الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في إقامة الدليل على أن المناسبة دالة على العلية
تقدم أن المناسبة هي ملاءمة الوصف للحكم بحيث يلزم من ترتيب الحكم عليه حصول مصلحة للعباد، أو دفع مفسدة عنهم، وهذه المصلحة أو دفع المفسدة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وذلك كما في الإسكار، فإنه وصف مناسب للتحريم، لأنه يزيل العقل، ودرء المفسدة متمحض في منع ما يزيل العقل المطلوب حفظه بمنعه من تعاطي المسكرات.
فإذا ورد في الشرع حكم وفي محله وصف مناسب لذلك الحكم من غير أن يكون إثبات عليته له بنص أو إيماء، وكان في ترتب الحكم عليه مصلحة للعباد صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، فإنه يحصل للمجتهد الظن بأن هذا الوصف علة لذلك الحكم، وليس لديه طريق توصله إلى هذا الظن سوى مناسبة الوصف للحكم، فحينئذ يثبت أن المناسبة تدل على علية الوصف المناسب، وتقرير هذا يتوقف على أمرين:
الأول: أن الأحكام معللة بمصالح العباد1، أما كونها معللة بمصالح ومقاصد، فقد استدل عليه الآمدي بالإجماع والمعقول فقال: "أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا.
وأما المعقول، فهو أن الله حكيم في صنعه، فرعاية الغرض في صنعه، إما أن يكون واجباً، أو لا يكون واجباً، فإن كان واجباً، فلم يخل عن المقصود وإن لم يكن واجباً، ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود، فكان المقصود من فعله ظناً.
1 نهاية السول 3/58، ومنهاج العقول بأسفل نهاية السول 3/56.
وإذا كان المقصود لازماً في صنعه، فالأحكام من صنعه، فكانت لغرض ومقصود والغرض أن يكون عائداً إلى الله تعالى، أو إلى العباد، ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع، ولأنه على خلاف الإجماع، فلم يبق سوى الثاني.
وأيضاً فإن الأحكام مما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت رحمة للعالمين لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 1، فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين، ما كانت رحمة، بل نقمة لكون التكليف بها محض تعب ونصب.
وأيضاً قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 2، فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة، كانت نقمة لا رحمة لما سبق، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" 3، فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد، لكان شرعها ضرراً محضاً وكان ذلك بسبب الإسلام، وهو خلاف النص"4.
واستدل الإمام على أن الله تعالى شرع أحكامه لمصالح العباد بوجوه:
"أحدها: أن الله تعلى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين بمرجح أو لا لمرجح، والقسم الثاني باطل، وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين بلا مرجح وهو محال، فثبت القسم الأول.
وذلك المرجح إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى، أو إلى العبد، والأول باطل بإجماع المسلمين، فتعين الثاني، وهو أنه تعالى إنما شرع الأحكام لأمر عائد إلى العبد، والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة العبد، أو مفسدة أو ما لا يكون مصلحة ولا مفسدة، والقسم الثاني والثالث باطلان باتفاق العقلاء فبقي الأول، فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصلحة العباد.
1 سورة الأنبياء آية: 107.
2 سورة الأعراف آية: 156.
3 انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/122.
4 انظر: الأحكام للآمدي 3/263-264.
وثانيها: أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلى المصلحة، فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثاً، والعبث على الله تعالى محال للنص والإجماع، والمعقول.
وأما النص، فقوله تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} 1، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} 2، {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَاّ بِالْحَقِّ} 3.
وأما الإجماع، فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث.
وأما المعقول، فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال، فثبت أنه لا بد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى كما بينا، فلا بد من عودها إلى العبد، فثبت أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد.
وثالثها: أنه تعالى خلق الآدمي مشرفاً مكرماً، لقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 4، ومن كرم أحداً ثم سعى في تحصيل مطلوبه كان ذلك السعي ملائماً لأفعال العقلاء مستحسناً فيما بينهم، فإذن، ظن كون المكلف مشرفاً مكرماً يقتضي ظن أنه تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له.
ورابعها: أنه تعالى خلق الآدميين لعبادته، لقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 5، والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلا بد وأن يزيح علته، ويسعى في تحصيل منافعه، ودفع المضار عنه، ليصير فارغاً البال، فيتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به، والاجتناب عما نهاه عنه، فكونه مكلفاً يقتضي ظن أنه تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة.
1 سورة المؤمنون آية: 115.
2 سورة آل عمران آية: 191.
3 سورة الدخان آية: 39.
4 سورة الإسراء آية: 70.
5 سورة الذاريات آية: 59.
وخامسها: النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب الشرع، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 1، وقال:{خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} 2، وقال:{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} 3، وقال:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4، وقال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 5، وقال صلى الله عليه وسلم:"بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" 6، وقال:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"7.
وسادسهاً: أنه تعالى وصف نفسه بكونه رؤوفاً رحيماً بعباده، وقال:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 8، فلو شرع ما لا يكون فيه مصلحة لم يكن ذلك رأفة ولا رحمة.
فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصالح العباد.
ثم اختلف الناس بعد ذلك: فالمعتزلة سرحوا بأنه يجب أن يكون فعله مشتملاً على المصلحة، وأنه يقبح من الله تعالى القبيح، وفعل العبث.
1 سورة الأنبياء آية: 107.
2 سورة البقرة آية: 29.
3 سورة الجاثية آية: 13.
4 سورة البقرة آية: 185.
5 سورة الحج آية: 78.
6 رواه السيوطي في الجامع الصغير بلفظ "بعثت بالحنفية السمحة، ومن خالف سنتي فليس مني"، وقال: ضعيف، قال المناوي: "وفيه علي بن عمر الحربي أورده الذهبي في الضعفاء، وقال: صدوق ضعفه البرقاني، ومسلم بن عبد ربه ضعفه الأزدي، ومن ثم أطلق الحافظ العراقي ضعف سنده، وقال العلائي: مسلم ضعفه الأزدي، ولم أجد أحداً وثقه لكن له طرق ثلاث ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن، انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 3/203.
قال العجلوني: ورواه الديلمي عن عائشة رضي الله عنها في حديث الحبشة ولعبهم ونظر عائشة إليهم، قال: رواه أحمد بسند حسن عنها، وترجم البخاري في صحيحه بلفظ "أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة"، ورواه في الأدب المفرد عن ابن عباس، انظر: كشف الخفاء 1/217.
7 انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/122.
8 سورة الأعراف آية: 156.
والفقهاء يقولون: إنما شرع الأحكام لمصالح العباد تفضلاً وإحساناً على عباده"1.
وأما البيضاوي، فقد استدل على أن الله تعالى شرع أحكامه لمصالح العباد بالاستقراء، وقرر الأسنوي والبدخشي ذلك بأن العلماء تتبعوا أحكام الشرع، فوجدوا كل حكم منها مشتملاً على مصلحة عائدة إلى العباد.
ولما كانت المصالح غير منفكة عن الأحكام، فإن شرعيتها حينئذ للمصالح لكن ذلك على سبيل التفضل والإحسان، لا على سبيل الوجوب كما قالت المعتزلة2.
وواضح من النقول المتقدمة أن الأحكام معللة بمصالح العباد، وأن ذلك تفضل من الله على عباده.
الأمر الثاني: أن تكون المصلحة التي ترتب الحكم فيها على الوصف لم توجد معها مصلحة أخرى ناشئة عن هذا الحكم، ليحصل ظن كون الوصف علة للحكم، إذ لو كان معها مصلحة أخرى، لم يحصل ظن علية الوصف للحكم، لجواز أن يكون الوصف الآخر علة للحكم.
وعلى هذا فحيث ثبت حكم شرعي، وهناك وصف مناسب له متضمن لمصلحة العبد، ولم يوجد غيره من الأوصاف الصالحة للعلية غلب على الظن كونه علة لذلك الحكم، لكون الأصل عدم غيره من الأوصاف الصالحة للعلية، وامتناع خلو الحكم عن العلة، فالمناسبة حينئذ تفيد ظن العلية، والظن يجب العمل به، لإجماع الصحابة على وجوب اتباعه في الأحكام الشرعية، فثبت أن المناسبة تفيد العلية وهو المطلوب3.
1 انظر: المحصول ص 309 خ.
2 انظر: نهاية السول 3/58، ومنهاج العقول 3/56.
3 الأحكام للآمدي 3/264، ونهاية السول 3/58، ومنهاج العقول 3/56.
وأما إمام الحرمين، فقد استدل على كون المناسبة حجة بتمسك الصحابة رضي الله عنهم بها، حيث كانوا يلحقون غير المنصوص عليه بالمنصوص، إذا غلب على ظنهم أنه يشبهه1.
لكن يرد على هذا ما ذكره الأصفهاني في الرسالة البهائية أنه "ما نقل إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن غالب، فلا يبعدان يتعبدنا بنوع من الظن الغالب، ونحن لا نعلم ذلك النوع، ثم قال: الأولى الاعتماد على العمومات كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} 2، وقول معاذ: "اجتهد رأى"3.
وأجاب عنه الزركشي بقوله: "والحق أن استقراء أحكام الشرع دل على ضبط هذه الأحكام بالمصالح، وهذا كاف فيما يرومه، وذلك بفضل الله جل اسمه، لا وجوباً عليه خلافاً للمعتزلة في وجوب رعاية الأصلح"4.
ثم قال إمام الحرمين مبيناً وجه دلالة المناسبة على العلية: "إذا ثبت حكم في أصل، وكان يلوح في سبيل الظن استناد ذلك إلى أمر، ولم يناقض ذلك الأمر شيء، فهذا هو الضبط الذي لا يفرض عليه مزيد، فإذا أشعر الحكم في ظن الناظر بمقتضى استناداً إليه، فذلك المعنى هو المظنون علماً وعلة، لاقتضاء الحكم، فإذا ظهر هذا وتبين أن الظن كاف، وتوقع الخطأ غير قادح، ولا مانع من تعليق الحكم، كان ذلك كافياً بالغاً.
ومما يعضد به الغرض: أن كل حكم أشعر بعلة ومقتضى، ولم يدرأه أصل في الشرع، فهو الذي يقضي بكونه معتبر النظر، فالشارع ما أشار إلى جميع الأحكام، واستنبط نظار الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يتلقون نظرهم مما ذكرت قطعاً.
فإن قيل: فالإخالة مع السلامة إذن هي الدالة؟ قلنا: لا، ولكن إذا ثبت
1 انظر: البرهان ص 224 خ.
2 سورة الحشر آية: 2.
3 انظر: المحصول 3/250-251، والحديث أخرجه أبو داود 2/272.
4 انظر: البحر المحيط 3/151.
الإخالة، ولاحت المناسبة، واندفعت المبطلات، التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي الله عنهم، فالدليل إجماعهم إذن"1.
والحاصل أن هذه النقول التي نقلتها أفادت إقامة الدليل على اعتبار المناسبة، وذلك للإجماع على تعليل أحكام الله تعالى بمصالح العباد، ولأن العقل دل على رعاية الله تعالى لها تفضلاً منه عليهم ورحمة بهم على مذهب أهل السنة، وإيجاباً على رأي المعتزلة، لكون ذلك هو مقتضى حكمته كما أنه هو مقتضى ما تضمنته آيات القرآن السالفة الذكر من نفي الضرر والحرج على العباد المقتضى إرادة مصالحهم.
فوجود هذه المصالح، وترتب الأحكام عليها يفيد حصول الظن الغالب بعليتها لها، والظن يجب العمل له، لإجماع الصحابة على اتباع الظن في الشرعيات، والله تعالى أعلم.
1 انظر: البرهان ص 224 خ، و 2/804 من المطبوع.