الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث في تعريف المناسب
المناسب في اللغة الملائم أي الموافق لأفعال العقلاء في العادات، كما يقال: هذه الؤلؤة مناسبة لهذه الؤلؤة بمعنى أن جمعها في سلك موافق لعادات العقلاء في ضم الشيء إلى ما يماثله1.
وأما في الاصطلاح فقد اختلف الأصوليون في تعريفه، فعرفوه بتعريفات نذكرها فيما يلي:
التعريف الأول: لأبي زيد الدبوسي، وهو "ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول"2.
وهذا التعريف قد اعترض عليه الآمدي بعد أن اعترف بأنه موافق للوضع اللغوي، حيث قال:"وما ذكره وإن كان موافقاً للوضع اللغوي، حيث يقال: هذا الشيء مناسب لهذا الشيء، أي ملائم له، غير أن تفسير المناسب بهذا المعنى وإن أمكن أن يتحققه الناظر مع نفسه، فلا طريق إلى المُناظِر في إثباته على خصمه، في مقام النظر، لإمكان أن يقول الخصم: هذا مما لم يتلقه قلبي بالقبول، فلا يكون مناسباً بالنسبة إلي، وإن تلقاه عقل غيري بالقبول، فإنه ليس الاحتجاج عليّ بتلقي عقل غيري له بالقبول أولى من الاحتجاج على غيري بعدم تلقي عقلي بالقبول"3.
ومقتضى هذا أن أبا زيد يرى أن المناسب بهذا التعريف حجة للناظر في نفسه، لأنه لا يكابر عقله، لكونه مأخوذاً بما يغلب على ظنه، لا للمُناظر لعدم إمكان إثبات عليته في مقام المناظرة4.
1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/318، البحر المحيط 3/150 خ.
2 انظر: التقرير والتحبير 3/159، الأحكام للآمدي 3/248.
3 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/248.
4 التقرير والتحبير 3/160، وكشف الأسرار 3/353.
غير أن المحلى رد ما ذهب إليه أبو زيد من منع التمسك بالمناسب في مقام المناظرة، وصحح كون المناسب بهذا المعنى حجة للناظر على خصمه.
وبين الشربيني وجه الرد بقوله: "وحاصل الرد أن المراد تلقي العقول من حيث هي، لا عقل المناظر ومتى كان ظاهر المناسبة كفى تلقي القبول، إذ المدار على الظن، فإنكار الخصم حينئذ مكابرة"1.
وما ادعاه أبو زيد من عدم إمكان إثباته على الخصم رده الغزالي بأن المناسب معنى معقول ظاهر في العقل، يتيسر إثباته على الخصم بطريق النظر العقلي بحيث ينسب الخصم في جحده بعد الإظهار بطريقه إلى النكر والعناد2.
ولعل أبا زيد لم يعتبر المناسب بهذا المعنى، لأنه من أئمة الحنفية المانعين للاحتجاج بالإخالة أي التمسك بطريق المناسبة في مقام المناظرة، لأنهم اشترطوا ضم العدالة إليها بإقامة الدليل على كون الوصف ملائماً مؤثراً، لإلزام الخصم.
والتأثير عندهم يثبت باعتبار الشارع نوع الوصف في نوع الحكم أو جنسه، أو اعتبار جنسه في جنس الحكم أو نوعه، وهو بهذا المعنى متفق عليه.
ويدل لهذا أن الإخالة عندهم لا تنفك عن المعارضة، إذ يقول الخصم لم يقبله عقلي، عند قول المناظر هذا مناسب، لأنه لو عرض على العقول لتلقته بالقبول3، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى.
وذكر الشيخ عيسى منون "أن هذا التعريف يرد عليه ما أورده الأسنوي على تعريفي الإمام الآتين من أن السرقة والزنا وصفان مناسبان لكل منهما علة لوجوب حده، والقتل العمد العدوان وصف مناسب وقع علة لوجوب القصاص، وغير ذلك من الأوصاف المناسبة، وليست مما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول، فلا يكون التعريف جامعاً.
1 انظر: تعليقات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/319، والمحلى 2/319.
2 انظر: شفاء الغليل ص 143.
3 انظر: التقرير والتحبير 3/160، سلم الوصول على نهاية السول 4/76.
والجواب ما أشار إليه محقق المحلى حيث زاد على التعريف "من حيث التعليل".
قال: "وتوضيحه أن يقال: ليس المراد ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول، من حيث ذاته، بل من حيث التعليل به، وترتب الحكم عليه ولا شك أن ما ذكر في السؤال تتلقاه العقول بالقبول من تلك الحيثية.
فيكون حاصل شرح التعريف بعد الجواب عن هذين الاعتراضين: المناسب هو الوصف الذي لو عرض ربط الحكم وترتبه عليه على العقول السليمة في ذاتها بقطع النظر عما يشوبها من العناد والمكابرة1، لتلقته بالقبول، واعتبرته موافقاً وملائماً لمقتضاها، ليس متنافراً ولا متدافعاً كالسرقة، فإنه وصف قد ربط به الحكم، وهو وجوب الحد بالقطع، ولو نظرت إليه العقول السليمة، لاعتبرته ملائماً وموافقاً لما يترتب عليه من المصالح ودفع المفاسد"2.
التعريف الثاني: للآمدي، فإنه لما اعترض على تعريف أبي زيد بما تقدم ولم يجب عنه قال:"والحق في ذلك أن يقال المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم، وسواء كان ذلك الحكم نفياً أو إثباتاً، وسواء كان ذلك المقصود جلب مصلحة أو دفع مفسدة"3.
ومثل تعريف الآمدي هذا تعريف ابن الحاجب، فإنه عرفه بأنه "وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء.
"والمقصود إما جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، والمصلحة اللذة ووسيلتها،
1 المكابرة: المنازعة في المسألة العلمية لا لإظهار الصواب، بل لإلزام الخصم، وقيل مدامغة الحق بعد العلم به.
انظر: التعريفات للجرجاني ص 227.
2 انظر: نبراس العقول 1/268.
3 انظر: الأحكام للآمدي 3/248.
والمفسدة الألم ووسيلته"1، وسيأتي الفرق بين التعريفين، وإن كان مؤداهما واحد2.
شرح تعريف الآمدي:
الوصف هو المعنى القائم بالغير، وهو جنس في التعريف يشمل سائر الأوصاف وقوله "ظاهر" أي واضح جلي بمكن الاطلاع عليه بحسب العادة، وهو قيد أول خرج به الخفي كسلوق الرحم بالنسبة لوجوب العدة، فهو وإن كان في الحقيقة هو المقتضى لوجوبها، إلا أنه لا يصلح التعليل به لخفائه، فَنِيطَ الحكم بمظنته، وهو الخلوة فإنه وصف ظاهر منضبط، وكالعمدية من قولك القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص، فإن القصد وعدمه أمر نفسي لا يمكن إدراكه، فنِيطَ القصاص بما يلازم العمدية من أفعال يقضي في العرف بكونها عمداً كاستعمال الجارح3.
والمنضبط هو الذي لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، وهو قيد ثان خرج به غير المنضبط كمشقة السفر، فإنها تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فهي أشد على الراجل من الراكب، وفي الصيف من الشتاء، وسلوك الوعر من السهل، وهي وإن كانت في الحقيقة هي المقتضية لرخص السفر، إلا أنه لا يصح التعليل بها لتفاوتها وعدم ضبطها فاعتبر مظنتها، وهو السفر مسافة معينة، لانضباطه.
وقوله يلزم من ترتيب الحكم الخ قيد ثالث خرج به الوصف الطردي والوصف الشبهي.
أما الطردي، فلأنه لا يصلح لإناطة الحكم، للإجماع على إلغائه كما في الطول والقصر، وأما الشبهي فلما ذكره السعد من أن قيد ابن الحاجب في تعريفه
1 انظر: المختصر مع شرحه 2/239.
2 انظر: ص 289-290، 301 من هذا البحث.
3 انظر: العضد وحاشية السعد عليه 2/239.
المتقدم بقوله "عقلا" احترز به1 عن الشبه، إذ لا يلزم من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء، لعدم مناسبته حقيقة، وإنما مناسبته لشبهه بالمناسب.
وقد وجه صاحب النبراس قول السعد، وأورد عليه اعتراضاًَ وأجاب عنه بما نصه: "وهذا ظاهر بالنسبة لعبارة ابن الحاجب مع تفسير العضد في هذا التعريف، فإن عبارته
…
هكذا يلزم من ترتيب الحكم ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء، لأنه غير مناسب للحكم بحسب ما يظهر لنا، وإنما التفت إليه الشارع في بعض المواضع، فدل ذلك على أنه غير مناسب في الواقع يترتب على ربط الحكم به مصلحة لا ندركها.
أما عبارة الآمدي التي نحن بصدد شرحها، فخروج الشبه بهذا القيد إنما هو بالنظر لما يظهر لنا، وإلا فالواقع أنه لا بد من ترتيب الحكم على الوصف الشبهي من حصول ما يكون مقصود الشارع من شرع الحكم، وإن لم يظهر بنا كما ظهر في الوصف المناسب"2.
والمنفعة هي اللذة وما يكون وسيلة إليها والمضرة هي الألم وما يكون وسيلة إليه، قال الإمام:"واللذة قيل في حدها: أنها إدراك الملائم، والألم إدراك المنافي، ثم قال: والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما لأنهما من أظهر ما يجده الإنسان من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما وبينهما وبين غيرهما وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه"3.
غير أن الأصفهاني تعقبه حيث قال: "وأما قولهم اللذة هي إدراك الملائم فليس كذلك بل إدراك الملائم سبب اللذة"4.
1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/239، المحلى مع العطار 2/319.
2 نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/269.
3 انظر: المحصول ص 305 خ.
4 انظر: الأصول شرح المحصول 3/238.
و"أو" في قوله سواء كان المقصود جلب منفعة أو دفع مضرة مانعة خلو فتجوز الجمع، وذلك كما إذا كان المقصود من شرعية القصاص جلب منفعة إبقاء حياة من يريد القتل، ودفع ضرر التعدي بالقتل بإيجاب القصاص، فإن الغالب أن من علم أنه يقتص منه يكف عن التعدي وبها ظهر وجه الجمع بينهما1.
هذا حاصل القول في شرح تعريف الآمدي ومثله تعريف ابن الحاجب، فلا فرق بينهما سوى أن ابن الحاجب لم يذكر قول الآمدي "من شرع الحكم" بل اقتصر على قوله مقصوداً.
قال السعد: "وفسر العضد المقصود بما يكون مقصوداً للعقلاء من حصول مصلحة أو دفع مفسدة لئلا يتوهم أن المراد به ما يكون مقصوداً من شرعية الحكم فيلزم الدور لأن ذلك "أي المقصود" إنما يعرف بكونه مناسباً، فلو عرف كونه مناسباً بذلك كان دوراً2.
لكن يرد على ما ذكر السعد أن ابن السبكي اختار تعريف الآمدي من غير أن يورد الدور، ولعله لم يسلمه.
قال العبادي: "وقد عبر المصنف والشارح بهذا الذي يوهم المستلزم للدور، اللهم إلا أن يمنعا أن ذلك إنما يعرف بكونه مناسباً"3.
وأجاب صاحب نبراس عما يتوهم من الدور بقوله: "وأنت إذا تأملت حق التأمل وجدت أن تعريف الآمدي سالم من الدور، لأن تصور مفهوم المقصود من شرع الحكم لا يتوقف على تصور المناسب، والمتوقف إنما هو معرفة كون هذا الشيء المعين مقصوداً من شرع حكم معين على المناسب له بخصوصه"4.
1 انظر: نبراس العقول 1/270، نهاية السول 3/52.
2 انظر: حاشية السعد على العضد 2/239، والدور تقدم تعريفه.
3 انظر: الآيات البينات 4/92.
4 انظر: نبراس العقول 1/270.
الاعتراضات الواردة على هذا التعريف، والإجابة عنها:
1 -
اعترض الأسنوي على هذا التعريف بأن "المناسب قد يكون ظاهراً منضبطاً وقد لا يكون، بدليل صحة انقسامه إليهما حيث "إن الأصوليين" قالوا: إن كان ظاهراً منضبطاً اعتبر في نفسه، وإن كان خفياً، أو غير منضبط اعتبر مظنته"1، فالتعريف غير جامع، لأنه لا يشمل الخفي وغير المنضبط.
وأجاب عنه العبادي: "بأن التقييد بالظهور والانضباط باعتبار ما يصلح بنفسه للتعليل"2، أعم من أن يكون ظاهراً بنفسه أو بملازمه، يعني أن المناسب إن كان ظاهراً منضبطاً كالسرقة والزنا في وجوب الحد كان هو العلة بنفسه، وإن كان خفياً أو غير منضبط كعلوق الرحم، والمشقة اعتبر مظنته، وهو وصف ظاهر منضبط يلازمه كالسفر والخلوة، مثلاً إذ الوصف مُعرّف للحكم، والمُعّرِفُ لا بد أن يكون ظاهراً منضبطاً.
وهذا الجواب مبني على تسليم انقسام المناسب إلى القسمين المذكورين إما على منع تقسيم المناسب إلى ظاهر وخفي، وإلى منضبط وغير منضبط، فلا يرد الاعتراض، لأن الأصوليين إنما ذكروا هذه الأقسام لمطلق الوصف من حيث هو، لا أقساماً للمناسب.
أما المناسب فلا يكون إلا ظاهراً منضبطاً، وعلى ذلك يكون المناسب في القسم الثاني: هو الوصف الملازم المعبر عنه بالمظنة كالسفر مثلاً، وإن كانت مناسبته باعتبار ما يظن فيه من المشقة، فلا يرد هذا الإشكال أصلاً، لأن الكلام في المناسب الذي هو علة، لا في المناسب مطلقاً3.
1 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/52-53.
2 انظر: الآيات البينات 4/90.
3 انظر: تقريرات الشربيني بهامش العطار 2/319، أصول الفقه لأبي النور زهير 4/88، نبراس العقول 1/271، تعليقات د. عثمان مريزيق.
2 -
ما نقله الزركشي عن صفي الدين الهندي1 وهو: "أنه اعتبر في ماهية المناسب ما هو خارج عنه وهو اقتران الحكم للوصف وهو خارج عن ماهية المناسب بدليل أنه يقال: المناسبة مع الاقتران دليل العلية، ولو كان الاقتران داخلاً في الماهية لما صح هذا"2.
ويجاب عنه بأن "الاقتران المعتبر دليلاً كما سبق في الإيماء هو اقتران وصف ملفوظ أو مقدر مع الحكم، والترتيب المأخوذ في التعريف معناه أن الحكم شرع لأجله من غير لزوم أن يكون مذكوراً معه، أو مقدراً في نظم الكلام ولو عممنا في الوصف المقترن في الإيماء بأن جعلناه شاملاً للمستنبطة لزم أن يكون الإيماء في كل صور العلة سواء كان طريق استخراجها المناسبة، أو الدوران أو غيرهما كما سبق تحقيقه في الإيماء"3.
3 -
نقله أيضاً الزركشي عن الهندي أن هذا التعريق "غير جامع" لأن التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة جائز على ما اختاره قائل هذا الحد والوصفية غير متحققة منها مع تحقق المناسبة4.
وأجيب عنه "بأن الحكمة تطلق بإطلاقين: تطلق أولاً على ما كانت واسطة في ترتب الحكم على الوصف كالمشقة، وتطلق ثانياً: على المقصود للشارع من شرع الحكم كالتخفيف.
والظاهر أن مرادهم بالحكمة التي يجوز التعليل بها إذا كانت ظاهرة منضبطة
1 هو: أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الملقب بصفي الدين الهندي، الفقيه الشافعي الأصولي، ولد سنة 644هـ اشتهر بعلمه حتى علا صيته، كان مفتياً، وقد جرت مناظرة بينه وبين شيخ الإسلام ابن تيمية بحضرة الأمير ننكز فانتصر الأمير لصفي الدين وأمر بحبس ابن تيمية، له مؤلفات منها في أصول الفقه نهاية الوصول إلى علم الأصول، توفي سنة 715هـ.
الفتح المبين 2/116، الأعلام للزركشي 7/72.
2 انظر: البحر المحيط 3/151 خ.
3 انظر: نبراس العقول 1/272.
4 انظر: البحر المحيط 3/151.
هي الأولى، وحينئذ لا نسلم أنه يصدق عليها التعريف، فإنه يقال لها: وصف ظاهر الخ، كما يؤخذ من السعد على العضد، والله تعالى أعلم1.
التعريف الثالث والرابع، لأبي عبد الله الرازي:
قال الأسنوي: "قال الإمام: من لا يعلل أحكام الله تعالى يقول: إن المناسب هو "الملائم لأفعال العقلاء في العادات".
ومن يعللها يقول: "إنه الوصف المفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً"2.
والذي في المحصول هو:
الأول: "هو الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاءً"، ويعبر عن التحصيل بجلب المنفعة، وعن الإبقاء بدفع المضرة.
الثاني: "أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات"3.
وواضح أن ما في المحصول موافق لما نقله الأسنوي عن الإمام، لأن التعريف الثاني مما في المحصول هو الأول بعينه عند الأسنوي، وأن الأول مما في المحصول موافق للثاني عند الأسنوي، لأن "ما يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاءً" معناه أن المناسب هو ما يفضي إلى ما يوافق الإنسان حال كون الموافق جالباً للمنفعة، أو دافعاً للمضرة، فإذاً لا فرق بين عبارة الإمام، وبين ما نسبه إليه الأسنوي، لأن الوصف الجالب من حيث ترتيب الحكم عليه، هو بعينه الوصف المفضي إلى الجالب4، والله تعالى أعلم.
شرح التعريفين:
أما التعريف الأول، فمعناه أن المناسب هو الوصف الملائم أي الموافق - من
1 انظر: نبراس العقول 1/272.
2 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/53.
3 انظر: المحصول 2 من القسم الثاني ص 218-219 ط جامعة الإمام.
4 انظر: نبراس العقول 1/275.
حيث ضم الحكم إليه وترتيبه عليه، لا من حيث ذاته - لأفعال العقلاء في مطرد العادات من ضم الشيء إلى ما يوافقه بحيث إذا أضيف الحكم إلى الوصف كان مناسباً لمشروعية الحكم، لما ترتب عليه من جلب المصلحة، أو دفع المفسدة.
وأما التعريف الثاني، فحاصله أن المناسب هو الوصف المفضي عقلاً إلى حكم يجلب للإنسان نفعاً، أو يدفع عنه ضرراً كالقتل العمد العدوان، فإنه يتقضي وجوب القصاص المقتضي لإبقاء الحياة، ودفع مضرة الهلاك1.
الاعتراضات الواردة على التعريفين، والإجابة عنها:
اعترض الأسنوي على التعريف الأول، بأن الأصوليين نصوا على أن القتل العمد العدوان، والإسكار، والسرقة والزنا، أوصاف مناسبة لمشروعية أحكامها، مع أنها غير ملائمة لأفعال العقلاء، بل إن العقلاء ينكرونها، وعلى ذلك فالتعريف لا يطابق المعرف2.
وأجيب عنه بأن المراد بملاءمتها لأفعال العقلاء ملاءمتها من حيث ترتيب الحكم عليها، لا من اعتبار ذواتها.
ومعلوم أن الأوصاف المذكورة ملائمة لأفعال العقلاء من هذه الحيثية3.
واعترض على الثاني بأنه غير جامع لأفراد المعرف، لأنه لا يشمل القتل العمد العدوان باعتبار كونه مفسدة، إذ المفسدة لا تجلب المصلحة، ولا تدفع المضرة. كما لا يشمل باقي الأوصاف السابقة4.
وواضح أن الاعتراض إنما يتوجه إلى التعريف إذا قصد من "ما" في قوله ما يجلب المصدرية، أما إذا جعلت نكرة موصوفة مراداً منها الحكم فلا يتوجه
1 انظر: نبراس العقول 1/273، رسالة مباحث القياس الأصولي ص 125.
2 انظر: نهاية السول بأعلى منهاج العقول 3/53، ومنهاج العقول 3/51.
3 انظر: الآيات البينات 4/88.
4 انظر: نهاية السول 3/53، منهاج العقول 3/51.
الاعتراض، لأن الأوصاف المذكورة تفضي إلى أحكامها، والأحكام تجلب المنافع وتدفع المفاسد.
وحتى على تسليم أن "ما" مصدرية، فإن المقصود من جلب المنفعة ودفع المفسدة، الجلب بواسطة شرعية الأحكام عند الأوصاف، ومعلوم أن الأوصاف المذكورة تجلب المنفعة وتدفع المفسدة بواسطة شرع الأحكام عندها1.
التعريف الخامس للبيضاوي:
فقد عرفه بأنه "ما يجلب للإنسان نفعاً، أو يدفع عنه ضرراً"2.
وقد اعترض عليه الأسنوي بقوله: "فجعل المقاصد أنفسها أوصافاً مناسبة على خلاف اختيار الإمام، وهو فاسد، ألا ترى مشروعية القصاص مثلاً جالبة، أو دافعة كما بيناه، وليست هي الوصف المناسب لأن المناسب من أقسام العلل، فيكون القتل في مثالنا، لا المشروعية، لأنها معلولة لا علة، وكذلك الردة وغيرها مما قلناه"3.
وظاهر كلام الأسنوي أن "ما" في تعريف البيضاوي تقع على الحكم المناسب والحكم غير الوصف المناسب، بل هو مترتب عليه، ويرجح ذلك قول الشارح ألا ترى أن مشروعية القصاص مثلاً جالبة، أو دافعة.
أما إن أريد بها المصالح المترتبة على شرع الحكم، فإنه يستقيم أن يقال: أن هذه المصالح مجلوبة لا جالبة، ومدفوعة لا دافعة.
فالحاصل أن "ما" إن وقعت في كلام المصنف على حكم كما فهمه الشارح لزمه أن يكون جعل الأحكام أنفسها أوصافاً مناسبة، والحكم غير الوصف، وإن وقعت على الوصف لزمه اعتراض هو أن الوصف المناسب الذي هو علة لا يجلب ولا يدفع.
1 انظر: أصول الفقه لأبي النور زهير 4/90.
2 انظر: المنهاج للبيضاوي مع شرحيه 3/50.
3 انظر: نهاية السول 3/53.
ويجاب عنه بأنه لا مانع من أن تكون ما في تعريف البيضاوي واقعة على وصف، والوصف يجلب المنفعة، ويدفع المضرة بواسطة ترتب الحكم عليه كما تقدم لا بذاته1.
"ولا شك أيضاً أن الأحكام الشرعية لا يصدق عليها أنها جالبة أو دافعة من حيث ترتيب الحكم عليها، بل من حيث ترتيبها هي على الأوصاف فلا يكون التعريف شاملاً لها، فاندفع الاعتراض
…
فظهر بهذا أنه جامع مانع، وأنه يرجع في المعنى إلى التعريف الثاني من تعريفي الإمام "الذين نقلهما عنه الأسنوي"، لأن إسناد الجلب أو الدفع هنا إلى الوصف، لا ينافي إسناده إلى الحكم في تعريف الإمام، لما تقدم أن الجالب، أو الدافع في الحقيقة هو ترتيب الحكم على الوصف، لا نفس الوصف، فالمسند إليه متحد في المعنى فيهما، ولذا جعلهما الجلال المحلّي في شرح جمع الجوامع تعريفاً واحداً"2.
الموازنة بين التعريفات:
يفهم من شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع أن هذه التعريفات متقاربة في المعنى، ولعل ذلك لكونها تصدق على شيء واحد، لأن ما يصدق عليه الملائم لأفعال العقلاء، يصدق عليه ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول كما يصدق عليه أنه يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً بالجعل عادة، وكذلك يصدق عليه كونه يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للشارع من حصول مصلحة أو دفع مفسدة.
لكن هذا بصرف النظر عن قيدي الظهور والانضباط، اللهم إلا أن يقال: إن هذين القيدين في الحقيقة من شروط ما يكون علة في ذاته كما تقدم.
1 انظر: الجواب في الآيات البينات 4/88، وتفاصيل ذلك كله في تعليقات د. عثمان مريزيق على القياس في الدفتر عندي.
2 رسالة مباحث القياس الأصولي للشيخ سويلم ص 137.
ويدل لتقارب المعنى أن الجلال المحلى عندما شرحها لم يضعف أي واحد منها، بل صرح - بعد أن ذكر منها: الملائم لأفعال العقلاء وما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول - بأنهما متقاربان1.
وبيّن العبادي وجه التقارب بأمرين:
الأول: أنه يمكن أن يوجه التقارب باتحادهما ذاتاً، واختلافهما مفهوماً لأنه اعتبر في كل منهما ما لم يعتبر في الآخر.
الثاني: أن اقتصاره على تقارب هذين لعله لظهوره2، لأن الملائم للعقول تتلقاه بالقبول، كما أن العضد صرح بأن تعريف أبي زيد مقارب لتعريف ابن الحاجب3، وبين السعد وجه التقارب بأن "تلقى العقول بالقبول في قوة حصول ما يصلح مقصوداً للعقلاء من ترتيب الحكم عليه، إلا انه لم يصرح بالظهور والانضباط"4.
قال العبادي: "فثبت بذلك التقارب بين ما عدى الثاني".
"قال": ولا يخفى إمكان رد الثاني إليها أيضاً، لأن ما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً أي بالجعل عادة ملائم لأفعال العقلاء عادة، وتتلقاه العقول بالقبول ويحصل من ترتيب الحكم عليه ما يحصل أن يكون مقصوداً
…
الخ.
ولا يرد أن هذا قول من يعلل أحكام الله تعالى بالمصالح كما نقله الشارح عن المحصول، لأن ذلك غير لازم.
فقد قال السيد الجرجاني: إذا ترتب على فعل أثر فمن حيث أنه ثمرته يسمى فائدة، ومن حيث أنه طرف للفعل يسمى غاية، ثم إن كان سبباً لإقدام الفاعل يسمى بالقياس إلى الفاعل غرضاً، وإن لم يكن فغاية فقط، وأفعال الله تعالى يترتب عليها حكم وفوائد لا تعد.
1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/319، نبراس العقول 1/275.
2 الآيات البينات 4/89.
3 العضد 2/240.
4 حاشية السعد على العضد 2/240.
فذهب الأشاعرة والحكماء إلى أنها غايات ومنافع راجعة إلى الخلق لا غرضاً، وعلة لفعله لوجهين، وبينهما انتهى.
وحينئذ فيجوز أن يقال في ترتب حصول النفع أو دفع الضرر على ربط الحكم بعلته: ما قاله الأشاعرة في تلك الحكم والمصالح المترتبة على أفعال الله تعالى من غير لزوم محذور على ذلك، والله تعالى أعلم1.
وهذه التعاريف وإن كانت متقاربة لما قدمته إلا أن أخصها هو تعريف ابن الحاجب الذي تبع فيه الآمدي، لأنه قاصر على تعريف المناسب الذي يصلح للتعليل بنفسه، وهو الوصف الظاهر المنضبط، ولأنه لا يحتاج إلى تأويل بخلاف غيره المشتمل على الخفي والمضطرب، فهو يحتاج إلى تأويل، وما لا يحتاج أولى مما يحتاج، والله تعالى أعلم.
1 الآيات البينات 4/89-90.