الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّاني: تزويج الأولياء للمجانين
أ- تزويج الأنثى المجنونة:
إنَّ المجنونة قد تكون صغيرة أو كبيرة، بكرًا أو ثيّبًا، وقد يكون جنونها أصليًّا أو طارئًا بعد البلوغ، وقد يكون متقطِّعًا أو مُطْبِقًا، ولهذا فسنذكر كلًّ مذهب من المذاهب الأربعة على حِدَة، وما فيه من خلاف بين أصحاب المذهب الواحد، وذلك خروجًا من كثرة التقسيمات التي يمكن الاستغناء عن أكثرها، وإليك بيان ذلك:
أوّلاً: مذهب الحنفية في تزويج المجنونة.
إنّ مذهب الحنفية في تزويج المجنونة هو أنّها تزوّج كما تزوّج العاقلة الصغيرة؛ وعلى هذا فلسائر أوليائها تزويجها سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، بكراً أم ثيّباً، وسواء أكان جنونها أصليًّا أم طارئًا بعد البلوغ، ولا خيار لها إذا أفاقت وقد زوّجها أبوها أو جدّها في قول أئمة الحنفية الثلاثة- أعني أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا- رحمهم الله، وأمَّا مع غيرهما فلها الخيار عند أبي حنيفة، ومحمد كما في الصغيرة العاقلة.
وهذا إذا لم يكن للمجنونة ابن، أمّا إن كان لها ابن فهو مقدّم على أبيها عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا خيار1 لها إذا أفاقت وقد زوّجها
1 قال الزيلعي- صاحب تبيين الحقائق-: وأمّا إن زوّجهما (أي المعتوه والمعتوهة) الابن فلا رواية فيه عن أبي حنيفة، وينبغي أن لا يكون لهما الخيار؛ لأنَّه مقدّم على الأب، ولا خيار في الأب فهذا أولى) اهـ (2/123) ، ونحوه في البحر الرائق (3/129) .
ابنها من باب أولى عند غير أبي يوسف رحمه الله، كما مرَّ في الصغيرة العاقلة؛ لأنَّ الخلاف بين أبي حنيفة ومحمد في تقديم الابن على الأب، أو العكس لا غير.
وذلك أنّ شرط الولاية- عندهم- هو عجز الموْلِيّ عليه، والمجنونة عاجزة عن التصرّف لنفسها بخلاف العاقلة المكلّفة، الحرّة كما تقدّم، وإنَّما ثبت لها خيار الإفاقة مع غير من ذكر؛ لقصور شفقتهم، كما مرَّ في الصغيرة العاقلة1.
ثانيًا: مذهب المالكية.
هو أنّ المجنونة يزوّجها أبوها، ثم وصيّه، دون غيرهما من سائر الأولياء، ما عدا الحاكم، فقد اختلف النقل في صحّة تزويجه لها للحاجة كما سيأتي.
فأمَّا الأب: فله تزويج المجنونة جنونًا مطبقًا، مطلقًا أي سواء كان الجنون أصلياًّ أم طارئًا بعد البلوغ، وسواء أكانت بكرًا أم ثيّبًا حتى ولو ولدت الأولاد فلا كلام لولدها مع أبيها، وهذا بخلاف العاقلة، فإن ابنها مقدَّم على أبيها عندهم.
1 انظر في مذهب الحنفية هذا كلاً من: المبسوط (4/228) ، بدائع الصنائع (3/1360) ، تبيين الحقائق (2/123، 127) ، البحر الرائق (3/129، 137) .
وأمّا إن كانت المجنونة ممن تفيق أحيانًا- أي جنونًا غير مطبق- فتنتظر إفاقة من يعتبر إذنها عاقلة كالثّيب البالغ، وأمّا من كان لأبيها إجبارها عاقلة كالصغيرة والبكر فلا تنتظر إفاقتها.
وأمّا وصيّ الأب فيقوم مقام الأب إذا أمره الأب بإنكاحها، أو عيّن له زوجها قبل موته.
وأمّا إن لم يأمره بإنكاحها ولا عيّن له زوجها فقيل: ليس له تزويجها؛ لأنَّه لا يملك إجبارها ولا إذن لها فيزوّجها به1.
وأمّا الحاكم: فقد اختلف نقل شرَّاح المختصر في صحَّة تزويجه المجنونة، فذكر بعضهم أنّه يزوّج المجنونة للحاجة، كما سيأتي في المجنون2، وذكر بعضهم أنَّ الأنثى بخلاف الذَّكر فلا يزوّجها إلاّ الأب أو الوصيّ كما تقدّم3.
1انظر في مذهب المالكية كلاً من: الشرح الكبير والدسوقي (2/222-223) ، والخرشي (3/176-178) ، والحطّاب (3/427) ، ومنح الجليل (2/14) ، والشرح الصغير وبلغة السالك 1/355) ، والزرقاني مع حاشية البناني (3/172-173) .
2 انظر مثلاً: الخرشي ومنح الجليل والزرقاني والحطاب، نفس الأجزاء والصفحات السابقة.
3 انظر مثلاً: حاشية الدسوقي (2/245) ، والعدوي على الخرشي (3/203) ، وبلغة السالك (1/369) .
ثالثًا: مذهب الشافعية.
وأمّا مذهب الشافعية فهو: أنّ المجنونة يزوّجها أبوها أو جدّها متى ظهر لها مصلحة في ذلك، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، بكرًا أم ثيّبًا، وسواء جُنّتْ قبل البلوغ أم بعده، بل يجب عليهما تزويج بالغة ظهرت حاجتها للنّكاح.
وأمّا غير الأب والجدّ فلا يزوّج صغيرة على أي حال. وأمّا البالغة فإن لم يوجد لها أب ولا جدّ، فيزوّجها السلطان دون سائر الأولياء على الأصحّ، وإنّما يستحب له استشارة أقاربها تطييبًا لقلوبهم، وقيل: بل يزوّجها الوليُّ القريب بإذن السلطان واختاره بعضهم.
وإنّما يزوّج غير الأب والجدّ البالغة للحاجة المنزَّلة منزلة الضرورة، كظهور حاجتها للنكاح، أو توقُّع شفائها به بقول عدلين من الأطباء- لا لمجرّد المصلحة- لأنَّ تزويجها يقع إجبارًا ولا إجبار لغير الأب والجدّ، وإذا أفاقت المجنونة فلا خيار لها؛ لأنّ التزويج كالحكم لها وعليها1.
وهذا التقسيم إنّما هو خاصٌّ بمن أطبق جنونها، وأمّا من لها إفاقة فتنتظر إفاقة من يعتبر إذنها، وبلوغ الصغيرة وعقلها إذا لم يكن لوليّها جبرها، كما هو نصّ ما في الروضة في الثّيب البالغ2.
1 انظر: مذهب الشافعية في تزويج المجنونة في كلٍّ من: المهذب (2/38) ، تكملة المجموع الثانية (16/172) ، المنهاج ومغني المحتاج (3/159- 160، 169) ، وتحفة المحتاج (7/286) ، ونهاية المحتاج (6/263) ، وروضة الطالبين (7/77، 95، 96) .
2 انظر: روضة الطالبين (3/96) ، ومغني المحتاج (3/159) .
رابعاً: مذهب الحنابلة.
وأمّا مذهب الحنابلة في تزويج المجنونة فإن كانت ممن تجبر لو كانت عاقلة جاز تزويجها لمن يملك إجبارها؛ لأنّه إذا ملك إجبارها مع عقلها وامتناعها فمع عدمه أولى.
وقد تقدّم أنّ الأب يجبر البكر البالغ على الصحيح من المذهب، ووصيّه يقوم مقامه على أحد القولين بولايته عندهم.
وأمّا إن كانت ممن لا تجبر لو كانت عاقلة- كالثّيب البالغ، والبكر على الرواية الأخرى، بل حتى ابنة تسع، بكرًا أو ثيّبًا على ما تقدّم- فللأب تزويجها على الصحيح من المذهب أيضاً، وكذلك وصيّه، ومنع من هذا أبو بكر1 في الثّيّب البالغ.
وأمّا إن لم يكن لها أبٌ ولا وصيٌّ فإنّها لا تزوّج إلاّ للحاجة، وقد اختلفوا فيمن يزوّجها أهو الحاكم أم بقيَّة الأولياء؟ على قولين:
أوّلهما: أنّه يزوّجها سائر أوليائها متى ظهرت حاجتها للنكاح ونحوه كالخدمة.
وثانيهما: أنّه لا يزوّجها إلاّ الحاكم، وبهذا قال القاضي2.
هذا إذا وجد الحاكم والأولياء، أمّا إن لم يكن وليّ إلاّ الحاكم
1 هو: عبد العزيز بن جعفر غلام الخلاّل، وتقدم التعريف به ص274.
2 هو: القاضي أبو يعلى، كما هو مشهور إطلاقهم.
فالصحيح من المذهب أنّ له تزويجها للحاجة1.
والظَّاهر أنَّ هذا كلّه فيمن كان جنونها مطبقًا، أمّا من ترجى إفاقتها فينتظر إفاقة من يعتبر إذنها، كما يدلُّ على ذلك تفصيلهم في المجنون الذَّكر2.
الرَّاجح:
والذي يظهر لي مما تقدّم: أنَّ الرَّاجح هو: صحة تزويجها مطلقًا متى كان في تزويجها مصلحة لها، سواء كان وليّها أباها أم جدّها أم غيرهما، وسواء كانت صغيرة أم كبيرة، بكراً أم ثيّبًا، وسواء كان جنونها مطبقاً أم متقطعاً، ولا خيار لها إذا أفاقت؛ لأنّ تزويجها كالحكم لها وعليها.
إلاّ أن تكون لها إفاقة معروفة عادة، فتنتظر إفاقة من يعتبر إذنها عاقلة لتزوّج بإذنها، لأنّ ذلك من أظهر مصالحها، ولأنّ جنونها والحالة هذه أشبه بالنوم والإغماء، فإن زوّجها وليّها في هذه الحال قبل إفاقتها فلها الخيار إذا أفاقت، سواء كان وليّها أباً أم جدًّا أم غيرهما، كالعاقلة التي زوّجها وليّها بدون إذنها، كما تقدّم3 تحقيقه واختياره، وذلك لما يلي:
1 انظر مذهب الحنابلة هذا في كلٍّ من: المغني والشرح الكبير (7/389-390 والشرح 397-398) ، والإنصاف (8/55-56، 60-61) ، وكشاف القناع (5/45) ، وشرح منتهى الإرادات (3/14) ، والمبدع (7/25) .
2 انظر: المغني7/394) .
3 انظر ما تقدم (ص 359 وما بعدها) .
أوّلاً: أنّ هذا نكاح عقده وليّ، والأصل في عقود الأولياء الصِّحة، وتخصيص بعضها بالصِّحة دون بعض يحتاج إلى دليل، ولا دليل مع من خصّ بعضهم بذلك إلاّ اعتبار إذنها عاقلة مع بعضهم دون بعض، وقد قدّمنا أنّ الصحيح عدم الفرق بين الأولياء، سواء كانوا آباء أم غيرهم في اعتبار إذن من لها رأي في نفسها كالبالغة بكرًا أم تيّبًا، وعلى هذا فقد استوى جميع الأولياء في عدم الإجبار مع أنَّ الإجبار حقيقة إنّما يتصوّر في حقِّ من لها رأي في نفسها، ولا رأي لفاقد عقل كالمجانين والأطفال.
ثانياً: إنّ إذن المجنونة متعذِّر حال جنونها، وإفاقتها غير معلومة في غير ما ذكر، وهو ما عرف عنها عادة.
ثالثاً: إنّ النظر لمصلحتها واجب على وليّها، فمتى ظهرت له المصلحة في تزويجها لزمه تحصيلها ما أمكن، وأمّا الضرر فممنوع شرعًا في حقِّ المجانين والعقلاء على السواء، ونظر الوليّ في إدراك المصلحة أو دفع المفسدة مقدّم على نظر غيره، ما لم تظهر مخالفته للصّواب بيقين. والله أعلم.
ب- تزويج الذكر المجنون.
إنّ القول في تزويج المجنون كالقول في تزويج المجنونة تقريبًا؛ لاشتراكهما في أكثر المؤثِّرات التي توجب الولاية عليهما وتؤثِّر في اعتبار إذنهما، ولذلك فسنتبع في عرض أقوال الفقهاء في حكم تزويجه نفس الطريقة السابقة، وإليك بيانها:
أوّلاً: مذهب الحنفية في تزويج المجنون.
إنّ مذهب الحنفية في تزويج المجنون كالقول في تزويج المجنونة، فيزوّج المجنون، كبيرًا أم صغيرًا، كما يزوّج الصّغير العاقل، ولا فرق في هذا عندهم بين ذكر وأنثى؛ إذ العلّة في الكبير الجنون، وفي الصغير الصغر والجنون، وسواء كان الجنون أصلياًّ- أي بلغ مجنونًا- أم طارئًا عليه بعد بلوغه عن الثلاثة - أعني أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا - وخالفهم زفر في المجنون الطارئ بعد البلوغ فمنع تزويجه وقال: إنّه ببلوغه عاقلاً قد استقلَّ بنفسه، وزالت عنه ولاية غيره، فلا تعود إليه بعد ذلك بطريان الجنون، كما لو بلغ مغمى عليه ثم زال الإغماء، ولأنّ النّكاح يعقد للعمر، ولا تتجدّد الحاجة إليه في كلِّ وقت بخلاف المال.
واحتجّ جمهور الحنفية عليه: بأنّه قد وجد سبب ثبوت الولاية - وهو القرابة – وشرطها - وهو عجز المَوْلِيِّ عليه عن النظر لنفسه، - ولا فرق بين أصليٍّ وطارئ في هذا، فقد تشتدُّ حاجته إلى النّكاح، وقد تموت زوجته أثناء جنونه، فتثبت عليه الولاية في النّكاح، كما تثبت عليه الولاية في المال. والله أعلم1
1 انظر: المبسوط (4/228) ، وبدائع الصنائع (3/ 1360) ، وبقية المصادر السابقة في تزويج المجنونة.
ثانياً: مذهب المالكيَّة.
وأمّا المالكيَّة فقالوا: إن كان جنونه غير مُطْبِق تنتظر إفاقته، ولا يزوّجه أحد حال جنونه، وأمّا إن كان جنونه مُطْبِقًا فلا يخلو من حالين وهما:
إمّا أن يكون قد بلغ مجنوناً، وإمّا أن يكون قد بلغ عاقلاً ثم جُنَّ.
فإن بلغ مجنونًا: فلأبيه ثم وصيّه ثم الحاكم تزويجه للحاجة إلى النّكاح؛ بأن خيف عليه الفساد، أو الوقوع في الزِّنى؛ لأنّه وإن سقط عنه الحدّ فلا يقرّ عليه، وكذلك لو اشتدّت ضرورته وتعيّن الزَّواج لإنقاذه منه، وكذلك قيل: لو تعيّن الزواج طريقًا لخدمته.
وأمّا إن بلغ عاقلاً ثم جنّ: فلا يزوّجه إلاّ الحاكم، فلا ولاية عليه لأبيه ولا وصيِّه1.
ثالثًا: مذهب الشافعية.
وأمّا مذهب الشافعية فهو: إن كان المجنون صغيرًا فلا يزوّجه أبٌ ولا غيره؛ لأنّه لا حاجة إلى تزويجه في الحال، وبعد البلوغ لا يدري كيف
1 انظر مذهب المالكية هذا في: الخرشي والعدوي (3/202) الشرح الكبير والدسوقي (2/244-245) ، الزرقاني والبناني (3/197) ، منح الجليل (2/39) ، الشرح الصغير وبلغة السالك (1/369) .
(تنبيه) : وأمّا الصغير المجنون فالظاهر أنّ حكمه كالصغير العاقل، فيزوجه الأب، ووصيّه، والحاكم للمصلحة، كما يدل عليه إطلاقهم ذكر الصغير مع المجنون. والله أعلم.
يكون حاله، وذلك بخلاف الصغير العاقل- عندهم- فإنَّ ظاهر أمره حاجته إلى النّكاح1.
وأمّا إن كان كبيرًا، فإن كان جنونه غير مطبق فلا يزوّج حتى يفيق ويأذن، ويشترط وقوع العقد حال الإفاقة، فلو جنّ قبله بطل إذنه. وهذا نحو مذهب المالكية السابق2.
وأمّا إن كان جنونه مطبقًا، فإمّا أن يكون قد بلغ مجنونًا، أو بلغ عاقلاً ثم جنّ.
فإن بلغ مجنوناً فيزوّجه الأب ثم الجدّ ثم السلطان دون سائر الأولياء، للحاجة إلى النّكاح الحاصلة حالاً- كأن تظهر رغبته في النساء بدورانه حولهنّ وتعلقه بهنّ- أو مآلاً كتوقُّع شفائه باستفراغ مائه بعد شهادة عدلين من الأطباء بذلك، أو بأن يحتاج إلى من يخدمه ولا يوجد من محارمه من يقوم بذلك، وأن تكون مؤن نكاحه أقلَّ من ثمن جارية، ولا يزوّج لغير حاجة؛ لأنّ ذلك يغرمه المهر والنفقة بدون فائدة3.
1 انظر: الأم (5/ 21) ، المنهاج ومغني المحتاج (3/168) وتحفة المحتاج (7/284-285) ، ونهاية المحتاج (6/ 262) .
تنبيه: وقيل إنّ الصغير المجنون يزوّجه أبوه أو جدّه. انظر: روضة الطالبين (7/ 94) .
2 انظر: المنهاج ومغني المحتاج (3/169) ، وروضة الطالبين (7/ 96) ، ونهاية المحتاج (6/263) .
3 المنهاج ومغني المحتاج (3/168) ، وتحفة المحتاج (7/285) ، ونهاية المحتاج (6/262) ، وروضة الطالبين (7/77،94) .
وأمّا من بلغ عاقلاً ثم جنّ: فيزوّجه الأب، ثم الجدّ، ثم السلطان، كمن بلغ مجنونًا على الأصحّ. وقيل: لا يزوّجه إلاّ السلطان كمذهب المالكية السابق1.
رابعاً: مذهب الحنابلة.
وأمّا مذهب الحنابلة فإن كان المجنون صغيرًا فلأبيه ووصيّه تزويجه، كالصغير العاقل؛ لأنَّه إذا ملك تزويج العاقل مع احتياجه إلى التزويج رأيًا ونظرًا، فلأن يجوز تزويج من لا يتوقّع منه ذلك أولى، وأمّا غير الأب فلا يملك تزويج العاقل الصغير، فكذلك المجنون، وأمّا الوصيّ فيقوم مقام الأب كوكيله على القول بولاية الوصيّ عندهم2.
وأمّا إن كان كبيرًا فإن كان يفيق أحيانًا- أي غير مطبق- فلا يزوّجه أحد إلاّ بإذنه؛ لأنّ ذلك ممكن، ومن أمكن أن يتزوّج لنفسه لم
1 انظر: مغني المحتاج (3/169) .
(تنبيه) : وإذا زوّج المجنون فلا يزوج إلا واحدة؛ لاندفاع حاجته بذلك، وحاجته إلى أكثر من واحدة نادرة. وقيل: بل إن احتاج إلى ذلك زيد له بما يدفع حاجته، سواء كان إلى النكاح أم إلى الخدمة. انظر: المنهاج ومغني المحتاج (3/168-169) وتحفة المحتاج (7/285) ، ونهاية المحتاج (6/ 262) وروضة الطالبين (7/ 94) .
2 المغني والشرح الكبير (7/393 والشرح 383) ، والإنصاف (8/52) ، والمبدع (7/ 22) ، وشرح منتهى الإرادات (3/14) .
تثبت عليه الولاية كالعاقل، وكذلك لو زال عقله بمرض يرجى زواله فهو كالعاقل، فإنَّ ذلك لا يثبت عليه الولاية في المال فعلى نفسه أولى1.
وأمّا إن كان جنونه مطبقًا فللأب أو وصيّه تزويجه في ظاهر كلام الإمام أحمد والخرقي مع ظهور أمارات الشهوة وعدمها2.
وقال القاضي: إنّما يجوز تزويجه إذا ظهرت منه أمارات الشهوة، باتباع النِّساء ونحوه، كمذهب الشافعية السابق3.
وقال أبو بكر: ليس للأب تزويجه بحال؛ لأنّه رجل فلم يجز إجباره على النّكاح، كالعاقل4.
هذا حاصل مذاهب الفقهاء رحمهم الله في تزويج المجنون وخلاصتها حسب ما مرّ كالتالي:
أوّلاً: إن كان الجنون متقطِّعاً فلا يزوّج المجنون الكبير حتى يفيق، في ظاهر مذهب المالكية والشافعية والحنابلة؛ لإمكان أن يتزوّج بنفسه، ولأنّة لا ولاية عليه عاقلاً مطلقًا.
1 المغني والشرح الكبير 7/394 والشرح 384) ، والإنصاف (8/53) ، والمبدع (7/ 22) ، وكشاف القناع (5/ 44) .
2 المغني والشرح الكبير (7/393 والشرح 383) ، وكشاف القناع (5/44) ، وشرح منتهى الإرادات (3/14) .
3 المغني (7/393) ، والإنصاف (8/53) .
4 المغني (7/393) ، الإنصاف (8/ 52) .
وأمّا الحنفية فلم أجد لهم نصًّا في التفريق بين الجنون المطبق والمتقطع، ولكن ظاهر قياسهم على الصغير العاقل أنّه يزوّجه سائر أوليائه، وله خيار الإفاقة إذا أفاق وقد زوّجه غير أبيه أو جدّه، كالصغير العاقل إذا بلغ، وقد زوّجه غير أبيه أو جدّه.
ثانيًا: وأمّا إن كان الجنون مطبقًا، ففي تزويجه ثلاثة أقوال:
أ- أكثر الفقهاء على تزويجه على تفصيل فيمن يزوّجه؟ ومتى يزوّج تبعًا للحاجة والمصلحة؟.
ب- أنّه لا يزوّج الكبير مطلقًا، وهو قول أبي بكر من الحنابلة.
ج- أنّه لا يزوّج من طرأ عليه الجنون بعد بلوغه. وهو قول زفر من الحنفية.
وهذا إذا كان المجنون كبيرًا، أمّا الصغير فلم أجد من فرق بينه وبين الصغير العاقل سوى الشافعية الذين منعوا من تزويجه مطلقًا كما تقدّم. والله تعالى أعلم.
الرَّاجح:
والذي يظهر لي ممّا تقدّم: أنّ الراجح هو أن من كان جنونه متقطِّعاً فلا يزوّج البالغ حتى يفيق فيتزوّج بنفسه أو بإذنه، وهذا ظاهر مذهب الجمهور.
وأمّا إن كان جنونه مطبقًا، أو كان صغيرًا، فيزوّج للمصلحة لا لغيرها، كما تقدّم في المجنونة لا فرق بين وليّ وآخر. والله أعلم.