المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث في بيان أدلة مذهب الإمام مالك - الوصف المناسب لشرع الحكم

[أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في المناسبة وتعريف المناسب

- ‌الفصل الأول: في تعريف المناسبة

- ‌الفصل الثاني في إقامة الدليل على أن المناسبة دالة على العلية

- ‌الفصل الثالث في تعريف المناسب

- ‌الباب الثاني: في تقسيمات المناسب

- ‌الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة

- ‌الفصل الثاني: في تقسيم المناسب الحقيقي باعتبار إفضائه إلى المقصود

- ‌الفصل الثالث: في تقسيم المناسب من حيث اعتبار الشارع له وعدم اعتباره له

- ‌المبحث الأول: أقسام المناسب بحسب القسمة العقلية

- ‌المبحث الثاني أقسام المناسب من حيث الاعتبار

- ‌المبحث الثالث: تقسيم ابن السبكي له

- ‌المبحث الرابع: تقسيم الإمام له

- ‌المبحث الخامس: تقسيم الآمدي له

- ‌المبحث السادس: اشتراط الحنفية في المناسب فوق المناسبة كونه مؤثرا

- ‌الباب الثالث: في المناسب المرسل

- ‌الفصل الأول: في تعريفه وبيان محل الخلاف والوفاق فيه بين العلماء

- ‌الفصل الثلني: في بيان مذاهب العلماء في الوصف المناسب المرسل

- ‌الفصل الثالث في بيان أدلة مذهب الإمام مالك

- ‌الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد رحمه الله هو وأتباعه في الأخذ بالمناسب المرسل

- ‌الفصل الخامس في ذكر أدلة مذهب القاضي ومن وافقه ومناقشتها

- ‌الفصل السادس في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل

- ‌الفصل السابع في رأي أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المناسب المرسل

- ‌الفصل الثامن: في رأي الغزالي في قبول المرسل

- ‌الفصل التاسع في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع

- ‌الفصل العاشر: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها أو راجحة أم لا تنخرم

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثالث في بيان أدلة مذهب الإمام مالك

‌الفصل الثالث في بيان أدلة مذهب الإمام مالك

تقدمت نسبة القول بالوصف المناسب المرسل مطلقاً لمالك رحمه الله، وأن ذلك اشتهر عند الأصوليين حتى كادوا يجمعون على أن فقه مالك يمتاز عن غيره بأنه فقه المصالح المرسلة، وامتياز الفقه المالكي عن غيره لم يكن في أصل الأخذ بهذا الدليل، وإنما هو في كثرة الأخذ به والرجوع إليه، وبناء الأحكام عليه، غير إنما نسب إليه من إطلاق عمله بالمصلحة المقتضى لعمله بالمصلحة الغربية التي يعد القول بها عملاً بالرأي وتشريعاً بالهوى، وقولاً بالتشهي غير صحيح1.

ذلك أن مالكاً إنما اعتبر المصلحة التي ظهر اعتبار الشارع لها برجوعها إلى أصوله وقواعده العامة وشهدت لها نصوص الشرع في الجملة، وإن لم يشهد لها دليل معين، يدل لهذا ما ذكره الشاطبي رحمه الله فإنه قسم المناسب المرسل إلى: غريب، وملائم، وبين أن العلة في الغريب لا عهد بها في تصرفات الشارع بالفرض، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، قال: "وهذا لا يصح التعليل به، ولا بناء الأحكام عليه باتفاق.

وأما الثاني: فملائم لتصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في جملة، بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة"2.

ثم وضحه بأمثلة بين أنها توضح الوجه العملي بالمصالح المرسلة، وأنها تبين اعتبار أمور ثلاثة:

1 -

أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع، فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته القطعية، بل متفقة مع المصالح التي يقصد الشارع تحصيلها بأن تكون من جنسها ليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص.

1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 50.

2 انظر: الاعتصام 2/115.

ص: 263

2 -

أن تكون معقولة في ذاتها جرت على ذوق المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول.

3 -

أن يكون في الأخذ بها محافظة على أمر ضروري، أو رفع لحرج لازم في الدين بحيث لو لم يؤخذ بها في مكانها لكان الناس في حرج1، واعتبار هذه الشروط في الأخذ بالمناسب المرسل يمنع أن يكون الأخذ به خلع ربقة الإسلام، وجعل النصوص خاضعة لأحكام هواه وشهواته، ذلك أن المصلحة في المرسل "ليست مصلحة مسكوتاً عنها، بل مصلحة اعتبرتها الشريعة بجملة نصوص، ومجموع أدلة، ووصف كتاب الأصول المصلحة الملائمة بالإرسال مجرد اصطلاح قصد به التفريق بين الاستدلال المرسل والقياس، إذ للقياس أصل معين يشهد لعين المصلحة، في حين أن الاستدلال المرسل توجد فيه أصول غير معينة، بمعنى أنها لم تشهد لعين المصلحة، وإن شهدت لجنسها بالاعتبار وعلى ذلك فإنه يلزم للمجتهد الذي يدعى أن هناك مصلحة توجب إعطاء الواقعة حكماً معيناً أن يثبت أن لهذه المصلحة جنساً اعتبره الشارع بنصوص شرعية، وأن يقدم النصوص، وإلا فهو تشريع منه بالرأي، وهو قول بالتشهي، وهو ابتداع في الدين، وكل أحد عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"2.

ومعلوم أن مالكاً رحمه الله لم يدون أصوله التي جعلها أساساً لمذهبه في استنباط الأحكام الفرعية التي نسبت إليه، والفتاوى التي رويت عنه، وإنما كان شأنه في ذلك شأن أبي حنيفة رحمه الله، ولم يكن كتلميذه الشافعي رحمه الله الذي دون أصوله في استنباط الأحكام وضبطها وذكر البواعث التي دفعته إلى اعتبارها، ومقامها من الاستدلال، غير أن علماء المذهب المالكي استنبطوا من فتاوى مالك والفروع التي رويت عنه الأصول التي قام عليها المذهب في استنباط أحكامه منها، فدونوا تلك الأصول المستنبطة على أنها أصول مذهب مالك وعليها كان

1 انظر: الاعتصام 2/129-133.

2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 65-66.

ص: 264

اعتماده وعليها يرجع في التفريع، ويقيد نفسه بها، وإن لم يصرح بها كما نقل ذلك عنه أتباعه1.

وليس للباحث إلا أن يسلم صحة ذلك، لأن اتباع الإمام، وعلماء المذهب أعلم الناس بمذهب إمامهم، وقد عزوا ذلك إليه، وذكروا أنه كان يحتج بالمناسب المرسل.

والآن ننتقل إلى ذكر أدلة ذلك المذهب.

أدلة المذهب الأول على اعتبار الوصف المناسب المرسل مطلقاً، استدل أهل هذا المذهب بما يأتي:

الدليل الأول: ما صرح به القرافي، وهو: "أن الله تعالى إنما بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحصيل مصالح العباد عملاً بالاستقراء، فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع2.

ومعنى كلامه رحمه الله أن استقراء النصوص دل على أن الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام، واعتبار الشارع جنس المصالح في جنس الأحكام يفيد ظناً قوياً باعتبار مصلحة الوصف المناسب المرسل، وإذا غلب على ظننا اعتبار الشارع لها لزمنا العمل بها؛ لأن الظن يجب العمل به.

يدل لهذا ما استدل به البيضاوي لمالك رحمهما الله على ما نسبه إليه من القول بالمناسب المرسل مطلقاً حيث قال: "وأما مالك فقد اعتبره مطلقاً، لأن اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتباره"3، والضمير في قوله: اعتبره، واعتباره راجع إلى المناسب المرسل.

وأوضح الأسنوي كلام البيضاوي "بأن الشارع اعتبر جنس المصالح في

1 انظر: مالك بن أنس ص 233، ونظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 47.

2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 446.

3 انظر: المنهاج مع شرحه نهاية السول، ومنهاج العقول 3/135-136.

ص: 265

جنس الأحكام كما مر في القياس، واعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها فرداً من أفرادها"1.

اعترض على هذا الدليل بأن المصلحة في المناسب المرسل مسكوت عنها، فليس العمل بها أولى من إلغائها، بمعنى أن إلحاقها بالمصالح المعتبرة ليس بأولى من إلحاقها بالمصالح الملغاة، وذلك أن الشارع كما اعتبر بعض المصالح ألغى البعض الآخر، فترجيح اعتبارها على إلغائها ترجيح بغير مرجح، وهو باطل.

ولما كان هذا الاعتراض وارداً فقد أشار البدخشي إلى رده، بأن من خواص المصلحة المعتبرة شرعاً أن تكون غالبة، إن لم تكن خالصة، والمصلحة في الوصف المرسل هنا قد ظهر لنا غلبتها على المفسدة، فإلحاقها بالمعتبرة هو اللائق2.

قال البدخشي: "لأنه إذا ظن أن في هذا الحكم مصلحة غالبة على المفسدة - ومعلوم أن كل مصلحة كذلك معتبرة شرعاً - لزم ظن أن هذه المصلحة معتبرة، والعمل بالظن واجب"3.

فكلامه هنا ظاهر في أن المصلحة هنا غالبة على المفسدة، وهو كاف في ترجيح العمل بها على اعتبار إلغائها.

يدل لهذا ما ذكره الشاطبي ونصه: "فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتبار، فهي المقصود شرعاً، ولطلبها وقع الطلب على العباد"4.

ويدل لترجيح العمل بالمصلحة هنا ما ذكره صاحب نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي نقلاً عن الغزالي في وجه اعتبار المناسب الغريب، وهو ما عبر عنه الأصوليون بأنه ما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه

1 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/136.

2 انظر: تفاصيله في رسالة الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 188-189 مع تصرف.

3 منهاج العقول مع نهاية السول 3/136.

4 انظر: الموافقات 2/26-27.

ص: 266

حيث قال: إنه في محل النظر، ثم وجه القول بأنه حجة بقوله: "العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة، وهذا فرد من أفراده، وهو وإن لم يكن موافقاً لأصل، فلا مخالفة فيه أيضاً، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة: فيتعارضان، ويسلم أصل العمل بالظن

وقد اعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس"1.

الدليل الثاني: قرر الشاطبي أن الاستدلال المرسل أصل من أصول الفقه، وقاعدة من قواعده، وهو عنده دليل قطعي أخذ من استقراء نصوص الشريعة استقراء يفيد القطع، فبناء الأحكام عليه بناء على أصل كلي ودليل قطعي.

قال رحمه الله: "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائماً لتصرفات الشرع، ومأخوذ معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به؛ لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها

ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين، فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين، وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما أنه قد يكون مرجوحاً في بعض المسائل، حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك يبنى على هذا الأصل؛ لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس"2.

فكلام الشاطبي هنا يدل على أن المرسل عنده هو الوصف الذي لم يشهد الشرع لا باعتباره، ولا بإلغائه، ولكنه ملائم لجنس مقاصد الشارع وهذا يدل على أنه يقول بحجية ملائم المرسل، ولا يقول بغريبه، وهو الذي لا يلائم مقاصد الشرع، ولم يشهد له أصل معين.

1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 60.

2 انظر: الموافقات 1/39-40.

ص: 267

كما يدل على أنه يرى أن مناسبة المرسل إنما تؤخذ من جملة أدلة وعدة نصوص لا من نص واحد، وبذلك يفيد القطع بمجموع تلك الأدلة، وإن لم تفده بآحادها، وذلك دون اشتراط التأثير الذي يقول به الحنفية فالأصل الذي يؤخذ في الاستقراء لاستنباط المصلحة الكلية، والأصل العام يكفي فيه أن يثبت الحكم مع الوصف، وإن لم يدل النص أو الإجماع على أن ذلك الوصف مناط الحكم.

وهذا مصير من الشاطبي إلى موافقة الجمهور في أن ترتيب الحكم على الوصف يفيد ظن اعتبار الشارع له، وبذلك يؤخذ مثل هذا في استنباط الوصف الكلي، وهو ما أسماه الأصل الكلي.

فهو يفرق بين الأصل الكلي، وبين تحقيق مناطه أحد جزئياته، فالأصل الكلي هو المأخوذ بالاستقراء من عدة نصوص، وأصول تفيد القطع بمجموعها، أما تحقيق مناط هذا الأصل الكلي في أحد الجزئيات، فظني كالشأن في تحقيق مناط أية علة، ولو ثبتت بالنص وعلى هذا الأساس تكون المصلحة الجزئية المتحققة في الفرع الذي يراد معرفة حكمه مصلحة ظنية، وعلى هذا فالمراد بقطعية المصلحة المرسلة هو كونها كلية.

أما إذا أطلق القول، بأن المصلحة دليل ظني، فإنما المراد بذلك تحقيق مناط الأصل الكلي في أحد الجزئيات.

ويرى الشاطبي أن الاستحسان عند المالكية نوع من التعارض بين المصلحة المرسلة والقياس، ويرى تقديمه لذلك على القياس، لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، وهو يؤكد أن القول بالاستدلال المرسل، يعارض القياس ويقدم عليه، ولكنه لا يناقض النص الشرعي1.

ثم ساق اعتراضاً وأجاب عنه بما نصه: "فإن قيل: الاستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح، لأن الأصل الأعم كلي، وهذه القضية

1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 55-57 مع تصرف باختصار العبارة.

ص: 268

المفروضة جزئية خاصة، والأعم لا أشعار له بالأخص، فالشرع وإن اعتبر كلي المصلحة من أين يعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها؟ "1.

"ومعنى هذا الاعتراض أن الأدلة قامت على أن المصلحة العامة تقدم على الخاصة مثلاً، وذلك في منع بيع الحاضر للبادي، رعاية لمصلحة أهل السوق.

وكذلك المنع من تلقي الركبان لمصلحة أهل الحضر، وغير ذلك من الجزئيات التي تفيد أن تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة مقصود للشارع.

فإذا منعنا مسلماً من إقامة مصنع في جهة آهلة بالسكان، وفرضنا عليه قيوداً معينة في استعمال ملكه مراعاة لمصلحة الجماعة، فكيف نعرف أن الشارع قصد تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد في صورة المنع من بناء المصنع، أو تقييد البناء؟ "2.

أجاب عنه "بأن الأصل الكلي إذا انتظم في الاستقراء يكون كلياً جارياً مجرى العموم في الأفراد"3.

ثم يوضح الشاطبي هذا المعنى بقوله: "أن المجتهد إذا استقرى معنى عاماً من أدلة خاصة، وأطرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن، بل يحكم عليها إن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذ صار ما استقرى من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة"4.

فالمصلحة المرسلة باعتبارها أصلاً كلياً عاماً استفيد من استقراء نصوص الشريعة.

1 انظر: الموافقات 1/40-41.

2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 57.

3 انظر: الموافقات 1/41.

4 انظر: الموافقات 3/304.

ص: 269

ولقد قرر الشاطبي أن العام المستفاد من استقراء نصوص الشريعة يجري في قوة الاحتجاج به مجرى العام المستفاد من الصيغة، فيقول: "العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط

، بل من استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغة".

ومثل لذلك بقاعدة رفع الحرج في الدين فقال: "فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم قد شرع عند مشقة طلب الماء، والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام، والقصر والفطر في السفر والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف من التلف الذي هو أعظم المشقات، والصلاة إلى أي جهة عند تعسر إخراج القبلة، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز عنه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه، إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج".

فإذا تم للمجتهد هذا الاستقراء، فإنه يطبق هذا العموم الاستقرائي على كل ما تحقق فيه مناطه تماماً كما يفعل في العموم اللفظي.

ويقول الشاطبي بعد أن أثبت أن رفع الحرج مقصود للشارع: "فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء، فكأنه عموم لفظي"1.

والحاصل أن المصلحة في الوصف المرسل مصلحة دلت أصول الشريعة وقواعده العامة على اعتبارها، فهي مأخوذة من استقراء نصوص الشرع، وهي حجة، لأنه وإن لم تشهد لها نصوص معينة غير أنها شهدت لها أصول الشرع وقواعده العامة، والله تعالى أعلم.

1 انظر: الموافقات 3/299، ونظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 58-59.

ص: 270

الدليل الثالث: قالوا: لو لم تعتبر المصلحة في المناسب المرسل لأدى عدم اعتبارها إلى خلو بعض الوقائع عن حكم الله تعالى، ذلك لأن النصوص والأقيسة المحمولة عليها محصورة، والحوادث غير محصورة، والمحصور لا يفي بغير المحصور، وعلى هذا لزم خلو بعض الحوادث المتجددة عن الأحكام1، وخلو الحوادث عن الأحكام باطل، بدليل أن أئمة التشريع السابقين وولاة الأمر، وأهل الفتوى والأقضية لم يكونوا يخلون حادثة عن حكم الله تعالى مع كثرة الحوادث والوقائع التي كانت ترد عليهم، ولو كان يمكن خلو واقعة عن حكم لحصل ذلك في زمنهم، ولو حصل لنقل إلينا لأن العادة تقتضي نقل مثل هذا إلينا، فلما لم ينقل إلينا علمنا أنهم لم يخلو واقعة عن حكم فثبت أن كل واقعة لا بد لها من حكم.

ومن المعلوم أن الأحكام التي كانوا يصدرونها في الوقائع لم تكن كلها صادرة عن نص أو قياس، بل كان بعضها عن نص، والآخر عن قياس، وبعضها محكوم فيه بالمصلحة، ولو جاز خلو الواقعة عن حكم لما حكموا فيما لم يرد في نص ولا قياس بالمصلحة، ولأخلوا بعض الحوادث عن حكم، ولكن الواقع خلاف ذلك.

يدل لهذا ما نقله إمام الحرمين عن الشافعي رحمهما الله، ونصه: "قال الشافعي: إنا نعلم قطعاً أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

وذلك أن الأئمة السابقين لم يخلوا واقعة على كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى عن حكم الله تعالى، ولو كان ذلك ممكناً لكانت تقع، وذلك مقطوع به أخذاً من مقتضى العادة، وعلى هذا علمنا أنهم رضي الله عنهما استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق بانبساطها على الوقائع متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح، متشوف إلى ما سيقع، ولا يخفى على المنصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى: ما يعرى عن حكم الله تعالى، وإلى ما لا يعرى

1 انظر: المختصر مع شرحه 2/289 والمنخول ص 357.

ص: 271

عنه: فإذا تبين ذلك بنينا عليه المطلوب، وقلنا: لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما اتسع باب الاجتهاد، فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع في متسع الشريعة غرفة من بحر.

ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان وقوفهم عن الحكم يزيد على جريانهم، وهذا إذا صادف تقريراً لم يبق لمنكري الاستدلال مضطرباً"1.

فوجه دلالة ما نقله إمام الحرمين هنا عن الشافعي على ما ذهب إليه الماليكة من القول بالمرسل مطلقاً، هو ما صرح به من عدم إخلاء الأئمة واقعة عن حكم شرعي مع كثرة الوقائع وازدحام الأقضية والفتاوى، واسترسالهم في بناء الأحكام استرسال واثق بانبساطها على الأحكام، مما جعل الدليل يدل على اعتبار المصلحة المرسلة مطلقاً، وإن استدل به الشافعية الذين يقولون بقبولها بشرط القرب من الأصول المعتبر على ما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

فبناء على هذا قال المالكية في هذا الدليل لو ترك العمل بالمناسب كُلاً أو بعضاً لأدى إلى خلو بعض الأحكام عن الحوادث

الخ.

الاعتراضات الواردة على هذا الدليل:

اعترض المانعون للقول المناسب المرسل على هذا الدليل بما سيأتي:

1 -

إن دعوى منع خلو الحوادث عن الأحكام غير مسلمة، فقد نقل الغزالي عن القاضي جواز خلو واقعة عن حكم الله تعالى حتى كاد يوجبه، وقال مستدلاً على ذلك:"المآخذ محصورة، والوقائع لا نهاية لها، فلا تستوفيها مسالك محصورة"2.

وأجاب عنه الغزالي بقوله: "والمختار عندنا إحالة ذلك وقوعاً في الشرع، لا جوازاً في العقل، لعلمنا بأن الصحابة على طول الأعصار ما انحجزوا عن واقعة،

1 انظر: البرهان 2/1116-1117.

2 انظر: المنخول ص 485.

ص: 272

وما اعتقدوا خلوها عن حكم الله تعالى، بل كانوا يهجمون عليها هجوم من لا يرى لها حصراً"1.

2 -

قالوا: سلمنا منع خلو الحوادث عن الأحكام، لكن لا نسلم اللزوم، لأن العمومات والأقيسة تأخذ الجميع، فلم تخل الحوادث عن الأحكام، لاعتمادها على العمومات والأقيسة.

3 -

سلمنا عدم شمول العمومات والأقيسة للحوادث، لكن لا نسلم خلو الحوادث عن الأحكام، لأن عدم وجود دليل على الإذن أو المنع في الحادثة دليل على التخيير فيها، والتخيير حكم شرعي2.

ولم أر من أجاب عن هذين الاعتراضين، ولعل ذلك تسليماً بورودهما.

الدليل الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على الأخذ بأمور ليس لها مستند سوى مطلق المصلحة، من غير أن يرد شاهد خاص يدل على اعتبارها.

قال القرافي: "ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف، ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر3 لعمر4 رضي

1 المصدر السابق ص 485.

2 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/289.

3 هو: عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق القرشي التيمي، أول الخلفاء الراشدين، وأفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد بعد عام الفيل بسنتين، ومن السابقين في الإسلام، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامته بمكة وفي الغار وفي سفره إلى الهجرة، وفي غزواته كلها، وحج بالناس نيابة عنه، ومآثره كثيرة، توفي رضي الله عنه سنة 13هـ، ودفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها.

انظر: الإصابة 6/155 فما بعدها، والاستيعاب بذيل الإصابة 6/361، تذكرة الحفاظ 1/2، وفتح الباري 7/16 فما بعدها، والأعلام 4/238.

4 هو: عمر بن الخطاب بن نفيل أبو حفص القرشي العدوي ثاني الخلفاء الراشدين، ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وبويع بالخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق فقام فيها أحسن قيام، وأسلم بعد إسلام أربعين رجلاً فأعز الله به الإسلام، وكان من المهاجرين الأولين، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، وشهد بدراً وما بعدها ومات شهيداً سنة 23هـ ومآثره كثيرة.

انظر: الإصابة 7/74-76، والاستيعاب 8/242 فما بعدها، وتذكرة الحفاظ 1/5 فما بعدها، وفتح الباري 7/40 فما بعدها.

ص: 273

الله عنهما، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى، وتدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن فعل ذلك عمر رضي الله عنه، وهدم الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه فعله عثمان1 رضي الله عنها، وتجديد الأذان في الجمعة بالسوق، وهو الأذان الأول فعله عثمان رضي الله عنه، ثم نقله هشام2 إلى المسجد وذلك كثير جداً، لمطلق المصلحة"3.

وقد عقد ذلك صاحب مراقي السعود بقوله - بعدما عرف المرسل، وذكر قبول المالكية له - فقال:

نقبله لعمل الصحابة

كالنقط للمصحف والكتابة

تولية الصديق للفاروق

وهدم جار مسجد للضيق

وعمل السكة تجديد الندا

والسجن تدوين الدواوين بدا

يعني أن المالكية يجوزون العمل بالمرسل رعاية للمصلحة، وذلك لكون الصحابة رضي الله عنهم عملوا به كما في نقطهم للمصحف، وتشكيلهم لحروفه، وجمعه في مصحف واحد بعد أن كان متفرقاً في اللخاف4 وغيرها، لأجل حفظه

1 هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي الخليفة الثالث، المكنى بأبي عبد الله وأبي عمر، الملقب بذي النورين، ولد بعد عام الفيل بست سنين على الأصح، وأسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه: رقية وبعد وفاتها أم كلثوم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وممن بايع بيعة الشجرة، قتل يوم الجمعة 22/12/35هـ، ومآثره كثيرة رضي الله عنه.

انظر: الإصابة 6/391 فما بعدها، والاستيعاب 8/27 فما بعدها، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 7/52 فما بعدها، وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/8 فما بعدها.

2 هشام بن عبد الملك بن مروان، أحد ملوك الدولة الأموية، بالشام ولد بدمشق وبويع فيها بعد وفاة أخيه يزيد سنة 105هـ وخرج عليه زيد بن علي بن الحسين بالكوفة، فوجه إليه من قتله، وفتحت خاقان في أيامه، كان حسن السياسة يقظاً في أمره، يباشر الأعمال بنفسه وكان فظاً غليظاً يجمع الأموال ويعمر الأرض ويقيم الحلبة حتى اجتمع له من المال ما لم يجتمع لأحد قبله من بني أمية ومن الخيل ما لم يجتمع لأحد في جاهلية ولا إسلام، توفي سنة 125هـ بعد أن مكثت خلافته عشرين سنة إلا شهراً.

انظر: شذرات الذهب 1/163، الأعلام للزركلي 9/84-85.

3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 446.

4 اللخاف بالكسر حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة، بوزن صفحة وهي في حديث زيد ابن ثابت رضي الله عنه ا. هـ، مختار الصحاح ص 595 حيث قال: في سبب جمع القرآن في أيام أبي بكر الصديق بأمره رضي الله عنه "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاذ وصدور الرجال" الحديث.

انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/57.

ص: 274

من التصحيف في النقط والشكل، وفي الكتابة من الذهاب والنسيان، وكما في تولية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، لكونه أحق بالخلافة ممن سواه، وكما في ترك عمر الخلافة شورى بين الستة1؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض، وكما في هدم الدور المجاورة للمسجد لقصد توسعته للمصلين، وكعمل عمر للسكة تسهيلاً لمعاملة المسلمين، وكإحداث عثمان رضي الله عنه الأذان الأول يوم الجمعة تنبيهاً للناس في حضور وقت صلاة الجمعة، وكاتخاذ عمر سجناً لمعاقبة المجرمين، وتدوين الدواوين كما فعل عمر رضي الله عنه، فهو أول من فعل ذلك ولم يتقدم في هذه الأمثلة أمر من الشارع ولا نظير لها2.

قال الشاطبي بعد ذكر اتفاق الصحابة على جمع القرآن: "ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن، وقد علم النهي عن الاختلاف بما لا مزيد عليه"3.

وممن احتج لمالك رحمه الله بأنه احتج بعمل الصحابة على اعتبار المناسب المرسل الأسنوي فإنه قال: "احتج مالك بأن من تتبع أحوال الصحابة رضي الله عنهم قطع بأنهم كانوا يفتون في الوقائع بمجرد المصالح، ولا يبحثون عن أمر آخر، فكان ذلك إجماعاً منهم على قبولها"4.

وجه استدلال المالكية بهذه النصوص هو أنه إذا صح أن الصحابة كانوا

1 وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.

2 انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/188-189.

3 انظر: الاعتصام 2/117.

4 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/137.

ص: 275

يعملون بالمصلحة، ويعتمدون عليها في الحكم عند عدم وجود الحكم في غيرها من غير تفريق بين نوع منها وآخر، فيكون كافياً في إثبات اعتبار المصلحة المرسلة.

اعترض القاضي على هذا الدليل بما نقله عنه الغزالي من أنه قال: "لعلهم كانوا يعتمدون معاني يعلمون أن أصول الشريعة تشهد لها، وإن كان لا يعينونها كالفقيه يتمسك في مسألة المثقل بقاعدة الزجر، فلا يحتاج إلى تعيين أصل"1.

وقد أجاب الغزالي عن هذا الاعتراض بعد تسليم ورود الاحتمال فقال: "والذي نراه أن هذا في مظنة الاحتمال، والاحتكام عليه بعد تمادي الزمان لا معنى له"2، ومراده أن التماس مثل هذا الاحتمال البعيد بعد مضي الزمن، وبعد العهد بيننا وبينهم أمر لا معنى له.

ولذا يكون هذا الدليل حجة في اعتبار المناسب المرسل، لسلامته مما يقدح فيه كغيره من الأدلة التي تقدمت والله تعالى أعلم.

هذه هي الأدلة التي استدل بها لمذهب مالك حسبما وقفت عليه، والذي نسب إليه القول بالمناسب المرسل مطلقاً، حتى عرف به رحمه الله.

والآن ننتقل إلى استعراض بعض الأمثلة التي كان اعتماد المالكية في القول بها على المناسب المرسل، وذلك لقصد معرفة ما إذا كان قول المالكية بها اعتماداً على شهادة القواعد العامة للشرع وشهادة نصوصه لها في الجملة، وإن لم يشهد لها أصل معين بالاعتبار، أم أن قولهم بها كان قولاً بالرأي المجرد عن الدليل واعتماداً على المصلحة، وإن لم يشهد لها أصل، بل كان قولهم بها تقديماً لها على النصوص كما يدعيه خصومهم.

1 -

ضرب المتهم بالسرقة، والزنا، والقتل، وما يجري خفية، فقد رأى المالكية ضربه، وسجنه انتزاعاً لإقراره، حيث إن الجاني لا يقر على نفسه

1 انظر: المنخول ص 357.

2 انظر: المنخول ص 378، ورأى الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان من حيث الحجية ص 187.

ص: 276

باختياره؛ ولأن إقامة البينة لا تمكن على ما يعمل خفية، فرأوا أن المصلحة تقتضي ذلك حفظاً للنفوس والأعراض والأموال، إذ لو علم أنه لا ينتزع منه الإقرار بالضرب والسجن مع تعذر إقامة البينة عليه، وتمكنه من السطو، ووسائل الهرب، ولا سيما مع ضعف الوازع الديني، لأدى ذلك إلى ضياع الحقوق وانتشار الفساد.

ولما كان الأخذ بهذه المصلحة معارضاً بمصلحة حفظ عرض وبدن المتهم، كانت محل الخلاف بين العلماء ومثال نقد على المالكية، وعلى الإمام مالك رحمه الله بصفة خاصة، حتى نسب إليه مخالفوه ما لم يقله، فنسب إليه الغزالي القول بضرب المتهم1، مع أن الواقع خلاف ذلك، إذ لا تصح نسبة ذلك إليه، وإن كان نسبه إليه بعض المالكية وغيرهم لما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.

وهذه نقول تدل على هدم صحة هذه النسبة نذكرها فيما يلي:

1 -

ما جاء في المدونة أن سحنوناً2 قال: "قال: أرأيت إن أقر بشيء من الحدود بعد التهديد أو القيد، أو الوعيد أو السجن أو الضرب، أيقام عليه الحد أم لا؟

قال ابن القاسم3: قال مالك: "من أقر بعد التهديد أقيل، فالوعيد

1 انظر: شفاء الغليل ص 228 فما بعدها.

2 هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي أبو سعيد المالكي الفقيه الثقة الحافظ، ولد سنة 160هـ، وأخذ العلم عن مشائخ القيروان ورحل في طلب العلم إلى تونس وغيرها، وأخذ عن ابن القاسم وابن وهب وأشهب وغيرهم، كان ورعاً شديداً على أهل البدع، انتهت إليه رياسة المذهب في المغرب، واشتغل بالتدريس والتصنيف، وانتشر علم مالك بالمغرب عنه، فهو فقيه أهل زمانه وشيخ عصره، وقاضي إفريقية إلى أن توفي سنة 240هـ وصلى عليه الأمير محمد بن الأغلب، من مؤلفاته المدونة. انظر: الديباج 2/30 فما بعدها.

3 هو: عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء، الإمام المشهور المكنى بأبي عبد الله الفقيه المالكي، روى عن مالك والليث وعبد العزيز بن الماجشون وغيرهم، روى عنه أصبغ وسحنون وغيرهما، ثقة ثبت، كان أثبت من روى الموطأ عن مالك، وكان لا يقبل جوائز السلطان، ولد سنة132هـ وقيل سنة 128هـ صحب مالكاً عشرين سنة، توفي رحمه الله سنة 191هـ بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى.

انظر: الديباج المذهب 1/465 فما بعدها، ووفيات الأعيان 3/129.

ص: 277

والسجن والضرب تهديد كله، وأرى أن يقال"1.

فهذا النص صريح في عدم صحة ما نسب لمالك من القول بضرب المتهم، وذلك لأنه لم يرتب عليه أثره من اعتبار الإقرار المنتزع بالتهديد فهو إذاً لا يقول بضرب المتهم وتهديده ولا يعتبره إقراره ما لم تقم عليه بينة، أو يقر مختاراً.

2 -

إن الشاطبي رحمه الله صرح بأن مالكاً إنما ذهب إلى جواز سجن المتهم، وأن ضربه إنما هو نص أصحابه.

قال: "ذهب مالك إلى جواز السجن في التهم، وإن كان السجن نوعاً من العذاب، ونص أصحابه على جواز الضرب"2، ولعل من نسب ذلك لمالك من المالكية وغيرهم كان اعتماده فيه على ما نقله الدردير3 عن سحنون أنه قال:"يعمل بإقرار المتهم، وبه الحكم إن ثبت عند الحاكم أنه من أهل التهمة، فيجوز سجنه وضربه ويعمل بإقراره"4.

قال الدسوقي5: "وبه القضاء كما في تحفة الأحكام، ونسبه لمالك حيث قال:

وأن يكن مطالباً من يتهم

فمالك بالسجن والضرب حكم

1 انظر: المدونة 4/426.

2 انظر: الاعتصام 2/120.

3 هو: الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الشهير بالدردير، العالم العلامة، أوحد وقته في العلوم العقلية، ولد رحمه الله سنة 1127هـ حفظ القرآن في صغره، وتعلم على مشائخ مصر حتى أفتى في حياة شيوخه، وتولى الإفتاء بعد وفاة شيخه وتولى التدريس والتأليف، له مؤلفات منها شرحه المختصر خليل المسمى بالشرح الكبير، وشرحه لمختصر خليل الذي سماه أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك ورسالة في متشابه القرآن وغيرها، توفي سنة 1201?.

انظر: مقدمة حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ب.

4 انظر: الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4/345.

5 محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي الفقيه المالكي، ولد بدسوق قرية من قرى مصر وتعلم على مشائخها حتى تصدر للتدريس والقراءة، عرف بوضوح البيان وجودة التحرير وحسن الخلق والتواضع، له مؤلفات منها حاشيته على الشرح الكبير شرح مختصر خليل، وأخرى على مختصر السعد على التلخيص وغيرهما، توفي سنة 1230هـ بمصر.

انظر: مقدمة حاشية الدسوقي 1/جـ فما بعدها.

ص: 278

وحكموا بصحة الإقرار

من ذاعر يجس لاختبار1

ولعل وجه الاشتباه على من نسب ذلك لمالك رحمه الله أن المدونة من رواية سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، فلم يفرق الناقل منها بين ما كان عن مالك منها، وما هو لسحنون دون مالك، والله تعالى أعلم.

3 -

ما نقله ميارة2 عن اللخمي3 أن قول مالك هو أنه لا حكم لإقراره ولا يؤخذ به حيث قال في المدونة: "وإن أخرج السرقة أو القتيل في حال التهديد لم أقطعه ولم أقلته حتى يقر بعد ذلك آمناً، وإلى هذا ذهب الشيخ خليل4 في مختصره، حيث قال: "وثبت بإقرار إن طاع، وإلا فلا وإن عين السرقة وأخرج القتيل"5.

فتحصل أن ما نسب لمالك من القول بضرب المتهم غير صحيح، كما قال مشايخ المالكية، وأنه إنما قال بسجنه، وأن القول بضربه هو نص أصحابه.

1 انظر: حاشية الدسوقي 4/345، وفي القاموس الذاعر الخائف ا. هـ 2/35، وفسره عبد الباقي بأنه بالذال المعجمة الخائن، وبالمهملة المفسد، انظر: الحطاب 8/107.

2 هو: محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله ميارة، الفقيه المالكي، الفاسي، ولد سنة999هـ له مؤلفات منها الاتفاق والأحكام في شرح تحفة الحكام، مطبوع والدرر الثمين في شرح منظومة المرشد المعين في الفقه المالكي وغيرهما، توفي سنة 1072 رحمه الله.

انظر: الأعلام للزركلي 6/238.

3 هو: طليب بن كامل اللخمي، ويسمى أيضاً بعبد الله من كبار أصحاب مالك رحمهما الله وجلسائه، كنيته أبو خالد، سكن الاسكندرية أخذ عنه ابن القاسم، وابن وهب، وبه تفقه ابن القاسم قبل رحلته إلى مالك، وكان عنده من أوثق أصحاب مالك، توفي سنة 173هـ في حياة مالك بن أنس.

انظر: الديباج 1/405.

4 هو: خليل بن إسحاق بن موسى، المالكي صاحب المختصر، الفقيه العلامة، الملقب بضياء الدين المصري، كان يلبس زي الجندي، تعلم على مشائخ القاهرة حتى صارت له يد في الحديث والفرائض والعربية وجمع بين العلم والعمل، وتفقه حتى ولي الإفتاء على مذهب مالك وتخرج على يديه جماعة من الفقهاء الفضلاء شيوخ مصر، له مؤلفات منها: التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب، ومختصره هو الذي توالت عليه أيدي علماء المالكية بالشرح والتعليق، وله المناسك وغيرها، توفي رحمه الله سنة 776هـ.

انظر: مقدمة حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ب، والأعلام 2/364.

5 انظر: شرح ميارة لتحفة الأحكام 2/267.

ص: 279

ولما كان يرد على المالكية أن الأخذ بهذا النوع من تعذيب من لم تقم عليه بينة بارتكاب ما يوجب ذلك في حقه، بينوا أن الآخذ بمثل هذا أخذ بمصلحة ملائمة لتصرفات الشرع من تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ولذا يقول الشاطبي مبيناً لذلك، ومجيباً عما يرد عليه من الاعتراضات بعد إيرادها: "وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم، لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب، إذ قد يتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة وسيلة إلى التعذيب والإقرار.

فإن قيل: هذا فتح باب لتعذيب البريء؟ قيل: ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال، بل الإضراب عن التعذيب أشد ضرراً، إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس، وتؤثر في القلب نوعاً من الظن.

فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته فتغتفر كما اغتفر في تضمين الصناع"1.

فإن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمينهم، قال علي رضي الله عنه:"لا يصلح الناس إلا ذلك".

فإن قيل: أن هذا نوع فساد، لما فيه من تضمين من قد يكون بريئاً لم يتلف ما تحت يده، ولم يفرط فيه.

أجيب بأن الناس في حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، فالتفريط غالب عليهم، كما أنهم إذا علموا أنهم لا يضمنون ما تحت أيديهم ربما ادعوا التلف، ولم يكن تلف فلو لم يضمنوا مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأدى ذلك إلى أحد أمرين:

1 -

ترك الاستصناع بالكلية، وهذا يلحق بالناس ضرراً.

1 انظر: الاعتصام 2/120.

ص: 280

2 -

أن يعملوا ولا يضمنوا ما تلف بدعواهم هلاكه وضياعه، فتضيع الأموال ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة.

فكانت المصلحة في تضمينهم كما قال علي رضي الله عنه، وهو تقديم للمصلحة العامة على الخاصة، وهو أصل شهدت له نصوص الشرع وقواعده العامة1.

فإن حصل تضمين بريء اغتفر، لذا قال الشاطبي آنفاً في ضرب المتهم: وإن أمكن مصادفته فتغتفر كما اغتفر في تضمين الصناع، مع أنه صرح بأن الضرب إنما يكون في حق من قامت القرائن القوية بإدانته، وذلك إما بظهور مثل ذلك عليه سابقاً، أو لصحبته السراق، أما من لم تقم القراء على إلصاق التهمة به، فهذا لا يسجن، ولا يضرب، وقد عقد ذلك صاحب تحفة الحكام2 بقوله:

وإن يكن مدعياً على

من حاله في الناس حال الفضلا

فليس من كشف لحاله ولا

يبلغ بالدعوى عليه أملا

وإن يكن مطالباً من يتهم

فمالك بالضرب والسجن حكم3

ومعنى الأبيات أن من ادعى السرقة على من لا بينة له عليه أنه ينظر في حال المدعى عليه السرقة، فإن كان من أهل الخير والفضل بعيداً عن التهمة فإنه لا يكشف عن حاله، ولا يلتفت إلى هذه الدعوى لبعدها عادة.

وإن كان المدعي عليه ممن يتهم بمثل ذلك، فالحكم أن يسجن حتى يعلم حاله، وقد يشدد عليه بالضرب بحسب ما دلت عليه القرائن من شهرة تهمته وثبوت مثل ذلك عليه ونحو ذلك4.

1 انظر: الاعتصام 2/119.

2 هو: محمد بن محمد بن محمد أبو بكر بن عاصم القيسي الغرناطي، الأندلسي، قاض من فقهاء المالكية بالأندلس، ولد بغرناطة سنة 760هـ وتوفي بها سنة 829هـ، له مؤلفات منها: منظومة تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام مطبوعة، وغيرها.

انظر: الأعلام للزركلي 7/274.

3 انظر: تحفة الحكام مع شرحها 2/266.

4 انظر: شرح تحفة الحكام 2/266.

ص: 281

أما ما عزاه لمالك من القول بضرب المتهم، فقد تقم قريباً إبطال نسبة ذلك له.

فإن حصل في النادر إصابة بريء بالتعزير، فيغتفر ذلك، لأنه حينئذ من باب تقديم مصلحة عامة هي مصلحة حفظ المال التي هي مقصود شرعي عرف اعتبار الشرع له من استقراء نصوصه على مصلحة خاصة هي صون المتهم أن يصيبه تعزير وهو بريء.

وفي هذه الحال، تقدم المصلحة العامة على الخاصة، كما في تضمين الصناع، فإن وقع التعزير على بريء اغتفر كما صرح به الشاطبي1، فقد ظهر أنهم قالوا بهذا على أنه مصلحة ملائمة لتصرفات الشارع، لا أنه من باب الغريب الذي يعد القول به قولاً بالرأي، وتشريعاً بالهوى والتشهي، لأن تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة أصل شهدت له نصوص الشرع وقواعده العامة بطريق الاستقراء المفيد للقطع.

ولذا فإن الغزالي مع شدة إنكاره على المالكية في أخذهم بهذه المصلحة، ومنعه الأخذ بها على أساس أنها مصلحة تتعلق بحفظ المال فإنه إنما يمنع اعتبارها، لكونها مصلحة موهومة معارضة بمصلحة محققة تقابلها هي حفظ نفس معصومة، وعصمتها تقتضي صونها عن الضياع وحفظ النفوس مقدم على حفظ المال، لدلالة نصوص الشرع على ذلك، فإنه لا يقطع بخطأ مالك حيث يقول:"هذه المصلحة غير معمول بها عندنا، وليس "ذلك" لأنا لا نرى اتباع المصالح، ولكن لأنها لما لم تسلم عن المعارضة بمصلحة تقابلها"2، فلم ير الأخذ بها.

ويقول: "وعلى الجملة: هذه المسألة في محل الاجتهاد، ولسنا نحكم ببطلان مذهب مالك رحمه الله على القطع، فإذا وقع النظر في تعارض المصالح كان ذلك قريباً من النظر في تعارض الأقيسة التي ذكرناها"3.

1 انظر: الاعتصام 2/120.

2 انظر: شفاء الغليل ص 229.

3 انظر: شفاء الغليل ص 234.

ص: 282

فكلامه هنا رحمه الله صريح في أنها في محل الاجتهاد مع أنه صرح في غير هذا الموضع بأن المصلحة الغريبة التي لا تلائم ولا يشهد لها أصل معين مردودة من غير معرفة مخالف1.

أما التي في محل الاجتهاد، فهي ملائمة لجنس تصرفات الشرع، وهذا تصريح منه بأن عدم أخذه بها، لأنه إذا كانت مصلحة ذي المال في ضرب المتهم رجاء أن يكون هو الجاني، فيقر، فمصلحة المأخوذ في الكف عنه، وترك الأضرار به، وليس أحدهما برعاية مصلحته أولى من الآخر، فوجب الوقوف على جادة الشرع في أن لا عقوبة إلا بجناية، ولا تظهر الجناية في حقنا إلا ببينة".

فأخذ المالكية إذاً بهذه المصلحة، أخذ بمصلحة ملائمة لتصرفات الشارع بشهادة نصوص الشرع وقواعده العامة لها، وليس الأخذ بها أخذ بالرأي المجرد عن الشرع كما ادعاه خصومهم.

هذا على تسليم أن المالكية كان اعتمادهم في الأخذ بهذه المسألة بناء على المصلحة المرسلة، أما إذا كان اعتمادهم فيما ذهبوا إليه على ما ورد من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب وسجن المتهم، فلا يرد عليهم ما ذكره خصومهم؛ لأن المسألة حينئذ يكون الأخذ بها من باب الأخذ بما دل عليه الدليل، إن صحت تلك الآثار.

فمن ذلك ما رواه أبو داود2 في سننه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة3.

1 انظر: شفاء الغليل ص 188.

2 هو: سلميان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر السجستاني، الحافظ الإمام الثبت صاحب السنن، ولد سنة 202هـ سمع القعنبي، والطيالسي والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، وعنه الترمذي والنسائي وغيرهما، قال النووي: اتفق العلماء على أن الثناء عليه بالحفظ والورع والفهم، توفي سنة 275هـ بالبصرة.

انظر: مقدمة كتابه السنن 1/هـ فما بعدها.

3 انظر: سنن أبي داود 2/282.

ص: 283

ومنها ما ذكره الحافظ ابن حجر1 في شرحه لحديث الإفك في كتابه فتح الباري أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهر بريرة2 حين سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة3 رضي الله عنها، فذكرت أنها ما علمت فيها إلا خيراً، وفي رواية قال لعلي4 شأنك بالجارية فسألها علي وتوعدها فلم تخبره إلا بخير، ثم ضربها وسألها، فقالت: والله ما علمت على عائشة سوءاً"5.

1 هو: أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد شهاب الدين أبو الفضل الشهير بابن حجر الكناني، العسقلاني المصري، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام أمير المؤمنين في الحديث حافظ عصره، الشافعي الفقيه، ولد سنة 773هـ توفي والده وهو صغير فتربى في حضانة أحد أوصياء أبيه، وحفظ القرآن وسمع الحديث بمصر، وغيرها ودرس حتى برع في العلم، وتولى التدريس والقضاء والتصنيف، له مؤلفات نفيسة منها فتح الباري، وتهذيب تهذيب الكمال، وتقريب التهذيب وغيرها. توفي سنة 852هـ.

انظر: شذرات الذهب 7/270 فما بعدها، ومقدمة الإصابة 1/ص فما بعدها.

2 هي مولاة عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، قيل: كانت لناس من الأنصار كما وقع عند أبي نعيم، وقيل: لناس من بني هلال كما قال ابن عبد البر، وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق كما جاء في حديث الإفك، وعاشت إلى خلافة معاوية رضي الله عنه.

انظر: فتح الباري 5/188، الإصابة 12/157.

3 هي: عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، وحبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب نسائه إليه، من أكبر فقهاء الصحابة، ولدت قبل الهجرة بنحو ثمان سنين، وتزوجها رسول الله وهي بنت ست سنين، ودخل بها وعمرها تسع سنين، بعد غزوة بدر، وكانت محل السؤال والفتيا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم من أمور الدين، وتوفي عنها وعمرها نحو ثماني عشرة سنة، توفيت رضي الله عنها سنة 57هـ وقيل 58هـ ومآثرها كثيرة.

انظر: الإصابة 13/38 فما بعدها، وتذكرة الحفاظ 1/27 فما بعدها، وفتح الباري 7/106 فما بعدها 223-224.

4 هو الخليفة الرابع علي بن أبي طالب بن هشام القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته فاطمة الزهراء، المكنى بأبي الحسن، أول من آمن من الرجال برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من صلى معه وصاحب لوائه يوم خيبر، وأحد من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة تبوك، فإنه خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى عياله، بويع بالخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه من جميع المهاجرين والأنصار إلا نفراً فلم يهجهم، وقتل في رمضان سنة 40هـ ومآثره كثيرة جداً.

انظر: الاستيعاب 8/131 فما بعدها، تذكرة الحفاظ 1/10 فما بعدها، وفتح الباري 7/70 فما بعدها، والأعلام 5/107 فما بعدها.

5 انظر: فتح الباري 8/469، وحديث الإفك في البخاري في نفس المجلد 458 فما بعدها.

ص: 284

2 -

توظيف الخراج:

ذهب المالكية إلى جواز فرض الضرائب على بعض الرعية عند حاجة الدولة إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار عند عجز خزينة الدولة عن الوفاء بحاجة الجند، إذا أمن الإسراف، لكون الإمام عادلاً، فإن له أن يفرض على الأغنياء والغلات والثمار وغيرها ما يسد حاجة الجند، لصد الأعداء إلى أن يظهر للدولة مال يكفي.

فهذه مصلحة لم يشهد لها نص معين بالاعتبار، أو الإلغاء، غير أنها ملائمة لتصرفات الشارع، إذ لا تنتظم مصلحة الدين والدنيا، إلا بإمام. عادل مطاع يحمي حوزة الدين ومصالح الأمة، ولا يثبت له ذلك إلا بجنده وعدته.

ولذا لم يخل عصر من ذلك، إذ لو خلت الأمة عن إمام عادل وجند قادر على مجاهدة الكفار، وحماية الثغور، وكف الظلمة الطغاة المارقين والضرب على أيديهم عن السطو على الأنفس والأموال الحرم، لاختل الأمن وصارت ديار الإسلام عرضة لاستيلاء الكفار عيلها1.

"فإن قيل: هذه مصلحة غريبة لا عهد بها في الشرع ولا بمثلها وحاصلها يرجع إلى مصادرة الخلق في أموالهم، وهو محظور نعلم حظره من وضع الشرع، ولذا لم ينقل عن الخلفاء الراشدين قبل أن صارت الخلافة ملكاً عضوضاً، وإنما أبدعها الملوك المترفون المائلون عن سمت الشرع"2.

أجيب عنه بأمرين:

1 -

إنه إنما لم ينقل ذلك عند صدر هذه الأمة، لاتساع بيت المال في زمانهم واشتماله على ما يسع الجند من الغنائم في ذلك الوقت3.

1 انظر: شفاء الغليل ص 234، والاعتصام 2/121.

2 انظر: شفاء الغليل ص 236.

3 انظر: شفاء الغليل ص237، الاعتصام 2/121.

ص: 285

2 -

إن من أخذت منهم تلك الضرائب اليسيرة، لو تنقطع عنهم شوكة السلطان يستحقرون - بالإضافة إلى ما قد يصيبهم من ظلم الظلمة في نفوسهم وأموالهم - ما لو أخذت أموالهم كلها فضلاً عن الجزء اليسير منها.

فلو عورض هذا الضرر العظيم، بالضرر اليسير اللاحق لهم في حياتهم بأخذ اليسير من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني على الأول.

وهو مما يعلم قطعاً من مقصود الشرع قبل النظر في شواهد الشرع في حماية الدين والدنيا، فهذا وجه ملاءمتها لمقاصد الشرع.

والملاءمة الثانية هي أن الأب في طفله، والوصي في من هو موصى عليه مأمور برعاية الأصلح له، وهو يصرف ماله في وجوه من النفقات والمؤمن في الغرامات، وكل ما يراه سبباً في تنمية ماله وحفظه من التلف، جاز له صرف المال في تحصيل ذلك.

ومصلحة حفظ الإسلام والمسلمين لا تتقاصر عن مصلحة طفل واحد، ونظر الإمام في رعاية حفظ الإسلام والمسلمين لا يتقاصر عن نظر فرد واحد في حق من ولي أمره.

ولو وطئ الكفار دار الإسلام، وجب على الكافة دفعهم، ولو دعاهم الإمام إلى الجهاد لزمتهم الإجابة، وفي ذلك إتعاب النفوس، وتعريضهم إلى الهلكة، زيادة على إنفاق المال، وليس هذا إلا لحماية الدين والمسلمين.

فهذه ملاءمة صحيحة تفيد القطع في هذه الصورة؛ لأنها في محل الضرورة، فلا يصح الحكم فيها إلا مع وجودها1.

وعلى هذا فلا يقال: إنّ القول بهذه المصلحة قول مجرد عن الدليل بل قول بمصلحة شهدت لها نصوص الشرع بما يفيد القطع، والله تعالى أعلم.

1 انظر: شفاء الغليل ص 237 فما بعدها، الاعتصام 2/121-122.

ص: 286

3 -

إذا طبق الحرام الأرض:

ذهب الملكية إلى أنه إذا طبق الحرام الأرض، أو ناحية منها بحيث يعسر الانتقال منها، وانسدت طرق المكاسب، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق، فإن ذلك يسوغ الزيادة على قدر الضرورة، ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس والمسكن، إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال، ولم يزل الناس في مقاسات إلى أن يهلكوا وفي ذلك خراب الدين، لكنه لا ينتهي إلى الترفه والتنعم، كما لا يقتصر على قدر الضرورة.

وقد أوضح الشاطبي رحمه الله وجه ملاءمة هذا القول بقوله: "وهذا ملائم لتصرفات الشرع، وإن لم ينص على عينه، فإنه قد أجاز أكل الميتة للمضطر، ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث المحرمات"1.

وبمثل قول المالكية قال الغزالي رحمه الله في كتابه المنخول وشفاء الغليل، وإليك نص كلامه فيهما، قال في المنخول:"لو فرضنا انقلاب أموال العالمين بجملتها محرمة لكثرة المعاملات الفاسدة واشتباه المغصوب بغيره، وعسر الوصول إلى الحلال المحض، وقد رفع، فما بالنا بقدر تبيح لكل محتاج أن يأخذ مقدار كفايته من كل مال، لأن تحريم التناول يفضي إلى القتل، وتجويز الترفه والتنعيم في محرم، وتخصيصه بمقدار سد الرمق، يكف الناس عن معاملاتهم الدينية والدنيوية، ويتداعى ذلك إلى فساد الدنيا وخراب العالم وأهله فلا يتفرغون وهم على حالتهم مشرفون على الموت إلى صناعاتهم وأشغالهم والشرع لا يرضى بمثله قطعاً"2.

ويقول في شفاء الغليل: "فإن قال قائل: لو طبق الحرام طبقة الأرض

وانحسمت وجوه المكاسب الطيبة على العباد، ومست حاجتهم على قدر الزيادة على قدر سد الرمق من الحرام، ودعت المصلحة إليه، فهل يسلطون على تناول

1 انظر: الاعتصام 2/125.

2 انظر: المنخول ص 369.

ص: 287

قدر الحاجة من الحرام لأجل المصلحة؟. فإذا أبيتم ذلك خالفتم وجه المصلحة، وإن رأيتم ذلك اخترعتم أمراً بدعاً، لا يلائم وضع الشارع.

قلنا: إن اتفق ذلك

فيجوز لكل أحد أن يزيد على قدر الضرورة، ويترقى إلى قدر الحاجة في الأقوات والملابس والمساكن، لأنهم لو اقتصروا على سد الرمق لتعطلت المكاسب وانبتر النظام، ولم يزل الخلق في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا، وفيه خراب أمر الدين، وسقوط شعائره، فلكل أحد أن يتناول مقدار الحاجة، ولا ينتهي إلى حد الترف، والتنعم والشبع، ولا يقتصر على قدر الضرورة.

وقول القائل: إن هذا غير ملائم للشرع، فليس الأمر كذلك، فإن الشرع سلط على أكل لحم الخنزير، وهو أخبث المحرمات عند الضرورة، ولكن اختلف العلماء في أنه هل يقتصر على حد الرمق، أو يتناول قدر استقلال وتلاقي القوة، والحاجة العامة - في حق كافة الخلق - تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد، والحاجة عامة إلى الزيادة على سد الرمق"1.

فهذان النصان دلا على أن ما فوق الضرورة مصلحة مرسلة لم يتضمنها النص الدال على تناول الحرام لصيانة النفس عن الهلاك في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} 2 الآية، إذ سد الرمق يمنع إتلاف النفس، وما زاد على ذلك حاجة، إلا أنها ملائمة لتصرفات الشارع، إذ في الاقتصار على سد الرمق تعطيل المكاسب، وهو يؤدي إلى الهلاك، والهلاك يؤدي إلى فوات المحافظة على النفس الذي هو مقصد دل الشرع على طلب حفظه.

قال الشاطبي: "ولذا أجاز العلماء أخذ مال الغير عند الضرورة أيضاً، فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك"3.

1 انظر: شفاء الغليل ص 245-246.

2 سورة المائدة آية: 3.

3 انظر: الاعتصام 2/125.

ص: 288

فالقول بهذه المصلحة، قول بمصلحة ظهرت ملاءمتها بشهادة نصوص الشرع وقواعده العامة لها في الجملة.

فقد اتضح من هذه الأمثلة الثلاثة التي سقتها كنموذج دال على أن أخذ المالكية بالمناسب المرسل أخذ بمصلحة ملائمة شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة في الجملة، وإن لم يشهد لها نص معين بالاعتبار والله تعالى أعلم.

وحيث إن بعض الأصوليين ذكر أن الإمام أحمد رحمه الله يجئ في الدرجة الثانية في القول بالمناسب المرسل بعد الإمام مالك رحمه الله، فقد رأيت أن أرتب ذكر الأئمة الأربعة لمعرفة موقف كل واحد منهم من القول بالمناسب المرسل على قدر اعتماده عليه في الفقه حسبما ذكره الأصوليون، والله أسأل التوفيق والسداد في القول والعمل.

ص: 289