أن الحنفية القائلون التعليل بكل من الأقسام الأربعة: العين في العين، وفي الجنس، والجنس في الجنس، وفي العين مقبول، فإن كان التعليل بما عينه أو جنسه مؤثراً في عين الحكم فقياس اتفاقاً، للزوم أصل القياس في كل من هذين، ويقال: لما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم أنه في معنى الأصل، وهو المقطوع به الذي ربما يقر منكرو القياس
1 سنن أبي داود 1/556، نيل الأوطار 4/178.
2 انظر: التوضيح 2/72-73.
3 انظر: كشف الأسرار 3/359 فما بعدها.
إذ لا فرق إلا بتعدد المحل، وإلا فإن كان عينه في جنس الحكم، أو جنسه في جنسه، فقد يكون قياساً، بأن يكون ما عينه في جنس الحكم هو من قبيل ما يكون العين في العين أيضاً فيستدعي أصلاً مقيساً عليه، فيكون مركباً، وكذا ما جنسه في جنسه قد يكون مع ذلك في عينه، فيكون له أصل، فيكون قياساً، وقد لا، فيكون من أقسام المرسل التي يجب قبولها للحنفية إذ كل من أقسام الأربعة من أقسام المؤثر حتى دخل فيه"1.
وأما وجه الاتفاق والاختلاف بين الحنفية والشافعية فإنه يؤخذ مما تقدم اتفاقهم على تقسيم المناسب إلى مؤثر، وملائم وغريب، ومرسل.
وعلى قبول المؤثر والملائم لكونهما حجة لما تقدم من تصريح الحنفية بقبول المؤثر، ومن بيان كونه شاملاً للملائم2.
وتقدم تصريح السرخسي باتفاق الحنفية والشافعية على أن صفة الصلاحية للعلة هي الملاءمة، وعلى اشتراط صلاح الوصف المعلل به، وذلك بأن يكون موافقاً للعل المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن السلف لكونهم كانوا يعللون الأحكام بالأوصاف المناسبة لها، فما لم يكن نائياً عنها قبلوه، وما كان نائياً عنها لم يقبلوه، لأن الكلام في العلل الشرعية والمقصود إثبات أحكام الشرع بها، فلا بد أن تكون موافقة لما نقل عمن عرفت أحكام الشرع ببيانهم3.
هذا ما اتفقوا عليه في الوصف المعلل به، واختلفوا فيما تكون به عدالة الوصف المعلل به:
فقال الحنفية: عدالة الوصف الأثر، والمراد بالأثر ما جعل له أثر في الشرع، فمتى كانت العلة مؤثرة في الحكم المعلل فهي علة عادلة، وإن كان يجوز العمل بها قبل ظهور التأثير ولكن إنما يجب العمل بهذا إذا علم تأثيرها كالشهادة، فإن
1 انظر: التقرير والتحبير 3/153-154.
2 انظر: المنار وشرحه ص 789 فما بعدها، والتقرير والتحبير 3/147-154.
3 انظر: أصول السرخسي 2/177.
الشاهد قبل أن ثبت صلاحيته للشهادة، لا يجوز العمل بالشهادة، وبعد ظهور صلاحيته قبل العلم بعدالته كالمستور لا يجب العمل بشهادته، وإن كان يجوز العمل بها، فلو قضى القاضي بشهادة المستور قبل العلم بعدالته نفذ حكمه1.
ونقلوا عن الشافعية أنهم فرقتان:
فرقة توجب العمل بالوصف الملائم بشرط شهادة الأصول، بأن يكون للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه نوع الوصف أو جنسه، كما يقال: لا تجب الزكاة في ذكور الخيل، فلا تجب في إناثها بشهادة الأصول على التسوية بين الذكورة والإناث، وأدنى ما يكفي في ذلك أصلان؛ لأن المناسب بمنزلة الشاهد، والعرض على الأصول تزكية بمنزلة العرض على المزكين، وأما العرض على جميع الأصول كما ذهب إليه البعض، فلا يخفى أنه متعذر أو متعسر.
وفرقة توجب العمل بالملائم بمجرد كونه مخيلاً أي موقعاً في القلب خيال العلية، والصحة، والأوصاف التي تعرف عليتها بمجرد الإخالة تسمى بالمصالح المرسلة2.
فعلى ما نقلوه عن الشافعية تكون الفرقة التي تشترط شهادة الأصول متفقة معهم، ويكون الخلاف منحصراً بين الحنفية ومن يوافقهم، وبين الفرقة التي تكتفي بالإخالة.
غير أنه يرد على ما نقلوه عن الشافعية أن المذكور في أصول الشافعية أن الوصف المناسب هو المخيل، ومعناه تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنص ولا غيره، ثم إنهم قسموه إلى: مؤثر وملائم وغريب، ومرسل الخ ما تقدم نقله عنهم3.
1 انظر: أصول السرخسي 2/177، كشف الأسرار 3/352.
2 انظر: التوضيح 2/71، والتلويح 2/71.
3 انظر: المختصر مع شرحه 2/242، والتلويح 2/71.
فالمؤثر والملائم لا خلاف في قبولهما عند الجميع، لما تقدم نقله عنهم من كونه مقبولاً عند الجميع، ولما صرح به صاحب التحرير وشارحه من أن المؤثر عند الحنفية أعم من المؤثر عند الشافعية، وهو ما ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم، ومن الملائم الأول الذي هو من أقسام المناسب بأقسامه الثلاثة.
وهو ما ثبت اعتبار عين الوصف في عين الحكم بمجرد ثبوته مع الحكم في المحل، مع اعتبار عين الوصف في جنس الحكم بنص أو إجماع أو جنس الوصف في عين الحكم أو في جنسه، وأقسام ملائم المرسل الثلاثة وهي ما لم يثبت اعتبار عين الوصف في عين الحكم في المحل، لكن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عينه أو جنسه.
فشمل المؤثر عند الحنفية - وهو الذي ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم أو جنسه، أو جنسه في عين الحكم أو جنسه - سبعة أقسام في عرف الشافعية1، وقالا: إنه يجب على الحنفية قبول ملائم المرسل2.
فاتضح بذلك أن المؤثر شامل للملائم، وأنهما مقبولان عند الجميع، ولذا صرح الغزالي بأن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس، ونقل عن أبي زيد الدبوسي أنه قصر القياس عليه، وقال لا يقبل إلا المؤثر، لكنه أورد للمؤثر أمثلة عرف بها أنه من قبيل الملائم لكنه سماه أيضاً مؤثراً3.
وأجاب عما ذكره أبو زيد "من أن الإخالة لا يمكن الدلالة عليها مع الخصم، بأن الظن به أنه عنى بذلك ما يرجع إلى شهادة القلب، ووقوع في النفس يجري مجرى الإلهام الذي يضيق نطاق العبارة عنه.
قال: "وما ذكرناه من المناسب خارج عن الفن الذي ذكره، وهو الذين نعنيه بالمخيل أيضاً إذا أطلقناه".
1 انظر: التقرير والتحبير 3/159، مع تصرف في العبارة.
2 المرجع السابق 3/154.
3 انظر: المستصفى مع مسلم الثبوت 2/299.
ودليل قبوله ما هو الدليل على قبول القياس المؤثر ودليل قبولهما جميعاً دليل أصل القياس وهو إجماع الصحابة، والظن بأبي زيد أنه أراد بالمؤثر المناسب الملائم، ولم يشترط التأثير على التمثيل، بل اكتفى بالمناسبة مع الملاءمة، ويشهد لذلك ما ضرب من الأمثلة للقياس المؤثر.
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 1، علل لسقوط النجاسة بضرورة الطواف علينا، وللضرورات تأثير في إسقاط حكم الخطاب.
قال: "وهذا ما نعنيه بالمناسب، فإن الحاجة داعية إلى المخالطة، وهذا ملائم مجانس لتصرفات الشرع في توسيع الأمر في مظان الحاجات"2.
وأما الغريب وما في حكمه فقد اختلفوا فيه، فمن اكتفى بالملاءمة اعتبره ومن لم يكتف بها لم يعتبره.
قال الآمدي: "وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه، لأنه يفيد الظن بالتعليل، ولهذا فإنا إذا رأينا شخصاً قابل الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة، مع أنه لم يعهد من حاله قبل ذلك شيء فيما يرجع إلى المكافأة وعدمها، غلب على الظن ما رتب الحكم عليه، والذي يؤيد ذلك أنه لا يخلو إما أن يكون الحكم قد ثبت لعلة أولا لعلة، فإن كان لا لا لعلة فهو بعيد لما سبق تقريره من امتناع خلو الأحكام من العلل، وإن كنا لعلة فإما أن يكون لما لم يظهر، أو لما ظهر.
الأول: يلزم منه التعبد، وهو بعيد عن ما عرف، والثاني هو المطلوب فإن قيل: الفرق بين ما نحن فيه، وبين صورة الاستشهاد أنا قد ألفنا من تصرفات العقلاء مقابلة الإحسان بالإحسان، والإساءة بالإساءة وكان ذلك من قبيل
1 أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، ابن ماجه 1/131.
2 انظر: شفاء الغليل ص 177-178.
القسم الأول، وهو الملائم المتفق عليه، لا من قبيل القسم الثاني وهو الغريب المختلف فيه.
قلنا: نحن إنما نفرض الكلام في شخص لم يعهد من حاله قبل ذلك الفعل موافقة ولا مخالفة، فلا يكون من الملائم المتفق عليه ولا من الملغي، ومع ذلك فإن التعليل يظهر من فعله لكل عاقل، نظراً إلى أن الغالب إنما هو غلبة طبيعة المكافأة بالانتقام، والإحسان في حق العاقل، كما أن الغالب من الشارع اعتبار المناسبات دون إلغائها1.
هذا وقد تقدم أن الحنفية إنما يشترطون التأثير بالنص أو الإجماع في وجوب العمل بالوصف المناسب، لا في جوازه.
قال الزركشي: "ومنع السهروردي2 في التنقيحات وجود المناسب الغريب، ورد أمثلته إلى الملائم، وإليه أشار الغزالي في شفاء الغليل فإنه قال: وقل ما يوجد في الشرع اعتبار مصلحة خاصة إلا وللشرع التفات إلى جنسها، وعلى الأصولي التقييم، وعلى الفقيه الأمثلة"3.
ونقل عن الأنباري أنه ذكر في شرح البرهان أن الوصف المناسب لا يكاد ينفك عن نظير بحال"4.
هذا ما يتعلق بالمؤثر والملائم والغريب من أقسام الوصف المناسب وسنتبعه إن شاء الله تعالى بالكلام على المرسل.
1 انظر: الأحكام للآمدي 3/260-261.
2 هو: يحيى بن حبش إميرك، الملقب بشهاب الدين السهروردي أبو الفتوح، قرأ الحكمة وأصول الفقه حتى برع فيهما، وكان إماماً حاذقاً في فنونه جامعاً للعلوم الفلسفية، شافعي المذهب، اتهم باعتقاد مذهب الحكماء المتقدمين حتى أفتى علماء حلب بقتله، ولد سنة 549هـ وتوفي سنة 587هـ، من مؤلفاته التلويحات والتنقيحات وغيرهما.
انظر: هدية العارفين 1/1061، الأعلام 9/169-170.
3 البحر المحيط خ3 /ب 155.
4 نفس المصدر السابق 3/155.