المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: استئذان البكر البالغ - الولاية في النكاح - جـ ١

[عوض بن رجاء العوفي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: تمهيد في معنى الولاية والنكاح وحكمة مشروعيتهما

- ‌المبحث الأوَّل: معنى الولاية

- ‌المبحث الثَّاني: معنى النِّكاح

- ‌المبحث الثَّالث: مشروعية النِّكاح وحكمته

- ‌المبحث الرَّابع: مشروعية الوِلاية في النكاح وحكمتها

- ‌الفصل الثاني: الولاية في النكاح على الحرّة المكلفة

- ‌المبحث الأوَّل: تمهيد في بيان أسباب ثبوت الولاية على النفس عموماً

- ‌المبحث الثَّاني: بيان المذاهب وأدلَّتها في حكم الولاية في النِّكاح على الحرَّة المكلَّفة

- ‌الفصل الثالث: استئذان الوليّ للحرّة المكلفة في نكاحها

- ‌المبحث الأول: استئذان البكر البالغ

- ‌المبحث الثَّاني: استئذان الثيّب البالغ

- ‌الفصل الرابع: الولاية في النكاح على الصغار

- ‌المبحث الأول: ثبوت الولاية في النِّكاح على الصِّغار

- ‌المبحث الثَّاني: إنكاح الصِّغار أنفسَهم

- ‌المبحث الثَّالث: تزويج الأولياء للصّغار

- ‌الفصل الخامس: الولاية في النكاح على المجانين

- ‌المبحث الأوّل: تمهيد: في ثبوت الولاية في النّكاح على المجانين

- ‌المبحث الثَّاني: تزويج الأولياء للمجانين

- ‌الفصل السادس: الولاية في النكاح على السفيه

- ‌المبحث الأوّل: معنى السفه لغة واصطلاحًا

- ‌المبحث الثَّاني: المقصود بالسفيه في هذا المبحث

- ‌المبحث الثَّالث: الولاية على السّفيه في ماله

- ‌المبحث الرَّابع: الولاية في النّكاح على السفيه

الفصل: ‌المبحث الأول: استئذان البكر البالغ

‌الفصل الثالث: استئذان الوليّ للحرّة المكلفة في نكاحها

‌المبحث الأول: استئذان البكر البالغ

تمهيد:

لقدتقدم في الفصل السابق بحث حكم الولاية على الحرّة المكلّفة، وقلنا: إنّها أهمُّ مسالة في هذا البحث، وقد اخترنا مذهب الجمهور القائلين باشتراط الولاية في نكاحها؛ وعليه فلا صحّة لنكاحها بدون وليّها، ويبقى أن نعرف ما إذا كان لوليّها أن يستبدَّ بهذه الولاية عليها فيعقد نكاحها، شاءت أم أبت، رضيت أم كرهت، أم ليس له ذلك إلا بإذنها ورضاها؟.

وهي مسألة لا تقل أهميّة عن سابقتها، أعني ولاية العقد عليها مع أنّها تسبق العقد في الوجود؛ فالإذن أوّلاً، والعقد ثانيا، إلاّ أنّه لمَّا كان استئذان الوليّ لها فرعًا، عن ثبوت ولايته عليها ناسب تأخير حكم الاستئذان عن حكم العقد.

وإنّ مما ينبغي معرفته قبل الدخول في تفاصيل هذه المسألة:

أنّه لا خلاف بين المسلمين في استحباب استئذان الوليِّ لها؛ لما يترتَّب عليه من ألفةٍ، ومودَّة، وسكن، وراحة للحياة الزوجية، وفي ذلك تحقيق لمصالح النّكاح الشرعية من عشرة بينهما بالمعروف، وقيام بالحقوق الزوجيَّة لكلٍّ منهما نحو صاحبه، وفي ذلك دوام للنّكاح، واستقرار له، وتعاون على حفظ النسل وتربيته.

ص: 270

وإنّما الخلاف في حكم إجبار الوليّ لها، أي تزويجها بدون إذنها، ولزوم هذا النّكاح لها، وهذا ما سنتناوله- بمشيئة الله تعالى- في هذا الفصل.

ونظرا لأنّ للبكارة والثيوبة تأثيرهما في اعتبار الرضى وصفته، فإنَّنا سنفرد لكلٍّ من البكر والثيِّب مبحثًا خاصًّا، يشتمل كلٌّ منهما على المقصود بالبكارة والثيوبة، وحكم استئذان كلٍّ من البكر والثيِّب وصفة إذنها. والله الموفِّق وهو المستعان.

ص: 271

المبحث الأوَّل: استئذان البِكْرالبالغ

1-

المقصود بالبِكْر:

البِكْر لغة: العذراء التي لم يمسَّها رجل. وأصل مادة "بكر" راجع إلى أوّلِّ كلِّ شيء، وبدايته، كالبُكْرة: للغداة وهي: أوَّل النَّهار.

والتَّبكير: وهو الذهاب في أوَّل كلِّ وقت، وقد تسمّى المرأة في أوَّل حمل لها، أو ولد تضعه بِكْرًا.

قال ابن منظور: البِكْر: الجارية التي لم تفتض، وجمعها أبكار، والبِكْر من النساء التي لم يقربها رجل، ومن الرجال الذي لم يقرب امرأة، والجمع أبكار، وامرأة بِكْر: حملت بطنًا واحدًا. والبِكْر: العذراء، والمصدر البَكارة - بالفتح- والبِكْر: المرأة التي ولدت بطناً واحدًا، وبِكْرُها ولدها، والذكر والأنثى في هذا سواء1 انتهى.

وأما البِكْر في اصطلاح الفقهاء: فالمراد بها المرأة التي لم يمسَّها رجل، حتى لو زالت بكارتها بغير وطء، فهي بِكْر إجماعًا عندهم، فإن وطئها رجل في نكاح صحيح أو فاسد أو شبهة نكاح فهي ثيّب إجماعًا، وفيمن زالت بكارتها بوطء حرام- أي زنى- خلاف، سيأتي بيانه.

1 لسان العرب (4/78) . وانظر مادة (بكر) في كلّ من: الصحاح (2/595) ، مقاييس اللغة لابن فارس (1/287-289) ، والقاموس (1/390) ، وتاج العروس (3/57) وانظر مادة "عذر" لابن الأثير في النهاية (3/196) .

ص: 272

وعلى هذا فالبكر عند الفقهاء- في هذا المبحث- أخصُّ ممّا نصّت عليه معاجم اللغة، كما هو الشأن في كثير من دلالات الألفاظ على معناها اللغوي من جهة، ثم معناها الشرعي أو الاصطلاحي من جهة أخرى.

وعلى هذا فلا يدخل في مسمّى البكر هنا: الرجل الذي لم يطأ امرأة بعد، وإن سمّى بكرًا كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة". رواه مسلم وغيره1.

وكذلك لا تدخل المرأة بعد وطئها، فضلاً عن أن تسمّى بكرًا بعد حملها أو وضعها أوّل أولادها، إلاّ ما قيل في الموطوءة بزنى، وإن كانت ثيّباً لغة.

ولعل تسمية أهل اللغة للمرأة في أول حمل لها، أو ولد تضعه بكرًا إنّما هو استصحاب للاسم الأول؛ لقرب عهدها به، أو باعتبار عموم التسمية في الأصل: وهو أنَّ أوَّل كلِّ شيء يسمّى بكرًا، وهذا أوَّل حمل لها، وأوَّل ولد تضعه، فسميت بكرًا لذلك، والله أعلم.

1 رواه مسلم (11/188-191نووي) ، كتاب الحدود، باب حد الزاني، وتمامه:"خذوا عنّي خذوا عنّي، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيّب بالثيِّب جلد مائة والرجم". من حديث عبادة بن الصامترضي الله عنه.

وانظر بقية من خرجه وطرقه وشواهده في كل من: نصب الراية (3/330-332) . وإرواء الغليل (8/10) .

ص: 273

2-

حكم استئذان البكر البالغ في نكاحها:

اتَّفق العلماء على أنّه ليس لأحد من الأولياء إجبار بكر بالغ1.

على النّكاح بدون إذنها ورضاها، إن لم يكن وليُّها أباً أو جدًّا2، وأمّا إن كان وليُّها أباها أو جدّها ففي القول بإجبارها الأقوال التالية:

القول الأوَّل: أنّها لا تُنْكَح إلاّ بإذنها ورضاها، فلا يجبرها أب ولا غيره.

وهذا مذهب الحنفية اتِّفاقًا عندهم، وهو ظاهر من مذهبهم؛ إذ إنَّ الولاية عليها- عندهم- ولاية ندب واستحباب، لا شرط في صحَّة العقد.

ووافقهم على عدم الإجبار أهل الظاهر، والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، اختارها أبو بكر3، وشيخ الاسلام ابن تيميَّة، وتلميذه ابن القيّم، وعزاها لجمهور السلف4.

1 يقال: جارية بالغ، وبالغة، والأوَّل هو المسموع من فصحاء العرب وعليه جرى أكثر المؤلفين شهرة أيضًا.

وانظر: اللسان (8/420) مادة "بلغ".

2 الحصر هنا للأولياء أصالة، وإلاّ فالوكيل يقوم مقام موكِّله، وكذلك الوصيّ على القول بولايته.

3 هو: عبد العزيز بن جعفر، غلام أبي بكر الخلال، المتوفي سنة 363 هـ، انظر: الأعلام (4/139) ، وطبقات الحنابلة (2/119-127) ، وقد نصَّ على هذه المسألة أيضًا في المسائل التي خالف فيها أبو بكر الخرقي في ترجمة الخرقي من الطبقات (2/99) .

4 انظر للحنفية: المبسوط (5/2-3) ، فتح القدير على الهداية (3/ 260-263) .

وللحنا بلة: المغني (7/ 380) ، الإنصاف (8/55) ، كشاف القناع (5/43) ، والفتاوى (32/22-25) وزاد المعاد لابن القيم (5/95-99) .

وللظاهرية: المحلى لابن حزم (9/459) .

ص: 274

القول الثَّاني: إنَّ لأبيها خاصَّة إجبارها دون سائر الأولياء.

وهذا مذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى، والتي قال فيها صاحب الإنصاف: "إنّها الصحيح من المذهب وعليها جماهير الأصحاب1.

إلاّ أن للبكر في مذهب المالكيّة حالات ليس لأبيها إجبارها أيضًا

ومن ذلك:

1-

البكر العانس: في رواية عن مالك، والمشهور إجبارها ولو كانت عانسًا، وهي من طالت إقامتها ببيت أهلها بعد بلوغها.2

1 انظر للحنابلة: المغني (7/ 380) ، المبدع (7/23) ، كشاف القناع (5/43) ، الإنصاف (8/55) .

وللمالكية: الخرشي (3/ 176) ، الشرح الكبير (2/ 222-223) ، منح الجليل (2/14-15) .

ولهما: الإفصاح لابن هبيرة (2/112) ، وبداية المجتهد لابن رشد (2/4) .

2 قال الخرشي: العانس هي من طالت إقامتها عند أهلها، وعرفت مصالح نفسها، ولم تزوّج، وهل سنّها ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون أو خمسة وثلاثون أو أربعون أو خمس وأربعون أو خمسون أو منها إلى الستين؟ أقوال اهـ (3/176) .

وانظر أيضا في هذه الرواية: بداية المجتهد (2/ 4) ، وقوانين الأحكام لابن جزي (3/222) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/ 222) .

ص: 275

2-

البكر التي رشَّدها أبوها: وهذا هو المشهور من المذهب خلافا لابن عبد البر1

3-

البكر التي دخل بها زوجها، وأقامت في بيته سنة كاملة، وشهدت مشاهد النِّساء، وقد أنكرت المسيس بعد فراقها، وهذا مع العلم أو الجهل بخلوة الزوج بها، أمّا إذا علم عدم خلوته بها أو الوصول إليها فلا يرتفع إجبارها، ولو أقامت على عقد النّكاح أكثر من سنة.2

القول الثَّالث: أنَّ لكلٍّ من أبيها وجدّها إجبارها دون سائر الأولياء، ما لم تكن بينها وبينهما عداوة ظاهرة، فأب الأب يقوم مقامه عندعدمه.

وهذا مذهب الشافعية3

1 قال الخرشي: ومعنى رشَّدها: أن يقول لها أبوها: قد رشّدتك، أو أنت مرشَّدة، أو أطلقت يدك ونحو ذلك، ولو قبل البلوغ اهـ. (3/177) .

وانظر أيضًا في هذه الرواية: الشرح الكبير والدسوقي (3/223) ، ومنح الجليل (2/15) .

2 انظر: الشرح الكبير والدسوقي (2/223) ، ومنح الجليل (2/15) والمدونة (2/141) .

3 انظر: الأم (5/17، 19) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/149) ، وتحفة المحتاج (7/243-245) ، ونهاية المحتاج (6/228-229) ، وروضة الطالبين (7/53-54) والتكملة الثانية للمجموع (16/165) .

ص: 276

الأدلّة:

أوّلاً: أدلّة من لم ير لأحد من الأولياء إجبار البكر البالغ.

استدلَّ أصحاب هذا القول بالسنّة الصحيحة المستفيضة في الأمر باستئذان البكر والنهي عن نكاحها بدون إذنها، ومن ذلك:

1-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنْكَح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُنْكَح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت".

رواه الأئمة أحمد، والستة، وا لدرامي، وا بن الجارود، والدارقطني والبيهقي، وغيرهم1. واللفظ هنا للبخاري.

1 1- أحمد: (16/157ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب ما جاء في إجبار البكر واستئمار الثيّب) .

2-

البخاري: (9/191 الفتح) نكاح، باب "لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلاّ برضاهما"، وفي مواضع أخر، وهنا نبّه المحقق على أطرافه.

3-

مسلم: (9/ 202 نووي) نكاح، باب استئذان الثيب في النّكاح بالنطق والبكر بالسكوت.

4-

أبو داود: (6/115-116عون المعبود) نكاح، باب في الأستئمار.

5-

الترمذي: (4/ 240- 241 تحفة) نكاح، باب ما جاء في استئمار البكر والثيب.

6-

النسائي: (6/85-86) نكاح، استئمار الثيب في نفسها، وإذن البكر.

7-

ابن ماجة: (1/601-602) نكاح، باب استئمار البكر والثيب.

8-

الدارمي: (2/ 62) نكاح، باب استئمار البكر والثيب.

9-

ابن الجارود: (ص 237 مع تخريجه) نكاح.

0 1- الدارقطي: (3/237-238مع التعليق المغني) .

11-

البيهقي: (7/119) نكاح، باب ما جاء في إنكاح الثيب، وفي مواضع أخر. وانظر من كتب التخريج:

نصب الراية (3/194) ، وإرواء الغليل (6/228) .

ص: 277

فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إنكاح البكر حتى تستأذن، والنهي يقتضي التحريم، وظاهره العموم في كلِّ بكر، وفي كلِّ وليٍّ، لا فرق بين أب ولا غيره، وبهذا ترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله: "باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثَّيِّب إلاّ برضاهما1.

2-

حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: "يستأمر النّساء في أبضاعهنَّ؟ قال: نعم، قلت: فإنَّ البكرتستحي فتسكت، قال: سكاتها إذنها".

وفي لفظ آخر: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تستأذن النّساء، قلت: إنَّ البكر تستحي، قال: إذنها صماتها". رواه الأئمة: أحمد، والبخاري- واللفظان له-، ومسلم، وا لنسائي، وا بن الجارود، والبيهقي، ورواه أبو داود معلَّقًا2.

1 البخاري مع فتح الباري9/191) ، وانظر: شرح النووي على مسلم (9/204) ، وفتح الباري (9/ 192) .

2 تخريجه:

1-

أحمد: (16/158 ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب ما جاء في إجبار البكر واستئمار الثيب) .

2-

البخاري: رواه في ثلاثة مواضع من صحيحه، فرواه باللفظ الأوّل: في كتاب الإكراه، باب لا يجوز نكاح المكره (12/319 الفتح)، وباللفظ الثاني: في كتاب الحيل، باب في النكاح (12/ 340 الفتح) ، وبلفظ مختصر في كتاب النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلاّ برضاهما (9/ 191 الفتح) .

3-

مسلم: (9/203-204نووي) نكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت.

4-

أبو داود: (6/118-119عون المعبود، إلاّ أنّه غير مسند) نكاح، باب في الا ستئمار،.

5-

النسائي (6/ 85-86) نكاح، إذن البكر.

6-

ابن الجارود: (ص 238 مع تخريجه) نكاح.

7-

البيهقي (7/119) نكاح، باب ما جاء في إنكاح الثيب وفي مواضع أخر.

ص: 278

وفي هذا تأكيد لمشروعيّة استئذان النّساء وإن كن أبكارًا، كما في حديث ابن عباس الآتي.

3-

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها". رواه مسلم والأربعة وغيرهم. وتقدم تخريجه1.

فإنَّ مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: "والبكر تستأذن في نفسها" أنّها لا تجبر على النّكاح، ولا تزوّج إلاّ برضاها؟ فإنّه خبر في معنى الأمر، كما قال ابن القيِّم- رحمه الله في تهذيب السنن: "هذا خبر في معنى الأمر على إحدى الطريقتين، أو خبر محض، ويكون خبرا عن حكم الشرع لا خبرًا عن

1 تقدم تخريجه (ص 167) .

ص: 279

الواقع، وهي طريقة المحقِّقين"1. وقال في زاد المعاد:"هذا أمر مؤكّد لأنّه ورد بصيغة الخبر الدّال على تحقّق المخبر به، وثبوته، ولزومه، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب ما لم يقم إجماع على خلافه"2 اهـ.

ولا يخفى أنَّ استئذان البكر هنا عامٌّ في كلِّ بكر، وفي كلِّ وليّ، لا فرق بين أب وغيره، بل لقد ورد النصّ على استئذان الأب لابنته في بعض طرق روايات هذا الحديث، وهو: ما رواه سفيان بن عُيينة عن زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الثَّيِّب أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها" فزاد فيه لفظ "الأب" وقد رواه بهذه الزيادة: أحمد، ومسلم، وأبو داود، وا لنسائي، والدارقطني، والبيهقي، إلاّ أنَّ لفظ مسلم والبيهقي "يستأذنها" بدل "يستأمرها"3. وهذا نصّ في محل النّزاع، كما قاله ابن رشد4، إلاّ أنّه قيل: إنّ هذه الزيادة غير محفوظة، فقد قال أبو داود: (أبوها) ليس بمحفوظ5.

1 تهذيب السنن لابن القيم (3/40مع معالم السنن للخطابي) .

2 زاد المعاد (5/97) .

3 راجع مصادر التخريج السابق (ص 167، 170) .

4 بداية المجتهد (2/ 4) .

5 أبو داود (6/125عون المعبود) .

ص: 280

وقال الدارقطني: "وأمّا زيادة ابن عُيينة، عن زياد بن سعد "والبكر يستأمرها أبوها" فإنّا لا نعلم أحدًا وافق ابن عُيينة على هذا اللفظ، ولعلّه ذكره من حفظه فسبق لسانه"1. والله أعلم.

وبمثل هذا أجاب البيهقي أيضًا2.

وأمَّا الطريق الصحيحة، أعني- لفظ "البكر تستأذن-" فقالوا: إنّها محمولة إمّا على البكر اليتيمة، وإمَّا على استطابة النفس، كما تستأذن المرأة في نكاح ابنتها تطييبًا لقلبها، وذلك مستحب وليس بواجب.

فأمّا حمله على البكر اليتيمة؛ فبدلالة الأحاديث الصحيحة الدَّالّة على وجوب استئمار اليتيمة، ومنها ما جاء مصرَّحًا به في حديث ابن عباس هذا؛ إذ جاء في بعض ألفاظه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليها، واليتيمة تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها"، وفي لفظ "الأيّم أولى بأمرها، واليتيمة تستأمر في نفسها وإذنها صماتها". رواهما النسائي والدارقطني3.

1 الدارقطني (3/ 241 مع التعليق المغني) .

2 البيهقي (7/116) .

3 النسائي (6/84-85مع شرحي السيوطي والسندي) نكاح، استئذان البكر. الدارقطي (3/239-240مع التعليق المغنى.

ص: 281

وقد تقدّمت أيضًا رواية معمر، عن صالح بن كَيْسان، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"ليس للوليّ مع الثَّيِّب أمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها "1.

والذي يظهر لي- والله أعلم- أنَّ زيادة ابن عيينة في هذا الحديث "والبكر يستأذنها أبوها" زيادة ثقة، مقبولة، كما قرَّره الحافظ ابن حجر وغيره من المحدّثين2. ولا معارضة بينها وبين الرواية المحفوظة بلفظ "والبكر تستأذن"، بل تؤيِّدها؛ لأن لفظ "البكر تستأذن" عامٌّ في كلِّ بكر، وكلِّ وليٍّ، سواء كان أبًا أم غيره.

ولفظ "يستأمرها أو يستأذنها أبوها" تنصيص على استئمار الأب لها دفعاً لتوهُّم إجباره لها، وتأكيدًا على استئمار غيره لها من باب أولى، وكذلك لا معارضة بين هذه الألفاظ جميعًا ولفظ "اليتيمة تستأمر".

فإن لفظ "والبكر تستأذن" عامٌّ في كلِّ بكر، يتيمة أو ذات أب.

ولفظ "البكر يستأذنها أبوها" نصٌّ على ذات الأب، وغيره من باب أولى.

ولفظ "واليتيمة تستأمر" نصّ على غير ذات الأب؛ إذ لفظ اليتم مشعر بوجوب زيادة الشفقة عليها والنظر لحالها.

1 تقدم تخريجة والكلام على إسناده هذا (ص 173 وما بعدها) .

2 فتح الباري (9/193) ، نيل الأوطار (6/ 0 4 1) .

ص: 282

والجمع بين تلك الألفاظ واضح، وهو وجوب استئمار الأبكار مطلقًا؛ يتامى أو غير يتامى، وهذا أولى من ردّ بعض الألفاظ والأخذ ببعضها.

وأمّا حمل الأمر بالاستئذان هنا على استطابة النفس في ذات الأب، فهو خلاف الظاهر، وتخصيص بغير مخصِّص. والله أعلم.

4-

ما رواه عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، "أنّ جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أنّ أباها زوّجها وهي كارهة، فخيرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم". رواه الإمام أحمد، وأبو داود- وهذا لفظه- وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي1.

1 تخريجه:

1-

أحمد: (16/162 ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب ما جاء في تزويج الأب ابنته الثيب أو البكر البالغ بغير رضاها) .

2-

أبو داود: (6/120-121عون المعبود) نكاح، باب البكر يزوّجها أبوها ولا يستأمرها.

3-

ابن ماجه: (1/603) نكاح، باب من زوّج ابنته وهي كارهة.

4-

الدارقطني: (3/235) نكاح.

5-

البيهقي (7/117) نكاح، باب ما جاء في نكاح الآباء الأبكار.

وانظر من كتب التخريج: نصب الراية (3/190) ، والتلخيص الحبير (3/184) .

ص: 283

فهذا حديث صريح في قضاء النبيّ صلى الله عليه وسلم للبكرأنّه ليس لأبيها إجبارها على النّكاح بغير رضاها؛ إذ لو كان لأبيها إجبارها لما خيَّرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن للأب إجبارها فغيره من باب أولى.

إلاّ أنّ هذا الحديث قد أعلًّ بالإرسال، فقد رواه عكرمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أي لم يذكر فيه ابن عباس- وقيل: إنّ هذا هو المعروف في رواية هذا الحديث، كما قا له أبو داود، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم1.

ثم إنّه قد تفرّد بروايته بعض الرواة عن بعض2.

وقد أجيب عن هذه العلل بإجابة شافية، وحكم لهذا الحديث بالصحّة، لترجيح الوصل على الإرسال عند التعارض؛ ولمتابعة بعض الرواة لمن قيل بتفردِّهم به؛ ولشواهده، وإليك بعض ما قاله الأئمة في ذلك:

قال ابن القطان: "حديث ابن عباس هذا صحيح، قال: وليست هذه خنساء بنت خِدَام التي زوّجها أبوها وهي ثيِّب، فكرهته فردّ عليه السلام نكاحه، رواه البخاري؛ فإنَّ تلك ثيِّب وهذه بكر، والدليل على أنّهما ثنتان ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم "ردّ نكاح

1 أبو داود (6/122عون المعبود) ، الدارقطني (3/235مع التعليق المغني) ، البيهقي (7/117) .

وانظر أيضًا: المغني لابن قدامة (7/ 366 مع الشرح) ، وفتح الباري (9/196) .

2 التلخيص الحبير (3/184) ، وسيأتي قريبًا مع إجابة الحافظ عليه.

ص: 284

بكر وثيِّب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان". انتهى، من (نصب الراية) للزيلعي"1.

وقال ابن القيِّم رحمه الله مشيرًا إلى إعلال البيهقي وغيره هذا الحديث بالإرسال- قال: "على طريقة البيهقي وأكثر الفقهاء وجميع أهل الأصول هذا حديث صحيح؛ لأنّ جرير2 بن حازم ثقة، ثبت، وقد

1 نصب الراية للزيلعي (3/ 190- 191) . وسيأتي تخريج هذا الحديث (ص290) .

2 اعلم أنَّ السند محل البحث هو:

[حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما] وإليك تعريفًا بكلٍ منهم: 1- (حسين بن محمد) : هو"ابن بهرام التميمي أبو أحمد المرُّوذي بتشديد الراء وبذال معجمة- نزيل بغداد، ثقة، مات سنة مائتين وثلاث عشرة أو بعدها بسنة أو سنتين، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر ترجمته في: التقريب (1/179) ، وتهذيب التهذيب (2/366-367) .

2-

(جرير بن حازم) : هو ابن زيد بن عبد الله الأزدي، ثقة لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث من حفظه، مات سنة مائة، وسبعين بعد ما اختلط، لكنّه لم يحدّث في اختلاطه، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: ترجمته في: التقريب (1/127) ، وتهذيب التهذيب (2/69-72) .

3-

(أيوب) : هو ابن أبي تميمة، كيسان السَّخْتِياني- بفتح المهملة، بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون- أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجّة، من كبار الفقهاء العبّاد، مات سنة إحدى وثلاثة ومائة، روى له أصحاب الكتب السئة.

انظر ترجمته في: التقريب (1/89) ، وتهذيب التهذيب (1/397-399) .

4-

(عكرمة) : هو مولى ابن عباس رضي الله عنهما.

انظر ترجمته في: التقريب (2/30) ، وتهذيب التهذيب (7/263-273) .

ص: 285

وصله، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة، فما بالها تقبل في موضع، بل في أكثر المواضع التي توافق مذهب المقلّد وتردّ في موضع يخالف مذهبه؟! وقد قبلوا زيادة الثقة في أكثر من مائتين من الأحاديث رفعًا، ووصلاً، وزيادة لفظ، ونحوه، هذا لو انفرد به جرير، فكيف وقد تابعه على رفعه عن أيوب زيد1 بن حِبَّان، ذكره ابن ماجه في سننه"2. اهـ.

وقال الحافظ في (التلخيص الحبير) : وأُعِلَّ بالإرسال وتفرّد جرير بن حازم عن أيوب، وتفرّد حسين عن جرير وأيوب، وأجيب: بأنَّ أيُّوب3

1هو: زيد بن حبّان- بكسر المهملة وبالموحدة، الرّقي، كوفي الأصل، مولى ربيعة، كثير الخطأ، وتغير بآخره، مات في سنة ثمان وخمسين ومائة، روى له النسائي وابن ماجه. انظر: التقريب (1/273) ، وتهذيب التهذيب (3/404-405) .

2 تهذيب السنن لابن القيم (3/40) وانظر: زاد المعاد له (5/95-97) .

3 هو: أيوب بن سويد الرملي، أبو مسعود الحميري السيباني- بمهملة مفتوحة ثم تحتاني ساكنة ثم موحدة- صدوق يخطيء، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقيل سنة اثنتين ومائتين. وقيل: غيرهما. روى له أبو داود الترمذي وابن ماجه.

انظر: التقريب (1/90 وتهذيب التهذيب (1/405-406) .

ص: 286

ابن سويد رواه عن الثَّوري1، عن أيُّوب2 موصولاً، وكذلك رواه معمر بن جدعان الرقيّ3، عن زيد بن حِبّان، عن أيُّوب 4 موصولاً.

وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله حكم لمن وصله على طريقة الفقهاء.

وعن الثَّاني: بأنّ جريرًا توبع عن أيُّوب كما ترى.

وعن الثَّالث: بأنّ سليمان بن حرب تابع حسين بن محمد عن جرير"5اهـ.

1 هو سفيان الثوري الإم المشهور.

2 هو: أيوب السختياني تقدمت جمته قريبًا.

3 كذا قال (ابن جدعان) ، وتابعه على هذا صاحب عون المعبود (6/123) .

والذي في سنن ابن ماجه (1/603) ، والدارقطي (3/235) إنَّما هو معمَّر بن سليمان الرَّقي، وكذلك هو في سبل السلام (3/122)، ويظهر لي: أنَّ هذا هو الصواب، وأن ما في التلخيص الحبير، وعون المعبود، إنّما هو تصحيف، والله أعلم.

وترجمة معمرّ- بتشديد الميم- ابن سليمان الرَّقيّ في: التقريب (2/266-267) ، وتهذيب التهذيب (10/249-250) .

[وأمّا معمر بن جدعان كذا] ، فليس له فيهما ترجمة أيضًا.

4 هو: أيوب السختياني- تقدمت ترجمته قريبًا (ص 285) .

5 التلخيص الحبير (3/184) وعنه عون المعبود (6/123) .

وانظر: التعليق المغني على الدارقطني (3/235-236) .

ص: 287

وقال أيضًا في الفتح- بعد أن ذكر طرقه وشواهده:- "وأمّا الطعن في هذا الحديث فلا معنى له، فإنَّ له طرقًا يقوِّي بعضها بعضًا"1 اهـ.

فقد حكم لهذا الحديث بالصحَّة ثلاثة من الحفَّاظ هم: ابن القطّان

وابن القيّم، وابن حجر، وقولهم في صحَّة هذا الحديث هو المعتمد.

والله الموفِّق.

إلاّ أنّ البيهقي رحمه الله قال: إن صحّ الحديث فكأنّه وضعها في غير كفئها، فخيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم2.

وذكر الحافظ ابن حجر هذا الجواب في الفتح، وقال: وهذا هو المعتمد؛ فإنّها واقعة عين، فلا يثبت الحكم فيها تعميمًا، وأمّا الطعن في الحديث فلا معنى له، فإن له طرقًا يقوِّي بعضها بعضًا3.

وقد أجاب الصنعاني في كتابه (سبل السلام) عن كلام هذين الإمامين- أعني حملهما التخيير على عدم كفاءة زوجها- فقال: "كلام هذين الإمامين محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم، وإلاّ فتأويل البيهقي لا دليل عليه، فلو كان كما قال لذكرته المرأة، بل قالت: إنّه زوّجها وهي كارهة، فالعلّة كراهتها، فعليها علّق التخيير؛ لأنّها المذكورة، فكأنّه قال صلى الله عليه وسلم: إذا كنتِ كارهة فأنت بالخيار". وقول المصنّف (يعني ابن حجر

1 فتح الباري (9/196) .

2 البيهقي (7/118) .

3 فتح الباري (9/196) .

ص: 288

صاحب بلوغ المرام) إنّها واقعة عين كلام غير صحيح، بل حكم عامّ؛ لعموم علّته، فأينما وجدت الكراهة ثبت الحكم" اهـ1 وهذا جواب قويّ، والله أعلم.

وقال ابن قدامة في المغني: "يحتمل أنّ هذه المرأة هي التي قالت: زوّجني من ابن أخيه؛ ليرفع بي خسيسته، فتخييرها لتزويجها من غير كفئها، وهذا يثبت الخيار ولا يبطل النّكاح"2 اهـ.

والجواب عنه كالجواب عن كلام البيهقي والحافظ ابن حجر، سواء كانت هذه هي البكر التي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أم غيرها، فإن العلّة واحدة، وهي الكراهة، كما جاء ذلك صريحًا في رواية عائشة هذه عند النسائي والدارقطني والبيهقي3.

مع أنّ هذه الرواية عن عائشة رضي الله عنها صريحة في أنَّ تلك الفتاه قد زوّجها أبوها من ابن عمّها، والعرب تعتبر النّسب في الكفاءة، فكيف لا يكون ابن عمّها كفؤًا لها؟ 4.

1 سبل السلام (3/ 122) .

2 المغني لابن قدامة (7/ 366) .

3 انظر مصادر التخريج المتقدم (ص 177) .

4 انظر: سبل السلام (3/123) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/263) ، والروضة النديّة (2/7) ، وقد تقدّم الكلام عليه مستوفي (ص 182 وما بعدها) .

ص: 289

5-

ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ردّ نكاح بكر وثيِّب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان، فردّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نكاحهما". رواه الدارقطني والبيهقي وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد للطبراني أيضًا1.

وهذا صريح في أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى في البكر والثيّيب قضاءً

واحدًا، ممَّا يدلُّ على أنّهما في اعتبار الإذن سواء.

إلاّ أنَّ هذا الحديث قد أُعلّ بالإرسال أيضًا، كالرِّواية السابقة عن ابن عباس- رضي الله عنهما؛ فقد رواه الدارقطني بإسناده من طريق عبد الملك الذَِّماري2، عن سفيان3، عن هشام4 صاحب الدَّسْتَوائى،

1 الد ارقطني: (3/ 234) نكاح.

والبيهقي: (7/117) نكاح، باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار.

والطراني: (4/279) مجمع الزوائد للهيثمي) .

وانظر: نصب الراية (3/192) .

2 هو: عبد الملك بن عبد الرحمن بن هشام، أبو هشام الذماري بكسر المعجمة وفتحها وتخفيف الميم- الأبناوي- بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها نون- وقد ينسب إلى جدّه، صدوق، كان يصحّف، روى له أبو داود والنسائي.

انظر: التقريب (1/520) ، وتهذب التهذيب (6/400-402) . واللباب (1/531) ، وتبصير المنتبه (1/36) .

3 هو: الثوري، كما سيأتي في كلامه.

4 هو: هشام بن أبي عبد الله سنبر- بمهملة ثم نون ثم موحدة، وزن جعفر- أبو بكر الدستوائي- بفتح الدال وسكون السين المهملتين وفتح المثناة ثم واو ثم مد- ثقة، ثبت، وقد رمي بالقدر، مات سنة أربع وخمسين ومائتين، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (2/319) وتهذيب التهذيب (11/43-45) .

ص: 290

عن يحيى1 بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان فردّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم نكاحهما"، ثم قال: هذا وهم من الذِّماري (أي ذكر ابن عباس) وتفرَّد بهذا الإسناد، والصّواب عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجِر2، عن عكرمة مرسل، وَهِم فيه الذِّماري عن الثَّوري وليس بقوّي"3 اهـ.

وقال البيهقي: "هو في جامع الثوري عن الثوري كما ذكره أبو الحسن الدارقطني رحمه الله مرسلاً، وكذلك رواه عامّة أصحابه عنه، وكذلك رواه غير الثوري عن هشام"4.اهـ أي عن هشام الدَّسْتوائي.

1 هو: يحيى بن أبي كثير الطائي، ثقة ثبت، لكنّه يدلّس ويرسل، مات سنة اثنين وثلاثين ومائة، وقيل: قبل ذلك، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/356) ، وتهذيب التهذيب (1/268-270) .

2 هو: مهاجِر بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، مقبول، روى له أبو داود والترمذي والنسائي.

انظر: التقريب (2/278) ، وتهذيب التهذيب (0 1/ 322) .

3 الد ارقطني (3/ 234) .

4 البيهقي (7/117) .

ص: 291

وقال ابن التركماني- تعقيبًا على البيهقي: "هذه كما تقدّم1 زيادة من الذِّماري، وهو أخرج له الحاكم في المستدرك، وذكره ابن حبّان في الثقات، وذكر صاحب الكمال عن عمر بن أبي علي الصوفى أنّه ثقة"2اهـ.

وقال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه إسحاق بن إبراهيم بن جوتي

ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات"3 اهـ.

وقال صاحب التعليق المغني على الدارقطني: "قال الذهبي في المشتبه: إسحاق بن إبراهيم بن جُوْتي- بجيم ومثناة- الصنعاني عن سعيد بن سالم القداح، وعنه علي بن بشر المقاريضي شيخ للطبراني وابنه محمد بن إسحاق أيضا شيخ للطبراني، قال في "التنقيح"4: إسحاق بن إبراهيم هذا هو ابن جُوْتي الطبراني، وهو ضعيف لكنّه لم يتفرّد به عن الذِّماري"5 اهـ.

1 هذا إشارة إلى إجابته على حديث ابن عباس السابق في الجارية التي خيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم.

2 الجوهر النقي (7/ 117مع البيهقي) .

3 مجمع الزوائد (4/279) .

4 هو كتاب ابن عبد الهادي، وهو تنقيح لكتاب ابن الجوزي "التحقيق في اختلاف الأحاديث".

5الدارقطي (3/ 234) .

ص: 292

وعلى كلٍّ فإنَّ لم يصحّ وصله فهو مرسل، قويّ بغيره، كما أنّه حجّة عند من يحتجّ بالمرسل، وقد سبق قول الحافظ في حديث ابن عباس السابق: إنّ له طرقًا يقوِّي بعضها بعضًا"1. وهذا من الطرق التي إن لم تصح بمفردها فهي قويّة بغيرها. والله أعلم.

6-

ما رواه عبد الله بن بريدة، عن عائشة رضي الله عنها: أنّ فتاة دخلت عليها فقالت: إنَّ أبي زوّجني من ابن أخيه؛ ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أللنِّساء من الأمر شيء؟ ". رواه الإمام أحمد، والنسائي- واللفظ له- والدارقطني، والبيهقي عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة رضي الله عنها، ورواه ابن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وقد تقدّم تخريجه2.

قال الصنعاني في (سبل السلام) : "الظاهر أنّها بكر، ولعلّها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوّجها أبوها كفؤًا ابن أخيه، وإن كانت ثيِّباً فقد صرّحت أنّه ليس مرادها إلاّ إعلام النساء أنّه ليس للآباء من الأمر شيء، ولفظ النساء عام للثَّيِّب والبكر، وقد قالت هذا عنده صلى الله عليه وسلم فأقرَّها

1 انظر (ص288) .

2 انظر (ص 178) .

ص: 293

عليه، والمراد بنفي الأمر عن الآباء التزويج للكراهة، لأنَّ السياق في ذلك، فلايقال: هوعامٌّ في كلِّ شيء"1 اهـ.

وقد سبق قول الدارقطني وغيره: إنّ هذا مرسل عن عبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة شيئاً، وقول البيهقي وغيره: إنَّه على فرض صحته فهو محمول على أنَّ أباها زوّجها غير كفئها، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر لها من أجل ذلك، وقد سبقت الإجابة أيضًا عن كلِّ ذلك مستوفاة في مبحث اشتراط الولاية، وخلاصته: عدم التسليم بأنّة مرسل، وعلى فرض إرساله فهو قويّ بغيره.

وأمّا حمل التخيير هنا على عدم كفاءة الزّوج فهو خلاف الظاهر؛ إذ إنَّ سبب شكوى هذه الفتاة هو إكراه أبيها لها، وغيره من الأسباب يحتاج إلى دليل، كما أنَّ زوجها هو ابن عمّها، والعرب تعتبر الأنساب في الكفاءة2. والله أعلم.

1 سبل السلام (3/123) .

2 انظر: استيفاء الكلام عليه متنًا وإسنادًا في مبحث "اشتراط الولاية"(ص 177 وما بعدها) .

ص: 294

7-

ما رواه عطاء بن أبي رباح، عن جابر رضي الله عنه: أنّ رجلاً زوّج ابنته بكرًا ولم يستأذنها، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ نكاحها". رواه الدارقطني والبيهقي وابن حزم1.

وقد أُعلّ هذا الحديث بالإرسال أيضًا: فقد رواه شعيب2 بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر.

ورواه غير شعيب مرسلاً، عن عطاء، لم يذكر جابرًا. وأُعلّ أيضًا بالانقطاع فقيل: إنّ الأوزاعي لم يسمعه من عطاء، وإنَّما سمعه من إبراهيم بن مرّة، وفيه مقال.

قال الدارقظني: الصحيح مرسل، وقول شعيب وهم3.

1 تخريجه

1-

الدارقطني: (3/233-234 مع التعليق المغني) نكاح.

2-

البيهقي: (7/117) نكاح، باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار.

3-

ابن حزم: (9/461المحلى) .

وعزاه ابن القيم في تهذيب السنن للنسائي (3/ 40 تهذيب معالم السنن للخطابي) . وكذلك صاحب التعليق المغني على الدارقطني (3/234) .

2 هو: شعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن الأموي مولاهم البصري ثم الدمشقي، ثقة، روى له أصحاب الكتب الستة إلاّ الترمذي.

انظر: التقريب (1/ 351) ، وتهذيب التهذيب (1/163-164) .

3 الد ارقطني (3/233) .

ص: 295

وقال صاحب التعليق المغني: "الحديث أخرجه النسائي أيضًا من طريق الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر نحوه. وهذا سند ظاهره الصحة، ولكن له علَّة، أخرجه النسائي والمؤلِّف (أي الدارقطني) من وجه آخر: عن الأوزاعي، فأدخل بينه وبين عطاء إبراهيم1 بن مرّة، وفيه مقال، وأرسله فلم يذكر جابرًا، وهكذا فعله المؤلف وقال: الصحيح مرسل وقول شعيب وهم. قال في التنقيح: وقال أبو علي الحافظ: لم يسمعه الأوزاعي من عطاء، والحديث في الأصل مرسل لفظًا، إنّما رواه الثقات عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرّة، عن عطاء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل، وقد روي من أوجه أخرى ضعيفة عن أبي الزبير عن جابر2 انتهى.

هذا خلاصة ما قيل في إسناده، وعلى كلٍّ فهو مرسل قويٌّ بغيره،

كما قال ابن القيِّم رحمه الله: "وهذا الإرسال لا يدلُّ على أنَّ الموصول خطأ بمجَّرده"3.

وقال ابن الهمام: "ووهَّم- (أي الدارقطني) - شعيبًا في رفعه وقال: الصحيح إنّه مرسل، وبه يتم مقصودنا إمّا لأنّه حجّة، وإمّا لأنّا ذكرناه للاستشهاد والتقوية"4.

1 انظر ترجمته في: التقريب (1/43) ، وتهذيب التهذيب (1/163-164) .

2 التعليق المغني على الدارقطني (3/233-234) .

3 تهذيب السن لابن القيم (3/40 مع معالم السنن للخطابي) .

4 فتح القدير لابن الهمام (3/262) .

ص: 296

8-

ما رواه ابن أبي ذئب قال: "أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنَّ

رجلاً زوّج ابنته بكرًا فكرهت ذلك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فردّ نكاحها". رواه الدارقطني1.

إلاّ أنّه قال: "لا يثبت هذا عن ابن أبي ذئب، عن نافع، والصَّواب حديث ابن أبي ذئب، عن عمر بن حسين"2. وهو يقصد بذلك ما أخرجه بسنده عن ابن أبي ذئب3، عن عمر بن حسين4، عن نافع، عن ابن عمر: أنّه تزوّج بنت خاله عثمان بن مظعون، قال: فذهبت أمُّها إلى رسول الله فقالت: إنَّ ابنتي تكره ذلك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ففارقها، وقال: "لا تُنكحوا اليتامى حتى تستأمروهنَّ، فإذا سكتت فهو إذنها". فتزوَّجها بعد عبد الله: المغيرة بن شعبة"5.

1 الدارقطني (3/236مع التعليق المغني) .

2 نفس المصدر السابق ونفس الصفحة.

3 هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبى ذئب القرشى، ثقة فقيه فاضل، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/ 184) ، وتهذيب التهذيب (9/303-307) .

4 هو: عمر بن حسين بن عبد الله الجمحي مولاهم، أبو قدامة المكي قاضي المدينة، ثقة، روى له مسلم وأبو داود.

انظر ترجمته في: التقريب (2/53) ، وتهذيب التهذيب (7/433) ، والجرح والتعديل (6/104) .

5 الدارقطني (3/229مع التعليق المغني.

ص: 297

وقال ابن القيّم رحمه الله: "وذكر محمد بن حزم من طريق قاسم ابن أصبغ، عن ابن عمر: أنَّ رجلاً زوّج ابنته بكرًا فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ نكاحها"1. وذكر الدارقطني هذا الحديث في سننه، وفي كتاب (العلل) ، وأعلّه برواية من روى: أنَّ عمّها زوّجها بعد وفاة أبيها، وزوّجها من عبيد2 الله بن عمر، وهي بنت عثمان بن مظعون، وعمُّها قدامة، فكرهته، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فتزوّجها المغيرة بن شعبة، قال: - أي الدارقطني-: وهذا أصحّ من قول من قال: زوّجها أبوها"3. والله أعلم.

1 انظره في: المحلى لابن حزم (9/461) .

2 كذا (عبيد الله) بالتصغير، في نسخة تهذيب السنن هنا المطبوعة مع معالم السنن (3/42) .

وكذلك في النسخة الأخرى المطبوعة مع عون المعبود (6/123) والظاهر أنه تصحيف

عن (عبد الله) فهو صاحب هذه القصّة ولم أجد لـ (عبيد الله) فيها أثرًا، فليلاحظ.

3 تهذيب السنن (3/42مع معالم السنن)، وانظر: نصب الراية (3/ 191-192) فقد ذكر كلام الدارقطني وذكر نحوه عن ابن الجوزي، وأنّ الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث فقال: باطل، أي رواية أنّ الذي زوّجها أبوها، وأمَّا رواية أنَّ الذي زوّجها عمّها فهي مشهورة، وهي إمّا صحيحة أو حسنة.

ص: 298

فعلى قول الدارقطني رحمه الله، فإنَّ الذي زوّجها هو عمّها قدامة ابن مظعون بعد وفاة أبيها، وسيأتي1 تخريج ذلك بأتم مما هنا إن شاء الله تعالى.

9-

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أنَّ رجلاًجاء بابنته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: هذه ابنتي أبت أن تزوّج، فقال: أطيعي أباك، أتدرين ما حقّ الزَّوج على الزَّوجة؟ لو كان بأنفه قرحة تسيل قيحًا وصديدًا لحسته ما أدّت حقَّه، فقالت: والذي بعثك بالحقِّ لانكحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكحوهنَّ إلاّ بإذنهن". رواه الدارقطني2 بهذا اللفظ.

وقال صاحب التعليق المغني: "الحديث رواه البزَّار بإسناد جيّد

رواته ثقات مشهورون، وابن حِبّان في صحيحه3.

10-

وعن أمّ سلمة رضي الله عنها: "أنّ جارية زوّجها أبوها وأرادت أن تزوّج رجلاً آخر فأتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فنزعها من الذي زوّجها أبوها، وزوّجها من الذي أرادت". قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح4 اهـ.

1 انظر مبحث "تزويج الصغيرة اليتيمة الآتي في الفصل الرابع ".

2 الدارقطني (3/ 237) نكاح.

3 التعليق المغني على الدارقطني في نفس الصفحة (3/237) .

4 مجمع الزوائد (4/279-280) نكاح، باب الاستئمار.

ص: 299

11-

وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أراد الرجل أن يزوّج ابنته فليستأذنها". قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح1 اهـ.

فهذه أحاديث نبوية مستفيضة، بعضها في الصحيحين، وبعضها

في أحدهما، وبعضها وإن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما فلا معنى للطَّعن في أسانيدها، وبعضها قويّ بغيره، وشاهد للصحيح، فقد اشتملت تلك الأحاديث على أمره صلى الله عليه وسلم ونهيه وقضائه على أنّه لا يزوّج البكر البالغ أبوها ولا غيره إلاّ بإذنها، كما قال ابن القيّم رحمه الله في تهذيب السنن: "قد توافق أمره صلى الله عليه وسلم وخبره ونهيه على أنّ البكر لا تزوّج إلاّ بإذنها، ومثل هذا يقرب من القاطع، ويبعد كلّ البعد حمله على الاستحباب2. اهـ

وقال- رحمه الله مشيرًا إلى حديث ابن عباس، وجابر، وعائشة السابق ذكرها ورادًّا على من حملها على الثيّب- قال:"وحمل هذه القضايا وأشباهها على الثيِّب دون البكر خلاف مقتضاها؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن ذلك ولا استفصل، ولو كان الحكم يختلف بذلك لاستفصل وسأل عنه، والشافعي ينزل هذه منزلة العموم، ويحتجّ به كثيرًا"3 اهـ.

1 نفس المصدر (4/279) .

2 تهذيب السنن (3/41مع معالم السنن) .

3 تهذيب السن (3/41مع معالم السنن) .

ص: 300

وأمّا دليل عدم إجبار البكر من حيث المعقول فمن جهتين:

الأولى: أنّ البكر إذا بلغت عن عقل ورشد جاز تصرّفها في مالها، وليس لأب ولا غيره أن يتصرّف في مالها إلاّ بإذنها، وبضعها أعظم من مالها، فكيف يجوز التصرّف فيه بدون إذنها مع كراهتها ور شدها؟ 1.

الثَّانية: أنَّ العلّة المجمع على تأثيرها في أهليَّه العاقد هي الصغر لا البكارة؛ فتعليل الإجبار بالبكارة تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع، فدلّ هذا على أنَّه لا تأثير للبكارة والثيوبة في الإجبار أو عدمه، وإنّما العلّة المؤثِّرة في عدم اعتبار الإذن هي الصغر ونحوه2.

وعلى هذا فلا تُنكح عاقلة بالغ، وإن كانت بكرًا إلا بإذنها والله أعلم.

ثانيًا- أدلَّة من قال: للأب خاصة إجبارالبكرالبالغ.

وأمّا أدلّة من أجاز للأب إجبار البكر البالغ دون سائر الأولياء فاستدلَّ بما يلي:

1 انظر في هذا المعنى: المغني لابن قدامة (7/380) ، وكذلك الشرح الكبير معه (7/387) ، والفتاوى لابن تيمية (32/23) وزاد المعاد لابن القيّم (5/97) .

2 انظر: الفتاوى (32/23) ، وزاد المعاد (5/99) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/263) .

ص: 301

1-

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها"1.

فقالوا: إنّ المراد بالأيِّم في هذا الحديث الثيِّب كما هو صريح بعض روايات هذا الحديث2، وقد جعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم أحقَّ بنفسها من وليّها، وهذا يدلّ بمفهومه على أنّ البكر بخلافها؛ لأنّ الشيء إذا قيِّد بأخصّ أوصافه، دلّ على أنّ ما عداه بخلافه، كما قيل:"الأسماء للتعريف، والأوصاف للتعليل"، فيكون وليُّ البكر أحقُّ بها من نفسها.

ولأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قسّم النّساء في هذا الحديث قسمين ثيِّبات وأبكارًا، ولا ثالث لهما ثم خصّ الثيّب بأنّها أحقُّ بنفسها من وليّها، مع أنّها هي والبكر قد اجتمعتا في ذهنه، فلو أنّها كالثيّب لم يكن لإفرادها بالذِّكر معنى، والعمل بالدَّلالة واجب وجوبه بالنَّصِّ3

وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم "والبكر يستأذنها أبوها" على الاستحباب تطييباً لقلبها. فهو كالأمر باستئمار النّساء في بناتهنَّ في حديث ابن عمر، - رضي الله

1 تقذم تخرجه ص 167.

2 تقدم تخريجه بهذا اللفظ ص 170.

3 انظر في توجيه هذا الحديث لما قالوا المصادر التالية:

المغني لابن قدامة (7/ 381) ، نصب الراية (3/193) ، معالم السنن للخطابي (3/42) ، تكملة المجموع الثانية (16/165) ، وشرح الزرقاني على الموطأ (3/127) .

ص: 302

عنه - أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "آمروا النّساء في بناتهنَّ". رواه أحمد وأبو داود والبيهقي1.

قال الشافعي رحمه الله: ولا يختلف النّاس أن ليس لأمِّها فيها أمر ولكن على معنى استطابة النفس"2. ثم أشار الشافعي رحمه الله إلى سبب هذا الحديث- أعنى حديث ابن عمر- وما فيه من معارضة الأم وأنَّ ذلك دليل على كراهة ابنتها، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أباها با ستئذانها3.

فهذا خلاصة وجهة استدلال من أجاز لأب البكر إجبارها من حديث ابن عباس رضي الله عنه وهو عمدتهم في التفريق بين البكر والثيِّب في وجوب الاستئذان؛ "فقد رأوا في حديث ابن عباس هذا تقييدًا لما أطلق في غيره من الأحاديث وتفسيراً لمجملها. والله أعلم.

1 تخريجه:

1-

أحمد: (16/160-161 ترتيب المسند للساعاتي. نكاح. باب استئمار النساء

في بناتهن) .

2-

أبو داود: (6/119عون المعبود) . وقال المنذري فيه رجل مجهول (6/120 عون المعبود) . قال الساعاتي: يعنى: الرجل الذي روى عنه إسماعيل بن أميّة (16/161 شرح الساعاتي للمسند) . وهويعنى "الثقة" في قول إسماعيل بن أميّة: حدثني الثقة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آمروا النساء في بناتهن".

3-

البيهقي (7/115) ، نكاح، باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار.

2 الأم للشافعي (5/168) ، وانظر البيهقي (7/115) ، وفتح الباري (9/193) .

3 الأم للشافعي: (5/168) .

ص: 303

وقد أجاب عنه القائلون بوجوب استئذان البكر بعدَّة أجوبة منها:

أولاً: أنَّ الحجّة للقائلين بالإجبار في هذا الحديث إنّما هي في مفهومه، والخلاف في حجِّيَّته وفي عمومه. وممن خالف في حجِّيَّته الحنفيَّة القائلون بعدم الإجبار؟ فلا يحتجّ بمثل هذا عليهم.

وأمّا الخلاف في عموم مفهوم المخالفة فقد قال ابن القيِّم رحمه الله في هذا الحديث: وهذا إنّما يدلُّ إذا قلت: إنَّ للمفهوم عمومًا، والصّواب أنّه لا عموم له؛ إذ دلالته ترجع إلى أنّ التخصيص بالمذكور لا بدّ له من فائدة، وهي نفي الحكم عمّا عداه، ومعلوم أنَّ انقسام الحكم إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة، وأنَّ إثبات حكم آخر للمسكوت عنه فائدة، وإن لم تكن ضدّ حكم المنطوق، وأنَّ تفصيله فائدة"1.

ثانيًا: أنَّ دلالة مفهوم المخالفة لا تقوى على معارضة المنطوق، ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها". وفي لفظ آخر:"تستأمر في نفسها". وفي لفظ: "يستأمرها أبوها" كما سبق بيانه2 وهذا مما يدلّ على أنّ التفريق بين البكر والثيِّب في هذا الحديث إنّما هو في صفة الإذن خاصَّة. وبهذا يتَّفق حديث ابن عباس هذا مع غيره من الأحاديث الصريحة في استئذان البكر، ومنها حديث أبي

1 زاد المعاد (5/98) .

2 انظر (ص 167، 279، وما بعدها) .

ص: 304

هريرة في الصحيحين "لا تُنكح الأيّم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن"1.

وأمّا حمل استئذان الآباء لبناتهم الأبكار على الاستحباب قياسًا على استئمار النّساء في بناتهنَّ فهو قياس مع الفارق؛ إذ الفرق واضح بين استئذان إنسان في أهمِّ وأخصّ شؤونه، وبين استئذان آخر في شؤون غيره، وإن كان قريبًا، مع أنّه خلاف ظاهر هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة الصريحة في استئمار الأبكار دون تفريق بين أب وغيره من الأولياء. والله أعلم.

2-

ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "الثيّب أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر يزوّجها أبوها".

فقد حكى البيهقي عن الشافعي رحمه الله قوله: "وقد زاد ابن عيينه في حديثه "والبكر يزوّجها أبوها" فهذا يبيّن أنَّ الأمر للأب في البكر"2.

وقد عقّب عليه ابن التركماني فقال: قوله: "يزوّجها أبوها" لم أجده في شيء من الكتب، ولم يذكر الشافعي سنده فينظر"3 اهـ.

1 تقدم تخريجه (ص277) .

2 البيهقي (7/115) .

3 الجوهر النقي (7/115مع البيهقي) .

ص: 305

وقد جرى استدلال الشافعية بهذا اللفظ في كتب الفقه معزوًّا للدارقطني1.

إلا أنَّني لم أجده في سنن الدارقطني بهذا اللفظ، وقد ذكره الحافظ في التلخيص الحبير بهذا اللفظ وعزاه أيضًا للدارقطني، إلاّ أنّه استدرك عليه فقال: لكن قال (أي الدارقطني)"يستأذنها" بدل: "يزوّجها"2. واستدراك الحافظ هذا يدل على خطأ اللفظ المعزوّ للدارقطني؛ فإنّ الرواية

المشهورة عن سفيان بن عيينه رحمه الله هي بلفظ "يستأذنها أبوها" أو "يستأمرها" كما سبق3. وأما لفظ "يزوّجها أبوها"، فما أظنّه يصحّ. ولو صحّ لكان أسعد الناس بالاستدلال به هو داود الظاهري القائل باشتراط الولاية على البكر دون الثيّب، إذ إنّ ذلك سيكون تفسيرًا لأحقيّة الثيّب بنفسها في قوله "الثيّب أحقَّ بنفسها من وليّها، والبكر يزوّجها أبوها". فتكون الثيّب أحقّ بنفسها- حينئذ- أي بتزويج نفسها لا بالرضى كما يقوله الشافعية وغيرهم؛ إذ المقابلة قرينة دالّة على ذلك.

والعجب من ردّ الشافعيّة لزيادة ابن عيينة في هذا الحديث لفظ "يستأذنها أبوها" واحتجاجهم بلفظ "يزوّجها أبوها". وما أظنُّ أنَّ هذا

1 انظر مثلاً: مغني المحتاج (3/149) وتحفة المحتاج (7/243) ونهاية المحتاج (6/ 228) .

2 التلخيص الحبير (3/184) ، وانظر أيضًا سنن الدارقطي (3/238-241) .

3 انظر ما تقدم (ص 280) .

ص: 306

يصحّ عن الشافعي رحمه الله وهو من نعلم في تمسكه بالسُّنَّة وعلمه بها إلاّ أن تكون حكيت عنه بالمعنى فالله المستعان.

3-

واستدلوا بمفهوم الأحاديث الآمرة باستئذان اليتيمة. ومنها:

أ- حديث ابن عباس- رضي الله عنهما السابق ففي رواية له عند النسائي والدارقطني "الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها واليتيمة تستأمر في نفسها وإذنها صماتها"1.

وفي لفظ آخر لهما ولغيرهما "ليس للوليّ مع الثيّب أمرٌ، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها"2.

ب- وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها"3.

ج- وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنتْ وإن أبت لم تكره"4.

فإنّ مفهوم هذه الأحاديث أنَّ ذات الأب بخلاف اليتيمة. وخاصَّة

1 انظرص 281.

2 انظر تخريجه (ص 173) .

3 سيأتي تخريجه في "صفة إذن البكر"(ص 387) .

4 سيأتي تخريجه في "صفة إذن البكر"(ص 388) .

ص: 307

حديث "ابن عباس رضي الله عنهما فإنّه قد يقال: إنّه مفسِّر لروايته "والبكر تستأذن" فيكون المقصود بها البكر اليتيمة دون ذات الأب.

إلاّ أنّه لا يخفى أنّ مفهوم أحاديث استئمار اليتيمة لا يقوى على تخصيص عموم أحاديث استئمار البكر مطلقًا.

وأمّا حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد روى بثلاثة ألفاظ هي: "البكر تستأذن في نفسها"، " واليتيمة تستأمر في نفسها"، "والبكر يستأذنها أبوها". ولا تعارض بين هذه الألفاظ؛ إذ حاصلها: استئمار جميع الأبكار، سواء كنّ يتامى أو ذوات آباء. وإنّما خصّت اليتيمة بالذكر لمزيد الحضّ على الشفقة عليها، والنظر لها. والله أعلم.

4-

واستدلوا أيضا بحديث عائشة رضي الله عنها: وهو أنّ أباها زوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ست أو سبع سنين"1. فقد أخذ منه الشافعي رحمه الله أنّ الأمر في تزويج الأبكار لآبائهنَّ وإن لم يأذنَّ، وإلَاّ لما جاز لأبي بكر رضي الله عنه تزويج عائشة حتى تبلغ فتأذن2.

5-

واستدلوا أيضًا بما روي عن بعض الصحابة وفقهاء التابعين من تزويج الأبكار بغير استئذان.

1 سيأتي تخريجه في "تزويج الصغيرة"(ص 380- 381) .

2 انظر الأم للشافعي (5/17) .

ص: 308

فقد نقل البيهقي عن الشافعي قوله: "قد كان ابن عمر والقاسم وسالم يزوّجون الأبكار لا يستأمرونهنَّ"1.

وروى مالك في (الموطأ) أنّه بلغه: أنَّ القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا ينكحان الأبكار لا يستأمرانهنَّ"2. قال مالك: وذلك الأمر عندنا في نكاح الأبكار3.

وروى أيضًا أنّه بلغه: أنَّ القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار كانوا يقولون في البكر: يزوّجها أبوها بغير إذنها: إنَّ ذلك لازم لها"4.

وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه عمَّن أدرك من فقهائهم الذين ينتهى إلى قولهم منهم سعيد بن المسيِّب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبه، وسليمان بن يسار، في مشيخة جلّة سواهم من نظرائهم قال: وربّما اختلفوا في الشيء فأخذت بقول

1 البيهقي (7/116) .

2 الموطأ مع شرح الزرقاني (3/127) .

3 نفس المصدر والصفحة.

4 نفس المصدر (3/127-128) .

ص: 309

أكثرهم. قال: كانوا يقولون: الرجل أحقّ بإنكاح ابنته البكر بغير أمرها، وإن كانت ثيِّبًا فلا جواز لأبيها في نكاحها إلاّ بإذنها"1.

ثالثًا: أدلَّة من فصّل فى استئذان البكر:

وأمَّاوجهة نظر من فصّل القول في استئذان البكر فهي كما يلي:

1-

أمّا استثناء المالكية - في المشهور عنهم - البكر المعنَّسة، أو المرشَّدة، أو التي أقامت في بيت زوجها سنة كاملة، ثم فارقها زوجها، وأنكرت مسيسه لها، وشهدت مشاهد النِّساء، فهؤلاء لمعرفتهنَّ- غالبًا- بأمور نكاحهنّ، فأشبهن الثيِّبات المكلّفات.

قال الخرشي في توجيه رواية عدم إجبار البكر المعنَّسة: "لأنّها لمَّا عَنَسَت صارت كالثيِّب، ومنشأ الخلاف: هل العلّة البكارة؟ وهي موجودة أو الجهل بمصالح النِّساء؟ وهي مفقودة" اهـ2.

وهذا هو ظاهر تعليلهم أيضًا في البكر المرشَّدة، أو التي أقامت في بيت زوجها سنة، ثم فارقها وأنكرت مسيسه، وشهدت مشاهد النِّساء، والله أعلم.

2-

وأمَّا إلحاق الشافعية الجدّ بالأب: فلأنّه أب أعلى له إيلاد،

1 البيهقي (7/116) .

2 الخرشي مع العدوي (3/176) . وانظر الدسوقي مع الشرح الكبير (2/222-223) .

ص: 310

وتعصيب، وفيه من الشفقة ما في الأب، بخلاف غيره من الأولياء1.

وأمَّا تقييدهم عدم الإجبار بما إذا لم يكن بين البكر وأبيها أو جدّها عداوة ظاهرة؛ فلأنّ ذلك مظنّة الإضرار بها، أو عدم النظر لها والشفقة عليها. وأمّا إذا لم تظهر تلك العداوة فلا ينظر لها؛ لأنّ الأصل خلافها في الأب والجدّ خاصَّة2. والله أعلم.

أسباب الخلاف وبيان الراجح

إنّ أسباب اختلاف العلماء في جواز إجبار البكر البالغ أو عدمه يمكن تلخيصه مما سبق عرضه فيمايلي:

أولاً: معارضة مفهوم بعض الأحاديث لعموم بعضها؛ فإنَّ مفهوم حديث "الثيِّب أحقُّ بنفسها" يدلّ على أنّ البكر بخلافها، ومفهوم أحاديث "استئمار اليتيمة في نفسها" يدلُّ على أنّ ذات الأب بخلافها.

ثانيًا: ضعف الأحاديث الصريحة في ردّ إنكاح البكر بغير إذنها، بخلاف الشأن في الثيّب كما سيأتي.

ثالثًا: استنباط مناط الإجبار من محلِّ الاتفاق. كما قال ابن رشد: "ولاختلافهم في هاتين المسألتين (أي إجبار البكر البالغ والثيِّب الصغيرة) سبب آخر: وهو استنباط القياس من موضع الإجماع؛ وذلك أنّهم أجمعوا

1 انظر: مغني المحتاج (2/149) ، وتحفة المحتاج (7/243-245) ، ونهاية المحتاج (7/243-244) .

2 نفس المصادر السابقة والصفحات.

ص: 311

على أنّ الأب يجبر البكر غير البالغ، وأنّه لا يجبر الثيّب البالغ إلاّخلافًا شاذًّا فيهما جميعًا- كما قلنا- اختلفوا في موجب الإجبار، هل هو البكارة أو الصغر؟ فمن قال الصغر قال: لا تجبر البكر البالغ، ومن قال البكارة قال: تجبر البكر البالغ، ولا تجبر الثيّب الصغيرة، ومن قال: كلّ واحد منهما يوجب الإجبار إذا انفرد قال: تجبر البكر البالغ والثيّب الغير البالغ.

والتعليل الأول: تعليل أبي حنيفة. والثَّاني: تعليل الشافعي. والثَّالث: تعليل مالك. والأصول أكثر شهادة لتعليل أبي حنيفة"1 اهـ.

هذه خلاصة ما وقفت عليه من أسباب اختلاف العلماء في هذه المسألة.

فأمّا السبب الأوّل: وهو معارضة مفهوم بعض الأحاديث لعموم بعض. فقد تقدَّم أنّ مفهوم حديث "الأيِّم أحقّ بنفسها" لا يقوى على عموم "والبكر تستأذن في نفسها" خاصّة بعد أن رواه مسلم وغيره بلفظ "والبكر يستأمرها أبوها" 2 الذي هو نصٌّ في محلِّ النّزاع، وكذلك لا يقوى على معارضة عموم الحديث المتفق عليه وهو "لا تُنكح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تستأذن"3.

1 بداية المجتهد (2/5) .

2 تقدّم تخريجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ص 281.

3 تقدّم تخريجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ص 277.

ص: 312

وأمّا الأمر باستئمار اليتيمة فلا يلزم منه إجبار ذات الأب، كما سبق في هذا المبحث؛ فإنّ مجرَّد ذكر بعض أفراد العامّ لا يخصّص عمومه، فكيف وقد ورد النصّ عامًّا وخاصاًّ في كلّ منهما.

فالعامّ: حديث أبي هريرة المتفق عليه وهو "لا تُنكح الأيِّم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن "1.

وكذلك هو في حديث ابن عباس "والبكر تستأذن في نفسها"2.

وأمَّا الخاصّ في ذات الأب: ففي حديث ابن عباس رضي الله عنه: "والبكر يستأذنها أبوها" رواه مسلم وغيره بهذا اللفظ عن سفيان بن عيينه. وتقدم القول بأنّها زيادة ثقة، مقبولة 3. أي التنصيص فيه على ذكر الأب.

وأمّا الخاصُّ في اليتيمة: فقوله صلى الله عليه وسلم "تستأمر اليتيمة في نفسها" في بعض ألفاظ حديث ابن عباس رضي الله عنه4.

ونحوه حديث أبي هريرة وأبي موسى المتقدّم ذكرهما في هذا المبحث5.

1 تقدّم تخريجه ص 277.

2 تقدم تخريجه ص 167.

3 انظر ما تقدم ص 280.

4 كما تقدَّم (273، 281) .

5 تقدم في ص 307.

ص: 313

وقلنا: إنّه لا تعارض بين هذه الألفاظ والروايات جميعها.

وحاصلها: الأمر باستئذان البكر مطلقًا يتيمة أو ذات أب.

وأمَّا السَّبب الثَّانى: وهو ضعف الأحاديث المصرِّحة بردّ إنكاح البكر بغير إذنها، فقد سبق بيانها في هذا المبحث، وهي إن لم تصحّ بمفردها فهي قويَّة بمجموعها، وشاهدة لعموم الأحاديث المتفق على صحتها في الأمر باستئذان البكر في نفسها، والنّهي عن إنكاحها بدون إذنها.

وأمَّا السَّبب الثَّالث: وهو تنقيح مناط الإجبار من النصوص، أو

استنباطه من محلِّ الاتفاق كما قال ابن رشد، فحاصل كلام العلماء في هذا المناط ما يلي:

1-

أنَّ مناط الإجبار هو البكارة، وهو قول الشافعي، ومالك، وأحمد، في رواية1.

وعلى هذا: فتجبر البكر صغيرةً أم كبيرةً، دون الثيّب، صغيرة أم كبيرة. وهذا إذا كان الوليّ هو الأب خاصَّة، وأمّا غير الأب فإنّه لا يجبر البكر البالغ اتفاقًا. ولا يزوّج البكر الصغيرة عند أكثر من علّل بالبكارة كالشافعي وأحمد.

2-

أنّ مناط الإجبار هو الصغر. وهذا قول أبي حنيفة وأحمد في رواية2.

1 زاد المعاد (5/99) . وانظر الفتاوى لابن تيمية (32/ 22-23) ، وبداية المجتهد (2/5) .

2 نفس المصادر السابقة والصفحات، وفتح القدير لابن الهمام (3/261) .

ص: 314

وعلى هذا فتجبر الصغيرة بكرًا كانت أم ثيِّباً، دون البالغ، بكرًا كانت أم ثيّبًا.

3-

أنّه يجبر بمجموع الصغر والبكارة. وهي رواية عن الإمام أحمد1.

وعلى هذا فلا تجبر إلاّ البكر الصغيرة. ولا تجبر البكر البالغ ولا الثيِّب مطلقًا صغيرة أم كبيرة.

4-

أنّه يجبر بأيِّهما وجد، أي بالبكارة أو الصغر، وهذا مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد2.

وعلى هذا فتجبر الصغيرة مطلقًا بكرًا أم ثيِّبًا. وكذلك البكر البالغ دون الثيِّبب البالغ.

وهذا في الأب خاصة أمّا غيره من الأولياء فلا.

5-

أنّه يجبر بالإيلاد. فيكون الإجبار حقًّا للآباء دون غيرهم، وعلى هذا فللأب أن يجبر البكر والثيِّبب على السواء، سواء كنّ صغيرات

1 زاد المعاد (5/99، والفتاوى (32/23) .

2 بداية المجتهد (2/5) ، وقوانين الأحكام لابن جزي (ص 222) ، وزاد المعاد (5/99) والفتاوى لابن تيمية (32/23) .

ص: 315

أم كبيرات. ويحتمل في الجدّ أن يكون كالأب في هذا وهذا التعليل حكي عن الحسن البصري. وردّه ابن القيِّم في زاد المعاد1.

6-

أنّ للأب أن يجبر من كانت في عياله. وعلى هذا فللأب أن يجبر الثيِّب البالغ إذا كانت في عياله.

وهذا مروي عن إبراهيم النخعي2 إلاّ أنّه قول شاذ كسابقه.

7-

أنّه يجبر بالجهل بمصالح النّكاح. وهذا هو ظاهر تعليل المالكية لرفع إجبار الأب عن البكر المعنَّسة والمرشَّدة والتي دخلت بيت زوجها ومكثت فيه سنة ثم فارقها زوجها وأنكرت مسيسه وشهدت مشاهد النّساء3.

إلاّ أن التعليل بالجهل قلّ من ذكره أو عوّل عليه، ولعلّ مردّ ذلك إلى أنَّ الجهل وصف غير منضبط فأنيط بمظنَّته من صغر أو بكارة، فيكون راجعًا إليهما. والله أعلم.

فهذه خلاصة ما وقفت عليه في مناط الإجبار وكلُّها قد نصَّ عليها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد) 4 عدا العلَّة الأخيرة.

1 زاد المعاد (5/99) .

2 نفس المصدر والصفحة. وكذلك المغني لابن قدامة (7/385) .

3 انظر الخرشي والعدوي (3/176) . والدسوقي مع الشرح الكبير (2/222- 223) .

4 زاد المعاد (5/99) . وانظر الفتاوى لابن تيمية (32/22-25) .

ص: 316

ولا يخفى أنَّ أرجحها هو التعليل بالصغر دون غيره. وهو مذهب الإمام أبي حنيفة ومن وافقه. كما قال ابن رشد: والأصول أكثر شهادة لتعليل أبي حنيفة1. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة2، وتلميذه ابن القيِّم3.

وعلى هذا فلا يجبر البكر البالغ على النِّكاح أب ولا غيره.

وهذا ما دلّت عليه السُّنَّة الصحيحة المستفيضة التي تقدَّم بيانها دلالة وإسنادًا، وفيها الدليل الواضح على أنَّ البكر لا تُنكح إلاّ بإذنها. ولهذ قال ابن القيم رحمه الله: وهو القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمَّته4" اهـ والله أعلم.

3-

صفة إذن البكر في النّكاح.

لقد عرفنا أنّ البكر البالغ لا تنكح إلاّ بإذنها اتفاقًا، إن لم يكن وليُّها أباها أو جدّها. وأمّا تز ويج الأب أو الجد لها بدون إذنها ففيه خلاف سبق بيانه، وبيان الرَّاجح أنّ البكر لا تُنكح إلاّ بإذنها، حتى وإن كان وليُّها أباها أو جدّها.

1 بداية المجتهد (2/5) .

2 انظر الفتاوى (32/22-25) . وهو بحث مستفيض قيِّم جدًا، فليراجع.

3 انظر زاد المعاد (5/96-99) .

4 زاد المعاد (5/96) .

ص: 317

وبقى أن نعرف في هذا المبحث ما يحصل به معرفة إذن البكر لوليِّها في نكاحها. وخلاصة أقوال العلماء في هذا أنّه يحصل بثلاثة دلائل على الإذن والرضى وهي:

1-

صريح كلامها.

2-

سكوتها. إن لم يقترن به ما يدلّ على سخط أو كراهة.

3-

ما له حكم السكوت دلالة على الرضى.

وإليك بيان ذلك بالتفصيل:

أوّلاً: إذن البكر بصريح كلامها.

إنّ تعبير البكر عن رضاها وإذنها لوليِّها في إنكاحها بصريح كلامها هو أقوى الوسائل لمعرفة رضاها؛ إذ إنّ التعبير باللسان هو أبلغ وسائل التعبير عمّا في النفس، وهو الأصل في الدلالة على مرادها، ولم يخالف في هذا إلاّ ابن حزم الظاهري رحمه الله، فهو يرى أنّ إذن البكر لا يكون إلاّ بسكوتها، فإن سكتت بعد استئذانها فقد رضيت وأذنت ولزمها إنكاح وليِّها لها، وإن تكلَّمت بالرضى أو بالمنع أو غير ذلك فلا يعقد عليها1.

واستدلّ ابن حزم رحمه الله لما ذهب إليه بظاهر الأحاديث التي فرقت بين صفة إذن البكر وإذن الثيّب، فجعلت النطق للثيّب والسكوت للبكر.

ومن تلك الأحاديث:

1 انظر المحلى (9/471) .

ص: 318

1-

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" وفي لفظ "الثيّب أحقُّ بنفسها"1.

2-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنكح الأيِّم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن". قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها. قال: "أن تسكت"2.

وقد حمل رحمه الله كعادته- على من خالف مذهبه هذا ممن قال: بصحة رضى البكر بصريح القول، فقال- بعد أن ذكر الحديثين السابقين:

"ذهب قوم من الخوالف إلى "أنَّ البكر إن تكلّمت بالرِّضى فإن النّكاح يصحُّ بذلك خلافًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة، فسبحان الذي أوهمهم أنَّهم أصحُّ أذهانًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع في نفوسهم أنّهم وقفوا على فهم وبيان غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نعوذ بالله عن مثل هذا. فأمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه أبطل النّكاح- كما تسمعون- عن البكر ما لم تستأذن فتسكت، وأجازه إذا استؤذنت فسكتت، بقوله عليه الصلاة والسلام "لا تُنكح البكر حتى تستأذن وإذنها صماتها"3. وأمّا

1 تقدم تخريجه ص 167، 170.

2 تقدم تخريجه (ص 277) .

3 هذا اللفظ بالمعنى من حديث أبي هريرة، وابن عباس، والأقرب أنّه أراد حديث ابن عباس. وتقدم لفظهما قريبًا.

ص: 319

الصحابة فإنّهم- كما أوردنا في الخبر آنفًا- لم يعرفوا ما إذن البكر حتى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وإلاّ فكان سؤالهم عند هؤلاء فضولاً. وحاش لهم من ذلك، فتنبّه هؤلاء لما لم يتنبّه له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نبّه عنه عليه السلام وهذا كما ترون، وما علمنا أحدًا من السلف روى عنه أنّ كلام البكر يكون رضى، وقد روينا عن عمر بن الخطاب وعلى وغيرهما أنّ إذنها هو السكوت، ومن عجائب الدُّنيا قول مالك: إنَّ العانس البكر لا يكون إذنها إلاّ بالكلام، وهذا مع مخالفته لنصِّ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي غاية الفساد؛ لأنّه أوجب فرضًا على العانس ما أسقطه عن غيرها، فلوددنا أن يعرّفونا الحدّ الذي إذا بلغته المرأة انتقل فرضها إلى ما ذكر، وبالله التوفيق10 انتهى كلامه.

وما ذهب إليه ابن حزم- رحمه الله في هذا مما يعاب على أهل الظاهر في تحميلهم ظواهر النصوص ما لا تحتمله، وليس في هذه الأحاديث النبويّة ونحوها أنّ السكوت فرض على البكر، به يصحُّ نكاحها وبدونه يبطل، بل ليس فيها إلاّ صحة اعتبار سكوت البكر رضى منها، وهو رخصة صان الله بها كرم حياء البكر، فأكرم الله بهذا السكوت ذلك الحياء الذي حبس لسانها عن رغبة تستحي من إبدائها بصريح قولها.

وأمَّا استفسار الصحابة عن كيفيَّة إذن البكر فحاش لله أن يكون لغوًا، لكنَّه لم يكن سؤالاً عن صحة إذنها لو أفصحت به بصريح عبارتها،

1 المحلى لابن حزم (9/ 471) .

ص: 320

بل هو سؤال عن كيفيَّة الوصول إلى معرفة إذنها، وقد عرفها الناس بشدّة حيائها وحرج ما تقع فيه لو فرض عليها أن تفصح عن رغبتها- في النِّكاح أو في اختيار الأزواج- بلسانها، فصان الله لهذا الحياء هيبته، وحفظ لهذا الأدب جلاله وحليته، وأوصلها إلى مرادها بصمتها المعهود منها، صمت العفَّة والأدب، وجلال الحياء وكرم النَّسب، وهو أجمل حلية تعتزّ به بين أترابها، وتزداد به شرفًا عند من عرفها ورغب فيها من كرام خطّابها.

وأمَّا تعجُّب ابن حزم ممن قال: إنَّ إفصاح البكر عن مرادها بصريح عبارتها أبلغ في التعبير عن رضاها من السكوت وأولى بالقبول، فليس في ذلك العجب، بل العجب من ابن حزم فيما ذهب إليه في هذه المسألة.

وأمَّا قوله: إنَّه لا يعلم أحداً من السلف. قال: إنَّ كلام البكر رضى، فليته ذكر واحدًا من السلف قال: إنّها إذا تكلّمت بالرضى كان كلامها هذا لغوًا، وأمَّا اعتبار سكوتها رضى عند السلف فليس فيه دليل على اعتبار القول لغوًا.

وأمَّا تعجّبه من الإمام مالك رحمه الله فيما روي عنه من إيجاب النُّطق على البكر العانس دون الاكتفاء بسكوتها، فليت ابن حزم اقتصر على هذا؛ إذ لكان له وجه من الانتصار للسّنّة الصحيحة الصريحة، ورد ما خالفها بأنواع من الاجتهادات التي أغنى عنها صريح السُّنَّة النبوية.

والله الموفِّق.

ص: 321

ثانيًا: إذن البكر بالسكوت.

لقد اتفق الفقهاء من حيث الجملة على أنَّ سكوت البكر بعد استئذانها يكفي دلالة على إذنها لوليِّها بإنكاحها ورضاها بخاطبها ما لم تقترن به قرينة واضحة دالّة على عدم الرضى، إلاّ أنَّ بعض الفقهاء قد قصره على اعتباره إذنًا للبكر مع بعض أوليائها دون بعض، أو لبعض الأبكار دون بعض، فتحصّل بذلك ثلاثة أقوال للفقهاء في اعتبار السكوت من البكر رضى.

القول الأول: أنَّ سكوت البكر بعد استئذانها يكفي لمعرفة رضاها بالنِّكاح وإذنها فيه، وأنَّه معتبر من كلٍّ بكرٍ، ومع كلِّ وليّ.

وهذا مذهب الجمهور من العلماء ومنهم الحنفية والحنابلة والظاهرية وأصحّ الوجهين عند الشافعية، قال ابن قدامة في المغني: "فأمَّا البكر فإذنها صماتها في قول عامَّة أهل العلم منهم: شريح والشعبي، وإسحاق، والنخعي، والثوريّ، والأوزا عي، وابن شبرمة، وأبو حنيفة، ولا فرق بين كون الوليّ أبًا أو غيره1 اهـ.

1 المغني مع الشرح الكبير (7/386 والشرح 401-402) . وانظر للحنابلة أيضًا: الإنصاف (8/ 64) ، والمبدع (7/28) ، وكشاف القناع (5/ 46.)، وانظر للحنفية: المبسوط (5/32) وبدائع الصنائع (3/1354-1355)، وفتح القدير (3/ 264) . وانظر للظاهرية: المحلى لابن حزم (9/471)، وللشافعية: المنهاج ومغني المحتاج (3/150) وروضة الطالبين (7/55) . وشرح النووي لمسلم (9/204) وفتح الباري لابن حجر (9/193) .

ص: 322

القول الثَّاني: أنَّ سكوت البكر إنَّما يكتفى به دلالة على الرضى والإذن إذا كان وليُّها أباها أو جدّها، وأمَّا سائر أوليائها فلا يكون إذنها لهم في إنكاحها إلاّبصريح كلامها.

وهذا القول: وجه لبعض الشافعية1.

وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمتة- رحمه الله لبعض أصحاب أحمد أيضًا2.

القول الثَّالث: أنَّ سكوت البكر إنَّما يكتفى به مع بعض الأبكار دون بعض تبعًا لاختلاف أحوالهنَّ. وهذا التفصيل للمالكية، حيث قالوا: إنَّ الأصل في إذن البكر أنَّه يحصل بسكوتها، وهناك حالات مستثناة من هذه القاعدة، لا يكون للبكر فيها إذن إلاّ بصريح القول، وذكروا ثماني حالات للأبكار لا يعتبر لهنّ إذن إلاّ بصريح كلامهنّ وهنَّ:

الأولى: البكر البالغ المرشَّدة، ولو كانت ذات أب؛ لأنَّه لمّا رشَّدها علم من ذلك أنَّها عارفة بمصالح نفسها، وما يراد منها ففارقت غيرها3.

الثَّانية: البكر التي عضلها وليُّها عن النِّكاح، سواء كان وليُّها أباها أو غيره، فرفعت أمرها إلى الحاكم فزوّجها فلا بدّ من نطقها، إلاّ إن أمر

1 انظر المصادر السابقة للشافعية.

2 الفتاوى (32/ 24) .

3 انظر الخرشي والعدوي (3/184) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/227-228) ، وشرح منح الجليل (2/20) .

ص: 323

الحاكم أباها بتزويجها بعد تحقّق العضل منه فإنّه يجبرها ولا يحتاج إلى إذنها1.

الثَّالثة: البكر التي زوّجت بعرض2، وهي من قوم لا يزوّجون به ولا أب لها ولا وصيّ ينظر في مالها، فلا بُدَّ من نطقها، لأنّها بائعة مشترية، والبيع والشراء لا يلزم بالصَّمت3.

ونحو هذا القول قال بعض الشافعية: إنّه إذا استأذنها وليُّها أن يزوّجها بأقلِّ من مهر مثلها، أو بغير نقد البلد، وصمتت، لم يكن ذلك إذنًامنها في ذلك؛ لأنّه استئذان في مال4.

الرَّابعة: البكر التي زوَّجت بمن فيه رقّ لو زوّجها أبوها بعده، وهذا بناء على أنّ العبد غيركفء للحرَّة. وقيل: إنّ كان زوّجها بعبد أبيها فلا بدَّمن نطقها، حتى ولو قيل إن العبد كفؤ للحرّة؛ لما يلحقها من زيادة المعرَّة بتزويجها بعبد أبيها، مما لم يحصل مثله لو تزوّجت بغير عبدأبيها5.

1 انظر المصادر السابقة.

2 أي غير ذهب أو فضة. انظر منح الجليل (2/20) .

3 انظر المصادر السابقة.

4 انظر روضة الطالبين (7/56) . وتكملة المجموع الثانية (16/169) .

5 انظر الخرشي والعدوي (3/ 185) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/128) ، والمواق مع الحطاب (3/ 434) ، والزرقاني والبناني (3/179) ، ومنح الجليل (2/21) .

ص: 324

الخامسة: البكر التي تزوَّجت بذي عيب يوجب لها الخيار، كجنون وجذام وبرص ولو مجبرة؛ لأنَّ ذلك عيب تدخل عليه ويلزمها1.

السَّادسة: البكر اليتيمة الصغيرة التي دعت الحاجة إلى تزويجها قبل البلوغ، فلا بدّ من إذنها بصريح القول2. وهذه الصورة غير داخلة في هذا المبحث، أعني مبحث البكر البالغ، وإنّما ذكرتها حصرًا لما اسثنوه من القاعدة جمعًا بين النظائر، وأيضًا فإنّ صفة الإذن لا تختلف بالكبر والصغر من حيث الجملة، وإنّما الذي يختلف بالكبر والصغر هو اعتبار الإذن أو التزويج.

السَّابعة: البكر المفتات عليها، وهي التي زوّجها وليُّها بدون إذنها، ثم استأذنها بعد العقد فلا تصح إجازتها إلاّ بصريح قولها، وهذا عندهم في غير الوليّ المجبر؛ لأنّه لا يتصور منه افتيات 3.

الثَّامنة: البكر المعنّسة، وبعضهم قيدها باليتيمة4.

1 انظر المصادر السابقة.

2 انظر المصادر السابقة.

3 انظر: المصادر السابقة.

4 انظر: المواق (3/ 434) ، وحاشية البناني على الزرقاني (3/178) ، ومنح الجليل (2/21) .

ص: 325

الأدلّة:

أولاً: أدلّة مذ هب الجمهور: وهو أنَّ سكوت البكر رضى في حقِّ كلِّ بكرٍ، وكلِّ وليٍّ:

استدلَّ الجمهور القائلون بأن سكوت البكر رضى مع كلِّ وليّ وفي

حقّ كلِّ بكر بالسنّة الصحيحة المستفيضة، وبالمعقول، وبالإجماع.

فأمَّا السنَّة: فقد صحّ واشتهر واستفاض فيها أنَّ سكوت البكر رضى، ومن ذلك:

1-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُتْكَح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تستأذن فقالوا: يا رسوله الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت" متفق عليه وتقدّم تخريجه1.

2-

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها". رواه مسلم وا لأربعة وغيرهم، وتقدَّم تخريجه2.

3-

حديث عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: يا رسول الله إنَّ البكر تستحي؟ قال: "رضاها صمتها".

وفي لفظ: قلت يا رسول الله: "يستأمر النّساء في أبضاعهنَّ؟ قال:

1 انظر تخريجه (ص 277) .

2 انظر تخريجه (ص 167) .

ص: 326

نعم، قلت: إنَّ البكر تستحي فتسكت، قال: سكاتها إذنها".

وفي لفظ ثالث: قالت: قال رسول الله!: "تستأذن النّساء" قلت: إنَّ البكر تستحي، قال:"إذنها صماتها". رواه البخاري بالألفاظ الثلاثة، ورواه أيضًا مسلم وغيره، وتقدَّم تخريجه1.

4-

ما رواه عَدِيّ بن عَدِيّ الكندي2، عن أبيه 3، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أشيروا على النِّساء في أنفسهنَّ" فقالوا: إنَّ البكر تستحي يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الثيّب تُعْرِب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صمتها". رواه أحمد بهذا اللفظ، ورواه ابن ماجه والبيهقي4.

1 تقدم (ص 278) ، وانظر الإشارة إلى أطرافه في البخاري مع الفتح (9/ 91 1) .

2 هو: عديّ بن عديّ بن عَمِيرة- بفتح المهملة- الكندي، أبو فروة الجزري ثقة فقيه، عمل لعمر بن عبد العزيز على الموصل، مات سنة عشرين ومائة، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. انظر: التقريب (2/17) ، وتهذيب التهذيب (7/168) .

3 هو: عديّ بن عَمِيرة الكندي، أبو زُرارة، والد الذي قبله (عديّ) صحابي، مات في خلافة معاوية، روى له مسلم والأربعة إلاّ الترمذي.

انظر: التقريب (2/17) ، وتهذيب التهذيب (7/169) .

4 تخريجه:

1-

أحمد: (16/158 ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب ما جاء في إجبار البكر

واستئمار الثيّب) .

2-

ابن ماجه: (1/602) نكاح، باب استئمار البكر والثيِّب.

3-

البيهقي: (7/123) نكاح، باب إذن البكر الصمت، وإذن الثيّب الكلام.

وانظر: إرواء الغليل (6/234-235) .

ص: 327

وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: رجال إسناده ثقات، إلاّ أنّه منقطع؛ فإنَّ عَدِيًّا لم يسمع من أبيه عَدِيّ بن عَمِيرة، يدخل بينهما العُرْس1 بن عَمِيرة، قاله أبو حاتم وغيره، لكنَّ الحديث له شواهد صحيحة2. اهـ

فهذه أحاديث صحيحة صريحة واضحة الدلالة على أنّ البكر إذا استأذنها وليّها في نكاحها فسكتت، أنَّ ذلك إذن منها، لا فرق بين بكر وأخرى، ولا بين وليّ وآخر.

1 هو: العُرْس- بضم أوَّله وسكون الراء بعدها مهملة- ابن عَمِيرة الكندي- (أخو عدي بن عَمِيرة السابق) - قيل: صحابي، وقيل: عَمِيرة أمّه، واسم أبيه: قيس بن سعيد بن الأرقم، وقال أبو حاتم: هما اثنان، روى له أبو داود والنسائي.

انظر: التقريب (2/18) ، وتهذيب التهذيب (7/175) .

2 كذا نقله محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه (1/602) . وكذلك نقله الساعاتي في الفتح الرباني شرح المسند (16/158) .

ولكنَّ الظَّاهر أنَّ قول أبي حاتم هذا إنَّما هو في أصل سماع عديّ بن عديّ لا في خصوص هذا الحديث كما في ترجمة عديّ بن عدي فى تهذيب التهذيب (7/168) .

ثم يلاحظ أنَّ البيهقي رواه من طريقين:

أحدهما: عن عَدِيٍّ بن عَدِيٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثانيهما: عن عدي بن عدي، عن أبيه، عن عُرْس بن عَمِيرة الكندي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال

) ، وهذا لا يستقيم مع ما نقل عن أبي حاتم. والله أعلم.

ص: 328

وأمَّا الدليل على الاكتفاء بسكوت البكر من جهة المعقول فهو: أنَّ شدَّة حياء البكر- لعدم معاشرتها الرِّجال- عقلة على لسانها، يمنعها من النطق بالإذن في النِّكاح، وإظهار الرغبة في الأزواج، بخلاف ما إذا كانت كارهة للنكاح أو للخاطب، فإنَّها لا تستحي من الرَّدِّ، أمّا إذا سكتت فالغالب أنّه سكوتُ رضًى ما لم يظهر ما يدلّ على خلافه.

وأمّا الإجماع: فقد أجمعت الأمّة على ما دلّت عليه السنّة الصحيحة الصريحة وهو أن سكوت البكر رضى في حقِّ كلِّ بكر، ومع كلِّ وليّ، ولا فرق. وممن حكى هذا الإجماع: ابن قدامة في (المغني) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى) ، وسيأتي نصّ قولهما قريبّا في مناقشة توجيه القول الثَّاني إن شاء الله تعالى.

توجيه القول الثَّاني.

وأمّا توجيه القول الثَّاني: وهو أنَّ سكوت البكر إنّما يكتفى به دلالة على الرضى مع أبيها أو جدّها دون غيرهما فهو:

أولاً: أنّ السكوت إنّما يكتفى به في حقِّ البكر لشدّة حيائها، وهي أشدّ حياء مع أبيها وجدّها، بخلاف غيرهما؛ إذ لا تستحي أن تفصح عن رضاها وإذنها، بصريح قولها مع أخيها، وعمِّها، ونحوهما1.

ثانيًا: أنَّ نكاح البكر لا يتوقَّف على رضاها إذا كان وليُّها أباها أو جدّها، بخلاف غيرهما؛ فإنّها لا تُنْكَح إلابإذنها، والصّمت محتمل للرضى،

1 انظر: شرح النووي على مسلم (9/204) ، وفتح الباري (9/193) .

ص: 329

وللحياء، ولغيرهما، وكلُّ من افتقر رضاها إلى إذنها افتقر إلى نطقها مع قدرتها على النطق، كالثيّب1.

وظاهر هذا القول أنّ صفة إذن البكر لوليّها في نكاحها يتبع القول في إجبار البكر أو عدمه، فحيث ثبت عندهم لوليّها حقُّ إجبارها، كما في أبيها وجدّها اكتفى بسكوتها؛ لعدم توقف نكاحها على إذنها، وحيث لم يجز له إجبارها كما في غير الأب والجدّ، لم يكتف بسكوتها، بل لا بدّ من إذنها بالقول.

ولا يخفى ضعف هذا القول، ومخالفته للسنّة، والإجماع، وحتى المعقول.

فأمّا مخالفته السنّة: فقد سبق بيانها، ولم تفرّق بين صفة إذن البكر مع أب وجدّ، أو غيرهما.

وأمّا مخالفته الإجماع: فقد أجمع أئمة المسلمين على ما دلّت عليه السنّة الصحيحة الصريحة، قبل حدوث هذا الخلاف، كما حكاه ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية.

فأمّا ابن قدامة فقال في المغني: "قال الشافعي: في صمتها في غير حقِّ الأبّ وجهان: أحدهما: لا يكون إذنًا؛ لأنَّ الصمات عدم الإذن، فلا

1 انظر: التكملة الثانية للمجموع (16/169) ، والمغني لابن قدامة (7/386) ، والفتاوى لابن تيمية (32/24) .

ص: 330

يكون إذنًا؛ ولأنّه محتمل الرضى والحياء وغيرهما، فلا يكون إذنًا، كما في حقِّ الثيِّب، وإنّما اكتفى به في حقِّ الأب، لأنَّ رضاها غير معتبر.

ثم عقَّب عليه ابن قدامة بقوله: "وهذا شذوذ عن أهل العلم وترك للسنّة الصحيحة الصريحة، يصان الشافعي عن نسبته إليه، وجعله مذهبًا له مع كونه من أتبع النّاس لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرّج منصف على هذا القول. وما ذكروه يفضي إلى ألَاّ يكون صُماتها إذنًا في حقّ الأب أيضاً؛ لأنّهم جعلوا وجوده كعدمه، فيكون إذاً ردًّا على النبي صلى الله عليه وسلم بالكليَّة واطّراحًا للأخبار الصريحة الجليَّة، وخرقًا لإجماع الأمّة المرضية"1اهـ.

وأمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: - في الفتاوى- رداًّ على من قال إنّه حيث يجب استئذان البكر فلا بدّ من النطق- قال: "وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم، ولنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه قد ثبت بالسنَّة الصحيحة المستفيضة واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنّه إذا زوّج البكرَ أخوها أو عمّها فإنّه يستأذنها، وإذنها صماتها"2.

وأمّا مخالفته المعقول أيضًا: فإنّه لا يسلّم بأنَّ حياء البكر يمنعها من النطق مع أبيها أو جدّها دون غيرهما، بل لو قيل: إنَّ الأمر عكس ذلك لكان أقرب للصّواب، فإنَّ البكر إنّما تستحي من النطق بالإذن خشية أن تظهر رغبتها في الأزواج، فيتسامع به الناس فتعيّر بقلّة حيائها، وهي لو

1 المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير (3/386-387) .

2 الفتاوى لابن تيمية (32/24) .

ص: 331

أفصحت بهذا لأبيها أو جدّها لكانت أكثر ثقة فيهما بكتمان رغبتها عن التشهير بها، فتأمن من ظهور ما تخشاه؛ إذ إنّها لا تخشى من إظهار رغبتها لوليّها في الأزواج، بقدر ما تخشاه من الآخرين، مع أنَّ مظنّة الحياء هنا هو البكارة، والتعليل بها تعليل بوصف منضبط، بخلاف التعليل بالحياء، فلا يمكن انضباطه؛ ولذلك جاء الفرق صريحًا في السنّة بين البكر والثيّب في صفة الإذن.

ثم إنّ استئذان البكر مستحب إجماعًا، وواجب في أصحّ أقوال العلماء، كما سبق بيانه، واعتبار سكوتها كعدمه يفضي إلى اعتباره غير إذن مع جميع الأولياء، كما تقدَّم قريبًا في قول ابن قدامة. والله تعالى أعلم.

توجيه القول الثَّالث.

وأمّا توجيه القول الثَّالث، وهو تفصيل المالكية في صفة إذن البكر تبعًا لاختلاف أحوالها، حيث استثنوا ثماني حالات للأبكار لا يكون لهنَّ إذن فيها إلاّ بالنطق، فلم أجد له مستندًا من النصوص الشرعية، ولا قاعدة يمكن اطّرادها، ومن تأمّل تلك الأقوال وجدها أشبه بالقول السابق لبعض الشافعية، من حيث التثبّت في الوقوف على رضى البكر بصريح القول فيما يتوقَّف عليه نكاحها، إلاّ أنّ القول السابق يشترط النطق حيث وجب الإذن، وأمّا هذا التفصيل للمالكية فالأظهر أنّه يشترط الإذن بالقول لقرائن يترجّح بها أنّ السكوت في تلك الحالات غير دالّ على

ص: 332

الرضى، كما تشير إليه تعليلاتهم لبعض تلك الصور، فإنّهم ذكروا أنّ البكر المرشّدة أو المعنّسة أعرف بمصالح نفسها، فأشبهت الثّيِّب1.

وعلى هذا فسكوت البكر المعنّسة أو المرشّدة يغلب على الظن أنّه لعدم الرضى، لا لشدّة الحياء.

إلاّ أنَّ هذا التوجيه لا يقاوم ما سبق من النصّ والإجماع على اعتبار سكوت البكر رضى من غير تفصيل، وقد سبق وصف ابن حزم لقول مالك في المعنّسة "أنّه من عجائب الدُّنيا"2. والبكر المرشّدة لا تختلف عن هذا.

وأمّا قولهم في البكر التي عضلها أبوها فرفعت أمرها إلى الحاكم فأنكحها أو أمر من ينكحها فاشتراط صريح القول بالإذن في هذه الصورة لا يختلف عن وجهة بعض الشافعية السابقة في اشتراط الإذن بالقول، حيث لا يكون للوليّ حقُّ الإجبار، فقد نصّ بعض شراح (المختصر) على أنّ الحاكم لو أمر أباها أن ينكحها بعد تحقّق العضل عنده أنّ الأب يجبرها، ولا يحتاج إلى إذنها3.

1 انظر: الخرشي (3/184) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/227-228) .

2 تقدم (ص320) .

3 انظر ما تقدم من المصادر في سرد هذه الأقوال (ص 323-335) .

ص: 333

وأمّا قولهم في التي زوّجت بعرض وهي من قوم لا يزوّجون به، فقالوا: إنّ هذا مال وهي بائعة مشترية، والمال لا يلزم بالصّمت1، ولكن استثناء الأب من هذه الصورة يلحقه بالقاعدة السابقة في اعتبار الإجبار أو عدمه.

والأظهر هنا: إنّها إن علمت فسكتت كان سكوتها رضى، إذ إنّ المهر هنا ليس عوضًا مقصودًا لذاته، وأمّا إن لم تعلم فلا معنى لصمتها ولا لنطقها في مهر تجهل نوعه وجنسه، وأمّا نكاحها فصحيح ولها المهر الذي جرت به أعراف بلدها.

وأمّا التي زوّجت بمن فيه رقّ فاعتبار نطقها هنا لتزويجها بغير كفئها، والغالب أنّ المرأة لا ترضى بغير الكفء، فإذا سكتت كان ذلك قرينة دالّة على عدم الرضى، لا على شدّة الحياء، وكذلك إذا أريد تزويجها بمن فيه عيب، فالغالب أنّّ المرأة لا ترضى بمعيب، فوجود العيب قرينة دالّّة على أنّ سكوتها للكراهة لا للرضى، وخاصّة إذا كان العيب يثبت لها حقّ الفسخ فالاحتياط لاستقرار النّكاح يدعو إلى التثبت من رضاها، لئلاّ يُعقد عقدٌ مآله إلى الفسخ.

والأظهر هنا- في كلتا الصورتين- أنّه إن علمت بحال الزوج سواء كان معيباً أم فيه شائبة رقّ فسكوتها رضى، ما لم تظهر قرينة سخط

1 انظر ما تقدم من المصادر في سرد هذه الأقوال (ص 323-325) .

ص: 334

أو كراهة، إلاّ أنّ رضاها بهذا لا يعفي وليّها من مسؤولية النظر لها، خاصّة إذا كانت تجهل ما يصلح لمثلها، وأمّا إن كانت لم تعلم حال الزوج فلا دلالة في سكوتها ولا في نطقها على الرضى بغير الكفء.

وأمّا اعتبار نطق اليتيمة الصغيرة فهذا جار على قاعدة أنّ السكوت لا يكفي في غير مواطن الإجبار- وستأتي هذه المسألة في مبحث تزويج الصغار- إن شاء الله تعالى. وحاصل ما يظهر لي فيها هنا: أنّ الصغيرة إمّا أن يكون لها إذن صحيح في بعض الحالات كالمميّزة، وعلى هذا فلا فرق بين يتيمة أو غيرها في صفة الإذن، وإمّا أن لا يكون لها إذن صحيح حتى تبلغ فلا معنى إذاً لسكوتها ولا لنطقها صغيرة. والله أعلم.

وأمّا قولهم في التي زوّجها وليّها غير المجبر افتياتًا عليها- أي بدون إذنها- فذلك لأنّ افتيات وليّها هنا قد أظهر تعدّيه على حقّها، فاحتيج لنطقها، للأمن من هذا التعدّي مرّة ثانية.

وأيضًا فالإذن هنا إجازة للعقد بعد وقوعه، وهذا بخلاف الإذن في العقد قبل الوقوع.

والأظهر هنا: اعتبار قرينة الحال، فإذا ظهرت قرينة واضحة دالّة على عدم الرضى حين سكتت عمل بها، وقرائن الأحوال بالرضى أو الغضب لا حصرلها، ولا مانع من العمل بها.

وبهذا نعلم أنّ أصحّ هذه الأقوال هو القول الأوّل، وهو: أنّ السكوت إذن في حقّ كلّ بكر، ومع كلِّ وليّ، ما لم تظهر قرينة واضحة

ص: 335

دالّة على أنَّ سكوتها سكوت سخط أو كراهية، لا سكوت أدب وحياء. والله أعلم.

ثالثًا: ما يكون له حكم السكوت فى الدّلالة على رضى البكر.

وأمّا ما يلحق بالسكوت في الدلالة على إذن البكر ورضاها، فقد بحث الفقهاء ما إذا استأذنها وليّها في تزويجها فضحكت، أو تبسمت، أو بكت، أيلحق ذلك بسكوتها أم لا؟

فأمّا الضحك والتبسُّم فهو بمنزلة سكوتها في دلالته على الرضى،

بل إنّه أدلّ على الرضى من السكوت؛ لأنَّ الإنسان إنّما يضحك غالبًا مما يسرُّه، وهذا مذهب الجمهور.

وقيل: إن ضحكت أو تبسَّمت كالمستهزئة فلا يكون ذلك دالاً على الرضى1.

1 انظر في إلحاق الضحك بالسكوت المصادر التالية:

للحنفية: الهداية مع فتح القدير (3/264) ، المبسوط (5/4) . بدائع الصنائع (3/1355) .

وللمالكية: الخرشي (3/184) ، والشرح الكبير (2/227) . ومنح الجليل (2/20) .

وللشافعية: المنهاج ومغنى المحتاج (3/150) ، روضة الطالبين (7/55) .

وللحنا بلة: المغني (7/389) ، والإنصاف (8/65) .

ص: 336

والظاهرأنّ هذا لا يخالف ما تقدَّم، فإنَّ الأصل في الضَّحك والتبسُّم أنّه دليل الرضى ما لم تقم قرينة واضحة دالّة على خلافه، كالسخط، أو الكراهية، أو عدم المبالاة، وكذلك ضحك أو تبسُّم المستهزئ؛ فإنّه لا يخفى حال صاحبه. والله أعلم.

وأمّا إذا استأذنها وليّها فبكت: ففي دلالته على الرضى إلحاقًا له بالسكوت خلاف.

1-

فقيل: هو بمنزلة سكوتها، وبه قال الحنابلة، والمالكية، ورواية عن أبي يوسف من الحنفيَّة1.

2-

وقيل: إنّه بمنزلة سكوتها، إلاّ إذا اقترن به صياح، أو ضرب خدّ؛ لأنّ ذلك مشعر بعدم الرضى. وبهذا قال الشافعية؛ بناء على القول الأصحِّ عندهم، وهو أنَّ سكوت البكر رضى مع جميع الأولياء2.

1 انظر لأبي يوسف: فتح القدير (3/264) ، وبدائع الصنائع (3/1355) .

وللمالكية: الخرشي (3/184) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/227) ، ومنح الجليل (2/20) .

وللحنابلة: المغني (7/389) ، الإنصاف (8/65) ، المبدع (7/27) ، وكشاف القناع (5/47) .

2 انظر: مغني المحتاج (3/150) .

ص: 337

وبنحو هذا قال بعض الحنفية: إنَّ البكاء لا يكون رداًّ إلاّ إذا كان له صوت، كالويل، وأمّا لو خرج الدمع من عينيها من غير صوت البكاء لم يكن هذا رداًّ، بل هي تحزن على مفارقة بيت أبويها1.

قال ابن الهمام: واختيرت للفتوى2.

3-

أنَّ البكاء دليل عدم الرضى مطلقًا. وهو مذهب الحنفيّة3.

4-

اعتبار قرائن الأحوال، بالكشف عن بكائها أهو للكراهة أم لا؟ فإذا كان للكراهة لم يكن إذنًا- وهذا قول اختاره بعض المحقّقين في المذاهب الأربعة وغيرها.

قال ابن الهمام: "والمعوّل عليه اعتبار قرائن الأحوال في الضحك والبكاء، فإن تعارضت أو أشكل أحتيط، وعن 4 هذا ما اعتبر بعضهم من أنَّ دموعها إن كانت حارّة فهو ردٌّ، أو باردة فهو رضى، لكنّه اعتبار قليل الجدوى أو عديمه؛ إذ الاحساس بكيفيّتي الدّمع لا يتهيأ إلاّ لخدِّ الباكي، ولو ذهب إنسان يحسه لا يدرك حقيقة المقصود، وليس بمعتاد، ولا يطمئن به القلب، إلاّ أنّه كذا ذكر"5 اهـ.

1 انظر: المبسوط (5/4) ، والهداية مع فتح القدير (3/266) .

2 انظر: فتح القدير (3/264) .

3 انظر: المبسوط (5/4) ، وبدائع الصنائع (3/1355) ، والهداية مع فتح القدير (3/264) وعزاه ابن قدامة في المغني للصاحبين (7/387) .

4 كذا "عن" ولعل الصواب: "من ".

5 فتح القدير (3/264)، وانظر: بلغة السالك للصاوي (ص 359) . والإنصاف للمرداوي (8/65- 66) .

ص: 338

الأدلَّة:

استدلَّ من قال إنَّ بكاء البكر بمنزلة سكوتها بما يلى:

1-

ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن بكت أو سكتت فهو رضاها، وإن أبت فلا جواز عليها". كذا أورده ابن قدامة في المغني وعزاه لأبي بكر1.

والحديث قد رواه أبو داود أيضًا وقال: وليس "بكت " بمحفوظ، وهو وهم في الحديث2.

2-

ولأنّها لوكرهت لنطقت بامتناعه! فإنهّا لا تستحي من الامتناع، فكان إذنًا منها كالصُّمات، والضحك، وأمّا البكاء فهو دليل فرط الحياء، أو لما يترتَّب على نكاحها من فراقها لبيت أبويها3.

وقيل: إنّ البكاء قد يكون للحزن، وقد يكون لشّدة الفرح؛ فلا

يجعل ردّاً ولا إجازة؛ للتعارض، كأنَّها سكتت فكان رضى4.

1 المغني (7/387) ، وكذلك كشاف القناع (5/47) وغيرهما من كتب الحنابلة.

2 أبو داود: (6/118عون المعبود) نكاح، باب في الاستئمار.

وانظر: إرواء الغليل (6/233، 235) . وانظر تخريجه الآتي بدون لفظ "بكت" ص387.

3 انظر: المغني لابن قدامة (7/388) .

4 كذا قال الكاساني في بدائع الصنائع توجيهًا لقول أبي يوسف (3/1355) .

ص: 339

وأمّا من فرق بين البكاء الذي يصحبه صياح، أو ضرب للخدود، أو دعاء بالويل، وبين غيره من البكاء، فلأنّ تلك القرائن مشعرة بالغضب، والسخط، دون البكاء المجرَّد منها؛ فإنّه دليل الحياء، وخوف فراق بيوت الآباء1.

وأمّا من جعل البكاء دليلاً على الردّ وعدم الإذن؛ فلأنّ البكاء وضع أصلاً للحزن، والسخط، والكراهية، لا للفرح والرضى، بخلاف الضحك والتبسُّم؛ فإنّ وضعه لما يسرّ ويفرح، وليس هو بصمت فيدخل في عموم الأحاديث2.

وأمّا من اعتبر قرينة الحال، وعوّل عليها في الفصل في هذا المقام؛ فلأنّ البكاء يدلّ على الحزن والكراهية، وقد يكون لغير ذلك، وقرينة الحال هي التي تدلّ على المراد به.

1 انظر: المبسوط (5/4) ، والهداية وفتح القدير (3/266) ، ومغني المحتاج للشافعية (3/150) .

2 انظر: المبسوط (5/4) ، والهداية وفتح القدير (3/264) ، وبدائع الصنائع (3/1355) ، والمغني لابن قدامة (7/387) .

ص: 340

الرّاجح:

والذي يظهرمما تقدّم، أنَّه قلّ من العلماء من يلغي قرينة الحال عند التحقيق والتأمّل، إلاّ أنّ في اعتبارها في بعض الأقوال نظرًا.

ويبدو لي: أنّ البكاء لا يلحق بالصمت في الدلالة على الرضى إلاّ بقرينة تدلّ على أنّه لفرط الحياء أو خشية فراق بيوت الآباء أو نحو ذلك، وكذلك الضحك دليل الرضى- كما قلنا- ما لم تقم قرينة دالّة على خلافه، وذلك لما يلي:

1-

إنَّ زيادة لفظ "بكت" في الحديث غير ثابته- كما تقدّم.

2-

إنَّ البكاء دالّ حقيقة على السخط والكراهية، لا على الفرح والرضى ونحوه، فلا يخرج عمّا وضع له إلاّ بقرينة واضحة.

وأمَّا من قال: إنّ الضحك والبكاء دالّ على الرضى إلاّ بقرينة، فقد جمع بين المتناقضات؛ فإنّ لكلِّ من الضحك والبكاء حقيقة تخالف الأخرى، والعمل بالحقيقة لا يحتاج إلى قرينة تؤيِّده.

وأمّا من فرّق بين بكاء يصحبه صياح، وضرب للخدود، ودعاء بالويل والثبور، فهذا اعتبار لبعض القرائن التي نحن في غنى عنها لو لم ترد؛ إذ إنّنا نحتاج للقرينة لتأويل الحقيقة عن ظاهرها، لا للاستدلال بها على الأخذ بالحقيقة سواء أكانت حقيقة لغوية أم شرعية أم عرفية، وقد تعارف الناس البكاء- غالبًا- لما يكرهون.

وأمّا قولهم: إنّها لوكرهت لصرَّحت بالردّ، لأنّها لاتستحي من الافصاح به، فنقول: كفى بالصَّمت عذرًا وسترًا لو كان هناك رضى، أمّا

ص: 341

مع البكاء فقد أغنى الفعل عن القول حتى نجد القرينة التي تدلّ علىأنّه لأمر آخر غير الكراهيّة ونحوها.

ورحم الله زمانًا كان الأئمة يحتارون في الوقوف على دلالة بكاء الأبكار أهو لشدّة حيائهنَّ، أم لكراهتهنَّ للخطّاب! ولولا ما التزمت به في هذا البحث من ذكر ما اشتهر بين الفقهاء في رؤوس مسائله، لما كان لهذا المبحث داع في زمن خفّ فيه الحياء، وانحلّ عن الألسنة ما كان يعقلها. فالله المستعان.

ص: 342