المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: بيان المذاهب وأدلتها في حكم الولاية في النكاح على الحرة المكلفة - الولاية في النكاح - جـ ١

[عوض بن رجاء العوفي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: تمهيد في معنى الولاية والنكاح وحكمة مشروعيتهما

- ‌المبحث الأوَّل: معنى الولاية

- ‌المبحث الثَّاني: معنى النِّكاح

- ‌المبحث الثَّالث: مشروعية النِّكاح وحكمته

- ‌المبحث الرَّابع: مشروعية الوِلاية في النكاح وحكمتها

- ‌الفصل الثاني: الولاية في النكاح على الحرّة المكلفة

- ‌المبحث الأوَّل: تمهيد في بيان أسباب ثبوت الولاية على النفس عموماً

- ‌المبحث الثَّاني: بيان المذاهب وأدلَّتها في حكم الولاية في النِّكاح على الحرَّة المكلَّفة

- ‌الفصل الثالث: استئذان الوليّ للحرّة المكلفة في نكاحها

- ‌المبحث الأول: استئذان البكر البالغ

- ‌المبحث الثَّاني: استئذان الثيّب البالغ

- ‌الفصل الرابع: الولاية في النكاح على الصغار

- ‌المبحث الأول: ثبوت الولاية في النِّكاح على الصِّغار

- ‌المبحث الثَّاني: إنكاح الصِّغار أنفسَهم

- ‌المبحث الثَّالث: تزويج الأولياء للصّغار

- ‌الفصل الخامس: الولاية في النكاح على المجانين

- ‌المبحث الأوّل: تمهيد: في ثبوت الولاية في النّكاح على المجانين

- ‌المبحث الثَّاني: تزويج الأولياء للمجانين

- ‌الفصل السادس: الولاية في النكاح على السفيه

- ‌المبحث الأوّل: معنى السفه لغة واصطلاحًا

- ‌المبحث الثَّاني: المقصود بالسفيه في هذا المبحث

- ‌المبحث الثَّالث: الولاية على السّفيه في ماله

- ‌المبحث الرَّابع: الولاية في النّكاح على السفيه

الفصل: ‌المبحث الثاني: بيان المذاهب وأدلتها في حكم الولاية في النكاح على الحرة المكلفة

‌المبحث الثَّاني: بيان المذاهب وأدلَّتها في حكم الولاية في النِّكاح على الحرَّة المكلَّفة

قبل الشروع في بيان مذاهب الفقهاء في حكم الولاية في النكاح على الحرة المكلَّفة، ينبغي أن نعلم أنَّة لا خلاف بين أهل العلم جميعاً في مشروعيَّة الولاية عليها في النكاح؛ ليكون تزويجها بيد وليِّها، وهو الأقرب من عصباتها أو من يقوم مقامه- كما سيأتي إن شاء الله تعالى-.

ولا خلاف بينهم أيضاً أنَّ الأجدر بكرامة المرأة وكمال حشمتها وأدبها أن لا تباشر هذا العقد بنفسها- سواء كان لها أو لغيرها- لتنأى بنفسها عن مواطن الرِّيب، ولتصون عرضها عمَّا يشعر بوقاحتها أو ظهور ميلها إلى الرجال، وإنَّما الخلاف في صحة مباشرتها لهذا العقد، وفي كونه حقّاً من حقوق وليِّها، وإليك بيان مذاهب الفقهاء في ذلك إجمالاً سيتبعه التفصيل والبيان بحول الله وقوته.

أ- ذكر المذاهب -إجمالاً-:

إنَّ مذاهب الفقهاء في هذه المسألة يمكن حصرها- بالتتبع- في سبعة مذاهب هي:

المذهب الأول: اشتراط1 الولاية عليها في النِّكاح.

1 التعبير بالشرط أو عدمه هنا هو اصطلاح الحنفية، والحنابلة.

أما اصطلاح المالكية، والشافعية، فهو التعبير عنه بالركن. وهذا اصطلاح لفظي، وقد سايرت في هذه الرسالة الاصطلاح الأول؛ إذ إن المقصود به هنا وما سيأتي: هو بيان ما يتوقف عليه صحة نكاح المرأة مطلقاً سواء سمَّيناه ركناً أم شرطاً.

انظر في هذا الاصطلاح: فتح القدير لابن الهمام الحنفي (3/255) ، وكشاف القناع لمنصور البهوتي الحنبلي (5/48) ومواهب الجليل للحطاب المالكي على مختصر خليل (3/19) ، وروضة الطالبين للنووي الشافعي (7/50) .

وانظر للجميع: الفقه على المذاهب الأربعة (4/46) لعبد الرحمن الجزيري.

ص: 64

المذهب الثَّاني: أنَّ الولاية في النِّكاح ليست بشرط وإنَّما هي مستحبة.

المذهب الثَّالث: التفصيل، باعتبار كفاءة الزَّوج أو عدم كفاءته؛ فإن كان كفؤاً لها صحَّ نكاحها بدون وليّ، ولا اعتراض لوليِّها عليها، وإن لم يكن كفؤاً لها فلا يصحّ إنكاحها نفسها منه أصلاً.

المذهب الرَّابع: انعقاد نكاحها بدون وليّ موقوفاً على إجازة الوليّ، سواء كان الزوج كفؤاً لها أم غير كفء.

المذهب الخامس: التفريق بين من أذن لها وليُّها في نكاحها، وبين من لم يأذن لها، فإن أذن لها قبل العقد صحّ إنكاحها نفسها، وإن لم يأذن لها لم يصح.

المذهب السَّادس: التفريق بين البكر والثيِّب، فإن كانت بكراً فلا نكاح لها إلا بوليّ، وإن كانت ثيباً جاز لها أن تولِّي أمرها رجلاً من المسلمين ولا تعقده بنفسها.

ص: 65

المذهب السَّابع: التفريق بين المرأة الشريفة والدنيئة، فإن كانت شريفة فلا يصح نكاحها بدون وليّ، وإن كانت دنيئة وليس لها وليّ خاص1 مجبر جاز لها أن تجعل أمر نكاحها إلى رجل من المسلمين فيزوِّجها بالولاية العامَّة ولا تباشر النِّكاح بنفسها.

ومن هذا العرض الموجز لمذاهب الفقهاء في هذه المسألة، يتضح أن

مردَّها إلى ثلاثة مذاهب:

المذهب الأوَّل: اشتراط الولاية في النِّكاح مطلقاً -أي على الحرة المكلَّفة-.

المذهب الثَّاني: عدم اشتراطه مطلقاً.

المذهب الثَّالث: التفصيل:

إمَّا باعتبار أحوال المرأة من بكارة أو ثيوبة، ومن شرف أو دناءة.

أو باعتبار إذن الوليّ للمرأة، سواء كان الإذن لها سابقاً للعقد أو لاحقاً له.

1 الوليّ الخاص: هو العصبة نسباً أو ولاءً والسلطان ونحوهم، وهو - عندهم- يقابل الوليّ العام وهو من يستحق الولاية بالإسلام وحده.

والمجبر: يقابل غير المجبر، والمراد بالوليِّ الخاص المجبر هنا: هو الأب في ابنته البكر أو الصغيرة مطلقاً، وكذلك وصيُّه، وهو اصطلاح للمالكية.

انظر: قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص 222) ، والخرشي مع العدوي (3/182) .

ص: 66

أو باعتبار أحوال الزوج من كفاءة أو عدمها.

وإليك بيان هذه المذاهب وأدلتها بالتفصيل- ما أمكن- وسيكون بحثها على النحو التالي:

1-

تحرير كلّ مذهب مع عزوه لقائله.

2-

أدلَّة قائله ومناقشة كلِّ دليل منها.

3-

ثم بيان ما يظهر رجحانه في آخر هذا المبحث إن شاء الله تعالى.

ب- تفصيل المذاهب وأدلَّتها:

المذهب الأوَّل: أنَّ الولاية شرط في نكاحها.

وعلى هذا فإن مباشرة عقد نكاحها حقٌّ من حقوق وليِّها، فلا تلي نكاح نفسها ولا نكاح غيرها، ولا عبارة لها في النِّكاح مطلقًا، وإن عقدته فهو باطل، وكذلك إن عقده لها أجنبيُّ عنها بدون إذن وليِّها.

وإلى هذا المذهب ذهب جمهور أهل العلم، وهو المعتمد عند المالكية والشافعية والحنابلة.

قال ابن المنذر: "روى هذا القول عن عمر بن الخطاب، وعن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وبه قال سعيد بن المسيِّب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وابن المبارك، والشَّافعي، وعبيد الله

ص: 67

ابن الحسن- العنبري- وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد"1اهـ. وقال أيضاً:"إنَّه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك"2.

أدلَّة اشتراط الولاية في النِّكاح:

استدلَّ من اشترط الولاية في نكاح المرأة المكلَّفة بالكتاب والسنة والآثار والمعقول. وإليك بيان ذلك ما أمكن.

أ- الأدلَّة من القرآن الكريم:

الدَّليل الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوف} 3. ففي هذه الآية الكريمة نهي لأولياء النِّساء عن عضلهنّ ضراراً لهن حين تنقضي عدتهنّ ممن كانوا أزواجاً لهنّ، وحصلت بينهم بينونة بفسخ أو طلاق فرغبن في الرجعة إليهم بعقد جديد، وذلك في قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} ؛ إذ لو كان أمر النِّساء إليهن في النِّكاح لما خاطب الله به أولياءهن

1 الإشراف على مذاهب العلماء (4/33) .

2 انظر: فتح الباري (9/187)، وانظر في هذا المذهب أيضاً: جامع الترمذي (4/232- 235 مع التحفة) ، وأحكام القرآن للقرطبي (3/ 72) ، وبداية المجتهد (2/7) ، وقوانين الأحكام لابن جزي (221-222) ، والمغني لابن قدامة (7/337) ، وتكملة المجموع الثانية (16/149) .

3 سورة البقرة – من آية رقم: 232.

ص: 68

دونهن، ونهاهم عن الإضرار بهنّ إذا رغبن في نكاح أزواجهنَّ؛ فإن من كان أمره بيده لا يقال إنَّ غيره منعه منه؛ إذ لا معنى لمنع غيره له.

قال الشافعيَّ رحمه الله: "هذه الآية أبين آية في كتاب الله عز وجل دلالة على أن ليس للمرأة الحرة أن تنكح نفسها (1")

والدَّليل على أنَّ الخطاب في قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} لأولياء النِّساء خاصَّة هو ما صحَّ في سبب نزول هذه الآية الكريمة كما أفاض في ذلك أئمة المفسرين كابن جرير الطبري، وابن العربي والقرطبي وغيرهم.

قال ابن جرير- رحمه الله: "ذكر أنَّ هذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان زوجها ابن عمٍّ لها فطلَّقها وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدَّتها، ثم خطبها فأبى أن يزوِّجها إيَّاه، ومنعها منه وهي فيه راغبة، ثم اختلف أهل التأويل في الرَّجل الذي كان فعل ذلك فنزلت فيه هذه الآية.

فقال بعضهم: كان ذلك الرجل معقل بن يسار المزني- ثم ساق ابن جرير بأسانيده بطرق شتى وألفاظ متقاربة إلى معقل بن يسار رضي الله عنه ما يدلُّ على ذلك، ومنها قول معقل بن يسار: "كانت لي أخت تخطب، وأمنعها الناس، حتى خطب إليَّ ابن عمٍّ لي فأنكحتها فاصطحبا ما شاء الله، ثم إنه طلَّقها طلاقاً له فيه رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدَّتها، ثم خطبت إليَّ فأتاني يخطبها مع الخُطَّاب فقلت له: خطبت اليَّ فمنعتها

1 الأم (5/166) .

ص: 69

الناس فآثرتك بها، ثم طلَّقت طلاقاً لك فيه رجعة، فلما خطبت إليَّ أتيتني تخطبها مع الخُطَّاب، والله لا أنكحها1 أبداً، قال: ففيَّ نزلت هذه الآية {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: فكفَّرت عن يميني وأنكحتها إيَّاه2

وقال ابن جرير أيضاً: "وقال آخرون: كان ذلك الرجل جابر بن عبد الله الأنصاري، وساق بسنده عن السُّدِّيّ قال: نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عمٍّ فطلَّقها زوجها تطليقة فانقضت عدّتها ثم رجع يريد رجعتها، فأمَّا جابر فقال: طلقت ابنة عمِّنا ثم تريد أن تنكحها الثَّانية وكانت المرأة تريد زوجها قد راضته فنزلت هذه الآية3.

وقال آخرون: "نزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل مضارَّة وليَّته من النِّساء بعضلها عن النِّكاح، ثم ذكر من قال ذلك4

ثم قال ابن جرير: "والصَّواب من القول في هذه الآية أن يقال: إنَّ

الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النِّساء مضارَّة من كانوا له أولياء من النِّساء بعضلهنَّ عمَّن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهنَّ

1 أي لا أنكحها إيَّاك.

2 تفسير ابن جرير (2/297) وانظر بقية طرقه فيه، وتخريجه الآتي (140-141)

3 تفسير ابن جرير (2/298) .

4 تفسير ابن جرير (2/298) ، وانظر من روي عنه ذلك.

ص: 70

فبنَّ منهنَّ1 بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح.

وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار وأخته، أو في جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمِّه، وأيُّ ذلك كان، فالآية دالَّة على ما ذكرت، ويعنى بقوله:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} لا تضيِّقوا عليهن بمنعكم إيَّاهن من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد تبتغون بذلك مضارَّتهنَّ.

انتهى المقصود من كلام ابن جرير رحمه الله مختصرًا2.

مناقشة وجهة الاستدلال بهذه الآية على اشتراط الولاية في النِّكاح.

وقد أورِد على وجهة الاستدلال بهذه الآية الكريمة لإثبات الولاية في النِّكاح جملة اعتراضات أهمُّها:

أوَّلاً: منع أن يكون الخطاب في قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} خطاباً للأولياء، بل هو خطاب للأزواج المطلِّقين.

ثانياً: إنَّه على فرض التسليم بكون الخطاب للأولياء فليس في نهي الأولياء عن العضل دليل على إثبات حقٍّ لهم فيما نُهوا عنه.

1 كذا في الأصل، ولعلّ الأظهر أن يقال:"فبنَّ منهم".

2 ابن جرير الطبري (2/299)، وانظر في تفسير هذه الآية وسبب نزولها ما يلي:

تفسير أحكام القرآن لابن العربي (1/201) ، تفسير القرطبي (3/158) ، تفسير ابن كثير (1/282) .

وانظر تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية لمحمد علي بن حسين المالكي (3/171)

ص: 71

فأمَّا القول بأنَّه خطاب للأزواج المطلِّقين فقد اختاره الفخر الرازي وأيَّده بقوله: "إنَّ قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ} جملة واحدة مركَّبة من شرط وجزاء، فالشرط قوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} والجزاء قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنّ} ولا شكَّ أنَّ الشرط وهو قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} خطاب للأزواج، فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله:{فَلا تَعْضُلُوهُنّ} خطاباً معهم أيضاً؛ إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية: إذا طلقتم النِّساء أيها الأزواج فلا تعضلوهنَّ أيُّها الأولياء، وحينئذ لا يكون بين الشرط والجزاء مناسبة أصلاً، وذلك يوجب تفكُّك نظم الكلام، وتنزيه كلام الله عن مثله واجب، فهذا كلام قويٌّ متين في تقرير هذا القول، ثمَّ إنَّه يتأكَّد بوجهين آخرين:

الأول: أنَّ من أوَّل آية في الطلاق إلى هذا الموضع كان الخطاب كلُّه مع الأزواج، والبتَّة ما جرى للأولياء ذكر، فكان صرف هذا الخطاب إلى الأولياء على خلاف النظم.

والثَّاني: ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج في كيفيَّة معاملتهم مع النِّساء قبل انقضاء العدَّة، فإذا جعلنا هذه الآية خطاباً لهم في كيفيَّة معاملتهم مع النساء بعد انقضاء العدَّة كان الكلام منتظماً والترتيب

ص: 72

مستقيمًا، أمَّا إذا جعلناه للأولياء لم يحصل فيه هذا الترتيب الحسن اللطيف، فكان صرف الخطاب إلى الأزواج أولى"1.

وأجيب عما ذهب إليه الفخر الرازي بما يلي:

أوَّلاً: إنَّ خير ما يعين على تفسير الآية وبيان معناها هو سبب نزولها، وقد صحَّ أنَّها نازلة في الأولياء، وإذا ثبت ذلك ثبت دخول السبب في الحكم الذي قررته الآية 2.

ثانياً: إنَّه على القول بأنَّ المقصود بالآية عضل الأزواج، فهذا لا يخلو من أن يكون قبل انقضاء العدَّة أو بعدها، فإن كان قبلها فيكون معنى قوله تعالى:{فبلغن أجلهنَّ} أي شارفن العدَّة، ولمَّا تنقضِ بعدُ، وهذا المعنى لا تحتمله الآية ولا سياقها كما قرَّره الفخر الرازي نفسه؛ لأنَّ المرأة المشارفة بلوغ الأجل ولم تبلغه لا يحلُّ لها أن تنكح، فهي ممنوعة من النِّكاح بآخر العِدَّة كما كانت ممنوعة بأوِّلها، والله يقول:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 3.

ومما يدلُّ أيضاً على أنَّ المراد ببلوغ الأجل في هذه الآية انقضاء العدَّة هو ما قبلها، كما قال الشافعي رحمه الله:"دلَّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين"، وقول الشافعي هذا ذكره الفخر الرازي نفسه

1 التفسير الكبير للفخر الرازي (6/112) .

2 انظر سبل السلام (3/120) .

3 انظر: الأم للشافعي (5/166) .

ص: 73

وبيَّنه بقوله: "إنَّ الله تعالى قال في الآية السابقة: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوف} 1، ولو كانت عِدَّتها قد انقضت لما قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ؛ لأنَّ إمساكها بعد انقضاء عِدَّتها لا يجوز، ولما قال: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف} ، لأنَّها بعد انقضاء العِدَّة تكون مسرَّحة فلا حاجة إلى تسريحها، وأمَّا هذه الآية التي نحن فيها فالله تعالى نهى عن عضلهن عن التزويج بالأزواج، وهذا النهي إنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أن تتزوَّج فيه بالأزواج، وذلك إنَّما يكون بعد انقضاء العدَّة، فهذا هو المراد من قول الشافعي- رضي الله عنه دلَّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين" 2 اهـ.

وأمَّا إن كان المراد ببلوغ الأجل بعد انقضاء العِدِّة فلا سبيل للزوج عليها حينئذ حتى يعضلها3.

ثالثاً: وأمَّا مرجع الضمير الذي هو عمدة الفخر الرازي فيما ذهب

إليه فيمكن أن يجاب عنه بما قاله الآلوسي- رحمه الله في تفسيره حيث قال- بعد ذكر سبب نزول الآية-: "وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجاً، وخطاب التطليق حينئذ إمَّا أن يتوجَّه لما توجَّه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق إلى الأولياء باعتبار التسبّب كما ينبئ عنه

1 سورة البقرة- آية رقم: 231.

2 التفسير الكبير للرازي (6/114) .

3: انظر: الأم للشافعي (5/166) .

ص: 74

التصدِّي للعضل، وإمَّا أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلِّقين، ويتحمَّل تشتيت الضمائر اتكالاً على ظهور المعنى، وقيل- واختارَه الزمخشري- إنه لجميع النَّاس، ويتناول عضل الأزواج والأولياء جميعاً، ويسلم من انتشار ضميري الخطاب والتفريق بين الإسنادين مع المطابقة لسبب النزول، وفيه تهويل أمر العضل بأنَّ من حقِّ الأولياء ألا يحوموا حوله، وحق النَّاس كافة أن ينصروا المظلوم، وجعل بعضهم الخطابات السابقة كذلك وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقليَّة والشرعيِّة توزَّعت بحسبها، كما إذا قيل لجماعة متعددة أو غير محصورة: أدوا الزكاة، وزوِّجوا الأكفاء، وامنعوا الظلمة، كان الكل مخاطبين، والتوزع على ما مرَّ1. اهـ.

وأمَّا الاعتراض الثَّاني: وهو: أته على فرض التسليم بكون الخطاب للأولياء فليس فيه دليل على إثبات حقٍّ لهم فيما نُهوا عنه، كما قال ابن رشد:"إنَّه ليس في الآية إلا نهي قرابة المرأة وعصبتها من أن يمنعوها النِّكاح، وليس نهيهم عن العضل مما يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازاً، بل قد يفهم منه ضدُّ هذا، وهو أنَّ الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم" اهـ2.

وقال أبو بكر الجصَّاص أيضاً: "فإن قيل: لولا أنَّ الولي يملك منعها عن النِّكاح لما نهاه عنه، كما لا ينهى الأجنبي الذي لا ولاية له، قيل له:

1 روح المعاني للآلوسي (2/144-145) .

2 بداية المجتهد لابن رشد (2/8) .

ص: 75

هذا غلط؛ لأن النهي يمنع أن يكون له حق فيما نهي عنه، فكيف يستدلّ به على إثبات الحق، وأيضاً فإن الوليّ يمكنه أن يمنعها من الخروج والمراسلة في عقد النِّكاح، فجائز أن يكون النهي عن العضل منصرفاً إلى هذا الضرب من المنع لأنَّها في الأغلب تكون في يد الولي، بحيث يمكنه منعها من ذلك. ووجه آخر في دلالة الآية على ما ذكرنا وهو أنَّه لما كان الولي منهيًّا عن العضل إذا زوَّجت نفسها فلا حقَّ له في ذلك، كما لو نهى عن الربا والعقود الفاسدة لم يكن له حقٌّ فيما قد نهي عنه، فلم يكن له فسخه؟. انتهى المقصود من كلامه1.

فأمَّا قول ابن رشد: فقد تعقَّبه الأمير الصنعاني في سبل السلام بقوله: "قد فهم السلف شرط إذنهم في عصره صلى الله عليه وسلم، وبادر من نزلت فيه الآية إلى التكفير عن يمينه والعقد، ولو كان لا سبيل إلى الأولياء لأبان الله غاية البيان، بل كرَّر تعالى كون الأمر للأولياء في عِدَّة آيات، ولم يأت حرف واحد أنَّ للمرأة إنكاح نفسها، ودلَّت الآية أيضاً "على أن نسبة النِّكاح إليهن في مثل قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} مرادًا به الإنكاح بعقد الوليّ؛ إذ لو فهم صلى الله عليه وسلم أنَّها تنكح نفسها لأمرها بعد نزول الآية بذلك، ولأبان لأخيها أنَّه لا ولاية له، ولم يبح له الحنث في يمينه والتكفير2 اهـ.

1 أحكام القرآن للجصاص (1/400) .

2 سبل السلام (3/120) .

ص: 76

وأمَّا ما قاله أبو بكر الجصَّاص وغيره فجوابه: أنَّ كلَّ هذه الإيرادات والتساؤلات يجيب عنها سبب النزول المبيِّن للمراد من العضل المنهي عنه؛ إذ ليس المقصود به نهي أولياء النِّساء عن منعهن مطلقاً ليتركن وشأنهن في مباشرة أنكحتهن بأنفسهن، أو تفويضها إلى غير أوليائهنَّ، وإنَّما المقصود به نهيهم عن منعهم لهنَّ ضراراً وظلماً لمن يلون أمرهنَّ، وهذا القدر من المنع لا حقَّ لهم فيه؛ إذ إنَّ للوليّ ولاية نظر ومصلحة للمرأة، فإذا خرج عن ذلك صار جائراً ظالماً، ولا حقّ له في جبرها على ما يريد ظلماً وعدواناً، فإن الله سائل كلَّ شخص عمَّا استرعاه الله عليه. والله أعلم.

ولعلَّ أبا بكر الجصَّاص قد بنى تلك التساؤلات على القول بضعف سبب النزول فحمل العضل على مطلق المنع، فإنَّه أشار إلى ذلك بقوله: "وهذا الحديث غير ثابت على مذهب أهل النقل لما في سنده1 من الرَّجل المجهول الذي روى عنه سماك2.

1 لم يذكر إسناده كاملاً، وإنَّما قال: واحتج من خالف في ذلك بحديث شريك، عن سماك، عن ابن أبي أخي معقل بن يسار عن معقل. اهـ. (1/402 أحكام القرآن للجصاص) .

2 سماك (هو ابن حرب) كما وقع صريحاً عند الطحاوي (3/111 معاني الآثار) ، وعنده أيضًا (ابن أخي معقل) بدل (ابن أبي أخي معقل) ، وما في معاني الآثار هو الصحيح - فيما يظهر لي- والله أعلم.

قال ابن حجر: (سماك- بكسر أوله وتخفيف الميم- ابن حرب بن أوس بن خالد الذهلي البكري الكوفي أبو المغيرة صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره، فكان ربما يلقن، من (الطبقة) الرَّابعة، مات سنة ثلاث وعشرين (أي بعد المائة)، روى له البخاري تعليقاً ومسلم في الصحيح والأربعة. (1/332 من التقريب) . وانظر: تهذيب التهذيب (4/232-234) .

ص: 77

وحديث الحسن1 مرسل، ولو ثبت لم ينف دلالة الآية على جواز عقدها، من قبل أنَّ معقلاً فعل ذلك فنهاه الله عنه، فبطل حقُّه في العضل" اهـ2.

ولكن صحَّة حديث سبب النزول- عن معقل خاصة- ثابتة، ولا معنى لإطالة البحث في إثبات صحته، وخاصة بعد تخريج الإمام البخاري له في الصحيح، ومن رغب المزيد فلينظر ما قرَّره الحافظ ابن حجر في إسناده وأحكامه في (فتح الباري)3. والله أعلم.

وخلاصة القول في الاستدلال بالآية الكريمة على اشتراط الولاية في النِّكاح إنَّما يتمُّ على النحو التالي:

أوَّلاً: أنَّ المراد بقوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُن} هو المعنى الحقيقيُّ لبلوغ الأجل، وهو انقضاء العِِدَّة وسقوط حقِّ الزوج في الرجعة بدون

1 الحسن، هو البصري – وسيأتي تخريج حديثه هذا في الاستدلال بالسنة (ص140-141) .

2 أحكام القرآن للجصاص (1/402) .

3 فتح الباري (9/186-187) .

ص: 78

عقد- كما قال الشافعي: "دلَّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين"1

وهذا المعنى يكاد يكون إجماعًا من المفسِّرين.

ثانياً: أنَّ المخاطب بقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُن} هم أولياء النِّساء، وحجتهم في ذلك سبب نزول الآية، وحجة من منع مراعاة نظم الكلام.

ثالثاً: أنَّ المراد بالأزواج في قوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} هم الذين قد كنَّ في عصمتهم من قبل، فحصلت بينهم بينونة بطلاق دون الثلاث أو نحوه من الفسوخ، كما في سبب النزول، إلا أن هذا لا يمنع شمول النهي عن عضلهنَّ عن الأزواج مطلقاً، من كانوا لهنَّ أزواجاً أو من سيكونون. والله أعلم.

الدَّليل الثَّاني:

قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 2.

فهذا خطاب لأولياء النِّساء بألاّ يُنْكحوهنَّ المشركين حتى يؤمنوا، ولو كان أمر النِّساء في النِّكاح إليهنَّ لما خاطب الله به أولياءهن دونهنَّ، وكذلك لو كان للمرأة أن تنكح نفسها لما كانت الآية دالَّة على منعها من تزويج نفسها بمشرك؛ لأنَّها لم تنه عن ذلك، وإنَّما نهي الأولياء، ونكاح المسلمة للمشرك غير جائز بالإجماع.

1 التفسير الكبير للرازي (6/114) وقد تقدم بيانه ص (73-74) .

2 سورة البقرة-آية رقم: 221.

ص: 79

بل قد حكى القرطبي وغيره أنَّ هذه الآية دليل بالنصِّ على أن "لا نكاح إلا بولي"1.

وقال ابن العربي: "وهي مسألة بديعة ودلالة صحيحة"2.

وعقَّب صاحب3 تهذيب الفروق على قول ابن العربي هذا بقوله: "ولعلَّ وجهه أنَّ كونه خطاباً للأولياء أظهر من كونه خطاباً لأولي الأمر لوجهين:

الأوَّل: أنَّ وليَّ الأمر من جملة الأولياء؛ إذ السلطان وليُّ من لا وليَّ له، فلا وجه لتخصيصه.

الثَّاني: أنَّ الضرر بزواج غير الأكفاء إنَّما يتعدَّى بالعار والفضيحة الشنعاء للأولياء لا لوليِّ الأمر منهم، فهم أحقُّ بخطاب الإرشاد منه فافهم"4.

وقال الصنعاني في سبل السلام- مستدلاًّ لاشتراط الولاية في النِّكاح: "ويدلُّ له قوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} فإنَّه خطاب للأولياء بأن

1 تفسير القرطبي (3/72)، وانظر: تفسير ابن عطية (2/178) .

2 أحكام القرآن لابن العربي (1/158) .

3 هو: محمد علي بن الحسين بن إبراهيم المالكي، فقيه، من فضلاء الحجاز، مغربي الأصل.. من كتبه: تهذيب الفروق اختصر به فروق القرافي.. توفي سنة 1367 هـ. الأعلام (7/197-198) ، وعنه معجم المؤلفين (10/318) .

4 تهذيب الفروق (3/171) .

ص: 80

لا يُنكِحوا المسلمات المشركين. ولو فرض أنَّه يجوز لها إنكاح نفسها لما كانت الآية دالَّة على تحريم ذلك عليهنّ؛ لأنَّ القائل بأنَّها تنكح نفسها يقول بأنَّه ينكحها وليُّها أيضاً، فيلزم أنَّ الآية لم تف بالدَّلالة على تحريم إنكاح المشركين للمسلمات؛ لأنَّها إنما دلَّت على نهي الأولياء عن إنكاح المشركين لا على نهي المسلمات أن ينكحن أنفسهن منهم.

وقد علم تحريم نكاح المشركين المسلمات، فالأمر للأولياء دالٌّ على أنَّه ليس للمرأة ولاية في النِّكاح. اهـ1.

مناقشة وجهة الاستدلال بهذه الآية:

وقد أطال ابن رشد -في بداية المجتهد- الكلام على هذه الآية مانعاً صحَّة الاستدلال بها على اشتراط الولاية في النِّكاح فقال: "قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} هو أن يكون خطاباً لأولي الأمر من المسلمين أو لجميع المسلمين أحرى منه أن يكون خطاباً للأولياء، وبالجملة فهو متردِّد بين أن يكون خطابًا للأولياء أو لأولي الأمر، فمن احتجَّ بهذه الآية فعليه البيان أنَّه أظهر في خطاب الأولياء منه في أولي الأمر، فإن قيل: إنَّ هذا عامٌّ، والعامُّ يشمل ذوي الأمر والأولياء قيل: إنَّ هذا الخطاب إنَّما هو خطاب بالمنع، والمنع بالشرع، فيستوي فيه الأولياء وغيرهم، وكون الولي مأموراً بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصَّة في الإذن، أصله الأجنبي. ولو قلنا إنَّه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في صحَّة

1 سبل السلام (3/120) .

ص: 81

النِّكاح لكان مجملاً لا يصحُّ به عمل؛ لأنَّه ليس فيه ذكر أصناف الأولياء ولا صفاتهم ولا مراتبهم، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة" اهـ1.

وقد تعقَّبه الأمير الصنعاني- في سبل السلام- فقال: "ولقد تكلَّم صاحب نهاية2 المجتهد بكلام في غاية السقوط فقال: الآية متردِّدة بين أن تكون خطاباً للأولياء أو لأولي الأمر.

والجواب: أن الأظهر: أنَّ الآية خطاب لكافَّة المؤمنين المكلَّفين الذين خوطبوا بصدرها، أعنى قوله:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} ، والمراد: لا ينكحهنَّ من إليه الإنكاح وهم الأولياء، أو خطاب للأولياء ومنهم الأمراء عند فقدهم أو عضلهم لما عرفت من قوله:"فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ من لا وليَّ له" فبطل قوله "إنَّه متردِّد بين خطاب الأولياء وأولي الأمر".

وقوله: "قلنا: هذا الخطاب إنَّما هو خطاب بالمنع بالشرع". قلنا: نعم. قوله: "والخطاب بالشَّرع يستوي فيه الأولياء وغيرهم"، قلنا: هذا كلام في غاية السقوط؛ فإنَّ المنع بالشرع هنا للأولياء الذين يتولَّون العقد إمَّا جوازاً، كما تقول الحنفية، أو شرطاً كما يقول غيرهم، فالأجنبي

1 بداية المجتهد (2/8) .

2 يلاحظ أنَّ تمام اسم الكتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، ففي التعبير ب "نهاية المجتهد" تجوُّز.

ص: 82

بمعزل عن المنع؛ لأنَّه لا ولاية له على بنات زيد مثلاً، فما معنى نهيه عن شيء ليس من تكليفه، فهذا تكليف يخصُّ الأولياء، فهو كمنع الغنيّ من السؤال، ومنع النِّساء من التبرج، فالتكاليف الشرعية منها ما يخص الذكور ومنها ما يخصُّ الإناث، ومنها ما يخصّ بعض الفريقين أو فرد منهما، ومنها ما يعمُّ الفريقين. وإن أراد أنَّه يجب على الأجنبيِّ الإنكار على من يزوِّج مسلمة بمشرك فخروج من البحث.

وقوله: "ولو قلنا: إنَّه خطاب للأولياء لكان مجملاً لا يصحُّ به عمل.

جوابه: أنَّه ليس بمجمل؛ إذ الأولياء معروفون في زمان من أنزلت عليهم الآية وقد كان معروفاً عندهم، ألا ترى إلى قول عائشة "يخطب الرَّجل إلى الرَّجل وليَّته" فإنَّه دالٌّ على أن الأولياء معروفون. وكذلك قول أمِّ سلمة له صلى الله عليه وسلم:"ليس أحد من أوليائي حاضراً"1.

الدليل الثَّالث: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 2فالخطاب في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا} هو لأولياء النِّساء، ودلالته على اشتراط الولاية في النِّكاح من عِدَّة أوجه:

1 سبل السلام (3/121) .

2 سورة النور – آية رقم: 32.

ص: 83

منها: أنَّ هذا خطاب للرِّجال دون النِّساء 1.

ومنها: أنَّ الله خاطبهم بصيغة الأمر الدَّالة على الوجوب فدلَّ على

أنّهم هم المكلَّفون بتزويجهم2.

ومنها: أنَّ الله أمرهم بإنكاح نسائهم كما أمرهم بإنكاح عبيدهم وإمائهم، مما يدلُّ على أن إنكاح الحرائر إلى الأولياء، وأنَّ إنكاح الأرقاء إلى أسيادهم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فخاطب الله الرجال بإنكاح الأيامى كما خاطبهم بتزويج الرقيق"3.

هذه خلاصة وجهة الاستدلال بهذه الآية على اشتراط الولاية على المرأة في النِّكاح، وقد قيل في هذه الآية غير ذلك مما يخرجها عن الاستدلال بها لهذه المسألة.

فقيل إنَّ الخطاب في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا} هو للأزواج، فلا يكون فيها دليل لاعتبار الوليّ في النكاح ولا نفيه. ورُدَّ هذا بأن الهمزة في قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا} للقطع، ولو كانت للأزواج لكانت الألف للوصل4.

1 انظر: الأحكام لابن العربي (3/ 1376) ، والقرطبي (12/ 239) ، والمحلى لابن حزم (9/451) ، وتهذيب الفروق لمحمد علي المالكي (3/ 171) .

(1)

انظر نفس المصادر السابقة.

3 الفتاوى (32/132) .

4 الأحكام لابن العربي (3/1376) ، والقرطبي (12/239) .

ص: 84

وقيل أيضاً: إنَّه خطاب لجميع الأمَّة للتعاون على تيسير أسباب الزِّواج لطالبيه، وليس المراد بالإنكاح في الآية إجراء عقد الزواج1.

ولكن لا يخفى أنَّ ظاهر الخطاب للأولياء خاصَّة بدءاً من التَّمهيد له وتيسير أسبابه وانتهاءً بإجراء عقدته، وأمَّا غيرهم من الأجانب فأيُّ سبيل لهم إلى تزويج بنات أو إماءٍ أو عبيد زيد مثلاً؟ كما تقدم. والله أعلم.

الدَّليل الرَّابع: قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2.

قال الفخر الرازي: "للشافعيّ أن يتمسَّك بهذه الآية في بيان أنَّه لا يجوز النِّكاح إلا بوليِّ؛ وذلك لأنَّ جمهور المفسرين أجمعوا على أنَّ المراد من قوله {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو إمَّا الزَّوْجُ وإمَّا الوليّ، وبطل حمله على الزوج لما بيَّنا3 أن الزوج لا قدرة له البتَّة على عقدة النِّكاح، فوجب حمله على الوليّ" اهـ4.

1 روح المعاني للآلوسي (18/148) ، وتفسير أحكام القرآن للصابوني (2/184-185) .

2 سورة البقرة- آية رقم: 237.

3 انظر ما قبل هذا النص من (6/142-144) من تفسيره.

4 التفسير الكبير للفخر الرازي (14416) .

ص: 85

وقال ابن العربي رحمه الله: "والذي تحقَّق عندي بعد البحث والسَّبر أنَّ الأظهر هو الوليّ لثلاثة أوجه:

أحدها: أنَّ الله تعالى قال في أول الآية {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنّ}

إلى قوله: {وقد فرضتم لهنَّ فريضة فنصف ما فرضتم} فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب، ثم قال:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فذكر النِّسوان1 {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فهذا ثالث، فلا يُرَدُّ إلى الزَّوج المتقدِّم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الوليّ، فلا يجوز بعد هذا إسقاط التقدير بجعل الثلاثة اثنين من غير ضرورة.

الثَّاني: أنَّ الله تعالى قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ولا إشكال في أنَّ الزَّوج بيده عقدة النِّكاح لنفسه، والوليّ بيده عقدة النِّكاح لوليَّته، على القول بأنَّ الذي يباشر العقد الوليّ، فهذه المسألة هي أصول العفو مع أبي حنيفة، وقد بيَّناها – قبل - وشرحناها في مسائل الخلاف. فقد ثبت بهذا أن الوليّ بيده عقدة النِّكاح، فهو المراد؛ لأن الزوجين يتراضيان فلا ينعقد لهما أمر إلا بالوليِّ، بخلاف سائر العقود، فإنَّ المتعاقدين يستقلَاّن بعقدهما.

الثَّالث: إنّ ما قلناه أنظم في الكلام، وأقرب إلى المرام؛ لأن الله تعالى قال:{إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ} ، ومعلوم أنَّه ليس كلُّ امرأة تعفو؛ فإنَّ الصغيرة أو المحجورة لا عفو لها، فبيَّن الله تعالى، وقال:{إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ} إن كنَّ

1 كذا بالأصل (1/221 منه) .

ص: 86

لذلك أهلاً، أو يعفو الذي بيده عقدة النِّكاح، لأنَّ الأمر فيه إليه". انتهى المقصود من كلامه1.

وهو كلام طويل محقَّق؛ فإنَّه مع طوله عبارة عن خلاصة2 وافية لما قاله ابن جرير وغيره مع زيادة البيان والتحرير في عرض وجهة كلا الفريقين، فأجاد وأفاد في عرضها ونقاشها، وفيما اختاره قوَّة لا تخفى. وقد نقل القرافي خلاصة كلام ابن العربي على هذه الآية في كتابه (الفروق) ، وتابعه صاحب التهذيب، وفيهما من الزيادة والبيان ما يغني عن غيرهما3.

وممن اختار هذا القول من المفسرين الفخر الرازي4.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: "والقرآن يدلُّ على صحَّة هذا القول، وليس الصداق كسائر مالها؛ فإنَّه وجب في الأصل نحلة، وبضعها عاد إليها من غير نقص"5.

1 أحكام القرآن لابن العربي (1/221) .

2 انظر ما قبل هذا الكلام وما بعده _1/219-222 منه) .

3 الفروق (3/138-140) ، وتهذيبها (3/173-174) .

4 التفسير الكبير للفخر الرازي (6/144، وانظر: 142-144 (منه) وانظر في تفسير هذه الآية أيضاً: تفسير ابن جرير الطبري (2/335-340) ، ابن كثير (1/289) ، فتح القدير للشوكاني (1/ 254) ، أحكام القرآن للجصاص (1/439-442) ، روح المعاني للآلوسي (2/154-155) .

5 الفتاوى لابن تيمية (32/26) .

ص: 87

وإذا صحَّ القول بأنَّ المراد بـ {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} هو الوليّ كانت هذه الآية أصرح دليل من القرآن على اشتراط الولاية في النِّكاح؛ لأنَّ من كان بيده الأمر كان الأمر إليه لا إلى غيره. والله أعلم.

الدَّليل الخامس:

قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن} 1

ففي ما ذكره الله عز وجل في هذه الآية الكريمة من تزويج صالح مدين ابنته لموسى- عليه السلام دليل على أنَّ الأمر في النِّكاح إلى الأولياء من الرِّجال، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت دليل على نسخه في شرعنا، فكيف به إذا جاء في شرعنا ما يؤيِّده؛ بل إنَّ في هذه الآية دليلاً واضحاً على أنَّ الولاية في النِّكاح سنَّة الأنبياء والصَّالحين قبل بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم.

وما أحسن قول ابن العربي رحمه الله عند تفسيره هذه الآية الكريمة! حيث قال: "قال علماؤنا في هذه الآية دليل على أن النِّكاح إلى الوليّ، لا حظَّ للمرأة فيه؛ لأنَّ صالح مدين تولَاّه، وبه قال فقهاء الأمصار، وقال أبو حنيفة: لا يفتقر النِّكاح إلى وليٍّ، وعجباً له! متى رأى امرأة قط عقدت نكاح نفسها"2.

1 سورة القصص- آية رقم: 27.

2 أحكام القرآن لابن العربي (3/1476) .

ص: 88

ثم ذكر بعد ذلك أدلَّة الولاية في النِّكاح من السنّة1.

ب- أدلَّة اشتراط الولاية في النِّكاح من السنَّة.

وأمَّا أدلة اشتراط الولاية في النِّكاح من السنَّة النبويَّة، فهي أظهر وأشهر، بل هي العمدة في هذه المسألة عند كثير ممن ذهب إلى اشتراط الولاية في النكاح، ومنها:

الحديث الأَّول: ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بوليِّ". وهذا الحديث قد رواه الأئمة: أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطيالسي، والدارمي، وابن الجارود، والطحاوي وابن حِبَّان، والدرا قطني، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم2.

1 نفس المصدر، وانظر القرطبي (13/271) .

فائدة: "قال القرطبي- تبعًا لابن العربي-: قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} الآية فيه عرض الولي ابنته على الرجل. وهذه سنة قائمة، وعرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل. وعرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنته حفصة على أبي بكر، وعثمان رضي الله عنهم، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم. فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح اقتداءً بالسلف الصالح." القرطبي (13/ 271) ، ونحوه ابن العربي (3/1467) .

2 تخريجه:

ا- أحمد (16/155 ترتيب المسند للساعاتي. نكاح. باب "لا نكاح إلا بولي"

2-

أبو داود (6/102 عون المعبود) نكاح، باب في الولي.

3-

الترمذي (4/226-227 تحفة) نكاح، باب ما جاء في الولي.

تنبيه: "قد وقع في هذه النسخة غلط ظاهر، وقد نبَّه عليه صاحب التحفة في مقدمتها حيث وقع في رواية شعبة، والثوري "أبو موسى" بدل "أبي بردة". فليلاحظ انظر: المقدمة (2/184- 185) .

4-

ابن ماجه (1/605) نكاح، باب "لا نكاح إلا بولي"

5-

الطيالسي (1/305 منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود، للساعاتي. نكاح، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بولي" وما جاء في العضل.

6-

الدارمي (2/ 61 ومعه تخريج الدارمي للسيد عبد الله هاشم اليماني) نكاح، باب النهي عن النكاح بغير ولي.

7-

ابن الجارود (235 ومعه تيسير الفتاح الودود في تخريج المنتقي لابن الجارود) نكاح.

8-

الطحاوي، شرح معاني الآثار (3/8-10) نكاح، باب النكاح بغير ولي عصبة.

9-

ابن حبان (ص 305 موارد الظمآن، باب ما جاء في الولي والشهود) .

10-

الدارقطني (3/219-220 ومعه التعليق المغني على الدارقطني) نكاح.

11-

الحاكم، المستدرك (2/169-172 ومعه تلخيص الذهبي) نكاح.

12-

البيهقي، السنن الكبرى (7/107 ومعه الجوهر النقي) نكاح، باب "لا نكاح إلا بولي"

وانظر لمزيد التخريج الكتب التالية:

نصب الراية للزيلعي (3/183-184) ، والتلخيص الحبير لابن حجر (3/179) ، وفيض القدير للمناوي (6/437-438) - إرواء الغليل للألباني (6/236-238) .

تنبيه: على كنيتين مشهورتين مشتركتين مرَّ ذكر أصحابهما في هذا التخريج:

الأولى: أبو داود: هي كنية سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني الثقة الحافظ صاحب السنن. انظر ترجمته في: التقريب (1/32)، وتهذيب التهذيب (4/169-173) . وهي المقصودة عند الإطلاق. وهي كنية: سليمان بن داود الطيالسي صاحب المسند وقد التزمت بالتعبير عنه بالطيالسي؛ لأنه الأشهر.

انظر: التقريب (1/323) ، وتهذيب التهذيب (4/182-186) ، ويلاحظ اتفاقهما في الاسم أيضاً.

الثانية: ابن الجارود: وهي كنية الطيالسي هذا المتقدم.

وكنية: عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري، صاحب المنتقى. وهو المقصود بهذه الكنية هنا.

وانظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ (3/ 794-795) ، والأعلام (4/241) ، ومعجم المؤلفين (6/87) .

ص: 89

وهذا الحديث مع شواهده أقوى حجَّة لاشتراط الولاية في صحَّة نكاح المرأة؛ إذ هو صريح في نفي النكاح بدون وليّ. والأصل في النفي شرعاً أن يتَّجه إلى الحقيقة الشرعية، فيكون النِّكاح بدون ولي باطلاً لا وجود له شرعاً، كما هو صريح حديث عائشة رضي الله عنها الآتي:

قال الشوكاني: "قوله: "لا نكاح إلا بوليّ"، هذا النفي يتوجه إلى الذات الشرعيَّة؛ لأنَّ الذات الموجودة – أعني صورة العقد بدون وليًّ- ليست بشرعية، أو يتوجَّه إلى الصِّحَّة التي هي أقرب المجازين إلى الذَّات، فيكون النِّكاح بغير وليّ باطلاً كما هو مصرَّح به في حديث عائشة رضي الله عنها" اهـ1

1 نيل الأوطار (6/135) .

وانظر فيض القدير (6/437) ، وتكملة المجموع الثانية (16/149) ، وكشاف القناع (/48) .

ص: 91

وهذا الحديث عليه العمل عند أهل العلم، كما قال الترمذي- رحمه الله:"والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بوليٍّ " عند أهل العلم من أصحاب صلى الله عليه وسلم، منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة وغيرهم. وهكذا روى عن بعض التابعين أنَّهم قالوا: "لا نكاح إلا بوليٍّ"، منهم: سعيد بن المسيَّب، والحسن البصري، وشريح، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم. وبهذا يقول سفيان الثوري، والأوزاعي، وما لك وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق) 1 اهـ.

وتقدم قول ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف

ذلك2.

مناقشة الاستدلال بهذا الحديث.

وقد أُورد على هذا الحديث من جهة إسناده ودلالته على اشتراط الولاية جملة اعتراضات:

1 جامع الترمذي مع التحفة (4/232-234) ، وانظر القرطبي (3/73) .

2 تقدم ص (68) .

وقد أكثر شراح الحديث من الاستشهاد به، منهم الصنعاني في سبل السلام (3/117) ، والشوكاني في نيل الأوطار (6/136) .

ص: 92

أمَّا الاعتراض على صحَّة إسناده، فقالوا: إنَّ هذا الحديث مضطرب الإسناد بين الرفع والإرسال، والوصل والانقطاع1.

فقد رواه إسرائيل 2عن أبي إسحاق3، عن أبي بُرْدة4، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. أي متصلاً مرفوعًا.

1 انظر: فتح القدير لابن الهمام (3/259) وسيأتي تفصيله.

2 هو: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعي الهمداني، أبو يوسف الكوفي، ثقة تكلم فيه بلا حجة، من (الطبقة) السابعة، مات سنة ستين، وقيل بعدها (أي بعد المائة والستين) ، روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (1/ 64)، وانظر: تهذيب التهذيب (1/ 261-263) .

3 هو جدّ إسرائيل: وهو عمرو بن عبد الله الهمداني أبو إسحاق السَّبِيعي- بفتح المهملة، وكسر الموحدة- مكثر، ثقة، عابد، من (الطبقة) الثالثة، اختلط بآخره، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل قبل ذلك، روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (2/73)، وانظر: تهذيب التهذيب (8/ 63-67) .

4 أبو بردة: هو: ابن أبي موسى الأشعري، قيل اسمه عامر، وقيل الحارث، ثقة، من (الطبقة) الثالثة، مات سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين، روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (2/ 394)، وانظر: تهذيب التهذيب (12/18-19) .

ص: 93

ورواه شعبة1، وسفيان الثوري2، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أي: مرسلاً؛ لأنَّ أبا بردة لم ير النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا اضطراب في إسناده بين الرفع والإرسال، ويلزم تقديم رواية شعبة وسفيان الثوري المرسلة، وترجيحها علي رواية إسرائيل المتصلة المرفوعة؛ لأنَّ كلاً من شعبة وسفيان الثوري أحفظ وأتقن للحديث من إسرائيل، بل كلُّ واحد منهما حجَّة على إسرائيل إذا انفرد، فكيف إذا اجتمعا؟! فيكون هذا الحديث إذاً مرسلاً، ويلزم من لم يحتجّ بالمرسل

1 هو: شعبة بن الحجاج بن الورد العتكيّ مولاهم أبو بِسْطام - بكسر فسكون، كما في الحاشية- الواسطي، ثم البصري، ثقة، حافظ، متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتَّش بالعراق عن الرجال، وذبّ عن السنة وكان عابداً، من (الطبقة) السابعة- مات سنة ستين (أي بعد المائة) ، روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (1/ 351)، وانظر: تهذيب التهذيب (4/338-346) .

2 هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه، عابد، إمام حجّة، من رؤوس الطبقة السابعة، وكان ربَّما دلَّس، مات سنة إحدى وستين (أي بعد المائة) وله أربع وستون. روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (1/311)، وانظر: تهذيب التهذيب (4/111-115) .

ص: 94

- ومنهم الذين اشترطوا الولاية في النِّكاح- عدم الاحتجاج به بناء على أصلهم وهو ردّ الاحتجاج بالمرسل1.

وأمَّا اضطرابه بين الوصل والانقطاع: فقد رواه أسباط بن محمد2، وزيد بن حُباب3، عن يونس بن أبي إسحاق4، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم.

1 انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي (3/8-9) ، وعقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة 00. (1/148) وفتح القدير لابن الهمام (3/259) .

2 هو أسباط بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة القرشي مولاهم، أبو محمد، ثقة ضعف في الثوري، من (الطبقة) التاسعة مات سنة مائتين. روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (1/53) ، وانظر تهذيب التهذيب (1/211-212) .

3 هو: زيد بن الحُباب- بضم المهملة وموحدتين- أبو الحسين العُكْلي- بضم المهملة وسكون الكاف- أصله من خراسان، وكان بالكوفة، ورحل في الحديث فاكثر منه، وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري، من (الطبقة) التاسعة، مات سنة ثلاث ومائتين، روى له مسلم والأربعة.

التقريب (1/273) ، وانظر تهذيب التهذيب (3/402-404) .

4 هو: يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلاً، من (الطبقة) الخامسة مات سنة اثنتين وخمسين (أي بعد المائة) على الصحيح، روي له مسلم والأربعة. والبخاري في جزء القراءة.

التقريب (2/348) ، وانظر تهذيب التهذيب (11/433-434) .

ص: 95

وروى أبو عبيدة الحدَّاد، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي إسحاق".اهـ1.

قال ابن الهمام: "فقد اضطرب في وصله وانقطاعه (2") . مشيراً إلى عدم ذكر أبي إسحاق في سند أبي عبيدة الحداد.

صحة حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه "لا نكاح إلا بوليٍّ":

والذي أختاره هو ثبوت صحَّة هذا الحديث متَّصلاً مرفوعاً، كما حكم له الأئمة بذلك من أوجه عدَّة مبسوطة في كتب الحديث وعلومه، يتعذَّر استيفاؤها في مثل البحوث الفقهية، ولكن لمَّا كان الاستدلال بالحديث فرعاً عن صحته لزم ذكر ما لا بدَّ من ذكره لبيان صحة هذا الحديث الذي عليه مدار إثبات الولاية في النِّكاح، وإليك بيان تلك الأوجه إجمالاً.

أولاً: تصحيح الأئمة لهذا الحديث متَّصلاً مرفوعاً، فقد بسط القول في ذلك جمع من الأئمة، وحكموا له بالصحَّة، كالحاكم في (مستدركه،)

1 كذا عن الترمذي في الإسنادين (4/230 مع التحفة) .

2 فتح القدير لابن الهمام (3/259) ، وفي هذه الصفحة منه تصحيف وسقط فيما نقله عن الترمذي من الإسنادين السابقين، وبعض السقط قد يكون اختصاراً، ولكنه موهم، لذلك اعتمدت نقل الإسنادين من الترمذي كما في التعليق السابق.

ص: 96

والبيهقي في (سننه الكبرى)، وابن القيم في (تهذيب السنن) إلا أنني سأقتصر على ذكر خلاصة ما قاله ابن القيم- رحمه الله طلباً للاختصار ما أمكن- فقال رحمه الله: "والترجيح لحديث إسرائيل في وصله من وجوه عديدة:

أحدها: تصحيح من تقدَّم1 من الأئمة له وحكمهم لروايته بالصحَّة، كالبخاري وعلي بن المديني، والترمذي، وبعدهم الحاكم، وابن حِبَّان، وابن خزيمة.

الثَّاني: ترجيح إسرائيل في حفظه وإتقانه لحديث أبي إسحاق.

وهذه شهادة الأئمة له، وإن كان شعبة والثوري أجلّ منه، لكنه لحديث أبي إسحاق أتقن وبه أعرف2.

1 ذكرهم بالتفصيل قبل هذا (3/29-31 تهذيب السنن) . وذكرهم هنا إجمالاً.

2 قال أخوه عيسى بن يونس: إسرائيل يحفظ حديث أبي إسحاق كما يحفظ الرجل السورة من القرآن (البيهقي 7/108) .

وفي رواية: كما يحفظ سورة الحمد (الدارقطني 3/ 220) ، والحاكم (2/170) .

وقال عبد الرحمن بن مهدي: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري- يعني في أبي إسحاق (البيهقي 7/108) . وقال: وما فاتني ما فاتني من حديث سفيان عن أبي إسحاق إلا أنني كنت أتكل عليها من قبل إسرائيل (البيهقي 7/108) ، الدارقطني (3/ 220) ، الترمذي (4/ 231 تحفة) .

وقيل له في هذا الحديث: إنَّ شعبة وسفيان يوقفانه على أبي بردة فقال: إسرائيل عن أبي إسحاق أحبُّ اليّ من شعبة وسفيان (الدارقطني 3/ 220) ، (هو القول الأول عنه) .

وقيل لشعبة: حدثنا حديث أبي إسحاق قال: سلوا عنها إسرائيل فانه أثبت فيها منِّي. (7/108) . وكان إذا سئل والده يونس بن أبي إسحاق عن حديث أبيه يقول: اذهبوا إلى ابني إسرائيل فهو أروى عنه منِّي وأتقن لها منِّي.

(تهذيب التهذيب1/262) وانظر: جميع ما تقدم وغيرها في تهذيب التهذيب (1/261-263) .

ص: 97

الثَّالث: متابعة من وافق إسرائيل على وصله كشريك 1، ويونس بن أبى إسحاق، قال عثمان الدَّارمي2: سألت يحيى بن معين: شريك أحبُّ إليك في أبي إسحاق أو إسرائيل؟ فقال: شريك أحبُّ إليَّ وهو أقدم، وإسرائيل صدوق، قلت: يونس بن أبي إسحاق أحبُّ إليك أو إسرائيل؟ فقال: كلٌّ ثقة3.

1 هو: شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوق يخطئ كثيرًا، تغيَّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع، من (الطبقة) الثامنة، مات سنة سبع أو ثمان وسبعين (أي بعد المائة) ، روى له مسلم والأربعة والبخاري تعليقاً. التقريب (1/351)، وانظر: تهذيب التهذيب (4/333-337) .

2 هو عثمان بن سعيد الدَّارمي، وانظر قوله هذا مسنداً في سنن البيهقي (7/108) .

3 وممن تابع إسرائيل على وصله أيضاً: أبو عوانه، وزهير بن معاوية، وقيس بن الربيع، كما في الترمذي (4/229 تحفة) .-

واعترض الطحاوي على متابعة أبي عوانة، وقال: إنَّها راجعة إلى طريق إسرائيل محتجًّا برواية معلَّى بن منصور الرَّازي. شرح معاني الآثار (3/9) ، والبيهقي (7/107) .

ولكن يلاحظ أنَّ غير معلَّى قد صرَّح بسماع أبي عوانة من أبي إسحاق. والله أعلم.

ص: 98

الرَّابع: ما ذكره الترمذي، وهو أنَّ سماع الذين وصلوه عن أبي إسحاق كان في أوقات مختلفة، وشعبة والثوري سمعاه في مجلس واحد1.

الخامس: أنَّ وصله زيادة ثقة ليس دون من أرسله، والزيادة إذا كان هذا حالها فهي مقبولة، كما أشار إليه2 البخاري - رحمه الله3 -. والله أعلم. انتهى خلاصة كلام ابن القيم رحمه الله في ترجيح رواية إسرائيل المتَّصلة المرفوعة على رواية شعبة وسفيان الثوري المرسلة.

وقد رواه بعض4 أصحاب شعبة وسفيان عنهما مرفوعاً، ولكن العمدة في رفع هذا الحديث على رواية إسرائيل ومن تابعه.

ثانياً: يلاحظ أنَّ الطَّعن في هذا الحديث بالإرسال مبنيٌّ على ردّ الاحتجاج بالمرسل، والخلاف فيه مشهور؛ في قبوله مطلقاً، أو ردِّه

1 انظر قول الترمذي هذا في جامعه (4/230-231 تحفة) .

2 ذكرها فيما تقدم (3/30 حاشية معالم السنن) ، وانظره مسندًا في البيهقي (7/108) .

3 تهذيب السنن لابن القيم (3/ 31 حاشية معالم السنن) وحاشية عون المعبود (6/104) .

4 انظر: المستدرك للحاكم (2/169-170) ، البيهقي (7/109) ، والمحلى (9/429) .

ص: 99

مطلقاً، أو قبوله بشروط، وهو الصحيح1.

وهذا الحديث لو لم يثبت رفعه لكان أسعد المراسيل بالقبول عند من يقبله مطلقاً أو بشروط، فالحجَّة به قائمة على من يحتج بالمرسل، وهم الحنفية الذين طعنوا في هذا الحديث بالإرسال، وما ذلك إلا إلزامًا لمن لا يحتجُّ به بما هو مقرَّر في مذهبه كما صرَّح بذلك الطحاوي وابن الهمام من الحنفية2، وذلك هو الشأن- غالباً- في مواطن الخلاف كما قاله ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (التمهيد) بعد أن قرَّر أنَّ مذهب المالكية والحنفية صحَّة الاحتجاج بالمرسل3 - قال: ثم إنِّي تأمَّلت كتب المتناظرين والمختلفين من المتفقهين وأصحاب الأثر من أصحابنا وغيرهم، فلم أر أحداً منهم يقنع من خصمه إذا احتجَّ عليه بمرسل، ولا يقبل منه في ذلك خبراً مقطوعاً، وكلُّهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتصال

1 انظر: جامع التحصيل في أحكام المراسيل للحافظ صلاح الدين أبي سعيد خليل ابن كيكلدي العلائي (27 وما بعده، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي) . وتيسير مصطلح الحديث للطحان (71- 72) .

2 قال الطحاوي: ولا أعدُّ مثل هذا (أي الإرسال في حديث أبي موسى هذا) - طعناً ولكن أردت بيان ظلم هذا المحتج وإلزامه من حجَّة نفسه ما ذكرت (3/10 شرح معاني الآثار) .

وقال ابن الهمام: (ولا يخفى أن هذا الكلام إلزاميٌّ أمَّا على رأينا فلا يضر الإرسال (3/259 فتح القدير) .

3 انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (1/ 1-6) .

ص: 100

في الأخبار والله المستعان، وإنَّما ذلك لأنّ التنازع إنَّما يكون بين من يقبل المرسل وبين من لا يقبله، فإن احتجّ به من يقبله على من لا يقبله قال له: هات حجّة غيره، فإنَّ الكلام بيني وبينك في أصل هذا ونحن لا نقبله، وإن احتجَّ به من لا يقبله على من يقبله كان من حجته عليه كيف تحتجّ عليّ بما ليس فيه حجَّة عندك ونحو هذا 00) 1.

ثالثاً: وأمَّا الانقطاع الذي أشار إليه ابن الهمام في رواية أبي عبيدة2 الحدَّاد، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى - رضي

1 التمهيد لابن عبد البر (1/ 7) .

2 هو: عبد الواحد بن واصل، السَّدوسي مولاهم، أبو عبيدة، الحدَّاد، البصري، نزيل بغداد، ثقة، تكلم فيه الأزدي بغير حجَّة، من (الطبقة) التاسعة، مات سنة خمسين ومائة (كذا) ورمز لكون حديثه في البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي (التقريب (1/526) .

وفي ميزان الاعتدال للذهبي: مات سنة تسع عشرة ومائة وأشار محققه إلى أن هذا في بعض النسخ دون بعض (2/677) وفي تهذيب التهذيب: سنة تسعين ومائة (6/440) . وهذا هو الأقرب للصواب وهو الموافق لما في الخلاصة للخزرجي (247) وكذلك هو في معجم المؤلفين لرضا كحالة (6/214) . وإن كان كل ذلك يخالف اصطلاح ابن حجر في التقريب فإنه يشير بالطبقة التاسعة وما بعدها لمن كانت وفاتهم بعد المائتين. ولكنه ذكر أيضاً أنَّ ما خرج عن هذه القاعدة يصرِّح بذكر وفاته كما في مقدمة التقريب (1/6) .

(ويلاحظ) أيضاً وقوع تصحيف في الصفحة المشار إليها من التقريب في اسم أبي المترجم له فوقع واصلة) بالتاء المربوطة بدل (واصل) ، وهو تصحيف لا شك فيه.

ص: 101

الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أي بدون ذكر أبي إسحاق بين يونس وأبي بُرْدة فالجواب عنه:

1-

أنَّ أبا عبيدة الحدَّاد رواه عن شيخيه: إسرائيل ويونس، فرواه عن إسرائيل متصلاً. ورواه أيضاً: عن يونس، عن أبي بُرْدة- أي بدون -- ذكر أبي إسحاق- وهو أيضاً متصل؛ لأنَّ يونس لقي أبا بردة كما قاله أبو داود1. فلا يضرُّه سقوط أبي إسحاق، بل إنَّ كلاًّ من يونس وأبيه - أي أبي إسحاق- قد روياه عن أبي بردة.

2-

أنَّ غير أبي عبيدة الحدَّاد قد رواه متَّصلاً بدون إسقاط أبي إسحاق كما قال الترمذي: رواه أسباط بن محمد، وزيد بن حباب، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم2.

3-

أنَّ الحديث ثابت ومتَّصل من طريق إسرائيل بدون خلاف، وهو حجّة في حديث جدِّه أبي إسحاق- كما تقدم. وكما قال الحاكم رحمه الله: فأمَّا إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الثقة الحجَّة في حديث جدِّه أبي إسحاق فلم يختلف عنه في وصل هذا الحديث3.

1 أبو داود (6/130 مع عون المعبود) .

2 الترمذي (4/230 مع التحفة) .

3 المستدرك للحاكم (2/170) .

ص: 102

وقال أيضاً: ثم لم يختلف على يونس في وصل هذا الحديث؛ ففيه الدَّليل الواضح أنَّ الخلاف الذي وقع على أبيه فيه من جهة أصحابه لا من جهة أبي إسحاق، والله أعلم. انتهى1.

رابعاً: أن لهذا الحديث شواهد أخر كما قاله الترمذي2، والحاكم 3 وغيرهما، بل إنَّه قد عُدَّ من الأحاديث المتواترة- أي الذي تواتر معناها- فقد نظمه الكتانيّ في كتابه (نظم المتناثر من الأحاديث المتواتر) فقال:"حديث لا نكاح إلا بولي" أورده في الأزهار4 من حديث أبي موسى، وابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وعائشة، وعمران بن حصين سبعة أنفس. قلت- (أي الكتاني) - ذكره ابن حجر في أماليه5 من حديث أبي موسى، ثم قال: قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس، وعمران بن حصين، وأنس، وكذا قال الحاكم وزاد: عن علي، ومعاذ، وابن مسعود، والمقداد، والمسور6، وجابر، وابن عمر، وابن عمرو، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وأطنب الحاكم في تخريجه، ووقفت من المذكورين في كلامه على حديث علي، وابن مسعود،

1 المصدر السابق (2/172) .

2 انظر: الترمذي مع التحفة (4/327) .

3 المستدرك (2/172) .

4 أي: كتاب الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة للسيوطي.

انظر: مقدمة نظم المتناثر من الأحاديث المتواتر (ص 4) .

5 أي كتاب الأمالي لابن حجر.

6 وقع هنا: المستورد، ولكن في مستدرك الحاكم (المسور بن مخرمه) . كما أثبته هنا.

ص: 103

وجابر، وابن عمر، وأمَّا بقيَّة من ذكرهم فلم أقف عليه اهـ. ملخصاً من الأمالي المذكورة. وفي تخريج أحاديث الرافعي1 قال الحاكم: وقد صحَّت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، قال: وفي الباب عن علي، وابن عباس، ثم سرد تمام ثلاثين2

1 هو كتاب "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير"، للحافظ ابن حجر العسقلاني، وهو تخريج على كتاب "فتح العزيز" المسمى بالشرح الكبير لأبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي. (انظر مقدمة التلخيص الحبير 1/5) .

2 كذا نقل الكتاني هنا عن التلخيص الحبير، وهو كذلك في التلخيص الحبير (3/179) . وتابع ابن حجر على هذا كثير من شراح الحديث وأصحاب التخريج كالشوكاني في نيل الأوطار (6/135) ، والأمير الصنعاني في سبل السلام (3/117) ، وشمس الحق العظيم آبادي في التعليق المغني على الدارقطني (3/ 220) . والسيد عبد الله هاشم اليماني في تخريجه على سنن الدارمي (2/61) ، وفي تخريجه على المنتقى لابن الجارود أيضاً (ص 235) ، وأحمد الساعاتي في شرح الفتح الرباني (16/155.

ولكن يلاحظ أنَّ الموجود في مستدرك الحاكم إنَّما هو ثلاثة عشر صحابياً. ثم قال بعد ذلك: وقد صحَّت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وأم سلمة وزينب بنت جحش" اهـ.

فإذا أضفنا أمَّهات المؤمنين الثلاث إلى ما تقدم أصبح المجموع ستة عشر صحابياً. (انظر المستدرك 2/ 172) .

وهذا يدل على وهم في النقل عن المستدرك أو سقط فيه.

وقد كنت مرجحاً الثاني على الأول لكثرة الناقلين عن المستدرك وجلالتهم حتى التقيت بأخي الفاضل "الشيخ مفلح بن سليمان الرشيدي"، فأخبرني أنَّه يُعدُّ بحثًا خاصاً في تحقيق حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" فأبديت له شدَّة رغبتي في اطلاعي عليه فلبَّى طلبي مشكوراً فوجدته قد جزم بأنَّ الخطأ من النقل عن المستدرك، ورجَّح أن يكون ذلك من بعض نساخ "التلخيص الحبير" لا من الحافظ ابن حجر، وأن بقيَّة الناقلين قلَّدوا ما في التلخيص ثقة بالحافظ ابن حجر رحمه الله، ويدل على صحة ما في المستدرك الموجود الآن، نقل الزيلعي عنه في نصب الراية (3/184) ، ويدل على أنّ الحافظ ابن حجر لم يهم ما نقله الكتّاني هنا عنه من الأمالي لابن حجر (97 نظم المتناثر من الحديث المتواتر) . والله أعلم.

ص: 104

صحابياً، وقد جمع طرقه الدمياطي1 من المتأخرين اهـ. وفي الجمع2 ممن خرَّجه سمرة بن جندب، وممن صرَّح بأنَّه متواتر الشيخ عبد الرؤوف3 المناوي اهـ. نصاً من نظم المتناثر في الحديث المتواتر4.

ومن هذا نعلم أنَّ هذا الحديث قد تعدَّدت طرقه واشتهر ذكره وجرى عليه العمل، فالطعن فيه ببعض العلل الواردة على حديث أبي موسى - رغم أنَّ لكلٍّ منها جواباً- لا يمكن أن تقدح في ثبوت هذا الحديث وصحته، ولولا الإطالة لذكرت بقية شواهده المرفوعة عن بقيَّة – الصحابة بلفظ "لا نكاح إلا بولي"، ولكن فيما ذكرت كفاية، ومن أراد المزيد ففي الإشارة إلى المراجع في ثنايا بحث هذا الحديث غنى وزيادة. والله الموفِّق.

1 لم أقف عليه.

2 هو جمع الجوامع أو "الجامع الكبير" للسيوطي. وهو في مكتبة الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية تحت رقم (63 و 213) .

3 انظر: فيض القدير للمناوي (6/437) ، ولكنه نقل التواتر هنا عن "المصنف" أي السيوطي.

(96-97) .

ص: 105

مناقشة حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" من جهة دلالته على اشتراط الولاية في النِّكاح.

قد سبق أنَّ حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" قد ثبتت صحته، وأنَّ الحجَّة به قائمة عند من لا يحتجُّ بالمرسل؛ لثبوته مرفوعاً متصلاً، وعلى من يحتجّ بالمرسل من باب أولى- كالحنفيَّة الذين أعلُّوه بالإرسال إلزاماً لمن لا يحتجُّ بالمرسل- فما سبب عدم التسليم بدلالته على اشتراط الولاية في النكاح؟.

لقد أجاب عن ذلك من لا يشترط الولاية في النكاح بعدَّة أجوبة، أهمها أمران:

الأمر الأوَّل:

أنَّ المنفيَّ في حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" هو الكمال والاستحباب؛ إذ لا خلاف عندهم أنَّه يندب للمرأة أن لا تباشر عقدة النكاح بنفسها، لئلَاّ تنسب إلى الوقاحة، ولكن ذلك لا يمنع صحَّته منها إذا وقع.

وأمَّا الأمر الثَّاني:

فهو أنَّ لفظ "الوليّ" مجمل؛ يحتمل ما قاله من اشترط الولاية في النكاح، ويحتمل غيره، ومع هذا الاحتمال فلا يجوز حمله على بعضها دون بعض إلا بدليل.

فأمَّا سبب حمله على نفي الكمال والاستحباب فذلك لمعارضته

ص: 106

لأحاديث أخرى، مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها"1

وحديث أمِّ سلمة رضي الله عنها في زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالت: "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة فخطبني إلى نفسي، فقلت يا رسول الله: إنَّه ليس أحد من أوليائي شاهداً، فقال: "إنَّه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره ذلك". قالت: قم يا عمر فزوِّج النبي صلى الله عليه وسلّم2.

وذلك إمَّا لترجيح هذين الحديثين ونحوهما لصحَّتهما - عندهم- خاصَّة حديث ابن عباس رضي الله عنهما إذ لا خلاف في صحَّته.

وإمَّا جمعًا بين هذه الأحاديث، وحديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" وما في معناه3.

وقد أجيب عن ذلك بأنَّ حمل النفي على الكمال والاستحباب خلاف الأصل في النصوص الشرعيَّه؛ إذ الأصل فيها نفي الحقيقة الشَّرعية؛

1 شرح معاني الآثار للطحاوي (3/11) ، وسيأتي تخريجه كاملاً ص (167) .

2 شرح معاني الآثار للطحاوي (3/11-12) .

3 المصدر السابق نفسه (3/13) ، وفتح القدير لابن الهمام (3-259-260) .

ص: 107

فيكون النكاح بغير وليِّ غير صحيح شرعاً1.

ويؤيِّد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الآتي: "أيُّما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل، باطل، باطل"، ففي هذا تأكيد لبطلانه ثلاث مرات، والمجاز لا يؤكَّد2.

وقال الخطابي: قوله: "لا نكاح إلا بوليٍّ" فيه نفي ثبوت النكاح على معمومه ومخصوصه إلا بوليٍّ، وقد تأوَّله بعضهم على نفي الفضيلة والكمال، وهذا تأويل فاسد، لأنَّ العموم يأتي على أصله جوازاً أو كمالاً، والنفي في المعاملات يوجب الفساد؛ لأنَّه ليس لها إلا جهة واحدة، وليس كالعبادات والقُرَب التي لها جهتان من جواز ناقص وكامل، وكذلك تأويل من زعم أنَّها وليَّة نفسها، وتأوَّل معنى الحديث على أنَّها إذا عقدت على نفسها فقد حصل نكاحها بوليٍّ، وذلك أنَّ الوليّ هو الذي يلي على غيره، ولو جاز هذا في الولاية لجاز مثله في الشهادة، فتكون هي الشاهدة على نفسها! فلما كان في الشَّاهد فاسداً كان في الوليّ مثله"اهـ3.

وأمَّا ترجيح حديث ابن عباس لصحَّته على حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" فجوابه أنَّه قد ثبتت صحَّة حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" كما تقدَّم

1 انظر: كشاف القناع للبهوتي (5/48) ، والمبدع لابن مفلح (7/28) ، وفيض القدير للمناوي (6/437) .

2 انظر تحفة الأحوذي (4/228) .

3 معالم السنن للخطابي (3/29-30) .

ص: 108

فلم يبق إلا طريق الجمع بين حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" وما في معناه، وحديث "الأيمُّ أحقُّ بنفسها" وما في معناه، وهذا ما لا بدَّ منه، ولكن لكلٍّ وجهته في الجمع بينهما، وسيأتي بيان ذلك والمختار منها في مناقشة أدلة الحنفية -إن شاء الله تعالى-1.

وأمَّا القول بأنَّ لفظ "الوليّ" مجمل: فهذا هو ما اعتمده الطَّحاوي في شرح معاني الآثار، حيث قال:"إنَّه لو ثبت2 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا نكاح إلا بوليٍّ" لم يكن فيه حجَّة لما قال الذين احتجُّوا به لقولهم في هذا الباب؛ لأنَّه يحتمل عدَّة معان: فيحتمل ما قال هذا المخالف لنا: إن ذلك هو أقرب العصبة إلى المرأة.

ويحتمل أن يكون ذلك الوليُّ: من توليه المرأة من الرجال قريباً كان أو بعيداً.

وهذا المذهب يصح به قول من يقول: لا يجوز للمرأة أن تتولَّى عقد نكاحها، - وإن أمرها وليُّها بذلك - ولا عقد نكاح غيرها، ولا يجوز أن يتولَّى ذلك إلا الرِّجال..

1 ص (169) وما بعدها.

2 قال ذلك: بعد ترجيحه لرواية شعبة وسفيان المرسلة على رواية إسرائيل ومن تابعه المتصلة، وقوله: إنَّه لا يعدُّ ذلك- أي الإرسال- طعناً ولكنَّه من باب الإلزام. انظر (3/10 شرخ معاني الآثار) .

ص: 109

ويحتمل أيضاً: أن يكون "الوليُّ": هو الذي إليه ولاية البضع من والد الصغيرة، أو مولى الأمة، أو بالغة حرَّة لنفسها. فلما احتمل ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله "لا نكاح إلا بوليٍّ" هذه التأويلات، انتفى أنَّ يصرف إلى بعضها دون بعض إلا بدلالة تدلّ على ذلك إمَّا من كتاب وإمَّا من سنَّة، وإمَّا إجماع". انتهى مختصراً1.

وأجيب عن ذلك من وجوه:

أوَّلها: أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الآتي: "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل- ثلاثاً" دليل على أنَّه لا ولاية للمرأة في النكاح كبيرة أو صغيرة، لأنّ لفظ "أيُّما" من صيغ العموم فتفيد سلب الولاية عن النِّساء من غير تخصيص2.

ثانيها: أنَّ حديث معقل بن يسار- في سبب نزول قوله تعالى: {فلا تعضلوهن} كان في شأن امرأة ثيِّب وهي أخته التي عضلها عن نكاح زوجها الأول، فلو كان أمرها إلى نفسها لأبان الله لرسوله بأنَّه لا سبيل لأخيها عليها، وأنَّها مالكة أمر نفسها كما يملك أخوها أمر نفسه،

1 شرح معاني الآثار للطحاوي (3/10)، وانظر: أحكام القرآن للجصاص (1/402) .

2 انظر: عون المعبود (6/98) ، وتحفة الأحوذي (4/228) .

ص: 110

ولما احتاج أخوها إلى التكفير عن يمينه، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة1.

ثالثها: أنَّ الولي معروف بين الصحابة، وليس منه النساء، كما قالت عائشة رضي الله عنها:"يخطب الرجل إلى الرجل وليتَّه"2. وقول أمِّ سلمة "ليس أحد من أوليائي حاضراً"3.

رابعها: أنَّ من يعقد نكاح نفسه لا يسمَّى ولياًّ، كما قال الخطابي: ولو جاز هذا في الولاية لجاز مثله في الشهادة على نفسها! فلمَّا كان في الشَّاهد فاسداً كان في الوليّ مثله"4.

ثمّ إنَّ القول بأنَّ الوليَّ" مجمل يبطل اشتراط الترتيب بين الأولياء، وممَّن اشترطه الحنفية في الولاية على الصغيرة والمجنونة، إذ إن الترتيب بين الأولياء فرع عن معرفتهم، وما يقال في أولياء الصغيرة والمجنونة يقال في أولياء البالغة العاقلة، إمَّا على وجه الاستحباب عند الحنفية، وإمَّا علي الوجوب كما عند غيرهم. والله أعلم.

1 انظر: فتح الباري (9/187) ، وسبل السلام (3/120) .

2 سيأتي تخريجه (ص139) ، وقد رواه البخاري وغيره.

3 انظر: سبل السلام (3/120-121) .

4 معالم السنن للخطابي (3/30) ، وقد تقدم قريباً ص (108) بأتمَّ مما هنا.

ص: 111

الدَّليل الثَّاني: حديث عائشة رضي الله عنها،- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيُّما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ من لا وليَّ له".

وهذا الحديث: قد رواه الأئمة: أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وا لدَّارمي، والطيالسي، وابن الجارود، والطحاوي، وابن حِبَّان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي. وغيرهم1.

1 تخريجه:

1-

أحمد (16/154 ترتيب المسند للساعاتي. نكاح، "باب لا نكاح إلا بوليٍّ"

2-

أبو داود (6/98 عون المعبود) نكاح، باب في الولي.

3-

الترمذي (4/227-228 التحفة) نكاح، باب ما جاء في الولي.

4-

والنسائي في السنن الكبرى (3/285) النكاح. باب الثيِّب تجعل أمرها لغير وليِّها.

5-

ابن ماجه (1/605) نكاح، باب "لا نكاح إلا بوليٍّ".

6-

الدارمي (2/62) نكاح، باب النهي عن النكاح بغير ولي.

7-

الطيالسي (1/305 منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود للساعاتي، نكاح، باب لا نكاح إلا بولي.) .

8-

ابن الجارود (ص 235 مع تخريجه) نكاح.

9-

الطحاوي، شرح معاني الآثار (3/7-8) نكاح، باب النكاح بغير ولي عصبة.

10-

ابن حبان (ص 305 موارد الظمآن، نكاح، باب ما جاء في الولي والشهود.

11-

الدارقطني (3/ 221 مع التعليق المغني) نكاح.

12-

الحاكم (2/169- 172) نكاح.

13-

البيهقي (7/105-107) نكاح، "باب لا نكاح إلا بولي".

وانظر كتب التخريج التالية:

نصب الراية للزيلعي (3/184-187) ، التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر (3/179) ، فيض القدير للمناوي (3/143) ، وإرواء الغليل (6/243-247) .

ص: 112

فهذا الحديث نصٌّ في بطلان إنكاح المرأة نفسها بغير إذن وليِّها، وهو شاهد قويٌّ لحديث أبي موسى المتقدم بلفظ "لا نكاح إلا بوليٍّ" وقد جاء مصرِّحاً بهذا اللفظ أيضاً في بعض طرق هذا الحديث عند الطيالسي. وهذا الحديث عامّ في كلِّ امرأة، فقد أكَّد النَّبي صلى الله عليه وسلم عمومه بلفظ "أيّما" التي هي من صيغ العموم، فشمل كلَّ امرأة صغيرة أم كبيره، بكرًا أم ثيِّبًا، في سلب ولاية النكاح عنها من غير تخصيص لبعضهنَّ دون بعض.

وكذلك أكَّد النَّبي صلى الله عليه وسلم حقيقة دلالته على بطلان النِّكاح بدون وليٍّ بلفظ "باطل" ثلاث مرات، مبالغة في تأكيد بطلان إنكاح المرأة نفسها بدون وليِّها، وأنَّ ولاية نكاحها حقٌّ من حقوق وليِّها1.

مناقشة الاستدلال بهذا الحديث.

وقد أُورد على سند هذا الحديث ودلالته على اشتراط الولاية في النكاح جملة اعتراضات، يمكن حصرها بالتتبّع فيما يلي:

1 انظر في دلالة هذا الحديث على اشتراط الولاية في النكاح: القرطبي (3/73-74) ، معالم السنن للخطابي (3/27) ، سبل السلام (3/118) ، نيل الأوطار (6/136) ، فيض القدير للمناوي (3/143- 144) .

ص: 113

أوَّلاً: أنَّ الزهري- راويه- قد سئل عنه فقال: لست أعرفه، أو لست أحفظه، وفي لفظ: فأنكره، فدلّ ذلك على ضعف هذا الحديث.

ثانياً: أنَّ إمام المحدثين البخاري رحمه الله قد تكلّم في عدالة "سليمان ابن موسى" راوي هذا الحديث عن الزهري.

ثالثاً: أنَّ عائشة رضي الله عنها وهي التي روته قد عملت بخلافه وكذلك الزهري، فدلَّ ذلك على ضعف هذا الحديث أو نسخه.

رابعاً: أنَّ هذا الحديث يدلّ بمفهومه على صحَّة عقد المرأة إنكاح نفسها إذا أذن لها وليُّها، ومن اشترط الولاية في النكاح لم يعتبر هذا المفهوم.

خامساً: أنَّه قد جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن مواليها" أي بدل كلمة "وليِّها"، فدلَّ ذلك على أنَّ المقصود به اشتراط الولاية في نكاح "المولاة" وهي الأمة، وهذا مما لا خلاف فيه1.

هذه جملة ما اعترض به على صحة هذا الحديث، وإليك بيانها بالتفصيل:

1 سيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان هذه الاعتراضات واحداً واحداً، مع الإحالة على مصادرها؛ وإنَّما لخصتها هنا لبيانها إجمالاً؛ لطول الكلام عليها، كما سيأتي.

ص: 114

أمَّا الاعتراض الأوَّل: وهو إنكار الزهري لروايته، فقد ذكر ذلك ابن عُليّة1 عن ابن جُريج2 راوي هذا الحديث، عن سليمان بن موسى3، عن الزهري4.

1 هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم- بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين- الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري المعروف بابن عُليّة- بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء المفتوحة- ثقة، حافظ، من (الطبقة) الثامنة، مات سنة ثلاث وتسعين (أي بعد المائة) ، وهو ابن ثلاث وثمانين، روى له أصحاب الكتب الستة. (التقريب 1/65-66) ، و (تهذيب التهذيب (1/275-279) .

2 هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم، المكي، ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل، من (الطبقة) السادسة مات سنة خمسين (أي بعد المائة) أو بعدها، وقد جاوز السبعين، وقيل: جاوز المائة، ولم يثبت، روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (1/ 520)، وانظر: تهذيب التهذيب (6/402-406) .

3 هو: سليمان بن موسى الأموي مولاهم، الدمشقي، الأشدق، صدوق، فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل، من (الطبقة) الخامسة، روى له مسلم والأربعة.

التقريب (1/331)، وانظر: تهذيب التهذيب (4/226-227) ورمز له بمسلم في المقدمة والأربعة، قيل: مات سنة (115 هـ)، وقيل:(سنة 119 هـ) ، وسيأتي الكلام في عدالته في أصل المتن.

4 هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، وكنيته أبو بكر الفقيه الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه، وهو من رؤوس الطبقة الرابعة، مات سنة خمس وعشرين (أي بعد المائة) وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين، روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (2/207)، وانظر: تهذيب التهذيب (9/445-451) .

ص: 115

ومن ذلك ما رواه الطحاوي بسنده عن ابن عُليَّة، عن ابن جُريج، أنَّه سأل ابن شهاب- أي الزهري- فلم يعرفه1.

وكذلك روى هذه الحكاية الحاكم في المستدرك، عن ابن عُليَّةقال: فلقيت الزهري فسألته عنه، فلم يعرفه، وأثنى على سليمان بن موسى. وفي رواية عن ابن جريج قال: فسألت الزهري عنه فقال: لست أحفظه2.

وقال الترمذي: وقد تكلَّم بعض أهل الحديث في حديث الزهري عن عروة3، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن جريج: ثم لقيت الزهري فسألته فأنكره. فضعَّفوا هذا الحديث من أجل هذا4.

وقد أجيب عن إنكار الزهري لهذا الحديث بعدَّة أجوبة، منها:

1 شرح معاني الآثار للطحاوي (3/8) ، والمحلى لابن حزم (9/ 452) .

2 المستدرك للحاكم (2/169) .

3 هو: عروة بن الزبير بن العوَّام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه مشهور، من (الطبقة) الثانية، مات سنة أربع وتسعين على الصَّحيح، ومولده في أوائل خلافة عمر الفاروق، روى له أصحاب الكتب الستة.

التقريب (2/19)، وانظر: تهذيب التهذيب (7/180-185) .

4 الترمذي مع التحفة (4/231)

ص: 116

أوَّلاً: ضعف حكاية ابن عليّة، عن ابن جريج؟ فإنَّ هذا الحديث قد رواه ابن جريج عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد عدّ أبو القاسم ابن مندة عِدَّة من رواه عن ابن جريج فبلغوا عشرين رجلاً1.

وهذه الحكاية لم يروها عن ابن جريج إلا ابن عُليَّة، كما قاله أحمد وابن معين وغيرهما.

فأمَّا الإمام أحمد فقد سئل عن حكاية ابن عُليَّةهذه فقال: إن ابن جريج له كتب مدوَّنة وليس هذا في كتبه، يعني حكاية ابن عُليَّةعن ابن جريج2.

وقال ابن معين: ليس يقول هذا إلا ابن عُليَّة، وإنَّما عرض ابن عُليَّةكتب ابن جريج على عبد المجيد بن عبد العزيز3 ابن أبي روّاد فأصلحها له، [فقال العباس بن محمد الدوري] 4 ما كنت أظنُّ أنَّ عبد

1 التلخيص الحبير (3/180) .

2 المستدرك للحاكم (2/169) ، والسنن للبيهقي (7/106) .

3 انظر ترجمته في التقريب (1/517) ، وتهذيب التهذيب (6/381-383) .

4 في الأصل: فقلت ليحيى: ما كنت أظن، ولكنه واضح من الإسناد أن القائل هو: العباس بن محمد الدوري.

انظر: الحاكم للمستدرك (2/169) ، والسنن للبيهقي (7/106) .

ص: 117

المجيد هكذا، فقال: كان أعلم الناس بحديث ابن جريج، ولكنَّه لم يبذل نفسه للحديث1.

وقد أعلَّ هذه الحكاية عن ابن جريج كلٌّ من ابن حِبَّان، وابن عديّ، وغيرهما، كما ذكره الحافظ ابن حجر وغيره2.

ثانياً: أنَّه على فرض ثبوت ما رواه ابن جريج من نسيان الزهري له فلا يُردّ هذا الحديث بنسيان الزهري له لأمرين:

أولهما: أنَّه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى قد وهم فيه، فقد ينسى الثقة ما رواه ولا يردُّ به الحديث على ما رجَّحه المحدثون في رواية من حدَّث ونسي، وقد وقع ذلك لغير واحد من الحفَّاظ، كما قاله الحاكم3 وغيره، وسليمان بن موسى ثقة لا سيَّما وقد أثنى عليه الزهري نفسه، كما في هذه الحكاية.

قال الحافظ في التلخيص الحبير: "وأجابوا عنها على تقدير الصحة

بأنَّه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه، وقد تكلَّم على هذا الحديث الدارقطني في جزء من حدَّث ونسي،

1 انظر المصدرين السابقين.

2 التلخيص الحبير (3/180) .

3 المستدرك (2/168) وسيأتي نصّه قريباً.

ص: 118

والخطيب بعده، وأطال الكلام عليه البيهقي في السنن والخلافيات، وابن الجوزي في التحقيق". انتهى المقصود منه1.

وثانيهما: أنَّ هذا الحديث لم ينفرد بروايته ابن جريج عن سليمان ابن موسى، ولا سليمان بن موسى عن الزهري، ولا الزهري عن عروة ابن الزبير عن عائشة، بل لكلٍّ منهم متابع، كما حكاه الحافظ في التلخيص الحبير عن أبي القاسم ابن مندة حيث قال: "وذكر- أي ابن مندة- أنَّ معمراً، وعبيد الله بن زحر تابعا ابن جريج على روايته إيَّاه عن سليمان بن موسى، وأن قُرَّة2، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وأيوب بن موسى، وهشام بن سعد وجماعة تابعوا سليمان بن موسى عن الزهري. قال: ورواه: أبو مالك الجنبي، ونوح بن درَّاج، ومندل، وجعفر بن برقان، وجماعة عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة3.

وقال الحاكم: بعد أن أورد من صرَّح بسماع ابن جريج من سليمان بن موسى، وسماع سليمان بن موسى من الزهري- قال: فقد صحَّ وثبت برواية الأئمة الأثبات سماع الرواة بعضهم من بعض، فلا تعلَّل

1 التلخيص الحبير (3/180)، وانظر: المحلى (9/452-453) . وسبل السلام (3/118) .

2 هو: قرَّة بن عبد الرحمن بن حيوئيل- وزن جبرئيل- المعافري البصري. انظر ترجمته في التقريب (2/125) .

3 التلخيص الحبير (3/180)، وانظر: ميزان الاعتدال للذهبي (2/225-226) ، ونيل الأوطار (6/135) ، وتحفة الأحوذي (4/231) .

ص: 119

هذه الروايات بحديث ابن عُليَّة وسؤاله ابن جريج عنه وقوله "إنِّي سألت الزهري عنه فلم يعرفه، فقد ينسى الثقة الحافظ بعد أن حدَّث به، وقد فعله غير واحد من حفَّاظ الحديث"1.

وقال البيهقي- ردًّا على الطحاوي-: والعجب من هذا المحتجِّ بحكاية ابن عُليَّة في ردِّ هذه السنَّة، وهو يحتجُّ برواية الحجاج بن أرطاة في غير موضع ويردها هاهنا عن الزهري بمثله. ويحتج أيضاً برواية ابن لهيعة في غير موضع، ويردُّها ههنا عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري بمثله. فيقبل رواية كلٍّ منهما منفردة إذا وافقت مذهبه، ولا يقبل روايتهما مجتمعة إذا خالفت مذهبه ومعهما ثقة2 اهـ.

وأمَّا الاعتراض الثَّاني: وهو الطَّعن في عدالة سليمان بن موسى- راوي هذا الحديث عن الزهري- فخلاصتها ما يلي:

1-

قول البخاري: "عنده مناكير"3.

2-

قول النسائي: "أحد الفقهاء، وليس بالقويِّ في الحديث"4.

وقال في موضع: "في حديثه شيء".

1 المستدرك للحاكم (2/168) ، ووافقه الذهبي.

2 نصب الراية (3/186) بتصرف عن المعرفة للبيهقي (10/31-32) .

3 انظر ميزان الاعتدال (2/225) ، وتهذيب التهذيب (4/227) .

4 المصدرين السابقين، ونفس الصفحات.

ص: 120

3-

قول أبي حاتم: محلُّه الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحداً من أصحاب مكحول أفقه منه ولا أثبت منه1.

فهذا غاية قول من تكلَّم فيه، وأقواها قول البخاري "عنده مناكير"، وأمَّا قول النسائي وأبي حاتم فهما شهادة أيضاً لإمامته في الفقه والحديث.

وهذه التحفُّظات على سليمان بن موسى لو لم يرد توثيقة عن غير من سبق لم ينزل بحديثه عن درجة الحسن، فكيف وقد وثَّقه كثير من أئمة المحدثين، وتابعه على حديثه هذا غيره من الرواة مما يشهد لهذا الحديث بالصِّحة، وإليك بعض من وثَّقه وشهد له بالفقه والإمامة:

1-

قال الترمذي: "سليمان بن موسى ثقة عند أهل الحديث، لم يتكلَّم فيه من المتقدمين إلا البخاري وحده، فإنَّه تكلَّم فيه من أجل أحاديث انفرد بها"2.

2-

وقال يحيى بن معين: "سليمان بن موسى عن الزهري ثقة3". وهو هنا عن الزهري كما ترى.

1 المصدرين السابقين أيضاً، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 142)، وانظر أيضاً: سنن البيهقي والجوهر النقي لابن التركماني الحنفي (7/105) .

2 تهذيب السنن لابن القيم (3/27) .

3 ميزان الاعتدال (2/225) ، تهذيب التهذيب (4/226) ، الجرح والتعديل (4/141) .

ص: 121

3-

وقال ابن عديّ: "سليمان بن موسى فقيه، راو، حدَّث عنه الثِّقات، وهو أحد علماء الشام، وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره، وهو عندي ثبت صدوق"1.

4-

وقال سعيد بن عبد العزيز2: لو قيل من أفضل الناس، لأخذت بيد سليمان بن موسى3. وقال: كان أعلم أهل الشام بعد مكحول4.

5-

وقال عطاء بن أبي رباح: "سيِّد شباب أهل الشام سليمان بن موسى"5.

وقال سعيد بن عبد العزيز: "كان عطاء إذا قدم عليه سليمان بن موسى قال للناس: كفُّوا أيُّها الناس عن المسائل فقد جاءكم من يكفيكم المسألة"6.

1 ميزان الاعتدال (2/225) ، تهذيب التهذيب (4/227) .

2 هو: سعيد بن عبد العزيز التنوخي، انظر ترجمته في: التقريب (1/301) ، تهذيب التهذيب (4/59) . وانظر ترجمة سليمان بن موسى أيضا (4/226 تهذيب) .

3 ميزان الاعتدال (2/225) .

4 تهذيب التهذيب (4/226) .

5 تهذيب التهذيب (4/226) .

6 الجرح والتعديل (4/141) .

ص: 122

6-

وقال الزهري: "سليمان بن موسى أحفظ من مكحول"1.

7-

وقال دُحَيم2: "ثقة، كان مقدَّماً على أصحاب مكحول"3.

8-

وقال الذهبي: "كان سليمان بن موسى فقيه أهل الشام في وقته، وهذه الغرائب التي تستنكر له يجوز أن يكون قد حفظها"4.

فهذا هو شأن سليمان بن موسى في الفقه والحديث، لو لم يكن له متابع، فكيف وقد تابعه غيره على رواية هذا الحديث، كما تقدَّم في الإجابة عن حكاية ابن عُليَّة5.

وأمَّا الاعتراض الثَّالث: وهو عمل كلٍّ من عائشة رضي الله عنها، - والزهري رحمه الله بخلاف ما روياه.

فقالوا: يدلُّ على عمل عائشة بخلاف ما روته هنا ما رواه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أنَّها زوَّجت بنت عبد الرحمن المنذرَ بن الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام، فلمَّا قدم عبد الرحمن قال: أمثلي يصنع به هذا ويُفْتات عليه؟ فكلَّمت عائشة عن

1 تهذيب التهذيب (4/226) ، والجرح والتعديل (4/141) .

2 دُحَيم- بمهملتين- مصغَّراً- هو: عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو، ثقة حافظ متقن. انظر ترجمته في التقريب (1/ 471) ، وتهذيب التهذيب (6/ 131-132) .

3 الجرح والتعديل (4/ 141) ، وميزان الاعتدال (2/ 225) ، وتهذيب التهذيب (4/226) .

4 ميزان الاعتدال (2/226) .

5 تقدم قريباً (ص 117 وما بعدها) .

ص: 123

المنذر، فقال المنذر: إنَّ ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أردُّ أمراً قَضَيْتِيه، فقرَّت حفصة عنده ولم يكن ذلك طلاقاً1. انتهى. بلفظ الطحاوي، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى2.

ثم قال الطحاوي: "فلمَّا كانت عائشة رضي الله عنها قد رأت أنَّ تزويجها بنت عبد الرحمن بغير [أمره] 3جائز، ورأت ذلك العقد مستقيماً حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح وثبوته استحال- عندنا- أن يكون ترى ذلك4 اهـ.

وأمَّا خلاف الزهري فقد ذكره ابن حزم من طريق عبد الرزاق5، عن معمر6 أنَّه قال له: سألت الزهري عن الرجل يتزوج بغير وليٍّ؟ فقال:

1 شرح معاني الآثار (3/8) .

2 انظر تخريجه الآتي ص (216) .

3 في الأصل (بغيره) ، وفي حاشيته، وفي نسخة "أمره"، وهو الذي أثبته أعلاه.

4 شرح معاني الآثار (3/8) .

5 هو: عبد الرزاق بن همَّام بن نافع، أبو بكر، ثقة حافظ، صاحب المصنَّف المشهور. انظر ترجمته في: التقريب (1/505) ، وتهذيب التهذيب (6/310-315) .

6 هو: معمر بن راشد الأزدي مولاهم، ثقة ثبت فاضل، انظر ترجمته في التقريب

(2/66) ، تهذيب التهذيب (10/343-346) .

ص: 124

إن كان كفؤاً لم يفرَّق بينهما"اهـ1.

وأجيب عن ذلك من وجهين:

أولهما: أنَّه لو ثبت خلاف عائشة والزهري للعمل بمقتضى هذا الحديث لما كان خلافهما دليلاً على إبطال العمل بموجبه؛ إذ ليس خلاف الراوي- مجتهداً متأوِّلاً- مبطلاً لما رواه، بل الحجَّة فيما رواه لا فيما رآه، وقد صحَّ هذا الحديث من طرق موجبة للعمل به.

قال ابن حزم رحمه الله: "وأمَّا اعتراضهم بأنَّه صحَّ عن عائشة وعن الزهري رضي الله عنهما أنَّهما خالفا ما روياه فكان ماذا؟ إنَّما أمرنا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقامت حجَّة العقل بوجوب قبول ما صحَّ عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسقوط قول من دونه عليه الصلاة والسلام. ولا ندري أين وجدوا أنَّ من خالف باجتهاده مخطئاً متأوِّلاً ما رواه أنَّه يسقط بذلك ما رواه، ثم نعكس عليهم أصلهم هذا الفاسد فنقول: إذا صحَّ أنَّ أمَّ المؤمنين- رضي الله عنها والزهري- رحمه الله رويا هذا الخبر، وروي عنهما أنَّهما خالفاه فهذا دليل سقوط الرواية بأنَّهما خالفاه، بل الظَّنُّ بهما أنَّهما لا يخالفان ما روياه، وهذا أولى، لأنَّ تركنا ما لا يلزمنا من قولهما لما يلزمنا من روايتهما هو الواجب، لا ترك ما يلزمنا مما روياه لما لا يلزمنا من رأيهما

"2.

1 المحلى لابن حزم (9/452) ، وهو في مصنَّف عبد الرزاق (6/196) .

2 المحلى لابن حزم (9/453) .

ص: 125

وثانيهما: أنّه لم يرد في تزويج عائشة لابنة أخيها عبد الرحمن التصريح بأنَّها باشرت العقد، وأمَّا قوله "زوَّجتْ" فمحمول على تمهيدها لأسباب الزواج، فقد قال البيهقي رحمه الله:"ونحن نحمل قوله "زوَّجت" أي مهَّدت أسباب التزويج، وأضيف النكاح إليها لاختيارها ذلك وإذنها فيه، ثم أشارت على من ولي أمرها عند غيبة أبيها حتى عقد النكاح، قال: ويدلُّ على هذا التأويل ما أخبرنا - وأسند- عن عبد الرحمن بن القاسم قال: كنت عند عائشة يخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد1، فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض أهلها: زوِّج فإنَّ المرأة لا تلي عقدة النكاح. وفي لفظ: "فإنَّ النساء لا يُنْكِحْنَ"2. قال: إذا كان مذهبها ما روى من حديث عبد الرحمن بن القاسم علمنا: أنَّ المراد بقوله "زوَّجتْ" ما ذكرناه، فلا تخالف ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم"3.

1 بتشديد الهاء، كذا في مصنَّف عبد الرزاق (6/159) أي من التشهد لاستفتاح الكلام، ويدل عليه لفظ "فتكلمت" بدل "فتشهد" في بعض رواياته، وقد ضبط في المعرفة للبيهقي (10/33) بتخفيف الهاء وإسكان الشين المعجمة بمعنى "تحضر) ، والأول أولى، والله أعلم.

2 سيأتي تخريجه (ص 147-148) .

3 نصب الراية للزيلعي (3/186) بتصرف عن المعرفة للبيهقي (10/33-34) وانظر السن الكبرى للبيهقي (7/112-113) . وانظر نحو هذا الجواب في كلٍّ من القرطبي (3/75) ، المحلى لابن حزم (9/453-454) ، التعليق المغني على الدراقطني (3/227) .

ص: 126

وهناك جواب ثالث للمالكية: وهو أنَّه أثر لم يصحبه عمل1.

وأمَّا الاعتراض الرَّابع: وهو أنَّ الحديث يدلُّ بمفهومه على صحة عقد المرأة نكاح نفسها إذا أذن لها وليُّها، كما ذهب إليه أبو ثور- رحمه الله.- فقد أجيب عنه من عدَّة أوجه:

أوَّلها: أنَّ قوله "بغير إذن وليِّها" خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له؛ وذلك أنَّ المرأة التي تقدم على تزويج نفسها لا تستأذن وليَّها- غالباً- بل تستبدُّ بذلك2.

قال القرافي: في توجيه مفهوم "الإذن" في هذا الحديث: إنَّ القاعدة المنصوص عليها في أصل الفقه أن الوصف إذا خرج مخرج الغالب لا يكون حجة إجماعاً. وضابط ذلك: أن يكون الوصف المذكور غالباً على وقوع ذلك الحكم المذكور أو على تلك الحقيقة المحكوم عليها كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} 3؛ فإنَّ القتل الغالب عليه ألا يقع في الأولاد إلا لتوقع ضرر كالإملاق، الذي هو الفقر، أو نحو ذلك من الفضيحة، فلا تكون له دلالة على جواز القتل عند عدم خوف الإملاق

وكذلك ههنا الغالب أنَّ المرأة لا تقدم على زواج نفسها إلا

1 انظر المدونة (2/151) .

2 انظر المغني لابن قدامة (7/339) ، وكشاف القناع (5/48) .

3 سورة الإسراء – آية رقم: 31.

ص: 127

خفية عن وليِّها وهو غير آذن، والعادة قاضية بذلك، فإذا خرج مخرج الغالب فلا يكون حجة إجماعاً اهـ1.

وثانيها: أنَّ ذلك مفهوم، فلا يقوى على معارضة المنطوق باشتراط الولاية كما قاله الصنعاني وغيره2.

ويؤيِّد هذا المنطوق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بوليٍّ" وقوله: "لا تزوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوِّج المرأةُ نفسَها"، ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإذن وليًّ أو بغيره"3.

وثالثها: أنَّ إذن الوليِّ لا يصحُّ إلا لمن ينوب عنه، والمرأة لا تنوب عنه في ذلك؛ لأنَّ الحقَّ لها، ولو أذن لها في إنكاح نفسها، صارت كمن أذن لها في البيع من نفسها ولا يصح، كذا قال الحافظ في الفتح4.

واعترض على هذا محشِّي5 "فتح القدير لابن الهمام" بقوله: "ولا يخفى عليك وَهَنُ هذا الكلام، فإنَّ النكاح عقد على منافع البضع فتصير هي بالإذن كالمأذون له بأن يؤجِّر نفسه. فتأمل"6 اهـ.

1 الفروق للقرافي (3/137-138) ، وتهذيبها (3/170-172) .

2 سبل السلام (3/118) ، والمغني لابن قدامة (7/339) .

3 نيل الأوطار (6/136) .

4 فتح الباري (9/187) .

5 هو: سعد الله بن عيسى المفتي الشهير بسعدي جلبي، وبسعدي أفندي، المتوفى سنة 945هـ.

6 حاشية فتح القدير (3/256) .

ص: 128

كذا قال: ولكن لا يخفى وهن هذا التعقيب لمن تأمَّله، وأوَّل ما يردُّ به الفرق بين إجارة المرأة نفسها للإرضاع أو الخدمة، وبين تأجيرها لمنافع بضعها، حتى ولو أذن لها وليُّها، فالأصل في الطعام والخدمة الإباحة، والأصل في الفروج الحرمة. وذلك حقٌّ خالص للآدمي يستوفيه إذا شاء، ويعفو عنه إذا شاء، أمَّا منافع البضع فليست حقّاً خالصاً للآدميّ، ولذلك يملك صاحب المال العفو عَمَّن غصبه أو سرقه، ولا تملك المرأة ولا وليُّها العفو عمّن استحلَّ البضع بغير حقِّة. والله أعلم.

ورابعها: ما أشار إليه الصنعاني بقوله: "وفي الحديث دليل على اعتبار إذن الولي في النكاح بعقده أو عقد وكيله"1. أي أن المقصود بالإذن هنا "العقد" وهو الإذن الذي تُستَحلُّ به الفروج، والمعنى "أيَّما امرأة نكحت بغير إنكاح وليِّها- أصالة أو نيابة- فنكاحها باطل". وهذا المعنى- في نظري- قوي جدًّا في معنى هذا الحديث وغيره مما جرى على ألسنة السلف كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لا تنكح المرأة إلا بإذن وليِّها، أو ذي الرأي من أهلها، أو السلطان"2.

1 سبل السلام (3/118)، وانظر في هذا المعنى: معالم السنن للخطابي (3/196-197) ، الروضة النديَّة لصديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري (2/ 13) ، وهي شرح على الدرر البهية للشوكاني.

2 سيأتي تخريجه (ص 145) .

ص: 129

ومثله قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ} 1، ولا خلاف في اشتراط ولاية السيِّد في نكاح أمته. والله أعلم.

وأمَّا الاعتراض الخامس: وهو حمل هذا الحديث على اشتراط الولاية في نكاح الأمة، بدليل ما جاء في بعض رواياته بلفظ "أيّما امرأة نكحت بغير إذن مواليها"2.

فقد أجيب عنه: بأن المراد بلفظ "مواليها" هم أولياؤها؟ بدليل أنَّ أكثر روايات هذا الحديث بلفظ "وليِّها"3.

وأيضاً فإنَّ استعمال "المولى" بمعنى "الوليّ"" في القرآن، والسنة، واللغة، أشهر من أن يذكر4.

1 سورة النساء – آية رقم: 25.

2 انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/402) .

3 انظر مثلاً: الفتح الربَّاني وشرحه للساعاتي (16/154) ، وعون المعبود (6/99) .

4 انظر مادة "ولي" في:

- مقاييس اللغة لابن فارس (6/ 141) .

- اللسان لابن منظور (15/408) .

- القاموس وتاج العروس (10/399) .

- مفردات الراغب الأصفهاني (ص 533- 535) .

- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/228-229) .

ص: 130

الدَّليل الثَّالث:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزوِّج المرأة المرأة، ولا تزوِّج المرأة نفسها؛ فإنَّ الزَّانية هي التي تزوِّج نفسها".

وهذا الحديث قد رواه ابن ماجه، وابن خزيمة والدارقطني، والبيهقي1.

وهو صريح الدلالة على أنَّ المرأة لا تزوِّج نفسها ولا غيرها مطلقاً، لا بولاية ولا بوكالة، أذن لها وليُّها أم لم يأذن لها2.

كما أنَّ الجملة الأخيرة من هذا الحديث تدلُّ على أنَّ مباشرة المرأة لعقد النكاح إنَّما هو من شأن الزَّواني، فليس للمسلمة مباشرته في النكاح الشرعيِّ، لئلَاّ تتشبَّه بالبغايا في عاداتهنَّ ووقاحتهنَّ، وهذا كما يدلُّ على التقبيح والتنفير كذلك يدلُّ على البطلان لذلك النكاح الذي عقدته المرأة. والله أعلم.

1 تخريج الحديث:

1-

ابن ماجه (1/606) نكاح، باب "لا نكاح إلا بوليٍّ".

2-

ابن خزيمة (3/188 عن نصب الراية للزيلعي) .

3-

الدارقطني (3/ 227- 228) .

4-

البيهقي (7/110) نكاح، باب "لا نكاح إلا بوليٍّ".

وانظر كتب التخريج التالية:

1-

التلخيص الحبير (3/180) .

2-

إرواء الغليل (6/248-249) .

2 انظر: سبل السلام (3/120) .

ص: 131

مناقشة الاستدلال بهذا الحديث:

وقد أورد على سند هذا الحديث اعتراضان:

الأوَّل: أن في سنده جميل بن الحسن العَتَكِيّ الجَهْضمي1، وهو شيخ ابن ماجه في سند هذا الحديث، وهو راو متَّهم بالفسق والكذب، فقد رُوى عن عبدان2 أنَّه سئل عنه فقال:"كان كذَّاباً فاسقاً، وكان عندنا بالأهواز ثلاثين سنة لم نكتب عنه"3.

والثَّاني: أنَّ الصَّحيح وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه كما نقل عن ابن كثير رحمه الله4.

1 قال الحافظ ابن حجر: جميل- بفتح أوَّله- ابن الحسن بن جميل العتكي الجهضمي، أبو الحسن البصري، نزيل الأهواز، صدوق يخطئ، أفرط فيه عبدان، من الطبقة العاشرة، كذا في التقريب (1/134) ، ورمز لكونه من رواة ابن ماجه.

وفي هامشه قال محققه: العتكي- بفتح العين والتاء-، والجهضمي: بفتح فسكون ففتح، ينسب إلى جهضم بن عوف. اهـ.

وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب (2/113-114) ، وميزان الاعتدال (1/423) ، والجرح والتعديل (2/520) .

2 عبدان: هو: عبد الله بن عثمان بن جبلة- بفتح الجيم والموحدة- ابن أبي روَّاد- بفتح الراء وتشديد الواو- العتكي- بفتح المهملة والمثناة- أبو عبد الرحمن المروزي، الملقب بـ (عبدان) ، من (الطبقة) العاشرة، مات سنة إحدى وعشرين (أي بعد المائتين) في شعبان، كذا في التقريب (1/432)، ورمز لكونه من رواة البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. اهـ. وانظر: تهذيب التهذيب (5/313) .

3 تهذيب التهذيب (2/113) .

4 انظر: نيل الأوطار (6/135) .

ص: 132

والجواب عن الاعتراض الأوَّل من وجهين:

أولهما: أنَّه لم ينفرد بروايته جميل بن الحسن العتكي، بل توبع عليه من طريقين آخرين صحيحين، وفيهما ما يكفي لصحة هذا الحديث، وبيان ذلك:

أنَّ هذا الحديث قد رواه هشام بن حسَّان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا إسناد لا مطعن فيه؛ فإنَّ هشام بن حسَّان1 من أثبت الناس في ابن سيرين، وابن سيرين2 لا حاجة إلى تعديله.

ثم جاء هذا الحديث مسنداً إلى هشام بن حسان من ثلاثة طرق هي:

1 هو: هشام بن حسَّان الأزدي، أبو عبد الله البصري، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين، روى له أصحاب الكتب الستة. انظر: التقريب (2/318) .

وانظر ترجمته أيضاً في تهذيب التهذيب (11/34-37) .

2 هو: محمد بن سيرين الأنصاري، ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (2/ 169) .

وانظر ترجمته أيضاً في تهذيب التهذيب (9/214-217) .

ص: 133

الأولى: عن جميل بن الحسن العتكي الجهضمي، عن محمد بن مروان العقيلي1، عن هشام به2.

وفي هذا السند تكلَّم عبدان على جميل بما سبق ذكره.

والثَّانية: عن مسلم بن عبد الرحمن الجرمي3، عن مخلد بن الحسين4، عن هشام بن حسّان به5.

وهؤلاء كلُّهم ثقات.

والثَّالثة: عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي6، ومحمد بن سعيد بن

1 هو: محمد بن مروان بن قدامة العقيلي- أي بضم العين المهملة- أبو بكر البصري، ويقال: العجلي، صدوق، له أوهام، روى له ابن ماجه.

انظر: التقريب (2/206) ، وتهذيب التهذيب (9/ 435) .

2 ورواه بهذا الإسناد: ابن ماجه (1/606) ، والدارقطني (3/227) ، والبيهقي (7/110) ، وتقدَّم.

3 قال ابن أبي حاتم: مسلم بن عبد الرحمن الجرمي من الغزاة، روى عن مخلد بن حسين.. الجرح والتعديل (8/188) . ونقل في نصب الراية توثيقة عن ابن أبي حاتم (3/188) . وانظر التعليق المغني على الدارقطني (3/228) .

4 هو: مخلد بن الحسين- بالضم- الأزدي الرملي، أبو محمد، ثقة، فاضل، روى له النسائي، ومسلم في مقدمة صحيحه.

انظر: التقريب (2/235) ، وتهذيب التهذيب (10/72-73) .

5 رواه بهذا الإسناد: الدارقطني (3/228) ، البيهقي (7/110) .

6 هو: عبد الرَّحمن بن محمد بن زياد المحاربي، أبو محمد الكوفي، لا بأس به، وكان يدلس، قاله أحمد، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/497) ، وتهذيب التهذيب (6/265) والجرح والتعديل (5/282) ، وفيه توثيقة عن يحيى بن معين، وقول ابن أبي حاتم صدوق إذا حدَّث عن الثقات.

ص: 134

الأصبهاني1، عن عبد السَّلام بن حرب2، عن هشام بن حسَّان به. وهؤلاء كفهم ثقات أيضًا، إلا أنَّ المحاربي يدلس، ولكن تابعه ابن الأصبهاني، عن عبد السلام بن حرب3.

ثانيهما: أنَّ غير عبدان قد وثَّق جميل بن الحسن، بل تحفَّظ على مقالة عبدان فيه.

قال ابن عديّ: لم أسمع أحداً تكلَّم فيه غير عبدان، وهو كثير الرواية.. ولا أعلم له حديثاً منكراً، وأرجو أنّه لا بأس به"4.

وذكره ابن حبان في الثقات5.

1 هو: محمد بن سعيد بن سليمان الكوفي، أبو جعفر بن الأصبهاني، يلقَّب (حمدان) ، ثقة ثبت، روى له البخاري والترمذي.

انظر: التقريب (2/164) ، وتهذيب التهذيب (9/188- 189) .

2 هو: عبد السَّلام بن حرب بن سلمة النَّهدي- بالنون- الملائي- بضم الميم وتخفيف اللام- أبو بكر الكوفي، ثقة، حافظ، له مناكير، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/ 505) ، وتهذيب التهذيب (6/ 316-317) .

3 رواه عن كل من المحاربي، وابن الأصبهاني: الدارقطني (3/227-228) .

وعن المحاربي وحده: البيهقي (7/110) ، وتقدم تخريجه قريباً.

4 تهذيب التهذيب (2/113) .

5 ميزان الاعتدال (1/423) ، وتهذيب التهذيب (2/113) .

ص: 135

وقال الحافظ ابن حجر: "وأخرج له أي ابن حبان في صحيحه، وكذا ابن خزيمة، والحاكم، وغيرهم.

وقال مسلمة الأندلسي: حدثنا ابن المحاملي، عنه وهو ثقة. وذكر ابن عديّ عن عبدان: أنَّ امرأة زعمت أنَّه راودها فقالت له: اتق الله، فقال: إنَّه ليأتي علينا ساعة يحلُّ لنا فيها كلُّ شيء، فكان هذا مراد عبدان بأنَّه فاسق يكذب، ولكن كيف يؤثر قول امرأة فيه مع كونها مجهولة"1.

وقال ابن حجر في التقريب: "صدوق يخطئ أفرط فيه عبدان"2.

وأمَّا الاعتراض الثَّاني: وهو أنَّ الصحيح وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه كما نقل عن ابن كثير رحمه الله.

فلم أقف على كلام ابن كثير في موضع يتَّضح به مراده بقوله "الصحيح وقفه"، أهو يقصد وقف جميع الحديث؟ أم الجملة الأخيرة منه، أعني قوله "فإنَّ الزَّانية هي التي تزوِّج نفسها"، فإن كان قصده وقف جميع الحديث، ففي ما ذكرت من الإسناد السابق ما يكفي لصحة الاحتجاج بالحديث مرفوعاً، وكون هذا الحديث ورد موقوفاً من طرق على أبي هريرة رضي الله عنه لا يمنع صحة الطريق المرفوعة؛ فإنَّها زيادة ثقة مقبولة، وأيضاً فإنَّ مثل هذا الحديث ليس مما يقال بالاجتهاد.

1 تهذيب التهذيب (2/114) .

2 تقريب التهذيب (2/134) .

ص: 136

وأمَّا إن كان قصده وقف الجملة الأخيرة من الحديث وهي "فإنَّ الزَّانية هي التي تزوِّج نفسها"، فله وجه من النظر، وهذا هو الأقرب لمراد ابن كثير رحمه الله، وبيان ذلك:

أنَّه قد جاء في رواية عبد السلام بن حرب إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوِّج المرأة نفسها"، وكنَّا نقول: إن التي تزوِّج نفسها هي الفاجرة"1.

وفي لفظ آخر: "لا تُنكِح المرأةُ المرأةَ ولا تنُكِح المرأة نفسها، وقال أبو هريرة: "وكان يقال: الزانية التي تزوِّج نفسها"2.

ونحوه في سنن البيهقي بلفظ: "لا تُنكِح المرأةُ المرأةَ، ولا تُنكِح المرأة نفسها"، قال أبو هريرة: كنَّا نعدُّ التي تنكح نفسها هي الزَّانية"3.

ثم قال البيهقي: "وعبد السلام بن حرب قد ميَّز المسند من الموقوف فيشبه أن يكون حفظه".

وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير في رواية عبد السلام بن حرب هذه عند الدارقطني والبيهقي- قال: "فتبيَّن أن هذه الزيادة من

1 الدارقطني (3/227) .

2 الدارقطني (3/228) .

3 البيهقي (7/110) .

ص: 137

قول أبي هريرة رضي الله عنه"1. وأورده الحافظ في "بلوغ المرام" دون هذه الزيادة وقال: "رجاله ثقات"2.

وقال الألباني في إرواء الغليل: "صحيح، دون الجملة الأخيرة"3.

ومن هذا يتبيَّن أنَّ هذه الزيادة هي التي يترجَّح إدراجها دون غيرها، فتكون هي المقصودة بالوقف، ومع هذا فإنَّ مثل هذا القول لا يقوله الصحابي باجتهاده- فيما يظهر- وخاصَّة إذا كان قائل هذا جمعاً من الصحابة، كما يدلُّ عليه لفظ "كنَّا نقول"، و"كنَّا نعدّ" ونحوهما والله أعلم.

الدَّليل الرَّابع:

ما رواه عروة بن الزُّبير: أنَّ عائشة رضي الله عنها أخبرته: أنَّ النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:

منها: نكاح النَّاس اليوم، يخطب الرّجل إلى الرّجل وليَّته، أو ابنته، فيصدقها، ثم ينكحها.

ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي4 منه، فإذا تبيَّن حملها أصابها زوجها إذا

1 نفس المصدر السابق.

2 سبل السلام (3/120) .

3 إرواء الغليل (6/248-249) .

4 أي اطلبي منه المباضعة وهي المجامعة.

ص: 138

أحبَّ وإنَّما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

ونكاح آخر: يجتمع الرَّهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلُّهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومرَّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمَّى من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به1 الرجل.

ونكاح الرَّابع: يجتمع الرَّهط الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهنَّ البغايا، كن ينصبن على أبوابهنَّ رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهنَّ، فإذا حملت إحداهنَّ ووضعت حملها جُمِعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطته2 به، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلمّا بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم بالحقِّ "هدم نكاح الجاهلية كلّه، إلا نكاح الناس اليوم". رواه البخاري بهذا اللفظ.

ورواه أيضاً أبو داود والدارقطني والبيهقي3.

1 وفي رواية: (منه) . فتح الباري (9/185) .

2 فالتاطته به: أي ألحقته به، وأصل اللوط- بفتح اللام- اللصوق. (فتح الباري 9/185) .

3 تخريجه:

1-

البخاري (9/182-183 فتح) نكاح، باب من قال "لا نكاح إلا بولي".

2-

أبو داود (6/363 عون المعبود) نكاح، باب في وجوه النكاح التي يتناكح بها أهل الجاهلية.

3-

الدارقطني (3/ 216) نكاح.

4-

البيهقي (7/110) نكاح، باب "لا نكاح إلا بولي".

ص: 139

والدَّليل على اشتراط الولاية في النكاح من هذا الحديث هو في قول عائشة رضي الله عنها: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليَّته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها. ثم قالت في آخره: فلمَّا بُعِث َمحمد صلى الله عليه وسلم بالحقِّ هدم نكاح الجاهلية كلَّه إلا نكاح الناس اليوم". فدلَّ ذلك على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ ذلك النكاح المعتبر فيه الولي، وأنَّه هدم ما سواه من أنكحة الجاهلية، فلم يبق منها إلا هذا النكاح المعتبر فيه الوليّ، ويزيد هذا المعنى قوَّة وتأكيداً ما جاء من الأحاديث الأخرى في اعتبار الوليّ"1. والله أعلم.

الدليل الخامس:

ما رواه الحسن البصري قال: {فَلا تَعْضُلُوهُنّ} ، قال: حدثني معقل بن يسار أنَّها نزلت فيه قال: "زوَّجت أختاً لي من رجل فطلَّقها حتى إذا انقضت عدَّتها جاء يخطبها فقلت له: زوَّجتك، وأفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به،

1 انظر في هذا المعنى: فتح الباري (9/186) ، وسبل السلام (3/120) ،

والتعليق المغني على الدارقطني (3/217) .

ص: 140

وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية:{فَلا تَعْضُلُوهُنّ} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال:"فزوِّجها إيَّاه".

رواه البخاري بهذا اللفظ، ورواه أيضاً: أبو داود وفيه: "فكفَّرت عن يميني وأنكحتها إيَّاه"، ورواه الترمذي، والطيالسي، والطحاوي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وأكثر المفسرون من تخريج طرقه في بيان

سبب نزول الآية الكريمة1.

1 تخريجه:

1-

البخاري (9/183 فتح) نكاح، باب من قال:"لا نكاح إلا بولي"، وأخرجه في مواضع كثيرة.

انظر: التنبيه على أطرافه في كتاب التفسير (8/192 من الفتح) في بيان سبب نزول الآية.

2-

أبو داود (6/109 عون المعبود) نكاح، باب في العضل.

3-

الترمذي (8/324-325 تحفة) التفسير، سورة البقرة.

4-

الطيالسي 1/305 منحة المعبود) نكاح، باب لا نكاح إلا بولي، وما جاء في العضل.

5-

الطحاوي: شرح معاني الآثار (3/11) نكاح، باب النكاح بغير ولي عصبة.

6-

الدارقطني (3/ 222- 224) نكاح.

7-

الحاكم (2/ 174) نكاح.

8-

البيهقي (7/103-104) نكاح، باب (لا نكاح إلا بولي) .

وانظر من كتب التخريج: إرواء الغليل للألباني (6/250-251) .

وانظر: تفسير هذه الآية لبيان من خرجه من المفسرين (تقدم ذكر جملة من كتب التفسير ص 71 الحاشية) .

ص: 141

فهذا الحديث الوارد في سب نزول الآية الكريمة دليل على أنَّ الأمر في النكاح بيد الوليِّ، وإلا لما كان لعضل "معقل" أخته معنى؛ إذ لو كان لها أن تزوِّج نفسها بدونه لما احتاجت إليه، ولما احتاج إلى التكفير عن يمينه، ولكان مجرَّد رغبتها في مراجعة زوجها، ورغبة زوجها في الرجوع إليها كافيًا؛ إذ هي حرَّة، عاقلة، بالغة، ثيِّب، ومن كان أمره إليه لا يقال إنَّ غيره منعه، ثم لو كان أمرها في النكاح إليها دون أخيها لأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخيها أنَّه لا سبيل له عليها، وأنَّها مالكة أمر نفسها؛ والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة1.

قال الترمذي- رحمه الله في هذا الحديث دلالة على أنَّه لا يجوز النكاح بغير وليّ، لأنَّ أخت "معقل بن يسار" كانت ثيِّباً، فلو كان الأمر إليها دون وليِّها لزوَّجت نفسها ولم تحتج إلى وليِّها "معقل بن يسار" وإنَّما خاطب الله في هذه الآية الكريمة الأولياء فقال:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} ، ففي هذه الآية دلالة على أنَّ الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهنَّ" اهـ2.

وقال ابن العربي رحمه الله: "فإن قيل: إنَّ السبب الذي رويتم يبطل نظم الآية؛ لأنَّ الوليَّ إذا كان هو المنكِح فكيف يقال: لا تمتنع من فعل

1 انظر: فتح الباري (9/187) ، وسبل السلام (3/120) ، ونيل الأوطار (6/142) .

2 الترمذي مع تحفة الأحوذي (8/325) .

ص: 142

نفسك؟ وهذا محال، قلنا: ليس كما ذكرتم، للمرأة حقُّ الطَّلب للنكاح، وللوليِّ حقُّ المباشرة للعقد، فإذا أرادت من يُرضَى حاله وأبى الوليُّ من العقد فقد منعها مرادها، وهذا بيِّن" اهـ1.

وفيما سبق بيانه في وجهة استدلال الجمهور للولاية في النكاح بهذه الآية ومناقشتها مع سبب نزولها ما يغني عن إعادته هنا2، والله الموفِّق.

ج- دليل اشتراط الولاية في النكاح من الآثار المرويَّة عن الصحابة رضي الله عنهم:

وأمَّا الذي اشتهر ذكره عن الصَّحابة - رضوان الله عنهم - قولاً وفعلاً فهو أن الذي يزوِّج النِّساء إنَّما هو أولياؤهنَّ من الرجال، بل قد اشتهر بين العلماء قول ابن المنذر: إنَّه لا يعرف عن الصحابة خلاف ذلك، وفي هذا دعوى لإجماع الصحابة على القول بأنَّه "لا نكاح إلا بوليٍّ"، وكفى بإجماعهم حجَّة رضي الله عنهم، - وقد سبق ذكر بعض من نقل عنه ذلك إجمالاً في أول هذا المبحث، وفي حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ"3، وإليك ذكر طرف من أقوالهم رضي الله عنهم، فمنها:

1 أحكام القرآن لابن العربي (1/201) .

2 انظر ما تقدم (ص 68 وما بعدها) .

3 انظر (ص 67، 103 وما بعدها) .

ص: 143

1-

ما رواه الحسن1 قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أيَّما امرأة لم ينكحها الوليُّ أو الولاة فنكاحها باطل".

رواه البيهقي2، إلا أنَّ الحسن لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

2-

ما رواه عبد الرحمن بن معبد بن عمير3: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه "ردَّ نكاح امرأة نكحت بغير وليٍّ". رواه البيهقي4. قال الألباني: "ورجاله ثقات رجال الشيخين غير ابن معبد هذا"5.

3-

ما رواه عكرمة بن خالد6 قال: جمعت الطريق ركباً فجعلت امرأة ثيِّب أمرها بيد رجل غير وليٍّ فأنكحها، فبلغ ذلك عمر رضي الله

1 هو الحسن البصري، وهو ثقة فقيه فاضل مشهور، إلا أنَّه كثير الإرسال والتدليس.

انظر ترجمته في: التقريب (1/165) ، وتهذيب التهذيب (2/263-270) .

2 البيهقي (7/111) .

3 انظر ترجمته في الجرح والتعديل (5/285) ، وفيه احتمال أنه لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

4 البيهقي (7/111) ، والمحلى لابن حزم (9/454) .

5 إرواء الغليل (6/249-250) .

6 هو: عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي، ثقة، روى له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. انظر: التقريب (2/29) ، وتهذيب التهذيب (7/258-259) .

ص: 144

عنه "فجلد النَّاكح والمنكِح وردَّ نكاحها". رواه البيهقي والدارقطني وغيرهما1.

4-

ما رواه سعيد بن المسيَّب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا تنكح المرأة إلا بإذن وليِّها، أو ذي الرأي من أهلها، أو السُّلطان" رواه مالك، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهما2.

وقيل إنَّه منقطع بين سعيد بن المسيَّب3 وعمر، ولكن لو سلِّم ذلك لم يضر لشواهده ولميزة مرسلات سعيد بن المسيَّب على غيرها، فكيف وقد أدرك ابن المسيَّب ثماني سنوات من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وذلك أنَّه ولد في السنة الثانية من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

1 البيهقي (7/111) ، الدارقطني (3/225)، وانظر: التلخيص الحبير (3/183) ، وإرواء الغليل (6/249) .

2 مالك: الموطأ (3/127 شرح الزرقاني) نكاح، باب استئذان البكر والأيُّم في أنفسهما، والدارقطني (3/229) ، والبيهقي (7/111)، وانظر: إرواء الغليل (6/250) . وقد أعلَّه بالانقطاع بين سعيد بن المسيَّب وعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

3 هو سعيد بن المسيَّب بن حَزْن- على وزن سهل- أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، اتفقوا على أنَّ مرسلاته أصح المراسيل.

قال ابن المديني: "لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه"، وقد روى له أصحاب الكتب الستة. انظر: التقريب (1/305-306) ، وتهذيب التهذيب (4/84-88) .

ص: 145

5-

ما رواه معاوية بن سويد بن مقرِّن1 عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل، لا نكاح إلا بإذن وليٍّ". رواه البيهقي وقال: هذا إسناد صحيح، وقد روى عن علي رضي الله عنه بأسانيد أخر وإن كان الاعتماد على هذا دونها اهـ2.

6-

ما رواه سعيد 3بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لا نكاح إلا بوليٍّ مرشد، وشاهدي عدل". رواه البيهقي4. وهو

صحيح عن ابن عباس موقوفاً عليه، وإنَّما الخلاف في رفعه عنه5.

1 هو: معاوية بن سويد بن مقرِّن المزني، أبو سويد الكوفي، ثقة من (الطبقة) الثالثة، لم يصب من زعم أن له صحبة. كذا في التقريب، ورمز له بأنه من رجال الكتب الستة. انظر: التقريب (2/ 259) ، وتهذيب التهذيب (10/208) .

وأمَّا أبوه سويد بن مقرِّن فهو صحابي مشهور.

انظر ترجمته في: التقريب (1/ 341) ، وتهذيب التهذيب (4/279) .

2 البيهقي: (7/111) ، وانظر ما رواه عن علي رضي الله عنه من أوجه أخر في نفس الصفحة كلها شواهد للرواية المذكورة.

3 هو سعيد بن جبير الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه، قتل بين يدي الحجاج بن يوسف الثقفي، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/292) ، وتهذيب التهذيب (4/11-14) .

4 البيهقي (7/112) .

5 انظر: إرواء الغليل (6/238-240، 251) ، وسيأتي تخريج هذا الأثر بأتمَّ مما هنا (2/244) إن شاء الله.

ص: 146

7-

وما رواه محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كانوا يقولون: إنَّ المرأة التي تزوِّج نفسها هي الزَّانية". رواه البيهقي1.

وفي لفظ للدارقطني: "كنَّا نقول: إنَّ التي تزوِّج نفسها هي الفاجرة"2.

وفي لفظ آخر له: "كنا نتحدّث أن التي تنكح نفسها هي الزانية".

وفي لفظ آخر له: "نحو لفظ البيهقي"3.

وفي لفظ لابن حزم: "ليس للنساء من العقد شيء، لا نكاح إلا بوليٍّ، لا تنكح المرأة نفسها، فإن الزَّانية هي التي تنكح نفسها"4.

وهذه الرواية صحيحة عن أبى هريرة رضى الله عنه، وإنَّما الخلاف في لفظها المرفوع كما تقدم5.

8-

ما رواه عبد الرَّحمن بن القاسم6، عن أبيه قال: كانت عائشة رضي الله عنها تخطب إليها المرأة من أهلها فتشهَّد، فإذا بقيت عقدة النِّكاح قالت لبعض أهلها زوِّج؟ فإن المرأة لا تلي عقدة النكاح".

1 البيهقي (7/112) ونحوه (ص 107) أيضاً.

2 الدراقطني (3/227) .

3 نفس المصدر.

4 المحلى لابن حزم (9/454) .

5 انظر ما تقدم (ص137- وما بعدها) .

6 هو: عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ثقة جليل، قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه. وقد روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/495) ، وتهذيب التهذيب (6/254) .

ص: 147

رواه الشافعي، ومن طريقه البيهقي، ورواه الطحاوي، ومن طريقه ابن حزم1.

1تخريجه:

1-

الشافعي: الأم (5/ 19) .

2-

البيهقي (7/112) نكاح، آخر باب لا نكاح إلا بولي.

3-

الطحاوي (3/10) نكاح، باب النكاح بغير ولي عصبة.

4-

ابن حزم (9/453-454 المحلى) .

وانظر: مصنف عبد الرزاق (6/201)، وفتح الباري (9/186) . وقد صححه الحافظ قائلاً:"وقدصحَّ عن عائشة أنها أنكحت رجلاً من بني أخيها، فضربت بينهم بستر ثم تكلَّمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلاً فأنكح، ثم قالت: ليس إلى النساء النكاح". أخرجه عبد الرزاق. اهـ.

(تتمة) : قال ابن التركماني- تعقيباً على البيهقي: في سند الشافعي: "عن الثقة" وهذا ليس بحجة على ما عرف وأفسده الطحاوي في اختلاف العلماء بأمرين:

أحدهما: أنَّ ابن حنبل قال: ابن جريج يقول: أُخبرت عن عبد الرحمن بن القاسم فصار ما بينه وبين عبد الرحمن مجهولاً.

والآخر: أنَّ ابن إدريس يرويه عن ابن جريج عن عبد الرحمن بن القاسم عن عائشةمرسلاً، لا يذكر فيه عن أبيه" اهـ.

وجوابه: أنَّ الثقة الذي يروى عنه الشافعي قد تابعه عبد الله بن إدريس الأودي، كما في رواية الطحاوي نفسه في شرح معاني الآثار، وهي أيضاً متصلة، وليست كما ذكر هنا أنَّها مرسلة والله أعلم.

وأمَّا الثقة الذي يروى عنه الشافعي عن ابن جريج، فالظاهر أنَّه (مسلم بن خالد- أي الزنجي-) كما قاله السخاوي في فتح المغيث في بيان المراد بقول الشافعي "حدثني الثقة".

انظر: (1/289 فتح المغيث للسخاوي) .

فإن كان هذا " فإنه صدوق، كثير الأوهام " كما قاله ابن حجر في التقريب (2/245) ، وتهذيب التهذيب (10/129-130) والله أعلم.

ص: 148

9-

وما رواه عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر1، عن نافع2 قال: ولَّى عمر ابنته حفصة ماله وبناته ونكاحهنَّ3، فكانت حفصة إذا أرادت أن تزوِّج امرأة أمرت أخاها عبد الله فزوَّج "4.

وهذا الصنيع من حفصة رضي الله عنها موافق لما سبق ذكره عن عائشة رضي الله عنها؛ إذ لو كان للمرأة عقدة النكاح لباشرته حفصة بنفسها، مما يدلُّ على أنَّ إسناد النكاح إليها إنَّما يقصد به

1 هو: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثقة ثبت، أحد الفقهاء السبعة، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/537) ، وتهذيب التهذيب (7/38-40) .

2 هو: نافع، أبو عبد الله المدني، مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (2/296) ، وتهذيب التهذيب (10/412-415) .

3 في المصنَّف (نكاحهنَّ) بدون واو العطف.

وفي المحلى بالواو، فالظاهر سقوطها هنا، وان كان المعنى صحيحاً بدونها.

4 المصنّف (6/200) ، وعن طريقة ابن حزم في المحلى (9/454) .

ص: 149

التمهيد له، وأنَّ هناك عرفاً معروفاً عند الصحابة - رضوان الله عليهم - أنَّ النِّساء لا ينكحن، وأمَّا مشاركة النِّساء في اختيار الأزواج والتمهيد له فقد كان وما زال، وإنَّما الشأن في العقد الذي تستحلُّ به الفروج، والله أعلم.

10-

ما ثبت في الصحيح عن زينب أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنَّها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: "زوَّجكنَّ أهاليكنَّ وزوَّجني الله تعالى من فوق سبع سموات".

رواه البخاري بهذا اللفظ، ورواه البيهقي، وابن سعد في الطبقات1.

فقول زينب رضي الله عنها هذا يدلُّ على العرف المعروف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنَّ النِّساء إنَّما يُنكحهنَّ أولياؤهنَّ. وممن أشار إلى الاستدلال بقول زينب هذا الحاكم في مستدركه حيث قال: "وقد صحَّت الروايات فيه (أي في الوليِّ) عن أزواج

1 تخريجه:

1-

البخاري (13/403-404 فتح) كتاب التوحيد، باب "وكان عرشه على الماء

".

2-

البيهقي (7/57) نكاح، باب ما أبيح له صلى الله عليه وسلم بتزويج الله

3-

الطبقات الكبرى لابن سعد (8/103) ترجمة زينب بنت جحش رضي الله عنها.

ص: 150

النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وأمّ سلمة، وزينب بنت جحش رضي الله عنهم1 أجمعين"2.

هذه بعض الآثار المرويَّة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستقصاؤها متعذِّر، وفيما تقدّم ما يكفي عن غيرها لبيان مذهبهم، وما كان عليه مجتمعهم في ولاية النكاح. والله أعلم.

د- الدَّليل من المعقول على اشتراط الولاية في النكاح.

وأمَّا الدَّليل من المعقول على اشتراط الولاية في النكاح فقالوا: إنَّ النِّكاح عقد جليل قدره، عظيم خطره في حياة الإنسان، وفي إسناده إلى الأولياء من الرِّجال الذين هم أكمل نظراً، وأوفر عقلاً، وأشدَّ حرصاً على صيانة أعراضهم وأنسابهم، تكريمًا للمرأة وصيانة لها، وحفظاً للأنساب والأعراض من العار والزلل، وبذلك فارق العقود الماليَّة التي يجوز للمرأة التصرف فيها؛ لأنَّها مهما قيل في أهميتها فلا تصل أو تقارب مكانة عقد النكاح في جلالة قدره، وعظم خطره، وشرف مقاصده.

1 الضمير في (عنهم) راجع إلى جميع ما سبق، وقد ذكر قبلهن ثلاثة عشر صحابياً ثم عطفهن بقوله:"وقد صحت الروايات فيه..".

2 المستدرك للحاكم (2/172) .

ص: 151

قال القرافي في الفرق بين قاعدة الحجر على النِّسوان في الأبضاع وبين قاعدة عدم الحجر عليهنَّ في الأموال: قال: والفرق من وجوه:

أحدها: أنَّ الأبضاع أشدُّ خطراً وأعظم قدراً، فناسب ألاّ تفوض إلا لكامل العقل ينظر في مصالحها، والأموال خسيسة بالنِّسبة إليها، فجاز تفويضها لمالكها؛ إذ الأصل ألَاّ يتصرف في المال إلا مالكه.

ثانيها: أنَّ الأبضاع يعرض لها تنفيذ الأغراض في تحصيل الشهوات القويَّة التي يبذل لأجلها عظيم المال، ومثل هذا الهوى يغطي على عقل المرأة وجوه المصال؛ ح لضعفه، فتلقى نفسها لأجل هواها فيما يرديها في دنياها وأخراها، فحجر عليها على الإطلاق؛ لاحتمال توقع الهوى المفسد، ولا يحصل في المال مثل هذا الهوى، والشهوة القاهرة التي ربَّما حصل الجنون وذهاب العقل بسبب فواتها.

وثالثها: أنَّ المفسدة إذا حصلت في الأبضاع بسبب زواج غير الأكفاء حصل الضَّرر، وتعدَّى للأولياء بالعار والفضيحة الشَّنعاء، وإذا حصل الفساد في المال لا يكاد يتعدَّى المرأة، وليس فيه من العار والفضيحة ما في الأبضاع والاستيلاء عليها من الأراذل والأخسَّاء، فهذه فروق عظيمة بين القاعدتين، وقد سئل بعض

ص: 152

الفضلاء عن المرأة تزوِّج نفسها، فقال في الجواب:"المرأة محلُّ الزلل، والعار إذا وقع يزلّ"1.

وإلى هنا ينتهي ما أمكن استقصاؤه وبيانه من أدلة اشتراط الولاية في نكاح الحرَّة المكلَّفة.

وإليك أدلَّة الفريق الآخر، وهو من يرى أنَّ الولاية على الحرَّة المكلَّفة ولاية ندب واستحباب، لا شرط في صحَّة عقدها.

المذهب الثَّاني: أنَّ الولاية ليست بشرط في نكاح الحرة المكلَّفة:

وعلى هذا فللحرَّة البالغة العاقلة - بكراً كانت أم ثيِّباً- تزويج نفسها إلأ أنَّه خلاف المستحب، وسواء أكان الزَّوج كفؤاً لها أم غير كفء؟ فالنكاح صحيح، وللأولياء حقّ الاعتراض إذا لم يكن الزوج كفؤاً لها2.

1 الفروق للقرافي (3/136-137)، ومثله في تهذيبها (3/171) . وانظر أيضاً: الروضة النديَّة شرح الدرر البهيَّة (2/13) .

2 انظر: المبسوط (5/10) ، فتح القدير مع الهداية والعناية (3/255-256) ، بدائع الصنائع (3/ 1364) ، أحكام القرآن للجصاص (1/401) .

ص: 153

وهذا المذهب هو المشهور عن أبى حنيفة رحمه الله1، وبه قال زفر2، وهو رواية عن أبي يوسف في ظاهر المذهب3. وقيل برجوع محمد بن الحسن إليها4.

فيكون هذا القول هو المذهب لأبي حنيفة وأصحابه.

وقد حرَّر ابن الهمام مذهبهم بقوله: "وحاصل ما عن علمائنا

رحمهم الله في ذلك سبع روايات:

روايتان عن أبي حنيفة: تجوز مباشرة البالغة العاقلة عقد نكاحها ونكاح غيرها مطلقاً، إلأ أنَّه خلاف المستحب، وهو ظاهر المذهب.

ورواية الحسن عنه5: إن عقدت مع كفء جاز، ومع غيره لا يصح، واختيرت للفتوى

6.

1 نفس المصادر السابقة، والبحر الرائق (3/117) .

2 بدائع الصنائع (3/1364) ، أحكام القرآن للجصاص (1/401) .

3 الهداية وفتح القدير (3/256) ، بدائع الصنائع (3/ 1364) ، البحر الرائق (3/117) .

4 فتح القدير (3/256) ، والبحر الرائق (3/117) .

5 هو: الحسن بن زياد اللؤلؤيّ، الكوفي (أبو علي) من أصحاب الإمام أبي حنيفة، وممن أخذ عنه، وسمع منه.

انظر: معجم المؤلفين (3/226) ، والأعلام (2/205) .

6 المحذوف هنا: هو توجيه اختيار هذه الرواية للفتوى.

ص: 154

وعن أبي يوسف ثلاث روايات: لا يجوز مطلقاً إذا كان لها وليّ، ثم رجع إلى الجواز من الكفء لا من غيره، ثم رجع إلى الجواز مطلقاً من الكفء وغيره.

وروايتان عن محمد: انعقاده موقوفاً على إجازة الوليّ، إن أجازه نفذ، وإلا بطل، إلأ أنَّه إذا كان كفؤًا وامتنع الوليّ يجدد القاضي العقد ولا يلتفت إليه.

ورواية رجوعه إلى ظاهر الرواية، فتحصَّل أنَّ الثابت الآن هو اتفاق الثلاثة على الجواز مطلقاً من الكفء وغيره على الوجه الذي ذكرناه عن أبي يوسف من ترتيب الروايات، وهو ما ذكره السَّرَخْسِي1. وأمَّا على ما ذكره الطحاوي2 من أنَّ قوله المرجوع إليه عدم الجواز إلا بوليِّ، وكذا الكرخي في مختصره حيث قال: وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بولي، وهو

1 انظر المبسوط (5/10) .

2 قال الطحاوي في شرح معاني الآثار: وقد كان أبو يوسف رحمة الله عليه يقول: إنَّ بضع المرأة إليها الولاء في عقد النكاح عليه لنفسها دون وليِّها، يقول: إنَّه ليس للوليّ أن يعترض عليها في نقصان ما تزوَّجت عليه، عن مهر مثلها، ثم رجع عن قوله هذا كلِّه إلى قول من قال:"لا نكاح إلا بولي". وقوله الثَّاني هذا قول محمد بن الحسن رحمة الله عليه، والله أعلم بالصواب.

ص: 155

قوله الأخير فلا، ورُجِّح قول الشيخين لأنَّهما أقدم وأعرف بمذاهب أصحابنا، لكن ظاهر الهداية اعتبار ما نقله السرخسي والتعويل عليه1. انتهى المقصود من كلام ابن الهمام وقد نقلته لما فيه من جودة التحرير وحسن الترتيب لمختلف الرِّوايات في مذهب الحنفية.

أدلَّة من لم يشترط الولاية في نكاح الحرَّة المكلّفة.

استدلَّ أصحاب هذا القول لما ذهبوا إليه بالكتاب والسّنة والأثر والمعقول أيضاً. وإليك بيان ذلك مفصَّلاً:

أدلَّتهم من القرآن الكريم.

الدَّليل الأوَّل: قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوف} 2. فقد قال أبو بكر الجصاص: قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُن} معناه: لا تمنعوهنَّ أو لا تضيِّقوا عليهنَّ في التزويج، وقد دلَّت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير وليٍّ، ولا إذن وليِّها:

أحدها: إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الوليّ.

1 فتح القدير لابن الهمام (3/255-256) .

2 سورة البقرة- آية رقم: 232.

ص: 156

والثَّاني: نهيه عن العضْل إذا تراضى الزوجان اهـ1.

وأجيب عن ذلك بأنَّ المراد بنكاحهنَّ هو ما يعقده لهنَّ أولياؤهنَّ لا ما تعقده المرأة لنفسها، كما دلَّ على ذلك سبب نزول الآية في حديث (معقل بن يسار) في عضله أخته، كما سبق بيانه2.

وأمَّا إضافة النكاح إليهنَّ: فلأنَّهنَّ محلُّه والمتسبِّبات فيه.

قال الفخر الرازي: "وهذا وإن كان مجازاً إلا أنَّه يجب المصير إليه؛ لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النكاح "3 اهـ. أي بدون وليٍّ.

وهناك وجه آخر في إسناد النكاح إليهنَّ- فيما يظهر لي- وهو أنَّ المرأة الحرَّة المكلَّفة لا تنكح غالباً إلأ بإذنها، وذلك أنَّها إمَّا أن تكون بكراً، أو ثيِّباً، فإن كانت ثيِّباً فلا تنكح إلا بإذنها اتفاقاً إلا من شذَّ، وإن كانت بكراً فلا مجبر لها على النكاح إلا أبوها أو جدُّها على خلاف في إجبارها- كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى4.

1 أحكام القرآن للجصاص (1/400)، وانظر: بدائع الصنائع للكاساني (3/1367) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/258) .

2 انظر (ص 68، 140 وما بعدها) .

3 التفسير الكبير للفخر الرازي (6/114) .

4 انظر الفصل الثالث الآتي.

ص: 157

وعلى القول بإجبارهما إيَّاها فهي حالة مستثناة بدليل آخر، كما استثنى نكاح الصغيرة والمجنونة والأمة؛ إذ لا خلاف في ثبوت الولاية عليهنَّ وأنَّهنَّ لا يدخلن في الاستدلال بهذه الآية؛ لنفي ولاية النِّكاح عن المرأة كما قيل.

وأيضاً فإنَّه لا خلاف في استحباب استئذان الأب والجدِّ للبكر البالغ، والغالب أنَّهما لا يزوجانها إلا برضاها، وبهذا يظهر وجه إضافة النِّكاح إلى النِّساء في هذه الآية وما شابهها من الآيات، وربَّما يشير إلى هذا المعنى قولهم:"إنَّهنّ المتسبّبات فيه" لتوقُّفه – غالباً - على رضاهنَّ، وخاصَّة أنَّ هذه الآية نازلة في امرأة ثيِّب، كما سبق في سبب نزولها. والله أعلم.

وأمَّا الاستدلال بنهي الأولياء عن العضل، على إبطال ولايتهم.

فجوابه: أنَّ نهي الأولياء عن العضل، فيه إثبات لحقِّهم في الولاية لا نفيها عنهنَّ؛ إذ لا معنى لنهي الأجنبي عن عضل بنات زيد –مثلاً- عن الأزواج، ثم إنَّه قد سبق ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة، وفيه بيان للمراد من العضل وهو منعها من نكاح من يرضى حاله ضراراً لها وأنفة بغير حقٍّ. وولاية الوليّ ولاية نظر ومصلحة، فلو احتمل العضل في الآية أكثر من معنى، وجاء سبب نزول الآية مبيِّناً أنَّ المراد أحدها وجب اعتماده والمصير إليه وترك ما خالفه.

ص: 158

وقد سبق بيان دلالة هذه الآية على اشتراط الولاية في النِّكاح بأكثر مما هنا، فليراجع1.

الدَّليل الثَّاني: قوله تعالى: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2.

قال أبو بكر الجصاص: ومن دلائل القرآن على ذلك (أي على تزويج المرأة نفسها) قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، فجاز فعلها في نفسها من غير شرط الوليِّ، وفي إثبات شرط الولي في صحَّة العقد نفي لموجب الآية؛ فإن قيل: إنَّما أراد بذلك اختيار الأزواج وألَاّ يجوز العقد عليها إلا بإذنها، قيل له: هذا غلط من وجهين:

أحدهما: عموم اللفظ في اختيار الأزواج وفي غيره.

والثاني: أن اختيار الأزواج لا يحصل لها به فعل في نفسها، وإنّما يحصل ذلك بالعقد الذي يتعلَّق به أحكام النكاح، وأيضًا فقد

1 انظر البحث (ص 68 وما بعدها، 140 وما بعدها) .

2 سورة البقرة – آية رقم: 234.

ص: 159

ذكر الاختيار مع العقد بقوله: {إِذَا1 تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 2.

وأجيب عن ذلك بما يلي:

1-

أنَّ قوله تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوف} خطاب للأولياء، ولولا أنَّ العقد لا يصحُّ إلا من الوليِّ لما كان مخاطباً به. حكى ذلك الفخر الرازي عن الشافعية3.

2-

أنَّ الله عز وجل إنَّما أباح لها فعلها في نفسها بالمعروف، وعقدها على نفسها ليس من المعروف؛ إذ هو خلاف المستحب عند من قال بجوازه من الحنفية، وصرَّحوا بأنَّ فيه ما يشعر بابتذالها ووقاحتها4.

ففعلهنَّ إذاً في أنفسهنَّ بالمعروف إنَّما هو ما يتمُّ برضاهنَّ واختيارهنَّ مع أو ليائهنَّ، ثم عقد أوليائهنَّ لهن؛ لقيام الدليل على ذلك.

وأمَّا قول أبي بكر الجصاص إنَّ قصر حقِّهنَّ في النكاح على اختيار الأزواج غلط؛ لعموم الآية في اختيار الأزواج وغيره.

1 يقصد قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (232 البقرة) ؛ لأنَّ أصل الكلام فيها.

2 أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (1/400) .

3 التفسير الكبير للفخر الرازي (6/129) .

4 انظر- مثلاً- فتح القدير والهداية (3/258) ، والبحر الرائق (3/117) .

ص: 160

فجوابه- والله أعلم- أنَّه لا شك أنَّ عموم الآية شامل لرفع الجناح عن كلِّ ما كان محظوراً على المرأة المعتدَّة من وفاة زوجها بعد انقضاء عِِدَّتها، وهي في زمن العِدَّة يحرم عليها النكاح، وما دونه من التزيًّن والتعرّض للخُطَّاب، والخروج من مسكنها، فلمَّا انقضت عِدَّتها أبيح لها ما كان محظوراً عليها.

فأمّا اطّراح الإحداد وتزينها وتجمّلها للخطاب وخروجها من دار زوجها المتوفى فذلك لها اتفاقاً، وأمَّا النكاح فلها فيه اختيار الأزواج والرضى به كما دلّت عليه السنَّة الصَّحيحة.

وأمّا العقد فقد قام الدليل الخاصُّ من السُّنَّة على أنَّه بيد وليِّها ولا معارضة بين عموم وخصوص.

وأمَّا قوله: إنَّ اختيار الأزواج لا يحصل لها به فعل في نفسها، وإنَّما يحصل ذلك بعقد النكاح.

فجوابه:- والله أعلم- أنَّ فعلها في نفسها قد حصل بالتطيّب والتكحّل والتحلّي والتجمُّل للخطّاب، ونحو ذلك، وأيضاً فإنَّها إذا اختارت من ترضاه زوجاً لها وكان كفؤًا لها في دينه وخلقه وجب على وليِّها إجابتها إلى طلبها وإلا عُدَّ عاضلاً آثماً، فرغبتها في النكاح ورضاها بزوِّجها الكفء موجب لإجبار وليِّها على تزويجها، أو تزوَّج من قبل الحاكم أو غيره من الأولياء رغماً عنه فيحصل لها بذلك فعل في نفسها، مع أنَّه لو قيل: إنَّه بالنكاح- سواء أكان بعقدها أم عقد وليِّها- لا يحصل لها فعل في نفسها؛لأنَّ

ص: 161

الفعل الحقيقيَّ لغيرها وهو الزوج لما كان بعيداً، وإنَّما الذي يحصل به فعل لها في نفسها حقيقة هو تزيُّنها وتجمُّلها للخطَّاب ونحو ذلك، والله أعلم.

وأمَّا قوله: إنَّ اختيار الأزواج مذكور في الآية- أي قبلها- في قوله تعالى: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .

فهذا- والله أعلم- أقرب إلى أنَّ يكون دليلاً على أنَّ العقد بيد طرف ثالث حينما يتراضى الزوجان؛ فإنَّه لو كان النكاح صحيحاً بعقدها مع زوجها فلا مُكره لهما حين يتراضيان، وإنَّما يتصوَّر إلا كراه ومعارضة هذه الرغبة من طرف ثالث وهو الوليّ في منعه وليَّته من النكاح1، والله أعلم.

الدَّليل الثَّالث: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} 2.

1 انظر في معنى هذه الآية كتب التفسير التالية:

ابن جرير الطري (2/320) ، ابن كثير (1/285) ، تفسير الأحكام لابن العربي (1/208-212) ، القرطبي (3/187) .

2 سورة البقرةمن– آية رقم: 230.

ص: 162

ففي قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} أضيف النكاح إليها فيقتضي تصوُّر النكاح منها، وكذلك جعل إنكاحها نفسها غاية الحرمة فيقتضي انتهاء الحرمة عند إنكاحها نفسها.

وفي قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} أضيف رجعة المرأة إلى زوجها الأول بعقد جديد- أي بعد عقد الثَّاني ومفارقته وانقضاء عِدَّته- من غير ذكر للوليِّ، فدلَّ ذلك على صحَّة عقد المرأة نكاحها من غير توقُّفه على مباشرة وليِّها له1.

وقد أجيب عن ذلك بما يلي:

1-

أنَّ المراد بنكاحها هنا ما يعقده لها وليُّها، وليس الذي تباشره بنفسها، وإنَّما أضيف إليها لأنَّها محلُّ ذلك وسببه، كما تقدم.

2-

أنَّ المراد بالنِّكاح في قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه} هوالوطء لا العقد؛ لما دلَّت عليه السنة الصحيحة أنَّ المرأة المطلَّقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها الأول حتى تذوق عسيلة الثَّاني، وهذا محلّ

1 انظر في توجيه الاستدلال بهذه الآية: بدائع الصنائع للكاساني (3/1367) ، أحكام القرآن للجصاص (1/400) ، روح المعاني للآلوسي (2/141) .

ص: 163

اتفاق؛ إذ لم يقل أحد بحلِّها للأول بمجرد العقد، إلا ما وري عن سعيد بن المسيَّب رحمه الله على فرض صحة النقل عنه1.

ولذلك قال ابن العربي رحمه الله في ردِّ الاستدلال بهذه الآية على إنكاح المرأة نفسها، قال: لو كان سعيد بن المسيَّب يرى هذا مع قوله: "إنَّ النِّكاح العقد" لجاز له، وأمَّا نحن وأنتم (أي الحنفية) الذين نرى أنَّ النِّكاح هنا هو الوطء فلا يصحُّ الاستدلال لكم معنا بهذه الآية، فإن قيل: القرآن اقتضى تحريمها إلى العقد، والسنَّة لم تبدِّل لفظ "النِّكاح" ولا نقلته عن العقد إلى الوطء، وإنَّما زادت شرطاً آخر وهو الوطء. قلنا: إذا احتمل اللفظ في القرآن معنيين فأثبتت السنَّة أنَّ المراد أحدهما فلا يقال: إنَّ القرآن اقتضى أحدهما وزادت السنَّة الثَّاني، وإنّما يقال: إنَّ السنَّة أثبتت المراد منهما، والعدول عن هذا جهل بالدَّليل أو مراغمة وعناد في التَّأويل اهـ2.

1لقد استبعد ابن كثير رحمه الله صحة هذا عن ابن المسيّب رحمه الله ونقل ما يدلُّ على موافقته غيره من العلماء، وهو أن المطلقة ثلاثًا لا تحلُّ للأول حتى تذوق عسيلة الثاني. انظر: تفسير ابن كثير (1/277) .

2 أحكام القرآن لابن العربي (1/198-199) .

ص: 164

الدَّليل الرَّابع: قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 1. فقالوا: إنَّ في هذه الآية الكريمة دليلاً على انعقاد النكاح بعبارة المرأة، بل قيل: إنَّها نصٌّ في ذلك2.

وذلك- والله أعلم- أنَّ هذه المرأة لو لم تملك إنكاح نفسها لم تملك هبته بغير أمر من يملكه، وظاهر الآية أنَّ هبتها للنبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقَّف على أمر وليِّها. والله أعلم.

ولكنَّ الاستدلال بهذه الآية لا يخلو من نظر، وذلك أنَّ قوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا يخلو من ثلاثة أمور:

أوَّلها: أنَّ الواهبة نفسها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم بدون مهر ولا وليٍّ، كما قال قتادة "ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير وليٍّ ولا مهر إلَاّ للنبي صلى الله عليه وسلم "3.

ثانيها: أنَّ الواهبة نفسها خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدون مهر.

ثالثها: أنَّها خالصة له صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة.

1 سورة الأحزاب – آية رقم: 50.

2 بدائع الصنائع للكاساني (3/1366) .

3 انظر تفسير ابن كثير (3/500) .

ص: 165

فعلى القول الأول: لا دليل فيها على صحة إنكاح المرأة نفسها لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون النكاح بغير وليّ من خصائصه، صلى الله عليه وسلم قيل هو المشهور من مذهب المالكية والشافعية وكذلك الحنابلة، والظاهرية1

وأمَّا على القول الثَّاني والثَّالث فلا ذكر فيه لإسقاط الوليّ، وإنَّما يطلب من دليل آخر، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى:{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} ، فهذا يدلُّ على أنَّ المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لم تحلّ له بمجرَّد تلك الهبة، وإنَّما الأمر إليه صلى الله عليه وسلم فإن أراد أن يتزوَّج بها بعد ذلك فعل وإلا ترك، فيكون حكم النكاح مستأنفاً لا تعلق له بلفظ الهبة إلا في المقصود من الهبة وهو سقوط الصَّداق الذي هو حقٌّ خالص للمرأة2، والله أعلم.

1انظر في القول بخصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا في المصادر التالية:

للمالكية: أحكام القرآن لابن العربي (3/156-1563) ، القرطبي (14/212) ، الخرشي (3/163) .

وللشافعية: روضة الطالبين (7/9) ، مغني المحتاج (3/124) .

وللحنابلة: شرح منتهى الإرادات (3/16) .

وللظاهرية: المحلى لابن حزم (9/457) .

2انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/1560-1561) .

ص: 166

ب- الدَّليل من السنَّة:

وأمّا الدَّليل من السنَّة على إنكاح نفسها فقد استدلُّوا بجملة من الأحاديث منها ما يلي:

الحديث الأوَّل: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيمُّ أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها".

رواه الأئمة: مالك، وأحمد، ومسلم، والأربعة، والدرامي، وابن الجارود، والطحاوي، والدارقطني، والبيهقي1.

1 تخريجه:

1-

مالك: (3/126 الموطأ مع شرح الزرقاني) نكاح، استئذان البكر والأيمّ في أنفسهما.

2-

أحمد: (16/157 ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب ما جاء في إجبار البكر واستئمار الثيب) .

3-

مسلم: (9/204-205 شرح النووي) نكاح، "باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت".

4-

أبو داود: (6/124) عون المعبود) نكاح، باب في الثيب.

5-

الترمذي: (4/244 تحفة الأحوذي) نكاح، باب ما جاء في استئمار البكر والثيب.

6-

النسائي: (6/ 84-85 شرحي السيوطي والسندي) نكاح، استئذان البكر، واستئمار الأب في البكر.

7-

ابن ماجه: (1/601) ، نكاح، باب استئمار البكر والثيب.

8-

الدرامي: (2/63 مع تخريجه) نكاح، باب استئمار البكر والثيب.

9-

ابن الجارود: (238 مع تخريجه) نكاح.

10-

الطحاوي: شرح معاني الآثار (3/11) نكاح، باب النكاح بغير ولي عصبة.

11-

الدارقطني: (3/239-242 مع التعليق المغني) .

2 ا- البيهقي: (7/115) نكاح، باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار، وفي مواضع أخر.

وانظر كتب التخريج التالية: نصب الراية (3/ 182) ، التلخيص الحبير (3/ 184) ، فيض القدير (3/190) ، إرواء الغليل (6/231-232) .

ص: 167

فقالوا: إنَّ الأيِّم في هذا الحديث اسم لامرأة لا زوج لها، بكرًا كانت أم ثيِّبًا، وقد أثبت النبيُّ صلى الله عليه وسلم لكلّ من الوليِّ والأيِّم حقًّا ضمن قوله "أحقّ"، وجعلها أحقَّ بنفسها من وليِّها ولن تكون أحقّ منه بنفسها إلا إذا صح تزويجها نفسها بغيررضاه. وهذا يمنع أن يكون له حقٌّ في منعها العقد على نفسها كقوله صلى الله عليه وسلم "الجارأحقُّ بصقبة"1.

1 الصَّقَّب- بالسين والصاد المهملتين-: هو القرب والملاصقة.

ومعنى الحديث: أنَّ الجار أحقُّ بالشفعة من غير الجار بسبب قربة.

انظر: النهاية في غريب الحديث (2/377) ، (3/41) .

وهذا الحديث قد رواه البخاري والنسائي من حديث أبي رافع رضي الله عنه (انظر: نصب الراية وحاشيتها (4/ 174) .

ص: 168

وقوله لأمِّ الصغير: "أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي1 "2

هذه خلاصة ما قالوه في توجيه الاستدلال بهذا الحديث لإثبات حقِّ المرأة في إنكاح نفسها، وهو- فيما يظهر لي- أقوى حجَّة لهم فيما ذهبوا إليه، وذلك لصحَّة هذا الحديث واحتماله لما قالوا. والله أعلم.

وقد أجاب عنه الجمهور بأنَّه لا حجَّة في هذا الحديث على صحَّة إنكاح المرأة نفسها، وعمدة ما أجابوا به جوابان:

أولهما: أنّ لفظ "الأيِّم" وإن كان لغة اسمًا لامرأة لا زوج لها، بكرًا كانت أم ثيِّبًا، صغيرةً أم كبيرةً، بل لكلِّ من لا زوج له، وإن كان رجلاً- إلَاّ أنَّ المقصود به في هذا الحديث إنَّما هو "المرأة الثَّيِّب"، خاصَّة فيبقى الاستدلال به قاصرًا عن دعوى شموله الثيِّب والبكر معًا3.

1 وهذا الحديث قد رواه أبو داود، والحاكم، والدارقطني.

انظر: نصب الراية وحاشيتها (3/265) .

2 انظر في توجيه الاستدلال بهذا الحديث لل0حنفية المراجع التالية: المبسوط (5/12) ، نصب الراية (3/182) ، أحكام القرآن للجصاص (1/401) ، وبدائع الصنائع (3/1367) ، فتح القدير مع الهداية والعناية (3/258- 259) .

3 انظر في معنى الأيِّم مادة "أيم" في كلٍّ من:

مقاييس اللغة لابن فارس (1/165-166) ، الصحاح للجوهري (5/1868) ، القاموس (4/79) ، النهاية في غريب الحديث (1/85-86) .

ص: 169

واستدلوا على ذلك بثلاثة أمور:

1-

مقابلة الأيِّم بالبكر في الحديث دليل على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما أراد بالأيِّم من لم تكن بكرًا، فقد قسَّم النساء قسمين: أيامى وأبكارًا ولا ثالث لهما1.

2-

ماجاء في بعض روايات هذا الحديث بلفظ "الثيِّب أحقُّ بنفسها من وليِّها" إذ إنّها مفسِّرة للمراد من الأيِّم في هذا الحديث"2.

وقد رواه بهذا اللفظ كلٌّ من الإمام أحمد، ومسلم وأبو داود

وا لنسائي، والدارقطني، وا لبيهقي3.

1 انظر: نصب الراية (3/193) ، وشرح النووي (9/203) ، وفتح الباري (9/ 192) ، شرح الزرقاني على الموطأ (3/126) ، وبلوغ الأماني شرح الفتح الرباني للساعاتي (16/157) .

2 المصادر السابقة، بالإضافة إلى:

عون المعبود (6/ 124) ، وتحفة الأحوذي (4/ 244) ، وحاشيتي السيوطي والسندي على النسائي (6/84) .

3 انظر: مصادر التخريج السابق (ص 167-168) ، وقد رووه عن سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الدارقطني: ورواه جماعة عن مالك، عن عبد الله بن الفضل بهذا الإسناد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الثيب أحق بنفسها"، منهم شعبة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن داود الخريبي، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن أيوب المصري وغيرهم، ثم ذكر أسانيدهم (3/ 240- 241)، ثم قال: وكلهم قال: "الثيب". (3/ 241) .

ص: 170

3-

أنَّ استعمال لفظ "الأيِّم في المرأة الثَّيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق ونحوه أكثر استعمالاً في اللغة، وأشهر ذكرًا بخلافه في البكر التي لمَّا تزوّج بعد1.

وثانيهما: أنّه متى أمكن الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض وجب المصير إليه، لما في ذلك من العمل بالأدلَّة جميعًا دون العمل ببعضها وردِّ بعض، والجمع بين هذا الحديث وأحاديث اشتراط الولاية في النكاح ممكن، وذلك بحمل حقِّ الوليِّ على العقد، وحقِّها على الرضى، ولا شك أنَّ حقّها بنفسها آكد؛ لتوقُّف حقّ الوليِّ عليه، فهذا وجه أحقّيّتها بنفسها2.

1 انظر شرح النووي (9/203) وفتح الباري (9/192) وشرح الزرقاني على الموطأ (3/126) ، وعون المبعود (6/ 124) ، وتحفة الأحوذي 4/ 244/ نقلاً من الفتح) وشرحي السيوطي والسندي (6/ 84) .

2 انظر في هذا المعنى: شرح الزرقاني على الموطأ (3/126) ، وبلوغ الأماني شرح الفتح الرباني للساعاتي (16/157) ، ومعالم السنن للخطابي (3/ 42) ، وعون المعبود (6/124-125) وتحفة الأحوذي (4/244-245) .

ص: 171

ومما يدلّ على ذلك أنَّ ابن عباس - رضى الله عنهما - روى هذا الحديث وحديث "لا نكاح إلا بوليٍّ". وصحَّ عنه رضي الله عنه فتواه باشتراط الوليِّ، كما قال الترمذي رحمه الله تعقيبًا على هذا الحديث- قال:"واحتجّ بعض الناس في إجازة النكاح بغير وليٍّ بهذا الحديث، وليس في هذا الحديث ما احتجّوا به، لأنّّه قد روى- من غير وجه- عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبيّ قال "لا نكاح إلا بوليٍّ".

وهكذا أفتى به ابن عباس بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا نكاح إلا بوليٍّ"، وإنَّما معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الأيِّم أحقّ بنفسها من وليِّها"- عند أكثر أهل العلم- أنَّ الوليَّ لا يزوِّجها إلاّ برضاها وأمرها، فإن زوّجها1 فالنكاح مفسوخ، على حديث خنساء بنت خدام حيث زوّجها أبوها وهي ثيِّب فكرهت ذلك، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه"2 اهـ.

وقال النووي- رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم "أحقّ بنفسها" يحتمل من حيث اللفظ أنّ المراد أحقّ من وليِّها في كلِّ شيء من عقده وغيره، كما قاله أبو حنيفة وداود. ويحتمل أنَّها أحقّ بالرضى؛ أي لا تزوّج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر، ولكن لمَّا صحَّ قول النبيّ

1 أي بدون رضاها.

2 الترمذي مع تحفة الأحوذي (4/244-245) .

ص: 172

صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بوليٍّ" مع غيره من الأحاديث الدَّالّة على اشتراط الوليّ تعيَّن الاحتمال الثَّاني، واعلم أنّ لفظة "أحقّ" هنا للمشاركة، معناه: أنّ لها في نفسها في النكاح حقًّا، ولوليِّها حقًّا، وحقُّها أوكد من حقِّه؛ فإنّه لو أراد تزويجها كفؤًا وامتنعت لم تجبر، ولو أرادت أن تتزوَّج كفؤًا فامتنع الوليُّ أجبر، فإن أصرَّ زوّجها القاضي1، فدلَّ على تأكيد حقِّها ورجحانه"2 اهـ.

الحديث الثَّاني: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ليس للوليِّ مع الثَّيِّب أمرٌ، واليتيمة تستأمر وصمتها إ قرارها".

رواه أحمد، وأبو داود- وهذا لفظه- والنسائي، وابن حِبَّان،

والدارقطني والبيهقي3.

1 هذا بناء على أنَّ الولاية تنتقل إلى السلطان إذا عضل الوليُّ الأقرب، وسيأتي بيان الخلاف فيها، هل تنتقل إلى السلطان أو إلى الوليِّ الأبعد. (انظر المبحث الثالث من الفصل الثامن الآتي (2/ ص172 وما بعدها) .

2 شرح النووي على صحيح مسلم (9/203-204) .

3 تخريجه:

1-

أحمد: (16/ 157 ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب ما جاء في إجبار البكر واستئمار الثيِّب) .

2-

أبو داود: (6/127عون المعبود) نكاح، باب في الثيب.

3-

النسائي: (6/85 مع حاشيتي السيوطي والسندي) نكاح استئذان البكر في نفسها.

4-

ابن حبّان: (ص 304 موارد الظمآن) نكاح، باب الاستئمار.

5-

الدارقطي: (3/239مع التعليق المغني) نكاح.

6-

البيهقي: (7/118) نكاح، باب ما جاء في إنكاح الثّيب.

وانظر كتب التخريج التالية:

نصب الراية (3/194) ، التلخيص الحبير (3/184) .

ص: 173

فقالوا: إنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للوليِّ مع الثيِّب أمرٌ" نصٌّ في إسقاط اعتبار الوليِّ في العقد وفي إثبات حقِّ المرأة في تزويج نفسها1.

وأجيب عنه بما يلي:

أوّلاً: أنَّ معمرًا2 راويه قد أخطأ في متنه وإسناده. قاله الدارقطني وغيره.

وبيان ذلك أنّه لم يروه بهذا اللفظ غيرمعمر، وأمَّا اللفظ الصحيح فهو ما سبق عن ابن عباس بلفظ "الأيِّم أحقّ بنفسها من وليِّها"، أو "الثيِّب أحقّ بنفسها من وليِّها". كما تقدَّم قريبًا.

ورواه الدارقطني بلفظ "الأيِّم أولى بأمرها" عن ابن إسحاق3، وبلفظ "الأيِّم أحقُّ بنفسها" عن سعيد4 بن سلمة،

1 انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/401) ، بدائع الصنائع للكاساني (3/1367) ، المبسوط للسرخسي (5/12) .

2 هو: معمر بن راشد، وهو ثقة، ثبت، فاضل- وتقدم (ص 124) .

3 ابن إسحاق، هو: محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر، المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق، يدلس، ورمي بالتشيّع، والقدر، روى له البخاري تعليقًا، وروى له مسلم والأربعة.

انظر: التقريب (2/ 144) ، وتهذيب التهذيب (9/38-46) .

4 هو: سعيد بن سلمة بن أبي الحُسام، العدوي مولاهم أبو عمر المدني، صدوق صحيح الكتاب يخطيء من حفظه، روى له مسلم وأبو داود والنسائي.

انظر: التقريب (1/297) ، وتهذيب التهذيب (4/ 41) .

ص: 174

كلاهما عن صالح بن كَيْسان1، عن عبد الله بن الفضل2، عن نافع بن جبير3 عن ابن عباس رضي الله عنهما، - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ثم قال الدارقطني: "وخالفهما معمر في إسناده فأسقط منه رجلاً "أي عبد الله بن الفضل" وخالفهما أيضًا في متنه فأتى بلفظ آخر وَهِمَ فيه؛ لأنّ كلَّ من رواه عن عبد الله بن الفضل، وكلّ من

1 هو: صالح بن كيسان المدني، أبو محمد أو أبو الحارث، مؤدِّب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت فقيه، روى له أصحاب الكتب الستة. انظر: التقريب (1/362) ، وتهذيب التهذيب (4/499-501) .

2 هو: عبد الله بن الفضل بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي المدني، ثقة، من (الطبقة) الرابعة. كذا في التقريب (1/440) ورمز لكونه من رجال أصحاب الكتب الستة. وانظر: تهذيب التهذيب (5/357-358) .

3 هو: نافع بن جبير بن مطعم النوفلي، أبو محمد، أو أبو عبد الله، المدني، ثقة فاضل، مات سنة تسع وتسعين بعد المائة، وروى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (2/295) ، وتهذيب التهذيب (10/404-405) .

ص: 175

رواه عن نافع ابن جبير مع عبد الله بن الفضل خالفوا معمرًا، واتفاقهم على خلافه دليل وهمه، والله أعلم1.

ثم ذكر الدارقطني رواية معمر عن صالح بن كَيْسان، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"ليس للوليِّ مع الثَّيِّب أمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها". فقال: كذا رواه معمر عن صالح، والذي قبله أصحُّ في الإسناد والمتن؛ لأنَّ صالحًا لم يسمعه من نافع بن جبير، وإنَّما سمعه من عبد الله بن الفضل عنه.

واتفق على ذلك ابن إسحاق، وسعيد بن سلمة عن صالح، سمعت النيسابوري2 يقول: الذي عندي أن معمرًا أخطأ فيه اهـ3.

ثانياً: إنَّ هذا الحديث قاصر عن الدعوى- وهو إنكاح المرأة نفسها بكرًا أم ثيِّبًا- فهو لا يشمل البكر، بل إنَّه موافق لرواية ابن عباس السابقة الصحيحة بلفظ:"الثَّيِّب أحقُّ بنفسها من وليِّها) المفسِّرة لرواية "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها"، فهذان اللفظان هما الصحيحان في رواية هذا الحديث.

1 الدارقطني (3/239مع التعليق المغني)، وانظر: نصب الراية (3/194) ، والتلخيص الحبير (3/184) .

2 هو: شيخ الدارقطني في هذا الإسناد.

3الدارقطني (3/239مع التعليق المغني)، وانظر: نصب الراية (3/ 194) ، والتلخيص الحبير (3/184) .

ص: 176

وأمَّا لفظ "ليس للوليِّ مع االثَّيِّب أمر " فقد تفرَّد به معمر عن صالح ابن كَيْسان، مخالفًا غيره- كما تقدَّم.

ثالثًا: الجمع بينه وبين أحاديث اشتراط الولاية في النكاح بحمل هذا الحديث على نفي حق الوليِّ في الإكراه؛ إذليس للوليِّ مع الثَّيِّب أمر إكراه، فلا يجبرها على النِّكاح، ولا على من لا ترضاه، وهذا محلُّ اتفاق1

الحديث الثَّالث: ما رواه عبد الله2 بن بُرَيْدة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فتاة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إنَّ أبي- ونعم الأب هو- زوّجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل الأمر إليها فقالت: إنّي قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النِّساء أنْ ليس إلى الآباء من الأمرشيء".

1 انظر: سبل السلام (3/119) ، عون المعبود (6/127) ، بلوغ الأماني شرح الفتح الرباني (16/157) .

2 هو: عبد الله بن بُرَيْدة بن الحُصَيْب، الأسلمي، أبو سهل المروزي، قاضيها، ثقة، مات سنة خمس ومائة، وقيل: بل خمس عشرة وله مائة سنة.

انظر: التقريب (1/403-404) ، ورمز لكونه من رجال أصحاب الكتب الستة، قال محقِّقه: الحُصَيْب- بضم ففتح فسكون-، وبريدة مصَّغر. اهـ 1/403.

وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب (5/157-158) .

ص: 177

رواه الامام أحمد، والنسائي، والدارقطني- واللفظ له- والبيهقي. ورواه ابن ماجه عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيه1.

فقالوا: إنّ إقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم للفتاة على قولها "ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمرشيء" دليل على نفي ولايتهم، وأنّ الأمر في نكاحهنَّ إليهنّ دونهم، ويفيد أيضًا: بعمومه

1 تخريجه:

1-

أحمد: (16/163ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب في الكفاءة في النكاح) .

النسائي: (6/87 مع حاشيتي السيوطي والسندى) نكاح، البكر يزوِّجها أبوها وهى كارهة.

ابن ماجه: (1/602-603) نكاح، باب من زوَّج ابنته وهي كارهة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، لم يذكر عائشة رضي الله عنها، قال محقِّقه: في الزوائد [أي زوائد ابن ماجه للبوصيريّ] ، إسناده صحيح، وقد رواه غير المصنِّف! من حديث عائشة وغيرها اهـ (1/603) .

الدارقطني: (3/232-233مع التعليق المغني) من عدة طرق بعدة ألفاظ، ثم قال:"هذه كلُّها مراسيل عبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا". (3/233) .

البيهقي: (7/118) نكاح، آخر باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار، وقال مثل الد ارقطني.

وانظر: نصب الراية (3/ 192) .

ص: 178

أنّ مباشرة عقد نكاحهنَّ ليس حقًّا ثابتًا لآبائهنَّ ونحوهم، بل هو مستحب مراعاة للحشمة والأدب1.

وأجيب عن ذلك بعدَّة إجابات أشهرها وأهمها ثلاثة:

1 انظر في هذا المعنى: المبسوط للسرخسي (5/12) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/263) .

(تنبيهان) :

1-

قد عزا السرخسي هذا الحديث للخنساء ولكن روايات هذه الواقعة كلُّها تدل على أنَّ هذه الفتاة غير الخنساء بنت خدام التي روى حديثها البخاري وغيره، فتلك ثيِّب على الصحيح، وهذه فتاة بكر فيما يظهر، والله أعلم.

2-

ويلاحظ على نسخة فتح القدير هنا مخالفتها لما بين يدي- من سنن النسائي- متنًا وربَّما إسنادًا أيضًا.

أمَّا المتن: ففي فتح القدير بلفظ". وإنما أردت أن أُعلِم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء" اهـ بينما هو في سنن النسائي بلفظ: "ولكن أردت أن أعلم أللنِّساء من الأمر شيء"؟ فليلاحظ.

أمَّا الإسناد: فقد قال ابن الهمام: فإن سند النسائي قال: "حدثنا زياد بن أيوب، عن علي ابن عراب (كذا) عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة"، ولم يزد على ذلك. وهذا ربما أوهم أن عبد الله بن بريدة لم يروه عن عائشة، أو أنه رواه عن أبيه، فيشتبه بإسناد ابن ماجه الذي ذكره بعده مباشرة" فليلاحظ. مع ملاحظة تغيّر صيغة الأداء أيضًا من "حدثنا علي بن غراب "إلى "عن علي بن غراب " وأيضا تصحف اسم غراب "بالغين المعجمة" كما هو الصواب إلى عراب "بالمهملة وهو خطأ" فليلاحظ.

ص: 179

أولاً: أنَّ هذا الحديث مرسلٌ؛ فإنَّ عبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة- رضي الله عنها شيئًا، قال الدارقطني- بعد أن رواه بعدة طرق وبألفاظ شتَّى-: هذه كلُّها مراسيل ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا1. وكذلك قال البيهقي: هذا مرسل، ابن بريدة لم يسمع من عائشة رضي الله عنها2.

وأجيب عن هذا: أنَّه بعد التسليم بعدم حجِّيَّة المرسل، فإن رواية عبد الله بن بريدة عن عائشة محمولة على الاتصال؛ لإمكان اللقاء والسماع كما هو شرط مسلم في صحيحه؛ فإنّ عبد الله بن بريدة ولد في السنة الخامسة عشرة للهجرة3.

وعائشة رضي الله عنها قد توفيت سنة سبع وخمسين على الصحيح4. ولا شك في إمكان لقائه بها وسماعه منها.

وأيضًا: فإنّ عبد الله بن بريدة قد رواه عن أبيه- كما في سنن ابن ماجه- وأبوه صحابي جليل توفي سنة 63 هـ5. إلأ أنَّه قيل

1 الدارقطني (3/233) .

2 البيهقي (7/118) .

3 انظر ترجمته في: التقريب (3/403-404) ، وتهذيب التهذيب (5/157-158) ، وقد تقدمت قريبًا (ص177) .

4 انظر ترجمتها في: التقريب (2/606) ، وتهذيب التهذيب (12/433- 436) .

5 هو: بريدة بن الحُصَيْب- بمهملتين مصغَّرًا، أبو سهل الأسلمي، صحابي، أسلم قبل بدر، مات سنة ثلاث وستين. كذا في التقريب (1/96) ، ورمز لكونه حديثه في الكتب الستة.

وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب (432-433) .

ص: 180

بضعف روايته عن أبيه1. إلَاّ أنها تبقى شاهداً لروايته عن عائشة رضي الله عنها، خاصَّة أنَّ الشوكاني قال في رواية ابن ماجه: رجاله رجال الصحيح2. وقال فيها البوصيري: إسناده صحيح3.

وقال البنَّا الساعاتي- ردًّا على الدارقطني والبيهقي-: قال: جاء هذا الحديث من رواية عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عند ابن ماجه بسند صحيح، قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده صحيح، ويشهد له حديث ابن عباس في الجارية التي زوّجها أبوها وهي كارهة فخيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث الخنساء بنت خِدَام، والأحاديث الواردة في استئمار النساء على العموم" اهـ4.

1 انظر: تهذيب التهذيب (5/158) .

2 نيل الأوطار (6/145) .

3 سنن ابن ماجه (1/603) نقلاً عن الزوائد للبوصيري.

4 بلوغ الأماني شرح الفتح الرباني (16/163)، وانظر في هذا المعنى أيضًا: الجوهر النقي لابن التركماني (7/118مع سن البيهقي) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/263) .

ص: 181

ثانيًا: وأجيب عنه- وهذا بعد التسليم بصحته- بأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خيّرها؛ لأنّ أباها زوّجها غير كفئها. قاله البيهقي وغيره1؛ بدليل قولها "زوَّجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته".

وتعقَّبه ابن التركماني بقوله: إذا نقل الحكم مع سببه فالظاهر تعلُّقه به، وتعلُّقه بغيره محتاج إلى دليل، وقد نقل الحكم مع سببه وهو التخيير، وذكر السبب وهو كراهية الثيب2.

وما قاله ابن التركماني هو الظاهر، إلاّ أنَّ حكمه على هذه الفتاة بأنها ثيِّب يحتاج إلى دليل، فالظاهر أنَّها بكر، كما يدلّ عليه سياق هذه الواقعة ومختلف ألفاظها. والله أعلم.

وقال ابن الهمام: "إنَّ حمله على عدم الكفاءة خلاف الأصل مع أنَّ العرب إنّما يعتبرون في الكفاءة النّسب والزَّوج كان ابن عمِّها". اهـ3.

ثالثًا: أنّ الأمر المنفيَّ هنا إنَّما هو تزويجهنَّ كرهًا، وذلك جمعًا بينه وبين أحاديث اشتراط الولاية في النِّكاح.

وهذا الجواب: هوأصحُّها وأقواها؛ لدلالة سياق القصَّة عليه على اختلاف طرقها وألفاظها؛ فإنَّ هذه الفتاة قد جاءت مظهرة

1 البيهقي (7/118) .

2 الجوهر النقي (7/118مع البيهقي) .

3 فتح القدير لابن الهمام (3/263) .

ص: 182

شكواها من صنيع أبيها بها، ورغبتها عن ابن عمِّها، بقولها "إنَّ أبي- ونعم الأب هو- زوَّجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته" زادت في لفظ آخر:

"وإنِّي كرهت ذلك1. وعند النسائي "وأنا كارهة2" وهذا ظاهر الدلالة على أنّ أباها قد زوّجها وهي كارهة، فأرادت أن تعلم أللنِّساء في أنفسهنَّ أمر؟ أم أنَّ أمر أوليائهنَّ نافذ عليهنّ وإن كرهن؟ وهذا هو صريح قولها في رواية النسائي والدارقطني، والبيهقي3.

فقد رواه النسائي بلفظ "ولكن أردت أن أعلم أللنِّساء من الأمر شيء؟ ".

ورواه الدارقطني بعدَّة ألفاظ منها ما سبق.

ومنها: "إنَّما أردت أن أعلم: هل للنساء من الأمر شيء أم لا؟ وهو بهذا اللفظ عند البيهقي أيضًا.

ومنها: "ولكن أردت أن أعلم للنساء من الأمر شيء أم لا؟ ".

ومنها: "إنَّ أبي زوّجني ابن أخ له ليرفع خسيسته بي، ولم يستأمرني، فهل لي في نفسي أمرٌ؟ قال: نعم، قالت: ما كنت لأردّ

1 سنن البيهقي (7/118) ، والدارقطي (3/232) .

2 النسائي (6/87) .

3 انظر جميع هذه الألفاظ في مصادر التخريج السابق (ص 178) .

ص: 183

على أبي شيئًا صنعه ولكنِّي أحببت أن تعلم النساء ألهنَّ في أنفسهنَّ أمر أم لا؟ ".

فهذه الألفاظ دليل على أنَّ هذه الفتاة إنَّما جاءت مستطلعة حقَّ النساء في أنفسهنَّ إذا أُكرهن على من لا يرضينه، أينفذ عليهنّ هذا النِّكاح ويلزمهنّ وإن كرهن أم لا؟.

ويدلّ على هذا قول ابن التركماني- السابق-: "إنَّ الحكم إذا نقل مع سببه فالظاهر تعلُّقه به، وتعلُّقه بغيره محتاج إلى دليل، وقد نقل الحكم مع سببه، وهو التخيير، وذكر السبب وهو كراهية الثّيِّب"1. وقال الصنعاني في سبل السلام: "والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي التزويج للكراهة؛ لأنَّ السياق في ذلك، فلا يقال هو عامٌّ" في كلِّ شيء"2.

الحديث الرابع: حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت:"دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة فخطبني إلى نفسي، فقلت: يا رسول الله، إنَّه ليس أحد من أوليائي شاهدًا، فقال: "إنَّه

1 تقدَّم (ص 182) ، وتقدَّم أنَّ حكمه على أنَّ هذه الفتاة كانت ثيِّبًا غير ظاهر، بل الظاهر أنَّها بكر. وربَّما تصحفت "الثيِّب"هنا عن لفظ "البنت"بالباء الموحدة ثم النون. والله أعلم.

2 سبل السلام (3/123) ، وانظر ما قبله.

ص: 184

ليس منهم شاهدٌ ولا غائبٌ يكره ذلك، قالت: قم يا عمر فزوِّج النبيَّ صلى الله عليه وسلم فتزوَّجها".

رواه الطحا وي بهذا اللفظ، ورواه أيضًا أحمد، والنسائي، وابن الجارود، والحاكم، والبيهقي، وابن سعد في الطبقات1.

قال الطحاوي: فكان في هذا الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها إلى نفسها، ففي ذلك دليل أنّ الأمر في التزويج إليها دون

1 تخريجه:

1-

الطحاوي: شرح معاني الآثار (3/11-12) نكاح، باب النكاح بغير ولي عصبة.

2-

أحمد (16/162 ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب ما جاء في إنكاح الابن أمَّه، وفي كتاب السيرة منه (21/67-69، باب ما جاء في زواجه صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة رضي الله عنها .

3-

النسائي (6/81 مع شرحي السيوطي والسندى) نكاح باب إنكاح الابن أمَّه.

4-

ابن الجارود (ص 237 مع تخريجه) .

5-

الحاكم: المستدرك (2/ 179) نكاح، (4/ 16-17) معرفة الصحابة، منه.

6-

البيهقي (7/ 131) نكاح، باب الابن يزوجهاإذا كان عصبة لها بغير البنوّة.

7-

الطبقات الكبرى لابن سعد (8/89-90) .

وانظر من كتب التخريج: نصب الراية (4/ 92-93) ، نيل الأوطار (6/141) ، إرواء الغليل (6/219-221، 251) .

ص: 185

أوليائها؛ فإنَّما قالت له: إنَّه ليس أحد من أوليائي شاهدًا، قال: إنَّه ليس منهم شاهدٌ ولا غائب يكره ذلك"، فقالت: قم يا عمر فزوِّج النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وعمر هذا ابنها، وهو يومئذ طفل صغير غير بالغ؛ لأنَّها قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "إنّي امرأة ذات أيتام" تعني عمر ابنها، وزينب ابنتها، والطفل لا ولاية له، فولّته هي أن يعقد النكاح عليها ففعل. فرآه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جائزًا، وكان عمر بتلك الوكالة قام مقام من وكلَّه، فصارت - أمُّ سلمة رضي الله عنها، - كأنَّها عقدت النكاح على نفسها للنّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولمَّالم ينتظر النبيّ صلى الله عليه وسلم حضور أوليائها دلّ ذلك [على] ، أنَّ بضعها إليها دونهم، ولو كان لهم في ذلك حقٌّ، أو أمرٌ، لما أقدم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على حقٍّ هولهم قبل إباحتهم ذلك له.."1.

مناقشة الاستدلال بهذا الحديث.

وهذا الحديث قد اشتهر الاستدلال به على إثبات ولاية الابن على أمِّه، واعترض عليه: بصغر عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه حين تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّه أمّ سلمة رضي الله عنها، - كما قاله الطحاوي وغيره. والمستدل بهذا الحديث يلزمه أمران:

أولهما: إثبات صحَّة هذا الحديث بهذا اللفظ- أعني الذي فيه محلُّ الشَّاهد للولاية في النِّكاح- وإلاّ فقد جاء من طريق آخر

1 شرح معاني الآثار (3/12) .

ص: 186

صحيح عند مسلم1 وغيره بدون ذكر محلِّ الشاهد للولاية في النِّكاح.

ثانيهما: تعيين المنكِح الحقيقيِّ لأمِّ سلمة رضي الله عنها في زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإليك بيان ذلك ما أمكن والله المستعان:

أمَّا الأمر الأول: وهو ثبوت صحة هذا الحديث، فقد ضُعِّف بجهالة (ابن عمر بن أبي سلمة) لتفرُّد ثابت البُنَاني بالرِّواية عنه مع الاختلاف في اسمه، فقد قيل: هو سعيد بن عمر بن أبى سلمة. قاله الحاكم وأقرَّه الذهبي2.

وقيل: اسمه محمد بن عمر بن أبي سلمة، كما في (التهذيب) وتقريبه3.

وعلى كلا الاحتمالين فهو مجهول.

قال الذهبي: ابن عمر بن أبي سلمة القرشي المخزومي، عن أبيه أنَّ أمَّ سلمة قالت: يا عمر، قم فزوِّج رسول الله!. فهذا لا

1 انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي (6/220-221) .

2 المستدرك للحاكم (4/17)، وانظر: ارواء الغليل (6/ 220) .

3 التقريب (2/193، 518) ، تهذيب التهذيب (7/455، 9/360 هامش،12/305) .

ص: 187

يعرف، قاله عبد الحق الأزدي، ومدار الحديث على ثابت البُنَاني1 عن ابن عمر، وفيه مقال لجهالته" اهـ2.

وقال ابن حزم- في هذا الحديث-: "وهذا خبر إنَّما رويناه من طريق ابن عمر بن أبي سلمة وهو مجهول"3.

وكذلك فعل الألباني في إرواء الغليل فقال:- بعد ذكر الاختلاف في اسمه-: "وسواء كان اسمه هذا أو ذاك فهو مجهول؛ لتفرُّد ثابت بالرِّواية عنه، فالإسناد لذلك ضعيف"4

وقد جاءت هذه الرِّواية من طريق حَّماد بن سلمة5،

1 هو: ثابت بن أسلم البُنَاني- بضم الموحدة ونونين مخففين- أبو محمد البصري، ثقة عابد، مات سنة مائة وبضع وعشرين وله ست وثمانون، وقد روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/115) ، وتهذيب التهذيب (2/2-3) .

2 ميزان الاعتدال (4/ 594) .

3 المحلى (9/457) .

4 إرواء الغليل (6/220-221) .

5 هو: حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، مات سنة مائتين وسبع وستين، رورى له مسلم والأربعة والبخاري تعليقاً. انظر: التقريب (1/197) ، وتهذيب التهذيب (3/ 11-16) .

ص: 188

وسليمان بن المغيرة1 قالا: حدثنا ثابت، عن عمر بن أبي سلمة، أي بإسقاط (ابن عمر ابن أبي سلمة) في شرح (معاني الآثار) للطحاوي2.

وقد عقَّب عليه الألباني بقوله: "فأسقط من المسند ابن عمر بن أبي سلمة، فلا أدري أهكذا وقعت الرواية له أم السقط من بعض النسّاخ"3.

وكذلك رواه الحاكم في موضعين من المستدرك:

أحدهما: في كتاب النكاح، بإسناده عن حماد بن سلمة، عن ثابت البُنَاني قال: حدثني عمر بن أبي سلمة، عن أمِّ سلمة، أي بدون ذكر (ابن عمر)4.

والآخر: في كتاب معرفة الصحابة بهذا الإسناد بإثبات (ابن عمر) 5، ولم يتعقَّبه الذهبي بشيء في كلا الموضعين ممّا يدلّ على

1 هو: سليمان بن المغيرة القيسي مولاهم، البصري، أبو سعيد، ثقة، مات سنة مائة وخمس وستين، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/ 330) ، وتهذيب التهذيب (4/ 220- 221) .

2 شرح معاني الآثار (3/12) .

3 إرواء الغليل (6/220) .

4 المستد رك (2/178) .

5 المستد رك (4/ 16) .

ص: 189

إقراره له أو سقط في النسخة من الإسناد، فلو صحَّ السقط لكان الإسناد متصلاً أيضًا؛ لأنَّ ثابت البناني قد روى عن عمر بن أبي سلمة كما في تهذيب التهذيب1.

إلاّ أنّ الألباني عقَّب على رواية الطحاوي السابقة بما يدلّ على أنَّه قد اختلفت الرواية فيه عن ثابت، وذكر أن ابن أبي حاتم قد سأل عنه أباه وأبا زرعة فصحّحا إثبات (ابن عمر بن أبي سلمة) 2 في إسناد هذا الحديث، وعلى هذا فالحديث ضعيف. والله أعلم.

وأمّا الأمر الثَّاني: وهو من هو وليُّ أمِّ سلمة في نكاحها هذا؟

فخلاصة ما وقفت عليه في ذلك أربعة أقوال:

القول الأول: أنَّه ابنها عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه، وهو ظاهر هذا الحديث.

القول الثَّاني: أنَّه ابنها الآخر: سلمة بن أبي سلمة رضي الله عنه، وكان أسنّ من أخيه عمر.

القول الثالث: أنّه عمربن الخطاب - رضي الله عن- لأنَّه أقرب عصبة لها، حاضر مكلَّف.

1 انظر ترجمة عمر بن أبي سلمة في: تهذيب التهذيب (7/455-456) .

2 إرواء الغليل (6/221) .

ص: 190

القول الرَّابع: أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بولاية السلطنة، أو خصوصية له. وإليك بيان ذلك بالتفصيل ما أمكن، وما أورد على كلٍّ منها والله الموفِّق.

فأمّا القول الأوَّل: وهو أنَّ الذي زوَّجها هو ابنها عمر بن أبي سلمة، فدليله قول أمّ سلمة في هذا الحديث "قم يا عمر"، وفي بعضها فقالت لابنها: قم يا عمر فزوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما في رواية النسائي، وا لحاكم، وا لبيهقي1.

وعلى هذا قيل: كيف يتولَّى نكاحها وهو صبيٌّ صغيرٌ؟

قال ابن حزم: عمر بن أبي سلمة كان يومئذ صغيرًا لم يبلغ، هذا لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم بالأخبار"2.

وقد حاولت تتبّع ما قيل في تحديد مولده، فوجدت في ذلك اختلافًا واضطرابًا شديدًا.

فقد أنكر الإمام أحمد، وكذلك البيهقي، أن يكون (عمر بن أبي سلمة) صغيرًا حين تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّه.

قال ابن القيم- في (جلاء الأفهام) في ترجمة أمِّ سلمة رضي الله عنها قال: "وقد زوَّجها3 ابنها عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّت

1 انظر مصادر التخريج السابق (ص 185) .

2 المحلى لابن حزم (9/457) .

3 في الأصل: وقد (سمعها) ولاشك أنها تصحيف، والصواب: وقد زوَّجها

ص: 191

طائفة ذلك: بأنَّ ابنها لم يكن له من السِّنِّ حينئذ ما يعقل به التزويج. وردّ الإمام أحمد ذلك وأنكره على من قاله. ويدلّ على صحة قوله ما روى مسلم في صحيحه" أنّ عمربن أبي سلمة- ابنها- سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم، فقال: سل هذه؟ يعني أمَّ سلمة. فأخبرته أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، فقال: لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم، يحلّ الله لرسوله ما شاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّي أتقاكم لله وأعلمكم به" 1، أو كما قال. ومثل هذا لا يقال لصغيرٌ جداً، وعمر ولد بأرض الحبشة قبل الهجرة.

وقال البيهقي: وقول من زعم أنّه كان صغيرًا دعوى، ولم يثبت صغره بإسناد صحيح

"2.

فحديث مسلم هذا- أي المتقدم في كلام ابن القيم- دليل صحيح على أنّ "عمر بن أبي سلمة" كان كبيرًا حين سأل سؤاله هذا، ولكن متى سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن هذا؟.

1 انظره في صحيح مسلم مع شرح النووي (7/219) .

2 وانظر بقية ما ذكره ابن القيم عن البيهقي وغيره (ص 146-147 جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام) .

وانظر أيضًا ما ذكره في زاد المعاد (1/106-108) .

وانظر: فتح القدير لابن الهمام (7/503) .

ص: 192

فإنَّ هناك حديثًا صحيحًا متَّفقًا عليه يدلّ على أنّه" أي عمر بن أبي سلمة" كان غلامًا يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا غلام، سمّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك" فما زالت تلك طعمتي بعد"1.

وهذا أظهر في الدلالة على أنَّ "عمر بن أبي سلمة" كان صغيرًا حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة رضي الله عنها، - وقد تتبعت ما قيل في تحديد سنة ولادته فحاصل ما وقفت عليه ثلاثة أقوال كلها تتفق على أنّه كان حينذاك لم يبلغ الحلم بعد، وهي:

أوَّلاً: قول ابن عبد البر: "أنَّه ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة"2.

ثانيًا: أنَّه كان يوم قبض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ابن تسع سنين3. وهذا يوافق الأول أو يقاربه.

(1) 1- البخاري (9/ 251 فتح) كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين.

2-

مسلم (13/193 نووي) كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكا مهما.

2 الاستيعاب (2/475مع الإصابة) ، الإصابة (2/519) ،

وتهذيب التهذيب (7/456) تهذيب الاسماء واللغات (2/16) من القسم الأول.

3 انظر: الاستيعاب (2/475) ، وعنه تهذيب التهذيب (7/456)

وانظر: البيهقي (7/ 131) ، وزاد المعاد لابن القيم (1/107) .

ص: 193

ثالثًا: أنَّه ولد قبل الهجرة بسنتين. واختار هذا القول كلٌّ من الذهبي وابن حجر ورجّحاه على ما قاله ابن عبد البر.

فقال الذهبي في ترجمة "عمر بن أبي سلمة" "عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبو حفص، القرشي المخزومي المدني الحبشي المولد، ولد قبل الهجرة بسنتين أو أكثر، فإنّ أباه توفي في سنة ثلاث من الهجرة وخلَّف أربعة أولاد، هذا أكبرهم وهمٌ: عمر، وسلمة، وزينب، ودرَّة. ثم كان عمر هو الذي زوّج أمَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو صبيّ1.

ثم إنّه في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج وقد احتلم وكبر فسأل عن القبلة للصائم.

1 كذا قال الذهبي هنا، وقال في ترجمة أخيه (سلمة بن أبي سلمة) بعده مباشرة ما نصّه: "وهو الذي زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمِّه أمّ سلمة

" سير أعلام النبلاء (3/408) .

فكيف ذكر الذهبي ذلك في ترجمتين موجزتين متتاليتين، ولم يميِّز الصواب منهما؟ أغلب ظنِّي أنّ إحدى الجملتين قد فقدت موضعها حسب الأصل، أو فقدت ما يتمم معناها. والله أعلم.

ص: 194

فبطل ما نقله أبو عمر1 في "الاستيعاب" من أنَّ مولده بأرض الحبشة سنة اثنتين.

ثم إنَّه كان في سنة اثنتين أبواه- بل وسنة إحدى- بالمدينة وشهد أبوه بدراً، فأنّى يكون مولده في الحبشة في سنة اثنتين؟ بل ولد قبل ذلك بكثير.."2.

وقال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه حديث "كنت غلامًا.." قال: "قوله: كنت غلامًا.." أي: دون البلوغ، يقال للصبي من حين يولد إلى أن يبلغ الحلم غلام، وقد ذكر ابن عبد البر أنَّه ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة بأرض الحبشة، وتبعه غير واحد، وفيه نظر. بل الصواب أنّه ولد قبل ذلك، فقد صحّ في حديث عبد الله بن الزبير أنَّه قال: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة مع النِّسوة يوم الخندق، وكان أكبر منِّي بسنتين. انتهى، ومولد ابن الزبير3 في السنة الأولى على الصحيح، فيكون مولد "عمر" قبل

1 هو: ابن عبد البر- وتقدّم قوله هذا قريباً.

2 سير أعلام النبلاء للذهبي (3/406-407) .

3 انظر ولادة ابن الزبير في: الاستيعاب (2/301) ، الإصابة (2/309) ، تهذيب التهذيب (5/213) .

ص: 195

الهجرة بسنتين" اهـ1. فعلى القول الأول والثاني: يكون "عمر ابن أبي سلمة" حين تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّه- طفلاً صغيراً له سنتان أو ثلاث.

وأمَّا على القول الثالث: فإنَّه يكون صبياً مميِّزًا له ست أو سبع سنوات.

لأنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قد تزوَّج "أمَّ سلمة" في شوال في السنة الرابعة من الهجرة2 على الصحيح.

وهذا القول- أعني أنَّ عمر بن أبي سلمة قد ولد قبل الهجرة بسنتين- هو أقرب الأقوال الثلاثة إلى الصواب. وهذا بناء على أن المراد بالهجرة في قول ابن عبد البر أنَّها الهجرة إلى المدينة، كما هو ظاهر الإطلاق، وكما فهمه من حكى قوله كالذهبي وابن حجر، كما تقدم نص تعقيبهما عليه. إلا أنَّني وجدت ابن الهمام قد حكى

1 فتح الباري (9/ 521) .

2 انظر من ترجمة أمّ سلمة: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/87) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/90) ، الاستيعاب (4/ 421-422)، وفيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها في شوال سنة اثنتين بعد معركة بدر. الإصابة (4/458) وفيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها في جمادى الآخرة سنة أربع، وقيل: ثلاث. تهذيب التهذيب (12/455-456) ، سير أعلام النبلاء (2/ 210 آخر الترجمة) .

ص: 196

عن ابن عبد الهادي1 في (التنقيح) أنه استبعد قول من قال: إنَّ لعمر بن أبي سلمة ثلاث سنين حين تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّه قائلاً: إنّ ابن عبد البر قال: إنه ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى الحبشة2".

ونقل هذه العبارة عن ابن عبد البر الزيلعي في (نصب الراية) عن التنقيح لابن عبد الهادي أيضاً. فلا أدري أهذا فهم لعبارة ابن عبد البر السابقة؟ أم خطأ في النقل؟ أم أنَّ هذا هو حقيقة ما قاله ابن عبد البر، فيكون قد سقط من بعض نسخ "الاستيعاب" بعض ما يتمم المعنى - أعني قوله:"من الهجرة إلى الحبشة"- ولو صح هذا القول لكان رافعاً للملام عن ابن عبد البر، ومناسباً لقول الذهبي:"إن عمر تزوَّج في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد احتلم وكبر"3.

وفي هذا القول أيضاً جمع بين الحديثين الصحيحين- أعني قول عمر بن أبي سلمة: "كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم" وسؤاله عن حكم القبلة للصائم؛ لأنَّ الهجرة إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة من البعثة

1 ابن عبد الهادي: هو محمد بن أحمد بن عبد الهادي.. ابن قدامة المقدسي الحنبلي، وكتابه المشار إليه هو: تنقيح لكتاب ابن الجوزي "التحقيق في اختلاف الحديث"، إلا أنَّه لم يطبع منه إلا الجزء الأول، فلم أتمكن من الوقوف على نص كلامه في كتابه المذكور. انظر ترجمته في معجم المؤلفين (8/287) .

2 فتح القدير لابن الهمام (7/503) ، ونصب الراية (4/93) .

3 راجع نص كلامه المتقدم قريباً (ص 194) .

ص: 197

النبوية1، فيكون مولده في السنة السابعة من البعثة أي قبل الهجرة إلى المدينة بست أو سبع سنين. وبهذا يكون عمره حين تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّه نحو أحد عشر عاماً، فهو ما زال غلاماًَ كما في حديثه المتفق عليه. ويصح لمثله أن يتزوَّج في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يدلّ عليه حديثه الآخر في سوآله عن حكم القبلة للصائم؛ إذ يكون عمره حين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أو سبعة عشر عامًا. والله أعلم.

وعلى كلٍّ فإن كان هو الذي تولَّى تزويج أمِّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يعتقد أنّه إن لم يبلغ الحلم فلا أقلّ من بلوغ سن التمييز، وإلا فلا معنى للقول بولايته كما يقوله الجمهور، ولا لوكالته كما يقوله الطحاوي. والله أعلم.

وأمّا القول الثَّاني: (فهو) أنَّ الذي تولَّى نكاح أمِّ سلمة رضي الله عنها فعقد للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم عليها هو ابنها "سلمة بن أبي سلمة"، وكان أسنَّ من أخيه عمر.

وقد اختار هذا القول جمعٌ من المحقِّقين، ومنهم القرطبي، وابن كثير، فقد قال القرطبي- رحمه الله بعد أن ذكر حديث أمِّ سلمة هذا- قال: وكثيراً ما يستدلُّ بهذا علماؤنا، وليس بشيء، والدليل على ذلك ما ثبت

1 انظر تاريخ الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة في كل من: طبقات ابن سعد (1/203-208) ، والبداية والنهاية لابن كثير (3/66 وما بعدها) ، الكامل لابن الأثير (2/ 76) وما بعدها) .

ص: 198

في الصحاح أنَّ عمر بن أبي سلمة قال: "كنت غلامًا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال: "يا غلام سمّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك"، وقال أبو عمر في كتاب الاستيعاب: "عمر بن أبي سلمة يكنى أبا حفص، ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة". وقيل: كان يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تسع سنين". قلت - أي القرطبي-: ومن كان سنه هذا لا يصلح أن يكون ولياًّ، ولكن ذكر أبو عمر: أن لأبي سلمة من أمِّ سلمة ابنًا آخر اسمه "سلمة" وهو الذي عقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أمِّه أمِّ سلمة. وكان سلمة أسنّ من أخيه عمر بن أبي سلمة، ولا أحفظ له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى عنه عمر أخوه"1 اهـ.

وقال الحافظ ابن كثير في الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة في ذكر وفاة زوجها أبي سلمة قال: "فلمَّا حلّت- أي أمَّ سلمة- في شوّال، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسها بنفسه الكريمة، وبعث إليها عمر ابن الخطاب في ذلك مراراً، فتذكر أنَّها امرأة غَيْرى: أي شديدة الغَيْرة، وأنَّها مُصْبِيَة: أي لها صبيان يشغلونها عنه، ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم، فقال: أمَّا الصبية فإلى الله وإلى رسوله، أي نفقتهم ليس إليك، وأمَّا الغَيْرة فأدعو الله فيذهبها، فأذنت في ذلك، وقالت لعمر آخر ما قالت له: قم فزوّج النبي صلى الله عليه وسلم، تعني قد رضيت وأذنت، فتوهّم

1 تفسير القرطبي (3/78)، وانظر ترجمة سلمة بن أبي سلمة في: الاستيعاب لابن عبد البر (2/87 مع الإصابة) .

ص: 199

بعض العلماء أنَّها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة. وقد كان إذ ذاك صغيراً، لا يلي مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءاً مفرداً بيّنت فيه الصواب في ذلك ولله الحمد والمنّة، وأنّ الذي ولي عقدها عليه ابنها "سلمة بن أبي سلمة" وهو أكبر ولدها، وساغ هذا لأنَّ أباه "ابن عمِّها" فالابن ولاية أمِّه إذا كان سببا لها من غير جهة البنوّة بالإجماع، وكذا إذا كان معتقاً أو حاكماً، فأمَّا محض البنوّة فلا يلي بها عقدة النكاح عند الشافعي وحده، وخالفه الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، وأحمد رحمهم الله. انتهى المقصود من كلام ابن كثير رحمه الله1.

وهذا القول هو اختيار الحافظ ابن حجر كما في الإصابة 2.

وأمَّا القول الثَّالث: فهو أنَّ الذي تولّى إنكاحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنَّه هو المخاطب في هذا الحديث، لا "عمر بن أبي سلمة"، وأنَّ لفظة "ابنها" وهم من الرواة، أي أنَّ أصل هذا الحديث "قم يا عمر" كما هو الغالب في روايات هذا الحديث؛ وذلك لأنَّ عمر-رضي الله عنه-كان السفير بينهما، كما في رواية النسائي، وابن الجارود،

1 البداية والنهاية لابن كثير (4/ 90- 91)، وانظر الإصابة (4/236) وانظر أيضا: سير أعلام النبلاء للذهبي (4/ 408)، إلاّ أنّه يلاحظ عليه ما سبق في الحاشية رقم (2) ص:194.

2 انظر: الإصابة (2/ 66 ترجمة سلمة بن أبي سلمة) ، (4/ 236 منها ترجمة أمامة بنت حمزة) .

ص: 200

والحاكم، والبيهقي1. وصحَّ لعمر بن الخطاب تزويجها؛ لأنّه من عصبتها؛ إذ إنّه يلتقي معها في جدهما "كعب بن لؤى"2. والله أعلم.

وأمَّا القول الرَّابع: فهو أنَّ وليّها في هذا النكاح هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إمَّا بولاية السلطنة، وإمَّا خصوصية له؛ فقد قال كثير من العلماء إنَّ نكاحه صلى الله عليه وسلم لايفتقر إلى وليٍّ، لأنَّه صلى الله عليه وسلم أولى بكلِّ مؤمن من نفسه، كما قال تعالى- في معرض بيان خصائصه صلى الله عليه وسلم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} 3.

وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى النَّاس به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك ديناً أو ضَياعاً4 فليأتني فأنا مولاه"

رواه البخاري وغيره5.

1 انظر مصادر التخريج السابق (ص 185) .

2 انظر: زاد المعاد لابن القيم (1/107-108) ، وجلاء الأفهام له أيضاً (ص 147) ، وتحفة المحتاج (7/248) ونهاية المحتاج (6/232) .

3 سورة الأحزاب-آية رقم: 6.

4 الضياع: العيال، وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعأ، فسمي العيال بالمصدر، كما تقول: من مات وترك فقراً، أي فقراء، وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع كجائع وجياع. ا. هـ نصًّا من النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/ 107) .

5 رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (8/ 517 فتح) تفسير سورة الأحزاب، وفي مواضع أخر، كالفرائض (12/ 9 فتح) ، باب من ترك مالا فلأهله.

- مسلم (11/ 60 نووي) الفرائض.

وانظر: تفسير ابن كثير (3/ 468) ، وأحكام القرآن لابن العربي (3/1507) .

ص: 201

ولما ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم تزوَّج زينب بنت جحش رضي الله عنها بغير وليّ من الخلق، وكانت بذلك تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم1.

ولأنَّ كلَّ ما يخشى وقوعه في نكاح المرأة من إلحاق العار بالأولياء، أو وضعها في غير كفئها، فهو معدوم في حقه صلى الله عليه وسلم، فنكاحه شرف وغبطة للمرأة وأهلها2. والله أعلم.

وأمَّا ولاية السلطان: فلا خلاف بين العلماء "أنَّ السلطان وليُّ من لا وليَّ له"، وأمُّ سلمة رضي الله عنها قد اعتذرت بغياب أوليائها فبيَّن لها النبيّ ُ صلى الله عليه وسلم أنَّه ليس أحدٌ منهم حاضراً ولا غائباً إلا سيرضى به، فإذا ثبت غياب أوليائها المكلَّفين، وصغر أبنائها الحاضرين - على القول بولاية الابن- كانت كمن لا ولي لها، فتنتقل الولاية إلى السلطان اتفاقاً. والله أعلم.

وأمَّا قول الطّحاوي: في منعه الخصوصية للنبي بأنَّها خلاف الأصل، وأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل لها:"أنا وليُّك من دونهم"3، فيقابل بالقول "إنَّه

1 تقدم تخريجه، وقد رواه البخاري وغيره (ص 150)، وانظر: الأحكام لابن العربي (3/1560-1563) .

2 بداية المجتهد (2/13) ، والأحكام لابن العربي (3/ 1561) .

3 شرح معاني الآثار (3/ 12) .

ص: 202

لم يقل لها: أنت أحقُّ بنفسك منهم، أو أنّك وليَّة نفسك، أو أمرك بيدك، بل نصُّ الحديث أنَّه فيه وليٌّ أُمِرَ بعقد النكاح، ولا يعقل أن يؤمر بالولاية من لم يكن من أهلها.

وأمَّا الاستدلال بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطبها من نفسها على أنَّ أمر التزويج إليها دون أوليائها، فليس ذلك بلازم؟؛ إذ إن خطبة المرأة الثيب من نفسها لم يكن محلّ خلاف، بل ولوكانت بكراً فليس في ذلك محظور؟؛ لأنَّ ذلك استطلاع لمعرفة رأيها ورضاها، وهي أحقُّ بالرضى من وليّها وإنَّما محلُّ البحث فيمن يملك العقد الذي يحلُّ به ما كان محرَّمًا ويترتب عليه آثاره. والله أعلم.

وخلاصة ما في حديث أمِّ سلمة- رضي الله عنها بعد ثبوت محلِّ الشاهد منه- أنَّها لم تنكح نفسها، بل أمرت من أنكحها، وإنَّما وقع الإشكال نتيجة لصغر هذا المخاطب- ظاهراً، وعدم أهليته لعقد النكاح وعلى هذا:

فإمَّا أن يكون وليُّها في هذا النكاح أحد ابنيها (عمر، أو سلمة) وهذا نكاح بوليّ، إما بولاية البنوّة على مذهب الجمهور، أو لأنَّهما عصبة لها بالنَّسب كما هو مذهب الجميع، وعليه فيجب أن يعتقد أنَّ الذي تولّى هذا العقد قد بلغ سنًّا يصحُّ لمثله أن يلي هذا العقد فإن كان سنُّ البلوغ مستبعداً- وخاصَّة في حقِّ ابنها عمر- فلا أقلَّ من سنِّ التمييز، وإلا فكيف تنفى عنه أهليَّة الولاية، وتثبت له أهليَّة الوكالة، كما

ص: 203

هو صريح قول الطحاوي: أنَّه قام مقام من وكَّله وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّه على ذلك1.

ثم إنَّه ليس القول بأنَّها وكَّلته من نفسها بأولى من القول بأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فوّض إليه ذلك لغياب أوليائها؛! بدلالة إقراره على ذلك "والسلطان وليُّ من لا وليَّ له".

وإمَّا أن يكون وليُّها في هذا النكاح ابن عمها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو أيضاً نكاح بوليّ لغياب أوليائها الأقربين المكلّفين وصغر أبنائها الحاضرين، ويدلُّ على حضوره لهذا النكاح سفارته بينهما في الخِطبة فيكون هو المخاطب بقولها "قم يا عمر".

وإمَّا أن يكون وليُّها رسول الله صلى الله عليه وسلم إمَّا لخصوصيته عند من قال بها، أو لإمامته؛ لأنَّه "وليُّ من لا وليَّ له"، فيرتفع الإشكال جملة سواء كان قد باشره بنفسه أو فوّض ذلك بأمره أو إقراره لغيره من أقربائها حتى وإن كانوا صغاراً، وكفى بذلك حجَّة إذا صحَّ الحديث. والله الموفِّق.

الحديث الخامس: ما ذكره ابن حزم أنَّ مما استدلَّ به هذا الفريق خبر ميمونة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها "أنّها جعلت أمرها إلى العباس رضي الله عنه فزوّجها

منه عليه الصلاة والسلام".

وقد أجاب عنه بأنَّه منسوخ كأمثاله بحديث "لا نكاح إلا بوليٍّ"2

1 تقدم نص قوله هذا في أول الكلام على هذا الحديث.

2 المحلى لابن حزم (9/ 458) .

ص: 204

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد، والنسائي، وغيرهما 1.

وفي سند الإمام أحمد: الحجَّاج بن أرطاه وهو مدلِّس، وقد رواه بالعنعنة2.

وفي سند النِّسائي:"ابن جُريج" وهو مدلِّس، وقد رواه بالعنعنة أيضاً3.

ومخالفة ابن عباس- رضي الله عنهما لغيره في نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرِم مشهور، والأكثر ترجيح رواية غيره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نكحها وهو حلال، وسيأتي بحث ذلك في محلِّه إن شاء الله تعالى في شروط ولي النكاح4.

ولو صحّ هذا الخبر- أي أنّ العباس هو الذي أنكح ميمونة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس ظاهر الدلالة على إبطال الولاية في النكاح لما يلي:

1 تخريجه:

1-

أحمد: من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (16/155 ترتيب المسند للساعاتي. نكاح، باب "لا نكاح إلا بولي") . وعزاه الساعاتي لأبي يعلي والطبراني في الأوسط.

2-

النسائي: (6/ 88 مع شرحي السيوطي والسندي) نكاح، الرخصة في نكاح المحرم.

2 انظر: بلوغ الأماني شرح الفتح الرباني للساعاتي (16/155)، وإرواء الغليل للألباني (6/253) . وانظر ترجمة الحجَّاج بن أرطاه في: التقريب (1/152) ، وتهذيب التهذيب (2/ 196-199) .

3 تقدمت ترجمته (ص 115) .

4 انظر آخر مبحث من الفصل التاسع الآتي.

ص: 205

1-

لا حجَّة فيه على إبطال الولاية في النكاح على مذهب الجمهور القائلين أنَّ نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى وليٍّ، كما تقدَّم1 في حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها.

2-

أنَّ هذا الخبر ليس صريحاً في مباشرة العباس نكاحها؛ فيحتمل أنَّه قد عقد لها بعض أوليائها، وإنَّما نسب إلى العباس لكونه السفير بينهما، وصاحب الرأي والمشورة لها لمكان أختها أمِّ الفضل منه.

3-

أنّه لا يعلم أنّه قدكان لها وليٌ حاضر إذ ذاك، وسواء كان لها وليٌ حاضر أم لا، فليس في الخبر ما يدلّ على أنّها تفرَّدت بالتوكيل دونهم، ويصحُّ للمرأة أن تقيم وكيلاً عن وليّها إذا أذن لها بذلك إجماعاً، أمَّا عنها ففيه خلاف والصحيح منعه.

4-

احتمال أن يكون هذا في باديء الأمر، أي قبل إبطال النكاح بدون وليٍّ، كما قاله ابن حزم2. والله أعلم.

الحديث السَّادس: حديث سهل بن سعد السَّاعدي رضي الله عنه:

"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت له يا رسول الله: إنِّي قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً، فقام رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوِّجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك شيء

1 انظر (ص 201) .

2 تقدم قريبًا (ص 204) .

ص: 206

تصدقها إيّاه؟ " فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعطيتها إيّاه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً"، فقال: ما أجد شيئاً، فقال: "التمس ولو خاتماً من حديد"، فالتمس فلم يجد شيئاً! قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء؟ " فقال: نعم، معي سورة كذا وسورة كذا- لسور سمّاها- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنكحتكها بما معك من القرآن".

رواه الأئمة: مالك- بهذا اللفظ- وأحمد، وا لستة، وغيرهم1.

1 تخريجه:

1-

مالك: (3/128-129 مع الزرقاني) نكاح، ما جاء في الصداق والحباء.

2-

أحمد: (16/ 171 ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب من جعل العتق صداقاً، وكذلك تعلم القرآن) .

3-

البخاري: (9/190 فتح) نكاح، باب السلطان وليٌّ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم "زوَّجناكها بما معك من القرآن". وفي مواضع كثيرة من الصحيح. انظر الإشارة إلى أطرافه في (4/486 الفتح، كتاب الوكالة) .

4-

مسلم: (9/ 211-215 نووي) نكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد..) .

5-

أبو داود: (6/143 عون المعبود) نكاح، باب في التزويج على العمل يعمل.

6-

الترمذي: (4/ 254 تحفة) نكاح، باب ما جاء في مهور النساء.

7-

النسائي: (6/ 54 مع شرحي السيوطي والسندي) أول كتاب النكاح، وفي مواضع أخر.

8-

ابن ماجه: (1/ 608) باب صداق النساء "مختصراً".

9-

الطحاوي: (3/16-17 شرح معاني الآثار) نكاح، باب التزويج على سورة من القرآن.

10-

ابن الجارود: (ص 240مع تخريجه) نكاح.

11-

الدارقطني: (3/ 47) نكاح، باب المهر.

12-

البيهقي: (7/57) نكاح، باب ما أبيح لهصلى الله عليه وسلم من تزويج المرأة من غير استئمارها.) .

وانظر من كتب التخريج:

نصب الراية (3/199) ، والتلخيص الحبير (3/217) ، إرواء الغليل (6/ 245) .

ص: 207

فقال من لم يشترط الولاية في النكاح: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوَّج هذه المرأة لذلك الرجل بدون أن يسألها ألها وليٌّ أم لا؟، فدلّ ذلك على عدم اشتراط الوليِّ"1.

ولكن هذا الحديث لا ينهض دليلاً على إبطال الولاية في النكاح؛ فإنَّ الذي زوّج هذه المرأة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم "والسلطان وليُّ من لا وليَّ له"، فعلى من يحتجّ به لنفي الولاية في النكاح أن يثبت حضور أحد من أوليائها حينذاك، وقد أشار إلى ذلك الإمام البخاري- رحمه الله في إحدى تراجمه على هذا الحديث فقال:"باب السلطان وليّ، لقول النّبيِّ صلى الله عليه وسلم "زوّجناكها بما معك من القرآن" 2.

1 أحكام القرآن للجصاص (1/ 401) .

2 فتح الباري (9/ 190) كما تقدم في التخريج هنا.

ص: 208

وقال ابن حزم: وأمَّا تزويجه صلى الله عليه وسلم المرأة بتعليم سورة من القرآن فليس في الخبر أنّه كان لها وليّ أصلاً، فلا يعترض على اليقين بالشكوك"ا. هـ1.

وقال الشوكاني: "وفي الحديث فوائد، منها: ثبوت ولاية الإمام على المرأة التي لا قريب لها"2.

وأيضاً فإنَّ هذا الصحابي لم يخطبها إلى نفسها- بعد أن عرف عدم رغبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيها- بل خطبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحها إيّاه مما يدلُّ على أنّ هناك عرفًا قائمًا بين الصحابة- رضي الله عنهم أنَّه "لا نكاح إلاّ بوليٍّ"، وأنَّه ليس للمرأة إنكاح نفسها. والله أعلم.

ج- الأدلة من الآثار المرويّة عن الصحابة رضى الله عنهم:

وأمّا أدلّة من لم يشترط الولاية في النكاح من جهة الآثار المرويّة عن الصحابة، فقد قالوا: إنَّ جواز النّكاح بدون وليٍّ مروي عن عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم جميعاً. كما في (المبسوط)3.

1- فأمَّا ما روي عن عمر رضي الله عنه فلم يذكر النَّصَّ الوارد عن عمر في ذلك- فيما وقفت عليه- من كتبهم، ولم أقف أيضاً على أثر عنه يستدلُّ به على ولاية المرأة في النكاح على غيرها، أو إنكاحها نفسها،

1 المحلى (9/ 458) .

2 نيل الأوطار (6/ 194) .

3 المبسوط (5/ 12) .

ص: 209

بل كلُّ ماروىعنه هومما يستدلُّ به على إثبات الولاية فى النكاح، كما سبق1.

ولعلَّ أقرب أثر يستدلُّ به لهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) عن عبيد الله بن عمر، عن نافع قال:"ولَّى عمر ابنته حفصة ماله وبناته ونكاحهنَّ، فكانت حفصة إذا أرادت أن تزوِّج امرأة أمرت أخاها عبد الله فزوَّج"2.

ولكن إسناد النكاح إلى حفصة- رضي الله عنها لا يلزم منه أن تعقده بنفسها، بل الأقرب والأولى أن يحمل على تمهيدها أسباب النكاح من اختيار الأزواج، وتقرير المهر، ونحو ذلك، ويدلّ على ذلك أمران:

أولهما: أنَّ حفصة رضي الله عنها لم تعقد بنفسها، بل كانت تأمر أخاها عبد الله فيزوّج من أرادت تزويجها منهنّ، وهذا ينبىء عن العرف المعروف بين الصحابة أنَّ النِّساء لا يُنكِحْن.

ثانيهما: ما روى عن عمر من طرق شتى من قوله وفعله "أنَّه لا نكاح إلا بوليٍّ" كما سبق فيما رواه عنه الحسن البصري، وعبد الرحمن ابن معبد بن عمير، وعكرمة بن خالد، وسعيد بن المسيَّب3.

1 تقدم (ص 144- 145) .

2 تقدم (ص 149) .

3 تقدم (ص 144- 145) .

ص: 210

2-

وأمّا ما روي عن عليٍّ رضي الله عنه، فقد ذكر السَّرَخْسِِِي معناه في (المبسوط) بقوله:"بلغنا عن عليٍّ رضي الله عنه أنّ امرأة زوّجت ابنتها برضاها، فجاء أولياؤها فخاصموها إلى عليٍّ رضي الله عنه، فأجاز النكاح. وفي هذا دليل على أنَّ المرأة إذا زوّجت نفسها أو أمرت غير الوليِّ أن يزوّجها فزوّجها جاز النكاح"1 اهـ.

وهذا الأثر: رواه أيضاً عبد الرزاق، والدارقطني، والبيهقي، وابن حزم، وغيرهم بنحوه2.

وقدأجاب البيهقي- رحمه الله عن هذا الأثر بأنَّه مختلف في - إسناده ومتنه، ومخالف لما صحّ عن عليٍّ رضي الله عنه في اشتراط الولاية في النكاح.

قال البيهقي: "وقد روى عن أبي قيس3 الأودي، عمَّن أخبره، عن

1 المبسوط (5/10) .

2 تخريجه:

ا- مصنف عبد الرزاق (6/ 196-197) نكاح، باب النكاح بغير وليّ.

2-

الدارقطني (3/ 323-324) آخر كتاب النكاح.

3-

البيهقي (7/ 112) ، نكاح، باب لا نكاح إلا بوليٍّ من طريق سعيد بن منصور.

4-

ابن حزم (9/ 454-455) .

3 هو: عبد الرحمن بن ثَرْوان- بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة- أبو قيس الأودي، الكوفي، صدوق، ربّما خالف، مات سنة عشرين ومائة. روى له البخاري والأربعة.

انظر: التقريب (1/ 475) ، وتهذيب التهذيب (6/ 152-153) ، ميزان الاعتدال (2/ 553) ، الجرح والتعديل (5/ 218) .

ص: 211

عليٍّ رضى الله عنه أنَّه أجاز نكاح امرأة زوجتها أمُّها برضى منها"1 وقد قيل عن الشيباني2 عن أبي قيس الأودي أنَّ امرأة من عائذ الله يقال لها "سلمة" زوَّجتها أمُّها وأهلها، فرفع ذلك إلى عليٍّ رضي الله عنه فقال: "أليس قد دخل بها، فالنِّكاح جائز"3.

ورواه الشيبانى: عن بحريَّة بنت هانىء بنت قبيصة أنّها زوَّجت نفسها بالقعقاع4 بن شور، وبات عندها ليلة، وجاء أبوها فاستعدى علياًّ رضي الله عنه فقال: أدخلت بها؟ قال: نعم، فأجاز النِّكاح"5.

1 السنن للبيهقي (7/ 112) .

2 هو: سليمان بن أبي سليمان، أبو إسحاق الشيباني، الكوفي، ثقة، مات فى حدود مائة وأربعين تقريباً. روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (1/ 325) ، وتهذيب التهذيب (4/ 197-198) .

3 السنن للبيهقي (7/112) .

4 القعقاع بن شور- بالشين المعجمة، وفي بعض النسخ بالمهملة، وفي بعضها بالثاء المثلثة- والأول هو الموافق لما في ميزان الاعتدال (3/ 392) ، والجرح والتعديل (7/ 137) ، إلا أنني لا أجزم بأنه هو المقصود بما هنا وإن كان لا يوجد غيره في المصدرين المذكورين، وكلام صاحب التعليق المغني على الدارقطني يدل على أنّه هو المقصود كما في (3/ 324حاشية) .

5 السنن للبيهقي (7/112) .

ص: 212

ثم قال البيهقي: "وهذا الأثر مختلف فى إسناده ومتنه، ومداره على أبي قيس الأودي، وهو مختلف في عدالته، وبحريَّة مجهولة، واشتراط الدُّخول في تصحيح النِّكاح إن كان ثابتاً، والدُّخول لايبيح الحرام، والإسناد الأول1 في اشتراط الوليِّ إسناد صحيح، فالاعتماد عليه وبالله التوفيق"2 اهـ.

وقد تعقّبه ابن التركماني بنفي الاختلاف فى عدالة أبي قيس الأودي، وبأنَّ هذا الأثر قد روى من وجوه يشدُّ بعضها بعضاً3.

فأمَّا الاختلاف في عدالة أبي قيس الأودي، فهو كما قال البيهقي كما روى عن الإمام أحمد، وأبي حاتم4.

وأمَّا تعدُّد طرقه فهو كما قال ابن التركماني، إلأ أنَّها واقعة عين لا يعلم حقيقة وقوعها؛ ففي بعض الروايات أنها زوّجت نفسها5، وفي

1 هذا إشارة إلى ما رواه عن علي رضي الله عنه في اشتراط الولاية في النكاح قبل هذا الأثر (7/ 111 سنن البيهقى) .

2 السنن للبيهقى (7/ 112) .

3 الجوهر النقي (7/112 مع البيهقي) .

4 انظر: الجرح والتعديل (5/ 218) ، وميزان الاعتدال (2/553) ، وتهذيب التهذيب (6/ 153) . ِِِِِِِِِ

5 الدارقطني (3/ 323 مكرر) ، البيهقي (7/ 12 1) ، أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 411-412) .

ص: 213

بعضها زوّجتها أمُّها1، وفي بعضها زوَّجها خالها2، وفي بعضها زوجتها أمُّها وخالها3، وفي بعضها زوجتها أمُّها وأهلها4، وأمَّا أبوها فكان غائباً، وكان نصرانيّاً5 فزوّجها وهو كذلك- أي نصرانيّا- فقيل لها: إنَّه لا ولاية له عليك، فزوَّجت نفسها أوزوَّجها من زوَّجها من أهلها غير الزوج الذي زوَّجها به أبوها، فتحاكما إلى علي فأجاز نكاحها، ولذلك قال الإمام أحمد:(إنّما جعل-[أي علي]- الأمر إليها؛ لأنّ الأب نصرانيّ لا يجوز حكمه فيها، فردَّ الأمر إليها، ولا بد أن يجدَّد هذا النِّكاح الأخير إذا رضيت، وإنّما صيّر لها الأمر بالرضى ولا يجوز أن تزوِّج نفسها إلا بوليٍّ، وعليٌّ حينئذ السلطان، فأجاز ذلك وليُّها)6. والله أعلم.

3-

وأمَّا ما روى عن ابن عمر- رضي الله عنهما فلم أجد من نصّ على ذكره منهم ليتَّضح مرادهم به.

1 الدارقطني (3/ 324) ، البيهقي (7/ 112) .

2 البيهقي (7/ 112) .

3 مصنف عبد الرزاق (6/ 197) .

4 البيهقي (7/ 112) .

5 الدارقطني (3/ 323-324) ، وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 1 41- 412) .

6 ظاهر سياق هذا الكلام أنه كلّه من جواب الإمام أحمد، فقبله قوله: قال حنبل: قال أبو عبد الله: إنَّما جعل الأمر إليها لأن الأب نصراني.. الخ (2/ 412 أحكام أهل الذمة) ولكن ربَّما يحتمل أنّ بعض هذا الجواب من كلام ابن القيم رحمه الله، والله أعلم.

ص: 214

ولعلَّ أقرب ما يستدلُّ لهم به عن ابن عمررضي الله عنهما- فيما يظهر لي- ما أخرجه الدارقطني بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إذا كان وليّ المرأة مضارًّا لها، فولّت رجلاً فأنكحها فنكاحه جائز"1. وفي إسناده: "ابن لهيعة" وفيه مقال مشهورللمحدّثين2.

وهو أيضًا خاص بمن ضارَّها وليُّها، والمرأة التي ضارَّها وليُّها فلم ينكحها تكون كمن لا وليَّ لها، فإذا ولّت أمرها رجلاً من المسلمين فأنكحها فهذا ما في استطاعتها، وليس كلُّ امرأة تستطيع المرافعة إلى الحاكم، وهذا محلُّ نظر واجتهاد للضرورة، بخلاف من كان لها وليٌّ يفترض فيه وُفُورَ شفقته، وشدّة حرصه على ما هو أصلح لوليّته. والله أعلم.

4-

وأمّا ما روى عن عائشة رضي الله عنها، فقد أخرجه مالك في الموطأ وغيره: عن عبد الرحمن3 بن القاسم، عن أبيه، أنَّ عائشة -

1 الدارقطني (3/ 324 مع التعليق المغني) .

2 هو: عبد الله بن لهيعة -بفتح اللام وكسر الهاء- ابن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري القاضي، صدوق خلط بعد احتراق كتبه، مات سنة أربع وسبعين ومائة، روى له مسلم مقرونًا بغيره، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

انظر: التقريب (1/ 444) ، وتهذيب التهذيب (5/373-379) ، وميزان الاعتدال (2/ 475-483) .

3 هو: عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. تقدمت ترجمته (ص 147) .

ص: 215

زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم زوَّجت حفصة1 بنت عبد الرحمن، المنذر2 بن الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام، فلمَّا قدم عبد الرحمن قال: ومثلي يصنع هذا به، ومثلي يفتات عليه، فكلّمت عائشة المنذر بن الزبير فقال المنذر: ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أردُّ أمراً قضيتِه، فقرَّت حفصة عند عبد الرحمن ولم يكن ذلك طلاقاً".

فهذا الأثر مشهور عن عائشة رضي الله عنها، وقد رواه مالك في الموطأ- بهذا اللفظ- ورواه أيضاً الطحاوي والبيهقي3.

وقد استدلّ الحنفيَّة بهذا الأثر على أنّ مذهب عائشة رضي الله عنها صحة النِّكاح بدون ولى، وبناء عليه ضعّفوا أو أوَّلوا ما جاء عنها مرفوعاً أو موقوفاً ممَّا يستدلُّ به على اشتراط الولاية في النِّكاح. ولقد سبقت الإجابة بالتفصيل عن استدلالهم بهذا الأثر في مبحث الاعتراضات على حديثها المرفوع "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل"

1 هي: حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

انظر ترجمتها في: التقريب (2/ 594) ، وتهذيب التهذيب (12/ 410) .

2 هو: المنذر بن الزبير العوام. انظر شرح الزرقاني على الموطأ (3/ 172) .

3 تخريجه:

1-

مالك: (3/ 172 مع شرح الزرقاني) الطلاق، ما لا يبين من التمليك.

2-

الطحاوي: شرح معاني الآثار (3/ 8) نكاح، باب النكاح بغير وليٍّ عصبة.

3-

البيهقي: (7/ 112) نكاح، آخر باب "لا نكاح إلا بوليٍّ".

وانظر: المطالب العالية لابن حجر (3/ 17) ، (وقد عزاه لمسدد) .

ص: 216

الحديث.

وخلاصته: أنّ الحجَّة فيما رواه الرَّاوي لا فيما رآه مجتهداً متأوِّلاً، وأنَّ قصة تزويجها ابنة أخيها محمولة على تمهيدها أسباب النكاح لا عقده، وإنَّما أنكح غيرها من أوليائها كما قاله البيهقي والقرطبي وغيرهما1. ويؤيِّد هذا المعنى ما رواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة تخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد فإذا بقيت عقدة النِّكاح قالت لبعض أهلها:"زوِّج فإنّ المرأة لا تلي عقدة النِّكاح"2.

فرواية عبد الرحمن ابن القاسم هذه عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها مفسّرة لما رواه عنها في قصة تزويجها ابنة أخيها جمعاً بين الأثرين ولموافقته لروايتها المرفوعة. والله أعلم.

5-

واستدلَّ لهم ابن حزم بما روى أنَّ أمامة بنت3 أبي العاص بن الربيع- وأمُّها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها معاوية بعد قتل عليٍّ

1 انظر ما تقدم (ص 126) . وانظر أيضاً: مختصر المزني (ص 166) ، وفتح الباري (9/186) ، وشرح الزرقاني (3/172) .

2 تقدم تخريجه (ص 147-148) .

3 هي: أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، العبشمية، وأمُّها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

انظر ترجمتها في: طبقات ابن سعد (8/ 39-40) والاستيعاب لابن عبد البر (4/ 244-247) ، والإصابة لابن حجر (4/ 236-237) .

ص: 217

رضي الله عنه، وكانت تحت عليٍّ1، فدعت بالمغيرة بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب فجعلت أمرها إليه، فأنكحها نفسه، فغضب مروان2 وكتب بذلك إلى معاوية، فكتب إليه أن دعه وإيّاها"3.

وهذا الأثر قد أورده ابن سعد في الطبقات، وابن عبد البر في الاستيعاب، وابن حجر في الإصابة، كلُّهم في ترجمة "أمامة بنت أبي العاصي ابن الربيع" ورواه أيضاً عبد الرزاق في مصنّفه4.

وكلُّ طرقه إمَّا واهية، وإمَّا ضعيفة5. ومع هذا فإنّ رائحة التشيّع تفوح منه.

وخلاصته: أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال لأمامة: إنِّي لا آمن أن يخطبك معاوية، فإن كانت لك بالرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيراً، فلما مات عليّ رضي الله عنه

1 أي بعد فاطمة رضي الله عنها. قاله عبد الرزاق (6/201) .

2 هو: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، كتب لعثمان رضي الله عنه، وولي إمرة المدينة أيام معاوية، وبويع بالخلافة له بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية آخر سنة أربع وستين. ومات في رمضان سنة خمس وستين.

انظر: تهذيب التهذيب (10/ 91-92) ، والتقريب (2/ 238-239) .

3 المحلى لابن حزم (9/ 455) .

4 انظر ترجمتها (التعليق رقم (3) من الصفحة السابقة) ، وكذلك مصنف عبد الرزاق (6/ 201) .

5 انظر: الإصابة (4/ 237) .

ص: 218

وانقضت عدَّتها أرسل معاوية إلى عامله على المدينة (مروان بن الحكم) أن يخطبها له، ويبذل لها كذا من المال، فأرسلت إلى المغيرة بن نوفل تخبره بخطبة معاوية لها، وتطلب منه إن كانت له بها حاجة أن يقبل إليها، فجاء فخطبها من الحسن بن علي رضي الله عنهما. وفي بعض الروايات أنّها جعلت أمرها إلى المغيرة فزوجها نفسه، فغضب مروان وكتب إلى معاوية يخبره بذلك، فقال: دعه وإيّاها. فلو صحّ شيء من هذا الخبر لم يكن هذا نكاحًا بدون وليٍّ؛ لأنَّ كلاًّ من الحسن بن عليّ والمغيرة بن نوفل عصبة لها، وليس في الخبر ما يدلُّ على حضور أحد من أوليائها ممن هو أولى منهما، اللهم إلا مروان بن الحكم1 فإنه يلتقي معها في جدها (عبد شمس بن عبد مناف) ، بينما يلتقي الحسن والمغيرة معها بعده في (عبد مناف) . ولكن الوليَّ إذا عضل سقطت ولايته وإن كان سلطانًا، وتوقُّع العضل منه متحقِّق كما هو ظاهر هذه القِصَّة. ويظهر من هذه القِصَّة أيضاً أنَّ غضب مروان وكتابته لمعاوية رضي الله عنه بذلك، ثم إقرار معاوية رضي الله عنه لهذا النكاح لم يكن من أجل أنّه نكاح بدون وليٍّ، وإنّما لتفويتها نفسها على معاوية، وعدم تمكّن مروان من تحقيق رغبة الخليفة في الزِّواج بها، وهذا ظاهرمن هذه القِصة. والله أعلم بصحَّتها وحقيقة ما وقع منها.

1 وكذلك معاوية رضي الله عنه، فإنّه يلتقي معها مثل مروان بن الحكم في (عبد شمس) ، إلاّ أنّه قد فوَّض الأمر هنا إلى مروان.

انظر ترجمة معاوية رضي الله عنه، في: تهذيب التهذيب (10/ 207) .

ص: 219

6-

وذكر ابن حزم أنَّ مما استدلَّ به هذا الفريق: نكاح أبي طلحة أمَّ سليم على الإسلام فقط، أنكحها إيّاه أنس بن مالك وهو صغير دون عشرسنين1.

وهذا الأثر رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي على ذلك2.

وأخرجه البيهقي من طريق الحاكم، وقال: أنس بن مالك ابنها وعصبتها فإنّه: أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام، من بني عديِّ ابن النَّجَّار3.

وأمّ سليم هي: ابنة ملحان بن خالد بن زيد4والله أعلم". انتهى5.

وقال ابن حجرفي الإصابة:"روينا في مسندأحمد بعلوٍّ في الغيلانيات6

1 المحلى لابن حزم (9/ 458) .

2 مستدرك الحاكم (2/ 179) عن أنس رضي الله عنه بمعناه، وبدون ذكر لصغره ولا لتحديد كم عمره؟.

3 انظر ترجمة أنس بن مالك في: الاستيعاب لابن عبد البروالإصابة لابن حجر (1/ 71-73) .

4 انظر ترجمة أم سليم في: الاستيعاب لابن عبد البرّ (4/ 455-456) ، والإصابة لابن حجر (4/ 461-462) .

5 سنن البيهقي (7/ 132) .

6 هي مجموعة أجزاء من الأحاديث ذات الإسناد العالي من رواية: أبي طالب، محمد ابن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز، عن أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بالشافعي، فاشتهرت باسم راويها "ابن غيلان" ا. هـ.

انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة (2/1214)، وترجمة ابن غيلان في: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (3/ 265) والأعلام (7/ 246) .

ص: 220

من طريق حماد بن سلمة1، عن ثابت2 وإسماعيل3 ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أنّ أبا طلحة خطب أمَّ سليم-يعني قبل أن يسلم فقالت: يا أبا طلحة! ألست تعلم أنّ إلهك الذي تعبد نبت من الأرض؟، قال: بلى، قالت: أفلا تستحي، تعبد شجرة؟! إن أسلمت فإنِّي لا أريد منك صداقاً غيره. قال: حتى أنظر في أمري، فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فقالت: يا أنس زوِّج أبا طلحة فزوّجها". ولهذا الحديث طرق متعدِّدة"4. انتهى.

ولعلّ الحافظ ابن حجر يقصد بقوله "له طرق متعدِّدة" قِصَّة تزوّجها أبا طلحة على الإسلام؟ فإنّها هي التي لها طرق متعدِّدة، ذكر بعضها في الإصابة، وبعضها ذكره ابن عبد البرِّ في الاستيعاب في ترجمة

1 تقدمت ترجمته (ص 188) .

2 هو: "البُناني"- تقدمت ترجمته (ص 188) .

3 هو: إسماعيل بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، أخو إسحاق صدوق، من (الطبقة) الرابعة، روى له النسائي في سننه.

كذا في التقريب (1/ 71)، وانظر: تهذيب التهذيب (1/310) .

4 الإصابة (4/ 461) .

ص: 221

كلٍّ من أبي طلحة وأمّ سُليم رضي الله عنهما1. والله أعلم.

وقد أجاب ابن حزم عن هذا الخبر بأنّه منسوخ بحديث "لا نكاح إلا بوليّ" كغيره من الأخبار التي بمعناه 2.

والذي يظهر لي من تأمّل قِصَّة تزوّج أبي طلحة بأمّ سليم رضي الله عنها ما يلي:

أوّلاً: أنّه قد صحّ عن أنس رضي الله عنه أنّه قال: قدم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن عشر سنين، وأنَّ أمَّه أمّ سليم أتت به النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمّا قدم فقالت له: هذا أنس غلام يخدمك، فقبله"3.

ثانياً: أنَّ أبا طلحة رضي الله عنه خطب أمّ سليم وهو مشرك، فقالت له: يا أبا طلحة ما مثلك يردّ ولكنّك امرؤ كافر وأنا مسلمة لا تحلّ لي، فإن تسلم فذاك مهري، فأسلم، فكان ذاك مهرها"4. وقد شهد أبو طلحة رضي الله عنه بدرًا مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم5.

1 تقدَّمت الإشارة إلى موضع ترجمة أمّ سُليم قريباً، وأمَّا ترجمة أبي طلحة الأنصاري. فانظر: الاستيعاب لابن عبد البر (1/549-551) ، والإصابة لابن حجر (1/566-567)، واسمه: زيد بن سهل بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عمر بن مالك بن النَّجَّار، الأنصاري الخزرجي، مشهور بكنيته.

2 المحلى لابن حزم (9/458) .

3 الإصابة (1/ 71) .

4 الإصابة (1/567) ، وانظر (4/461 منها) .

5 انظر: الاستيعاب (1/549) ، الإصابة (1/567) ، تهذيب التهذيب (3/ 414) ، التقريب (1/275) .

ص: 222

وقيل: إنّه شهد العقبة1.

فيكون زواج أبي طلحة بأمّ سليم إمَّا قبل الهجرة بقليل، أو بعدها بقليل، كما عليه الأكثر أنّه شهد بدرًا مسلمًا، فيتَّجه قول ابن حزم إنَّ هذا الخبر منسوخ كغيره من الآثار التي بمعناه بحديث "لا نكاح إلا بوليٍّ".

وإمّا أن يقال: إنّه نكاح بوليٍّ، وفيه صحّة عقد الصبيِّ المميّز،

وأنس قد بلغ ذلك على كلا التقديرين في إسلام أبي طلحة رضي الله عنه، كما أنّه لا يعقل مخاطبة غير مميِّز بعقد النِّكاح، هذا إذا سلّمنا أنّ أنسًا كان صغيراً إذ ذاك، وإلاّ فقد ذكر ابن حجر في الإصابة من طريق ابن سعد ما يدلّ على بلوغه، وذلك أنَّ أمّ سليم كانت تقول: لا أتزوّج حتى يبلغ أنس ويجلس في المجالس فيقول: جزى الله أمِّي عني خيراً لقد أحسنت ولايتي، فقال لها أبو طلحة: فقد جلس أنس وتكلّم فتزوَّجها"2.

فإن صحَّت هذه الرواية فقد ارتفع الإشكال جملة، فهو ابنها وعصبتها، وهو وليّها بالعصوبة اتفاقاً، أو بالبنوّة عند الجمهور. والله أعلم.-

د- الدليل العقلي.

وأمّا دليلهم (أي من لم يشترط الولاية في النِّكاح) من المعقول فقالوا:

1 انظر: الإصابة (1/567) ، وتهذيب التهذيب (3/ 4 41) .

2 الإصابة (4/461)، وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/426) .

ص: 223

إنَّ تزويج المرأة الحرَّة المكلَّفة نفسها هو تصرّف في خالص حقٍّها، وهي من أهله، ولم تلحق الضّرر بغيرها، فيصحّ تصرّفها في نفسها، كما يصحّ تصرّفها في مالها؛ لأنّها قد بلغت عن عقل وحرِّيَّة.

فبالعقل: قد زال العجز حقيقة، وقدرت على التصرّف لنفسها؛ فتزول ولاية غيرها عنها.

وبالحرِّيَّة: لا يكون لغيرها عليها ولاية؛ للمنافاة بين الحرِّيَّة والولاية عليها.

وقالوا: إنَّ ممَّا يدلُّ على صحَّة هذا الاستدلال ما يلي:

1-

أن لها اختيار الأزواج، والتفاوت في حقِّ الأغراض إنَّما يقع باختيار الزوج، لا بمباشرة العقد.

2-

صحَّة إقرارها على نفسها بالنِّكاح، ولو كانت بمنزلة الصغيرة ما صحّ إقرارها به.

3-

اعتبار رضاها في مباشرة الوليِّ عقد نكاحها، ولو كانت بمنزلة الصغيرة لما اعتبر رضاها.

4-

أنَّ لها أن تطالب الوليَّ بالنِّكاح، ويجبر الوليُّ على الإيفاء، ولو كانت كالصغيرة ما وجب الإيفاء بطلبها1.

1 انظر في هذا المعنى: المبسوط (5/12-13) ، بدائع الصنائع (3/1367) ، أحكام القرآن للجصاص (1/402) ، وانظر المناظرة في هذا مع الشافعي (الأم (5/169) .

ص: 224

قال ابن الهمام: فثبت مع المنقول الوجه المعنويّ، وهو أنّها تصرّفت في خالص حقِّها، وهو نفسها، وهي من أهله، فيجب تصحيحه مع كونه خلاف الأولى. ا. هـ1.

وهذا الاستدلال المعنوي مبنيّ على الخلاف في تقرير "مناط علّة الولاية في النِّكاح"، أهو الأنوثة، كما يقوله الجمهور؟ أم إنّما هو العجز خاصة لصغر، أو رقّ، أو جنون، ونحوه، كما يقوله الحنفيَّة؟ فعلى قول الجمهور: فلا تلي المرأة النِّكاح لنفسها ولا لغيرها.

وأمَّا على قول الحنفيّة: فيستوي كلّ من الرجل والمرأة في إنكاح كلٍّ منهما نفسه إن لم يقم به مانع من أهلية التصرف كصغر، أو جنون، أو رقّ، إلاّ أنّه في المرأة خلاف الأولى.

وعلى هذا: فالحجّة فيما سبق من الأدلَّة النقليَّة، وإذا ثبت النّص فلا قياس معه، وأمّا عند عدم ثبوته أو ظهور دلالته فلا يعدم كلٌّ من الفريقين وجهة عقليّة لتقرير مذهبه، سواء في التفريق بين المرأة والرجل في النِّكاح، أم في التسوية بينهما، حتى وإن كان خلاف الأولى في المرأة.

وأمَّا ما استدلّوا به على تأييد دليلهم العقلي: فهو بعد التسليم بصحّة ما سبق ذكره، فلا يسلّم لهم ذلك هنا؛ فإنَّ اختيارها للأزواج لا تستبدُّ به عن وليِّها، بل الغالب أنَّ وليَّها هو الذي يختار لها، ثم ترى رأيها في صلاحيته لها، أو عدم صلاحيته، وعلى كلٍّ فهو شركة بينها وبين

1 فتح القدير (3/260) .

ص: 225

وليِّها، ولو اختارت رجلاً زوجًا لها ورأى وليُّها أنّه لا يصلح لمثلها فإنّه يمنعها منه ولا يجبر على إنكاحها إيّاه، كما قرّره الحنفيّة أنفسهم في نقص الكفاءة.

وأمَّا إقرارها بالنِّكاح: فإنّه لا ينعقد به النِّكاح، وإنَّما يكشف عن صحَّة نكاح سابق، والحاجة داعية إليه؛ إذ لو لم يقبل إقرارها وتزوَّجها رجل آخر لكانت زوجة لرجلين، وهذا فيه ضرر وفساد كبير.

وأمَّا اعتبار رضاها في مباشرة وليِّها نكاحها: فإنَّ ولاية الوليّ عليها ثابتة شرعًا، ولا تتوقف على رضاها؛ ولذلك فإنّه لا ينعزل بعزلها كما ينعزل الوكيل بعزل موكله له، وإنّما حقُّها في معرفة الوليِّ لرضاها بالزَّوج وبالنِّكاح، وهذا دليل على أنَّ ولاية الوليِّ ولاية نظر ومصلحة لها وتكريم، لا ولاية إذلال أو انتقاص من حقِّها. ومثل ذلك إثبات حقِّها في مطالبة وليِّها بإنكاحها وإجباره على إجابتها إن لم يكن هناك عذر شرعيّ لامتناعه. والله أعلم.

ص: 226

المذهب الثَّالث: التفصيل بين الكفء وغيره:

وأمّا المذهب الثَّالث في الولاية على المرأة الحرَّة المكلّفة فهو التفصيل في ذلك باعتباركفاءة الزَّوج أو عدم كفاءته.

فإن كان الزَّوج كفؤًا لها صحّ عقدها نكاح نفسها ونفذ، وإن لم يكن الزَّوج كفؤًا لها فالنّكاح غير صحيح أصلاً.

وهذا القول: هو رواية الحسن اللؤلؤي عن أبي حنيفة رحمه الله. وقد اختيرت هذه الرواية للفتوى1.

وهي أيضاً رواية عن أبي يوسف رحمه الله قيل برجوعه عنها، إمَّا إلى الصِّحَّة مطلقًا من الكفء وغيره كما في ظاهر الرواية، وإمَّا إلى القول بعدم الصِّحَّة إلا بوليٍّ كما حكاه عنه الطحاوي والكرخيّ2.

توجيه هذه الرِّواية:

وتوجيه هذه الرِّواية عن أبي حنيفة رحمه الله والتي قد اختيرت للفتوى- هوسدُّ باب التزويج على المرأة من غيركفئها احتياطاً للأولياء ودفعًا للضرر عنهم؛ لأنَّه- كما قالوا- كم من واقع لا يرفع! وليس كلُّ وليٍّ يحسن المرافعة والخصومة، ولا كلُّ قاض يعدل، ولو أحسن الوليُّ

1 فتح القدير (3/255)، وانظر أيضاً: المبسوط (5/10) ، وتبيين الحقائق (2/117) ، والبحر الرائق (3/118) .

2 فتح القدير (3/256)، وشرح معاني الآثار للطحاوي (3/113) . وانظر أيضاً: المبسوط (5/10) ، وتبين الحقائق (2/117) ، البحر الرائق (3/117) .

ص: 227

وعدل القاضي فقد يترك أنفة للتردُّد على أبواب الحكَّام واستثقالاً للخصومات، كما أن الجثوّ بين يدي الحكَّام مذلَّة، فيتقرَّر الضرر، وخاصَّة بعد فساد الزَّمان، فكان الأحوط سدُّ الباب بالقول بعدم الانعقاد أصلاً1

وعدم الصِّحَّة المفتى به في هذه الرواية مقيَّد- كما قال ابن الهمام- بما إذا كان للمرأة أولياء أحياء؛ لأنَّ عدم الصّحَّة المفتى به إنَّما يكون على ما وجهَّت به هذه الرواية دفعًا للضرر عن الأولياء، وأمَّا ما يرجع إلى حقِّها فقد سقط برضاها بغيرالكفء2.

الفرق بين هذه الرواية ورواية ظاهر المذهب:

والفرق بين هذه الرواية- المختارة للفتوى- وبين رواية ظاهر المذهب هو في صحَّة انعقاد إنكاح المرأة نفسها من غير الكفء. وبيان ذلك:

أنَّ الروايتين تتَّفقان على صحّة عقد المرأة نكاح نفسها من الكفء، وأنّه نافذ ولازم، فلا حقَّ للأولياء في الاعتراض عليها.

وتختلفان: في صحَّة عقدها على نفسها من غيركفئها.

ففي ظاهر الرواية هو أيضًا صحيح ونافذ، إلا أنَّه غير لازم؛ بمعنى أنَّ للأولياء حقَّ الاعتراض عليها وفسخ نكاحها إن لم يرضوا بغير الكفء، كما يكون لهم حقُّ الاعتراض عليها إذا زوَّجت نفسها بأقلِّ من مهر مثلها.

1 انظر المبسوط (5/13) ، فتح القدير (3/255) ، البحر الرائق (3/118) .

2 فتح القدير (3/255) .

ص: 228

وأمَّا في هذه الرواية- المختاره للفتوى- فإنَّ عقدها نكاح نفسها من غير كفئها يكون غير صحيح أصلاً.

وعلى هذا قالوا: لو زوَّجت المطلقة ثلاثاً نفسها بغيركفء ودخل بها فإنّها لا تحلّ للأول، وأمّا لو باشر الوليُّ عقد المحلِّل فإنّها تحل للأول، وقالوا: ينبغي أن تحفظ هذه المسألة؛ فإنَّ المحلِّل غالبًا يكون غير كفء1.

وحاصل هذه الرواية: أنَّ الأصل في إنكاح المرأة نفسها صحَّته، وأمَّا بطلانه فيدور مع الكفاءة وجودًا وعدمًا. وهذا في الحقيقة خروج من البحث؛ فللكفاءة مبحث آخر غير مبحث الولاية. والله أعلم.

المذ هب الرَّابع: انعقاده موقوفًا على إجازة الوليِّ:

وأمَّا المذهب الرابع في الولاية على المرأة فهو صحَّة إنكاحها نفسها بدون إذن وليِّها، ولكنه ينعقد موقوفاً على إجازة وليِّها، سواء كان الزوج كفوءاً أم غيركفء.

وهذا القول هو الرواية المشهورة عن محمد بن الحسن رحمه الله2.

وهو أيضاً إحدى الروايات عن أبي يوسف رحمه الله، وقد اقتصر على ذكرها عنه أبو بكر الجصاص وقال: إنّها المشهورة عنه3.

1 فتح القدير (3/256) ، البحر الرائق (3/118) .

2 المبسوط (5/10) وفتح القدير (3/256) .

3 أحكام القران للجصاص (1/401) ، والمبسوط (5/10) ، وفتح القدير (3/256) .

ص: 229

وقد سبق القول برجوع محمد وأبي يوسف إلى رواية ظاهر المذهب، أو إلى عدم الجواز بغير وليٍّ، كما حكاه الطحاويُّ والكرخيُّ عنهما1.

ويتَّفق أبو يوسف ومحمد هنا: على القول بانعقاد النِّكاح موقوفاً على إجازة الوليِّ مطلقا، ً وعلى إجازة الوليِّ أيضًا أوردِّه إن لم يكن الزوج كفؤاً.

ويختلفان في انفساخ العقد من الكفء إن لم يجزه الوليُّ.

أبو يوسف يقول: لا ينفسخ النِّكاح إذا كان الزوج كفؤاً، وإنَّما يجيزه القاضي إذا أبي الوليُّ الإجازة، وإنّما يتمُّ النِّكاح- عنده- حين يجيزه القاضي2.

وأمَّا محمد بن الحسن فيقول: إنَّه ينفسخ إن لم يجزه الوليُّ، وعلى القاضي أن يجدِّد العقد إذا كان الزوج كفؤاً3.

وأمَّا الفرق بين هذه الرواية المشهورة عن محمد بن الحسن وبين مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية فيظهر فيما يترتب على النِّكاح قبل الإجازة أو تجديد القاضي للعقد، فعلى المشهور من مذهب محمد بن الحسن لا يقع على المرأة طلاق ذلك الزوج، ولا إيلاؤه ولا ظهاره، ولو مات أحدهما لم يرثه الآخر.

1 وانظر ما تقدم (ص 155) وما بعدها.

2 أحكام القرآن للجصاص (1/401) ، المبسوط (5/10) ، بدائع الصنائع (3/1364) .

3 المبسوط (5/10) . بدائع الصنائع (3/1364) ،فتح القدير (3/256) .

ص: 230

وأمَّا على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية فكلُّ ذلك يقع، لصحة العقد وترتب أثره عليه.

وعلى ذلك بنوا مسألة: ما إذا طلَّقها ثلاثا قبل أن يجيزه الوليُّ أو يجدِّده الحاكم، فقالوا: يكون هذا ردًا للنكاح على قول محمد؛ فلا يقع عليها طلاقه، وإنَّما يكره له أن يتزوَّجها ثانيًا قبل أن تتزوَّج بزوج آخر؛ وذلك من أجل اختلاف العلماء واشتباه

الأخبار في جواز النِّكاح بغير وليٍّ؛ ولأنَّ ترك نكاح امرأة تحلُّ له خير له من أن ينكح امرأة لا تحلُّ له، ولكن لو تزوَّجها لم يفرَّق بينهما. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية تصحّ التطليقات الثلاث، ولا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره1 الاستدلال لهذا المذهب.

1-

قال الكاساني: احتجَّ محمد رحمه الله بما روي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ن صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أيُّما امرأة تزوَّجت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل 2. ثم قال: "والباطل من التصرفات لا حكم له شرعًا كالبيع الباطل ونحوه" اهـ3.

1 المبسوط (5/15) ، بدائع الصنائع (3/1364) .

2 تقدم تخريجه (ص 112) .

3 بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1365-1366) .

ص: 231

والذي يظهر- والله أعلم- أنَّ هذا الحديث لا يتمُّ به الاستدلال لما ذهب إليه محمد بن الحسن رحمه الله؛ فإنّ العقد الباطل لا يمكن تصحيحه إلاّ بعقد جديد، ومحمد يقول إنَّه ينعقد موقوفاً،- كما سبق تقريره- وكما قال الكاساني نفسه قبل هذا في التفريق بين مذهب الشافعي ومحمد حيث قال: إنَّ محمداً يقول: ينعقد النِّكاح بعبارتها وينفذ بإذن الوليِّ وإجازته، وينعقد بعبارة الوليِّ وينفذ بإذنها وإجازتها.

وعند الشافعي: لا عبارة للنساء في باب النِّكاح أصلاً. اهـ1.

وإنَّما يمكن أن يستدلَّ بهذا الحديث لما ذهب إليه محمد بن الحسن بأن يقال: إنَّ مفهومه يدلُّ على صحَّة إنكاح المرأة نفسها بإذن وليِّها، فيقاس الإذن بعد العقد على صحة الإذن قبله، فلا فرق بين أن يكون الإذن سابقاً للعقد أو لاحقًا له.

ولكن يعكِّر على هذا الاستدلال أنَّه مبنيٌّ على القول بمفهوم المخالفة والحنفيَّة لا يقولون به.

وهذا أيضًا إذا سلَّمنا أنَّ له مفهومًا وإلاّ فقد تقدَّم القول بمنعه2 وسيأتي أيضاً خلاصة الجواب عنه في مذهب أبي ثور الآتي3 والله أعلم.

2-

ويمكن أيضاً أن يستدلَّ لمحمد بما ذكره السَّرَخْسِي في (المبسوط)

1 نفس المصدر (3/1365) .

2 انظر ما تقدم ص 127 وما بعدها.

3 انظر مذهب أبي ثور الآتي ص 235.

ص: 232

عن عليٍّ رضي الله عنه: "أنَّ امرأة زوَّجت ابنتها برضاها فجاء أولياؤها فخاصموها إلى عليٍّ رضي الله عنه فأجاز النِّكاح"1.

ولكن في الاستدلال به لما ذهب إليه محمد نظر أيضًا؛ فإنَّ إنكاح المرأة نفسها يبطل على رأيه إن لم يجزه الوليُّ، وهنا لم تكن إجازة بل خصام ومحاكمة. وإنَّما يمكن أن يستدلَّ به لأبي يوسف على قوله هذا إن كان الزوج كفؤاً، وإن لم يكن كفؤاً فلا دليل لهما فيه، لهذين القولين. والله أعلم.

3-

وأقرب ما يستدلُّ به لما ذهب إليه محمد رحمه الله الخبر المشهور الذي رواه مالك وغيره، عن عائشة رضي الله عنها:"أنّها زوَّجت أبنة أخيها حفصة بنت عبد الرحمن المنذر بن الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام فلمَّا قدم عبد الرحمن قال: ومثلي يصنع به هذا ويفتات عليه؟ فكلَّمت عائشة المنذر بن الزبير فقال المنذر: ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أردُّ أمراً قضيتِه، فقرَّت حفصة عند المنذر ولم يكن ذلك طلاقاً" رواه الإمام مالك وغيره وتقدم تخريجه2.

فإنَّ ظاهر هذا الخبر أنَّ عائشة رضي الله عنها هي التي عقدت النِّكاح فأجازه عبد الرحمن.

1 المبسوط (5/10) وتقدم تخريجه ص 211.

2 انظر تخريجه المتقدم ص 215- 216.

ص: 233

وقد سبقت الإجابة1 عن هذا بأنَّ المقصود بتزويج عائشة ابنة أخيها "تمهيد النِّكاح وتقرير المهر وأحوال النِّكاح، وأنَّ الذي تولىَّ العقد حقيقة إنَّما هو بعض عصبتها، ونسب التزويج إليها لمَّا كان تقريره إليها؛ بدليل ما روى عنها "أنّها كانت تخطب إليها الجارية من أهلها فإذا بقيت عقدة النِّكاح قالت لبعض أهلها: زوِّج فإن النساء لا ينكحن"2.

وهذا هو الموافق لروايتها المرفوعة أنَّ إنكاح المرأة نفسها باطل، وإذا بطل تزويجها نفسها فتزويجها غيرها أولى بالبطلان. واللة أعلم.

4-

واستُدلَّ له من جهة المعقول: بأنَّ للوليِّ حقًا في النِّكاح؛ بدليل ثبوت حقِّ الاعتراض له أو الفسخ، ومن لا حقَّ له في عقد فلا يملك فسخه، والتصرف في حقِّ إنسان إنَّما يقف جوازه على إجازته، كالأمة إذا زوَّجت نفسها بغير إذن سيِّدها3. والله أعلم.

المذهب الخامس: صحته بإذن وليِّها.

وأمّا المذهب الخامس: فهو التفريق بين من أذن لها وليُّها في إنكاح نفسها وبين من لم يأذن لها. فإن أذن لها وليُّها صحّ تولّيها عقد نكاحها. وإن لم يأذن لها فلا يصحّ.

1 انظر ما تقدم ص 126.

2 انظر تخريجه المتقدم ص 147-148.

3 بدائع الصنائع للكاساني (3/1366) . وانظر المناظرة في هذا المذهب مع الشافعي في الأم (5/169-170) . وجواب ابن حزم عنه في المحلى (9/456) .

ص: 234

وهذا هو مذهب أبي ثور رحمه الله1.

والفرق بين مذهب أبي ثور ومذهب محمد بن الحسن رحمهما الله: هو أنَّ أبا ثور رحمه الله يشترط لصحَّة تولِّي المرأة نكاحها أن يسبقه إذن لها من الوليِّ فلو عقدت بدون إذنه لم يصحّ عقدها ولو لحقه الإذن بعد ذلك.

1 انظر في هذا المذهب: شرح النووي (9/205) ، فتح الباري (9/187) سبل السلام (3/118) ، نيل الأوطار (6/136) .

وهذا هو المذهب المشهور عن أبي ثور رحمه الله. وقد عزا إليه ابن حزم غير هذا فقال: قال أبو ثور لا يجوز أن تزوِّج المرأة نفسها ولا أن تزوّج امرأة ولكن إذا زوَّجها رجل مسلم جاز "المؤمنون إخوة"، "بعضهم أولياء بعض"(المحلى (9/455) .

ثم ردَّ عليه بحديث: "فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ من لا وليّ له". انظر (9/456-457)

إلا أنَّ المشهور بين العلماء ما تقدم تقريره. إلا أن يقصد ابن حزم: أنَّها لا تباشر النكاح بنفسها إذا أذن لها وليُّها وإنما توكّل رجلاً فينكحها كما يقوله مالك في نكاح الدنيئة.

وكما يقوله أيضاً داود الظاهري في الثيب البالغ فإنه حينئذ يتَّفق قول ابن حزم مع ما حكاه غيره عن أبي ثور رحمه الله. والله أعلم.

واسم (أبي ثور) هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي الإمام الجليل الجامع بين علمي الحديث والفقه، أحد العلماء المجتهدين، والعلماء البارعين، والفقهاء المبرزين، المتفق على إمامته، وجلالته، وتوثيقه، وبراءته. كذا قال النووي في ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات (2/200-201) من القسم الأول وانظر معجم المؤلفين (1/28) ، والأعلام (1/30) .

ص: 235

وأما على المشهور من مذهب محمد بن الحسن- رحمه الله فلا يشترط سبق الإذن، بل تكفى الإجازة بعد وقوعه، فإن أجازه بعد الوقوع جاز، وإن ردَّه انفسخ وبطل، فالإذن عنده أعمُّ من أن يكون سابقًا للعقد أو لاحقًا له.

دليل أبي ثور رحمه الله.

استدلَّ أبو ثور رحمه الله لمذهبه هذا بحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:" أيُّما امرأة نَكَحَت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ من لا وليَّ له"1.

فإنَّ منطوق هذا الحديث يدلُّ على بطلان إنكاح المرأة نفسها بغير إذن وليِّها، ومفهومه يدلُّ على صحَّة إنكاحها نفسها بإذن وليِّها.

وقد سبقت الإجابة2عن هذا المفهوم مستوفاه في مناقشة الاستدلال بهذا الحديث على اشتراط الولاية في النّكاح فلا حاجة لاعادتها، ومن أقواها:

أنَّه لا مفهوم، له لخروجه مخرج الغالب، أو أنّ المقصود بـ"إذن الوليّ": عقده بنفسه، أو عقد وكيله، فيكون المعنى "أيُّما امرأة نكحت بغير إنكاح وليّها-أصالةً أو وكالةً-فنكاحها باطل" كما أشار إليه الصنعاني وغيره. والله أعلم.

1 تقدم تخريجه ص 112.

2 انظر ما تقدم ص 127 وما بعدها.

ص: 236

واستُدلَّ له أيضاً من جهة المعقول: بأنَّ الوليَّ إنّما يراد ليختار كفوءاً؛ لدفع العار وذلك يحصل بإذنه1.

ولكن ماذا لو أنكحت نفسها كفؤاً بدون إذنه؟ أيجيزه أبو ثور رحمه الله أم لا؟

فلو كانت كفاءة الزوج كافية للزمه تصحيحه، وإن كانت غير كافية ما لم يأذن لها قبل العقد علمنا أنَّ الولاية في النِّكاح لا تدور مع الكفاءة وجودًا وعدماً فلم يبق لأبي ثوررحمه الله فيما ذهب إليه غير مفهوم الحديث السابق؛ وقد تقدمت الإجابة عنه بالتفصيل فلتراجع2.والله أعلم.

المذهب السادس: اشتراط الولاية في النِّكاح على البكر دون الثَّيِّب.

وأمَّا المذهب السادس فهو التفريق بين البكر والثَّيِّب، فإن كانت المرأة بكراً فلا نكاح لها إلا بوليٍّ، وإن كانت ثيِّباً صحّ لها أن تولِّي أمر نكاحها رجلاً من المسلمين فيزوِّجها ولا اعتراض لوليِّها عليها.

وهذا مذهب داود الظاهري رحمه الله3.

1 شرح النووي (9/205) .

2 انظر ما تقدم ص (127) وما بعدها.

3 انظر: المحلى (9/457) ، وبداية المجتهد (2/7) ، وشرح النووي (9/ 205) ، وفتح الباري (9/194) ، ونيل الأوطار (6/136) .

ص: 237

وظاهر من هذا المذهب أنَّه لا عبارة للمرأة في النِّكاح، سواء كانت بكراً أم ثيِّباً، ولكن للثيِّب خاصَّة أن تفوّض أمر نكاحها إلى رجل غير وليٍّ فينكحها.

دليل داود الظاهري رحمه الله:

واستدلَّ داود الظاهري رحمه الله لمذهبه هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها".

رواه مسلم وا لأربعة وغيرهم، وتقدم تخريجه1.

فظاهر هذا الحديث التفريق بين البكر والثيِّب في الولاية، حيث جعل الثَّيِّب أحقَّ بنفسها من وليِّها، وذلك بخلاف البكر؛ فإنَّ ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ أمرها بيد من يستأذنها، والله أعلم.

وقد تقدَّمت مناقشة الاستدلال بهذا الحديث في مذهب الحنفية2.

ويكفي للإجابة عمَّا ذهب إليه داود الظاهري، ما قاله ابن حزم رحمه الله حيث قال:"وهذا لو لم يأت غيره لكان كما قال أبوسليمان3،

1 تقدم تخريجه (ص 167) .

2 انظر ما تقدم (ص 169وما بعدها) .

3 هي كنية داود الظاهري، واسمه:(داود بن علي بن خلف) الأصبهاني ثم البغدادي، إمام أهل الظاهر.

انظر ترجمته في: تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/182-184من القسم الأول) والأعلام (3/8) ، ومعجم المؤلفين (4/ 139) .

ص: 238

لكنَّ قوله: "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل" عموم لكلِّ امرأة، ثيِّب أو بكر، وبيان قوله عليه الصلاة والسلام "الثَّيِّب أحقُّ بنفسها من وليِّها" أنَّه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها، ولا تُنكح إلاّ من شاءت، فإذا أرادت النِّكاح لم يجز لها إلاّ بإذن وليِّها، فإن أبى أنكحها السلطان على رغم أنف الوليِّ الآبي". اهـ1.

وحكى النووي عن العلماء قولهم: "ناقض داود مذهبه في شرط الوليّ في البكر دون الثَّيِّب؟ لأنَّه إحداث قول في مسألة مختلف فيها، ولم يُسبق إليه، ومذهبه أنَّه لا يجوز إحداث مثل هذا والله أعلم" ا. هـ2.

المذهب السَّابع: اشتراط الولاية في النِّكاح على الشريفة دون الدَّنيئة:

وأمَّا المذهب السابع: فهو القول بالتفريق بين الدَّنيئة والشريفة، فإن كانت المرأة شريفة فلا يصحّ لها نكاح إلا بوليّ، وإن كانت دنيئة صحّ نكاحها بالولاية العامَّة، فيصحُّ أن تجعل أمرها إلى رجل صالح من المسلمين فيعقد لها، ويصح نكاحها ولوتولَّى الزوج العقد بنفسه.

وهذا القول مشهور عن الإمام مالك رحمه الله3.

1 المحلى (9/457)، وانظر: فتح الباري (9/194) .

2 شرح النووي على مسلم (9/205) .

3 انظر: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (2/226) ، وشرح الخرشي والعدوي (3/ 182) ، ومنح الجليل (2/18-19) وحاشية البناني على الزرقاني (3/176) وشرح الحطاب (3/ 430- 431) .

ص: 239

وهذا إذا وقع العقد، أمَّا القول بصحَّته ابتداء ففيه خلاف عند المالكية1.

شرط القول بهذا المذهب.

لا بدَّ في صحَّة نكاح الدَّنيئة بغير وليٍّ- على هذا المذهب- من شرطين:

أوّلهما: ألاّ يوجد لها وليٌ خاص مجبر، فإن وجد الوليُّ الخاص2 المجبر فلا يصحُّ نكاحها بالولاية العامَّة، ولا بدّ من فسخه حتى ولو أجازه الوليُّ الخاص المجبر بعد ذلك3.

وثانيهما: ألَاّ تتولَّى هي بنفسها عقدة النِّكاح، ولا تتولاّه لها امرأة، بل تستخلف رجلاً من المسلمين فيتولَّى أمر نكاحها، فإن باشرته بنفسها أو امرأة لها فلا يصحُّ ذلك النِّكاح، ويفسخ إن وقع، ففي المدونّة قلت4: أرأيت لو أنَّ امرأة زوَّجت نفسها ولم تستخلف من يزوِّجها بغير أمر الأولياء، وهي ممن الخطب لها، أو هي ممن لا خطب لها؟ قال: قال

1 المصادر السابقة، والفواكه الدواني للنفراوي (2/28) .

2 الوليُّ الخاص: ضد العام، والمجبر: ضد غير المجبر، وذلك كالأب في ابنته البكر.

3 الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (2/226) ، والخرشي والعدوي (3/ 182) ، وبلغة السالك مع الشرح الصغير (1/357) .

4 القائل هنا: هو (سحنون)، والمسؤول: هو (ابن القاسم) ، كما هو معروف في المدونَّة.

ص: 240

مالك: لا يُقرُّ هذا النِّكاح أبدًا على حال، وإن تطاول وولدت منه أولادًا، لأنَّها هي عقدت عقدة النِّكاح فلا يجوز ذلك على حال" اهـ1.

المقصود بالشريفة والدَّنيئة في هذا المذهب.

يعرّف المالكية المرأة الشريفة: بأنَّها ذات القدر والموضع، وكلًّ من يرغب فيها لنسب أو حسب أو مال أو جمال2.

وأمَّا المرأة الدَّنيئة: فهي المرأة التي لا قدر لها ولا خطب، ممن لا يرغب فيها لنسب، ولا حسب، ولا مال، ولا جمال3.

ويمثِّلون لها: بالمرأة السوداء، أو التي أسلمت، أو أعتقت4.

ولكنَّ المحقِّقين منهم يعترضون على هذا الإطلاق ويقولون: إنّ وصف الدناءة لايعمُّ كلَّ امرأة سوداء، كما لايعمُّ جميع من أسلمن، ولا من أُعتقن؛ لأنَّ كلَّ واحدة منهنَّ قد تكون من ذوات الأقدار التي يرغب فيها، وإنَّما المراد بالدنيئة من كان منهنَّ غريبًا غير معروف، ولا مال له، ولا جمال5.

1 المدونّة (2/152)، وانظر: تفسير القرطبي (3/77) ، والكافي لابن عبد البر (1/ 431) .

2 الشرح الكبير مع الدسوقي (2/226) ، والخرشي والعدوي (3/ 182) .

3 المصدرين السابقين.

4 المصدرين السابقين.

5 انظر: الدسوقي مع الشرح الكبير (2/226) ، وحاشية البناني على الزرقاني (3/176) .

ص: 241

كما جاء عن مالك أنَّهم قوم من: القِبْطِ يقدمون من مصر إلى المدينة وهم سود، أي لا كلّ سوداء1 فإن كانت واحدة ممن ذكر عفيفة حيِّية لا ترضى الدناءة فهي شريفة2.

توجيه هذه الرواية عن مالك رحمه الله.

إنَّ الظاهر في توجيه هذه الرواية للإمام مالك رحمه الله: هو النظر منه إلى المصلحة في نكاح من هذا شأنها من النّساء، ويدلّ على ذلك قول الباجي3 في المنتقى:"ووجه رواية الإجازة أنَّ الدَّنيئة يتعذَّر عليها رفع أمرها إلى الحاكم، فلو كلّفت ذلك لأضرَّ بها وتعذَّر نكاحها"4.

وكذلك تعليل بعضهم الجواز بقولهم: (لأنَّ كلَّ واحد كفؤ لها)5.

ومع هذا، فإنَّ هذه التعليلات لا تخلو من نظر، فقول الباجي:

1 انظر: حاشية العدوي على الخرشي (3/ 182) ، وشرح الزرقاني وحاشية البناني (3/176) ، ومنح الجليل (2/18) .

2 انظر: حاشية البناني على الزرقاني (3/176) .

3 هو: القاضي أبو الوليد، سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي الأندلسي المتوفي سنة 494 هـ، وقيل غيرها.

انظر ترجمته في: معجم المؤلفين (4/261) ، والأعلام (3/186) .

4 المنتقى في شرح الموطأ للباجي (3/270) .

5 الكافي لابن عبد البر (1/ 432) ، وتفسير القرطبي (3/76) وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص 223) .

ص: 242

إنّما يتّجه لو لم يكن لها وليّ إلاّ الحاكم، وأمَّا على المشهور من هذه الرواية: وهو أنّه يصحّ لها أن تولّي أمرها من شاءت من المسلمين- حتى

وإن وجد وليُّّها الخاص غير المجبر- فلا يتّحه؛ إذ كيف يتعذَّر عليها رفع أمرها إلى أخيها، أو عمّها من أوليائها الحاضرين، غير المجبرين؟.

وأمَّا تعليلهم بأنَّ كلَّ واحد كفؤ لها، فقد سبق مراراً في هذا البحث القول بأن مسألة الولاية غير مسألة الكفاءة، فإنَّ الكفاءة وإن كانت من أظهر الحكم في اشتراط نصب الوليّ إلاّ أنّ حصر علَّة الولاية فيها لا تخرج عن كونها دعوى، والله أعلم.

وقدحكى القرطبي عن ابن عبد البر قوله: "وأمّا تفريق مالك بين المسكينة والتي لها قدر، فغيرجائز، لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أحكامهم فقال "المسلمون تتكافؤ دماؤهم"1، وإذا كانوا في الدِّماء سواء فهم في غير ذلك شيء واحد"2.

ثم حكى القرطبي أدلّة اشتراط الولاية في النِّكاح، وعقَّب عليها بقوله:"ولم يفرّقوا- أي المشترطين- بين دنيّة الحال وبين الشريفة؛ لإجماع العلماء على أن لا فرق بينهما في الدِّماء لقوله عليه السلام:

1 رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وا بن الجارود، والبيهقي وغيرهم. انظر تخريجه في إرواء الغليل (7/265-266) .

2 القرطبي (3/ 76) .

ص: 243

"المسلمون تتكافؤ دماؤهم" وسائر الأحكام كذلك، وليس في شيء من ذلك فرق بين الرفيع والوضيع". انتهى1.

وقال ابن حزم: "وأمّا قول مالك فظاهر الفساد؟ لأنّه لا فرق بين - الدَّنيئة وغير الدَّنيئة، وما علمنا الدناءة إلاّ معاصي الله تعالى، وأمّا السوداء والمولاة فقد كانت أمُّ أيمن2 رضي الله عنها سوداء ومولاة، ووالله ما بعد أزواجه عليه الصلاة والسلام في هذه الأمّة امرأة أعلى قدرًا عند الله تعالى وعند أهل الإسلام كلِّهم منها.

وأمّا الفقيرة: فما الفقر دناءة، فقد كان في الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- الفقير الذي أهلكه الفقر، وهم أهل الشرف والرفعة حقًّا، وقد كان قارون وفرعون وهامان من الغنى بحيث عرف، وهم أهل الدَّناءة والرَّذالة حقًّا.

1 القرطبي (3/77) .

2 هي: أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم أسامة بن زيد أيضاً، واسمها "بركة بنت ثعلبة".

انظر ترجمتها في: طبقات ابن سعد (8/223-226) ، والاستيعاب لابن عبد البر (4/250-251) ، والإصابة لابن حجر (4/432-434) ، وتهذيب التهذيب (12/ 459) ، وتقريب التهذيب (2/ 619) .

ص: 244

وأمّا النّبطيّة: فربّ نبطيّة لا يطمع فيها كثير من قريش ليسارها وعلو حالها في الدنيا، وربّ بنت خليفة هلكت فاقة وجهدًا وضياعًا10 انتهى المقصود من كلامه.

هذه خلاصة ما روى عن مالك في التفريق بين الدنيئة والشريفة في اشتراط ولاية النِّكاح، وما قيل في الرّد عليها.

والذي يظهر لي- والله أعلم- أنَّ هذه الرواية عن مالك-رحمه الله تحتاج إلى تحقيق في صحّتها، وما يقصد بها قبل تفنيدها، والتَّشنيع على مالك بسببها. والذي يظهر لي فيها- والله أعلم-: أنَّ مالكا إنَّما قصد بها- إن صحّت عنه- امرأة لا مطمع فيها، ولا وليّ لها، مجبراً كان أو غير مجبر إلاّ الحاكم، ولا قدرة لها على رفع أمرها إليه، فإذا كان حالها كذلك فما السبيل إلى نكاحها؟ ومن وليُّها غير ما فعلت من إسناد أمر نكاحها إلى رجل من المسلمين فينكحها؟ وهذه ضرورة لها نظائرها في مذهب الشافعية والحنابلة، ويدلُّ على وجهة النظر هذه مايلي:

1-

ما روى عن مالك في وصف الدنية: أنَّهم قوم من القبط يقدمون من مصر إلى المدينة وهم سود2.

فأمثال هؤلاء غرباء في المدينة، ويغلب على الظّنّ أنَّ المرأة منهم لا وليَّ لها حاضر سواء كان مجبراً أم غير مجبر.

1 المحلى لابن حزم (9/456) .

2 انظر: حاشية العدوي على الخرشي (3/182) .

ص: 245

2-

ما رواه أشهب 1 عن مالك في المدنِيَّة 2 تولِّي رجلاً ينكحها

نهى عن ذلك وقال: "إذا عملت به ضاعت الفروج"3.

3-

أن هذه الرواية- أي التفريق بين الدنيئة والشريفة- مشهورة عن ابن القاسم4 عن مالك، وقد أنكر ابن الماجشون5 رواية ابن القاسم هذه وقال: إنَّما قال مالك ذلك في الأعجميّة تعمد للرّجل فيلي منها ما يلي من مولاته، لا بأس أن يعقد نكاحها بإذنها إذا لم يكن لها وليٌّ) 6.

1 هو: أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي، فقيه الديار المصرية في عصره، وصاحب الإمام مالك، قال الشافعي:"ما أخرجت مصر أفقه من أشهب.".

انظر: الأعلام (1/ 335) ، وترتيب المدارك (3/ 262) .

2 نسبة إلى المدينة النبوية.

3 المنتقى للباجي (3/ 270) .

4 هو: عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي المصري، أبو عبد الله المعروف بابن القاسم، تلميذ الإمام مالك.

انظر ترجمته في: الأعلام (3/97) ، معجم المؤلفين (5/ 165) وترتيب المدارك (3/242) .

5 هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني المالكي (أبو مروان) .

انظر ترجمته في: معجم المؤلفين (6/184) ، الأعلام (4/305) ، ترتيب المدارك (3/136) .

6 المنتقى للباجي (3/270) .

ص: 246

4-

أنّ نصّ رواية ابن القاسم في الواضحة1 إنَّما هي في الدنيئة التي ليس لها ولي بقرابة ولا ولاية فيزوّجها الأجنبي دون الإمام2.والله أعلم.

فهذه أربعة نصوص فيها ما يكفي لبيان المراد بالدَّنيئة عند الإمام مالك، كما ظهر لي، والعلم عند الله تعالى.

خاتمة هذا الفصل وبيان الرَّاجح:

إنّ حكم الولاية في النِّكاح على الحرَّة المكلَّفة هو أهمُّ مسألة في بحثنا هذا- كما قلت سابقًا- ولقد طال وقوفنا عندها، وهي حريّة بذلك، وذلك تبيانًا لأقوال العلماء فيها، وتتبُّع أدلِّتهم وتأمّل دلالتها وصحَّتها ومناقشتها دليلاً دليلاً- كما سبق بيانه- ومن تأمَّلها فلن يخفى عليه- بحمد الله- أرجحها دليلاً، وأحظاها قبولاً عند الأمَّة وهو مذهب الجمهور القائلين باشتراط الولاية في النِّكاح. وقد سبقت أدلُّتهم من الكتاب والسنّة والأثر والمعقول، وتلك هي الحجَّة فيما اخترناه، ولكن زيادة في الإيضاح والبيان نختم هذا المبحث بكلمتين أخيرتين هامَّتين:

الأولى: تتعلَّق بمنشأ الخلاف في هذه المسألة.

1 الواضحة في السنن والفقه: تأليف عبد الملك بن حبيب بن سليمان المتوفى سنة 239 هـ، وهي من أمهات المصادر في الفقه المالكي.

انظر: كتاب البحث العلمي ومصادر الدراسات الاسلامية للدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان (ص 347) ، والأعلام (4/ 302) .

2 المنتقى للباجي (3/270) .

ص: 247

والثَّانية: تتعلّق ببيان قوّة أدلَّة مذهب الجمهور.

فأمَّا منشأ الخلاف في هذه المسألة فهو ضعف أدلَّة الولاية في النِّكاح عند من لم يشترطها، أو تأويلها دفعًا للتعارض بينها وبين أدلَّه أخرى، وهذا بخلاف الأمر عند الجمهور الذين قالوا باشتراط الولاية في النِّكاح، فقد صحَّ عندهم الدليل ودلالته، وقامت الحجّة بالعمل به، ولبيان هذه الحقيقة إليك ذكر ثلاثة نصوص للأئمة تبيِّن مجمل اتجاهاتهم:

أوَّلها: قول ابن رشد في (بداية المجتهد) : وسبب اختلافهم-[أي العلماء]- أنّه لم تأت آية ولا سنّة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النِّكاح، فضلاً عن أن يكون في ذلك نصٌّ، بل الآيات والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلّها محتملة، وكذلك الآيات والسنن التي يحتج بها من يشترط إسقاطها هي أيضاً محتملة في ذلك، والأحاديث مع كونها محتملة في ألفاظها مختلف في صحتها، إلاّ حديث1 ابن عباس، وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل؛ لأنَّ الأصل براءة الذِّمة" اهـ2.

وثانيها: قول الزيلعي صاحب (تبيين الحقائق) : "وقد رووا-[يعني المشترطين للولاية]- في كتبهم أحاديث كثيرة ليس لها صحّة عند أهل

1 هو حديث: "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها.."، وتقدم تخريجه (ص 167) .

2 بداية المجتهد (2/7) .

ص: 248

النقل، حتى قال البخاري وابن معين لم يصحّ في هذا الباب حديث- يعنى على اشتراط الولاية" اهـ1.

وثالثها: قول النووي في شرح مسلم: "واحتج أبو حنيفة بالقياس على البيع وغيره، فإنّهاتستقلُّ فيه بلا وليٍّ، وحمل الأحاديث في اشراط الوليِّ على الأمة والصغيرة، وخصّ عمومها بهذا القياس، وتخصيص العموم بالقياس جائز عند كثير من أهل الأصول" اهـ2.

فهذه ثلاثة نصوص للعلماء، منهم المضعّف لاشتراط الولاية في النِّكاح مخالفاً إمامه كابن رشد المالكي، ومنهم المنتصر لمذهب إمامه كالزيلعي الحنفي صاحب تبيين (الحقائق) ، ومنهم المبيِّن لمذهب من خالفه، كالنووي الشافعي.

ومن أجل ذلك طال وقوفنا عند أدلة هذه المسألة إثباتاً ونفياً وتفصيلاً، بحثا عن صحَّة أسانيدها، ودلالة متونهالمذهب من استدلَّ بها، مستعيناً في كلِّ ذلك بالله عز وجل، ثم بفهم كلِّ ذي فنٍّ في فنّه.

فهذه خلاصة ما أحببت الإشارة إليه في خاتمة هذا الفصل مما يتعلَّق

بمنشأ الخلاف في هذه المسألة، والله المستعان.

1 تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/117) .

2 شرح النووي على مسلم (9/205) .

ص: 249

وأمَّا الكلمة الأخيرة التي تتعلَّق بصحَّة ما سبق ترجيحه وهو مذهب الجمهور فهو:

أنَّ أحاديث اشتراط الولاية في النّكاح قد ثبتت صحَّتها- كما سبق- وظهرت دلالتها مع ما يشهد لها من ظاهر الكتاب العزيز، ومثل تلك الأحاديث لا يمكن أن توصف بعدم الصحَّة مطلقًا، ولا أنَّه ليس فيها ولا في آيات الكتاب العزيز نصٌّ، ولا ظاهر على اشتراط الولاية في النِّكاح، ولا موجب لتأويلها، مع ما يعضدها من الآثار المرويَّة عن الصحابة، وما صحبها من عمل الأمَّة وبيان ذلك ما يلي:

أوَّلاً: أنَّ آيات الكتاب العزيز أظهر في الدّلالة على اشتراط الولاية في النّكاح منها على غيره، فقد جاء الأمر والنهي والحصر خطابًا للأولياء دون النساء.

فالأمر قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُم} 1.

والنهي قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 2.

وقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} 3 على ما سبق بيانه.

1 سورة النور- آية رقم: 32.

2 سورة البقرة- آية رقم: 221.

3 سورة البقرة- آية رقم: 232.

ص: 250

وأمَّا الحصر ففي قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} 1 على ما سبق بيانه من أنَّ الذي بيده عقدة النِّكاح هو الوليّ، ُ الذي بيده إبرامها لا الزَّوج الذي بيده حلّها2.

وليس مع من أسقطها سوى إسناد النّكاح إليهنَّ في بعض الآيات مثل قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه} 3، وقوله:{أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُن} 4، ولا يلزم من هذ الإسناد استقلالهنّ به دون أوليائهنّ، ولا مانع من هذا الإسنادي لتوقُّف عقد النّكاح على رضاهنَّ، فهنّ محلّه وسببه5.

وهذا إذا قلنا: إنَّ النِّكاح حقيقة في العقد، كما هو الأظهر والأشهر في استعمال القرآن الكريم والسنة النبوية.

وأمَّا على القول الآخر وهو أنّه: حقيقة في الوطء، كما يقوله الحنفية المحتجُّون بتلك الآيات على استقلال المرأة بنكاحها، فلا يخفى

1 سورة البقرة آية رقم: 237.

2 راجع وجهة الاستدلال بها والإجابة عنها في أدلة اشتراط الولاية في النكاح من القرآن المتقدِّمة.

3 سورة البقرة- آية رقم:230.

4 سورة البقرة- آية رقم: 232.

5 راجع وجهة الاستدلال بها والإجابة عنها في أدلّة عدم اشتراط الولاية في النكاح من القرآنالمتقدِّمة.

ص: 251

حينئذ حقيقة إسناد النِّكاح إليهنّ، وانتفاء دلالته على صحَّة عقدهن. والله أعلم.

ثانيًا: وأمَّا السُّنَّة النبويّة فهي أظهر وأدلّ على اشتراط الولاية في النِّكاح مما جاء في الكتاب العزيز، بل إنَّها العمدة في ذلك عند كثير ممن اشترطها، وقد سبق بيانها: متنًا وإسنادًا. وحسبنا حديث "لا نكاح إلا بوليّ" الذي صحّ مخرجه، وتواتر معناه، عن جمع من الصحابة.

وليس مع من أسقطها أقوى من حديث "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها" وقد سبق القول أنَّ لكلٍّ منهما حقَّا، فحقُّها الرضى، وحقُّه العقد عليها برضاها، وهذا أولى ما ينبغي أن يجمع به بينه وبين حديث "لا نكاح إلا بوليّ" وما في معناه، كما اختاره كثير من المحقِّقين في هذه المسألة.

فقد قال الشوكاني في (نيل الأوطار) : "والتحقيق أنَّه ليس إلى المكلَّفة إلاّ الرضى"1.

وقال صاحب2 (الروضة النديَّة) : "الأدلّة الدّالّة على اعتبار الوليّ،

1 نيل الأوطار (6/ 141)، وانظر: السيل الجرار للشوكاني أيضًا (3/ 259- 260، 264) .

2 هو: محمد بن صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري

القنوجي أبو الطيب، من رجال النهضة الإسلامية المجددين، صاحب التصانيف الكثيرة في

التفسير، والفقه، والحديث، ولد ونشأ بالهند، وتوفي سنة 1307 هـ.

انظر ترجمته في: الأعلام (7/36-37) ، ومعجم المؤلفين (10/90) .

ص: 252

وأنَّه لا يكون العاقد سواه، وأنَّ العقد من المرأة لنفسها بدون إذن وليِّها باطل قد رويت من طريق جماعة من الصحابة، فيها الصحيح والحسن، وما دونهما، فاعتباره متحتِّم، وعقد غيره مع عدم عضله باطل بنصِّ الحديث، لا فاسد على تسليم أنَّ الفساد واسطة بين الصِّحَّة والبطلان، ولا يعارض هذه الأحاديث حديث "الثيّب أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر تستأذن". ونحوه كحديث "ليس للوليّ مع الثيّب أمر، واليتيمة تستأمر"؛ لأنَّ المراد أنَّها أحقّ بنفسها في تعيين من تريد نكاحه إن كانت ثيِّبًا، والبكر يمنعها الحياء من التعيين فلا بدّ من استئذانها، وليس المراد أنَّ الثَّيِّب تزوِّج نفسها، أو توكِّل من يزوِّجها، مع وجود الوليّ، فعقد النّكاح أمر آخر.

وبهذا تعلم أن لا وجه لما ذهبت إليه الظاهريّة من اعتبار الوليّ في البكر دون الثيّب"1 انتهى المقصود من كلامه.

وأمَّا قول الزيلعي- صاحب (تبيين الحقائق) - أنّ من يشترط الولاية يوردون أحاديث في كتبهم لم تثبت عند أهل النقل، مؤيِّدًا ذلك بما حكاه عن البخاري وابن معين: فإنَّني لم أجد موافقًا له على نسبة هذا القول

1 الروضة النديّة شرح الدرر البهيّة (2/11-12) .

ص: 253

للبخاري وابن معين، بل الذي وقفت عليه أنَّ البخاري وابن معين من جملة من صحح أحاديث اشتراط الولاية في النّكاح كما سبق1.

فأمّا البخاري: فقد سئل عن وصل إسرائيل حديث "لا نكاح إلاّ بوليٍّ" فقال: الزِّيادة من الثقة مقبولة، وإسرائيل بن يونس ثقة، فإن كان شعبة والثوري أرسلاه فإنَّ ذلك لا يضر الحديث2.

وقد ترجم البخاري في صحيحه بلفظ هذا الحديث فقال: باب من قال "لا نكاح إلاّبوليّ"3.

إلأ أنَّه لم يخرِّج هذا الحديث في صحيحه مع الأحاديث التي خرَّجها في هذا الباب؛ لأنَّه ليس على شرطه كما قاله الحافظ ابن حجر في الفتح4. ومعلوم أنَّ البخاري لم يلتزم في كتابه إخراج كلِّ ما صحّ عنده، بل التزم إخراج ما صحّ على شرطه مما يعتبره أصحّ الصحيح.

وأمّا يحيى بن معين: فالذي نقل عنه أنَّه قال: "ليس يصحّ في هذا شيء إلأحديث سليمان بن موسى"، يعني حديث عائشة - رضي الله

1 انظر ما تقدم في حديث أبي موسى الأشعري (89 وما بعدها) وحديث عائشة (112 وما بعدها) في اشتراط الولاية في النكاح.

2 انظر: تهذيب السنن لابن القيم (3/ 30 مع معالم السنن) .

وانظره مسندًا في السنن الكبرى للبيهقي (7/108) .

3 البخاري 9/182 مع الفتح) .

4 فتح الباري (9/ 184) .

ص: 254

عنها - بلفظ "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل- ثلاثًا-" الحديث.

وابن معين إنَّما قال هذا: في حديث عائشة هذا، أي أنَّه لا يصحّ من طرق أسانيده سوى طريق سليمان بن موسى، وأمَّا بقيَّة طرقه فهى ضعيفة عنده ولا يقصد بهذا نفي صحَّة حديث أبي موسى وغيره، بلفظ "لا نكاح إلاّ بوليٍّ"، كما نبّه على ذلك البيهقي1.

وقد تقدّم في الكلام على حديث عائشة هذا: أن ابن معين وأحمد ابن حنبل قد ضعّفا حكاية ابن عليَّة في قوله: "ثم لقيت الزهري فسألته عنه فلم يعرفه"، وصحّحا حديث سليمان بن موسى هذا2.

وبهذا يكون البخاريُّ قد صحّح حديث أبي موسى "لا نكاح إلاّ بوليٍّ"، وابن معين ممن صحّح حديث عائشة "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل".. الحديث. وهذان الحديثان هما عمدة هذا الباب.

ثم كيف يقال إنَّ من يشترط الولاية في النِّكاح يحتجّ بأحاديث لم تصحّ عند أهل النقل، وقد احتجّ الحنفيّة أنفسهم ببعضها لاشتراط الشهادة والكفاءة في النّكاح، مع أنَّ ما ورد في الشهادة والكفاءة لا يصل إلى درجة ما ثبت في الولاية.

1 البيهقي (7/107) .

2 انظر: المستدرك للحاكم (2/169) ، والبيهقي (7/106) .

وانظر ما تقدم (ص117) وما بعدها.

ص: 255

ففي اشتراط الكفاءة استدلّوا بحديث جابر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يزوّج النساء إلَاّ الأولياء ولا يزوَّجن إلَاّ من الأكفاء"1. مع ما في سند هذا الحديث من الضعف الشديد2.

وقد أطال ابن الهُمام في الدِّفاع عنه، ونقل تحسينه3، فيا حبَّذا لو صحّ!

وأمّا في اشتراط الشهادة فاستدلوا بحديث "لا نكاح إلاّ بشهود". وقد نقل غير واحد من أهل العلم بالحديث أنَّه لا يصحّ في باب الشهادة إلأ حديث عائشة بلفظ: "لا نكاح إلاّ بوليٍّ وشاهدَيْ عدلٍ، وماكان من نكاح على غير ذلك فهو باطل، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ من لا ولي له"4.

ولذلك ألزم الشافعي رحمه الله من ناظره في اشتراط الولاية في النّكاح القول بها؛ لاحتجاجه لاشتراط الشهادة ببعض طرق أحاديث الولاية فقال: "خالفنا بعض الناس فقال: إذا نكحت المرأة كفؤًا بمهر مثلها فالنِّكاح جائز، وإن لم يزوّجها الوليّ، وإنَّما أريد بهذا أن يكون ما يفعل

1 انظر: الهداية وفتح القدير والعناية (3/ 291) .

2 انظر: نصب الراية (3/196) ، وارواء الغليل (6/264) .

3 انظر: فتح القدير لابن الهمام (3/292) .

4 انظر: نصب الراية (3/167) ، وبلوغ الأماني شرح الفتح الرباني للساعاتي (16/156) ، ومنيه الألمعي لقاسم بن قطلوبغا (4/ 40 آخر نصسب الراية) .

ص: 256

أن يأخذ به حظَّها، فإذا أخذته كما يأخذه الوليُّ فالنِّكاح جائز، وذكرتُ له بعض ما وصفت1 من الحجَّة في الأولياء وقلت له: أرأيت لو عارضك معارض بمثل حجَّتك؟ فقال: إنّما أريد من الإشهاد أن لا يتجاحد الزّوجان، فإذانكحهابغيربيِّنة فالنِّكاح ثابت، فهوكالبيوع تثبت وإن عقدت بغير بيِّنة؟ قال: ليس ذلك له، قلنا: ولم؟ قال: لأنَّ سنّة النّكاح البيِّنة، فقلت له: الحديث في البيِّنة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم منقطع2، وأنت لا تثبت المنقطع، ولو أثبتّه دخل عليك الوليّ، قال: فإنّه عن ابن عباس وغيره متَّصل. قلت: وهكذا أيضًا الوليّ عنهم، والحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل"، وعن عمر رضي الله عنه "أنّه ردّ النّكاح بغير إذن الوليّ"، وعن غيره من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.

فكيف أفسدت النّكاح بترك الشهادة فيه، وأثبتّه بترك الوليّ، وهو أثبت في الأخبار من الشهادة، ولم تقل إنَّ الشهود إنّما جعلوا لاختلاف

1 يشير إلى كلامه السابق (5/166-168 من الأم) .

2 لعلَّ الشافعي يقصد بهذا ما رواه الحسن البصري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ "لا يحل النكاح إلا بوليٍّ وصداق وشاهدي عدل"، قال البيهقي: قال الشافعي: وهذا وإن كان منقطعاً دون النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن أكثر أهل العلم يقول به، ويقول: الفرق بين النكاح والسفاح الشهود. ثم ذكر رفعه عن الحسن البصري، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنَّ في إسناده (عبد الله بن محرّر وهو متروك) .

انظر: سنن البيهقي (7/125) ، والتلخيص الحبير لابن حجر (3/179) .

ص: 257

الخصمين، فيجوز إذا تصادق الزوجان، وقلت: لا يجوز لعلَّة في شيء جاءت به سنّة، وما جاءت به سنّة، فإنَّه يثبت بنفسه ولا يحتاج إلى أن يقاس على سنّة أخرى؛ لأنّا لا ندري لعلَّه أُمر به لعلَّة أم لغيرها،

ولو جاز لنا هذا أبطلنا عامَّة السنن، وقلنا: إذا نكحت بغير صداق ورضيت لم يكن لها صداق وإن دخل بها؛ لأنّا إنّما نأخذ الصداق لها، وأنّها إذا عفت عن الصداق جاز فنجيز النّكاح والدخول بلا مهر، فكيف لم تقل في الأولياء هكذا؟ قال1: فقد خالفت صاحبي في قوله في الأولياء، وعلمت أنَّه خلاف الحديث، فلا يكون النّكاح إلأ بوليٍّ2". انتهى المقصود من كلام الشافعي رحمه الله، وإنّما نقلته لبيان أن السنّة إذا ثبتت فلا يعدل عنها لمجرَّد الاحتمالات المخالفة لظاهرها، وإلاّ لأبطلت عامّة السنن، كما قاله الشافعي رحمه الله، فمثلاً: يعلّل الولي ّوالشهادة والصداق بنحو ما تقدّم، فينتج عن ذلك نكاح بدون وليٍّ، ولا شهود، ولا مهر، وهذا لم يقل بصحته أحد. والله أعلم.

ثم إنّ هناك أحاديث صحيحة لم يسبق ذكرها وأشار إلى بعضها بعض العلماء ولم يشتهرالاستدلال بها مثل:

1 الظاهر أنَّ هذه المناظرة بينه وبين محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة. والله أعلم.

2 الأم للشافعي (5/169) وانظر بقيته فيها.

ص: 258

1-

الحديث المتفق عليه: "لا تُنْكَح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُنْكَح البكر حتى تستأذن"1.

فالمخاطب في هذا الحديث هو الوليُّ قطعًا، ولو كان نكاح المرأة بيدها بكرًا كانت أم ثيِّبًا- لخلا هذا الخطاب من الفائدة؛ إذ لن يتصوَّر إجبارها إلاّ ممن يملك عقدة النّكاح، وإلاّ لأشبه قول من يقول:"لا يُنْكح الرجل حتى يستأمر"، وهذا لغو من الكلام؛ إذ لا مجبر له بغير أمره وإذنه، وهذا الحديث- فيما يظهر لي- من أقوى الأدلة على اشتراط الولاية على المرأة الحرَّة، المكلّفة، بكرًا أم ثيّبًا؟ إذ إنّها إن لم تكن هي المقصودة في هذا الحديث دون الصغيرة والأمة فلا مخرج لها من عمومه.

2-

حديث "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". رواه الترمذي، وابن ماجه والحاكم والبيهقي2.

1 سيأتي تخريجه إن شاء الله. (ص 277) .

2 تخريجه:

1-

الترمذي (4/104تحفة) نكاح، باب ما جاء فيمن ترضون دينه فزوّجوه.

2-

ابن ماجه (1/ 632) ، نكاح، باب الأكفاء.

3-

الحاكم (2/165) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بأن في إسناده من قيل فيه غير ثقة، ومن لا يعرف. (نفس المصدر والصفحة) . كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ورواه أيضاً الترمذي من حديث أبي حاتم المزني رضي الله عنه في (الموضع السابق) .

والبيهقي (7/82) نكاح، باب الترغيب في التزويج من ذي الخلق والدين.

وقال الألباني في إرواء الغليل: (حسن روي من حديث أبي حاتم المزني وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم . (6/266-268) .

ص: 259

3-

وحديث: "يا بني بَيَاضةَ أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه".

رواه: أبو داود، وا بن حبّان، والدارقطني، والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأقرّه الذهبي، وحسنه الحافظ في (التلخيص الحبير) 1، وقال في (بلوغ المرام) : رواه أبو داود، والحاكم بسند جيد2.

فالمخاطب في هذه الأحاديث هم الأولياء قطعاً، ولا معنى لأمرهم بشيء ليس بيدهم عقدته، والله أعلم.

1 التلخيص الحبير (3/188) .

2 بلوغ المرام مع سبل السلام (3/ 135) .

ص: 260

وأمّا قول النووي رحمه الله1: إنَّ أبا حنيفة- رحمه الله احتجَّ بالقياس على البيع وغيره؛ فإنّها تستقلُّ فيه بلا وليٍّ، ثم حمل الأحاديث الواردة في اشتراط الوليّ على الأمة والصغيرة.

فيقال: إن قياس النّكاح على البيع ونحوه لا يصحّ لأمرين:

أولهما: أنّه قياس مع النصّ، ومثله يكون فاسد الاعتبار.

وثانيهما: أنّه قياس مع الفارق، فإنّه لا يخفى أهميّة عقد النّكاح على غيره من عقود المعاملات.

وأمَّا حمل تلك الأدلة على الصغيرة والأمة فهو مناف لعموم تلك الأدلَّة مع إخراجها عن الفائدة.

وأمَّا تخصيص عمومها بالقياس، فقد عقّب عليه الحافظ ابن حجر وتبعه الشوكاني: بأنّه قياس فاسد الاعتبار؛ لحديث معقل بن يسار، فإنّ أخته كانت حرّة بالغة ثيّبًا2.

"وقال الشافعي رحمه الله في مناظرة له في هذه المسألة-: إنّما القياس الجائز أن يشبّه ما لم يأت فيه حديث بحديث لازم، فأمّا أن تعمد إلى حديث، والحديث عامّ فتحمله على أن يقاس، فما للقياس ولهذا

1 المتقدِّم ص (249) .

2 فتح الباري (9/187) ، نيل الأوطار (6/ 42 1) .

ص: 261

الموضع إذا كان الحديث يقاس؟ فأين المنتهى إذا كان الحديث قياساً اهـ1 وبهذا نعلم قوّة أدلّة السنّة النبوية على اشتراط الولاية في النّكاح.

ثالثاً: وأمّا ما روى عن الصحابة فهو شبه إجماع على اشتراط الولاية في النّكاح، فقد تناقل العلماء قول ابن المنذر: إنّه لا يعرف عن الصحابة خلاف ذلك "أي خلاف القول بأنّه "لا نكاح إلاّ بوليّ". وقد صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: "كانوا يقولون: إنّ المرأة التي تزوّج نفسها هي: الزّانية". وفي لفظ: "كنّا نعدّ التي تنكح نفسها هي الزانية"، ونحو ذلك2.

وروي نحوه عن ابن عباس بلفظ: "البغايا اللَاّتي ينكحن أنفسهن بغيرالأولياء"3.

فلو قيل: إنَّ هذا إجماع من الصحابة لكانت هذه المسألة أسعد به من كثير من المسائل التي ادّعى فيها الإجماع؛ فإنّه لا يعرف عن الصحابة أنّه تنازع اثنان منهم في حكم الولاية على المرأة، كما ينقل غالبًا في مسائل الخلاف، فإمّا أن يقال: إنَّ ذلك إجماع منهم على عدم اشتراط

1 الأم للشافعي (5/169) .

2 تقدم (ص 147) وما بعدها.

3 انظر: المصنّف لعبد الرزاق (6/197-198) ، وسنن سعيد ابن منصور (رقم 532) من القسم الأول من المجلد الثالث، والبيهقي (7/ 125، 142) ، المحلى لابن حزم (9/454) .

ص: 262

الولاية في النّكاح، وهذا لا يستطيع أحد أن يتجرأ على القول به، وإمَّا أن يقال: إنَّ ذلك إجماع منهم على اشتراطها، وعلى هذا يدلّ فعلهم وقولهم وروايتهم عن نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وظاهر كتاب ربّهم، وليس مع من خالف سوى ما روي عن عائشة وعلي رضي الله عنهما كما سبق- مما يستظهر منه صحّة إنكاح المرأة نفسها. وقد صحّ عن علي وعائشة من روايتهما ورأيهما ما يخالفه مع احتمال ما روي عنهما في صحّة تزويج المرأة نفسها في دلالته وثبوته كما سبق بيانه1. والله أعلم.

رابعًا: وأمّا المعقول: فقد أجمع الموافق والمخالف على أنّه لا كرامة للنّساء في مباشرة عقود الأنكحة، أو الاستبداد بتفويضها إلى من شئن من الأجانب، ولم ينقل أيضًا عن أحد ممن صحّح إنكاح المرأة نفسها أنّه قبل نكاحًا لنفسه بدون وليّ، أو طابت نفسه لبناته وأخواته ونحوهنَّ ممن له عليهنَّ الولاية أن يستبددن بأنكحتهنَّ دونه، حتى ولو نكحن أكفأ الناس عنده.

خامسًا: وأمّا عمل الأمَّة: فإنَّ العرف المعروف بين المسلمين في مختلف عصورهم هو أن أنكحة النّساء بأيدي أوليائهن من الرِّجال، كما قال الترمذي رحمه الله:"والعمل في هذا الباب على حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم "لا

1 راجع ما روى عن كلٍّ من علي وعائشة رضي الله عنهما في أدلة المشترطين والمجيزين المتقدِّمة، وقارن بينهما صحة ودلالة.

ص: 263

نكاح إلاّ بوليّ" عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وغيرهم. وهكذا روى عن بعض التابعين أنّهم قالوا "لا نكاح إلاّ بوليٍّ"، منهم: سعيد بن المسيَّب، والحسن البصري، وشريح وإبراهيم النّخعي، وعمر بن عبد العزيز، وبهذا يقول سفيان الثوري، وا لأوزا عي، وما لك، وعبد الله ابن المبارك، والشا فعي، وأحمد، وإسحاق". هـ 1.

وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد 2، عن أبيه، عن الفقهاء الذين يُنتهى إلى قولهم من تابعي أهل المدينة كانوا يقولون:"لا تعقد المرأة عقدة النّكاح في نفسها ولا في غيرها"3.

وحكى ابن العربي أنَّ اشتراط الولاية في النّكاح قول المالكية، وفقهاء الأمصار، ثم قال:"وقال أبو حنيفة: لا يفتقر النّكاح إلى وليٍّ. وعجبًا له متى رأى امرأة قط عقدت نكاح نفسها"4.

1 الترمذي (4/232-234مع التحفة) .

2 أبو الزِّناد: هو عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني، ثقة فقيه، مات سنة مائة وثلاثين، وقيل: بعدها، روى له الأئمة الستة.

انظر: التقريب (1/413) ، وانظر ترجمة ابنه عبد الرحمن فيه (1/479- 480) .

3 البيهقي (7/113) .

4 أحكام القرآن لابن العربي (3/1476) .

ص: 264

سادسًا: إنَّ اشتراط الولاية في النّكاح يترجَّح بقاعدتين من قواعد الترجيح المعروفة في الأصول وهما:

الأولى: أنَّ أدلَّة اشتراط الولاية ناقلة عن الأصل وهو براءة الذمَّة حتى يقوم الدليل، ومن أسقطها فهو متمسِّك بتلك البراءة؛ والدليل الناقل عن الأصل مقدَّم؛ لأنّه شرع زائد على المعهود، كما قالوا: إنَّ المثبت مقدّم على النافي، ولذلك قال ابن حزم في ترجيح أحاديث الولاية:"إنَّ هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزائد على معهود الأصل؛ لأنّ الأصل بلا شك أن تنكح المرأة من شاءت بغير وليٍّ، فالشرع الزائد هو الذي لا يجوز تركه؛ لأنّه شريعة واردة من الله تعالى كالصلاة بعد أن لم تكن، والزّكاة بعد أن لم تكن، وسائر الشرائع، ولا فرق" هـ1.

الثانية: أنَّ دليل الحظر مقدّم على دليل الإباحة براءة للذمَّة، فلو كانت الأدلّة محتملة لهذا وذاك لكان ما دلّ على التحريم مقدَّمًا على ما دلّ على الإباحة؛ لأن ترك أمر مباح أولى من ارتكاب أمر محرَّم. وقد صحّ قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الحلال بيّن، وإنَّ الحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالرّاعي يرعي حول الحمى يوشك أن يرتع

1 المحلى لابن حزم (9/457) .

ص: 265

فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملك حمى، ألا وإنَّ حمى الله محارمه"1. متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك"2.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإثم ما حاك في النفس، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك"3.

وأيُّ شبهة أشدُّ إيلامًا للنَّفس من شبهة إنكاح المرأة نفسها بنكاح البغايا، كما صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: كنّا نقول: "التي

1 تخريجه:

البخاري: (1/126 فتح) الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه.

مسلم (11/27 نووي) المساقاة والمزارعة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات.

وقد رواه الأربعة أيضًا. وانظر: فيض القدير (3/423) .

2 رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، والدارمي، وا بن حبّان، والحاكم، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم، وهو حديث صحيح من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما وغيره. انظر: إرواء الغليل (7/155) .

3 رواه أحمد عن وابصة بن معبد رضي الله عنه (4/228 المسند) .

ورواه أيضًا أحمد، ومسلم والترمذي عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بلفظ:"البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس".

انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي (16/ 111) ، والترمذي مع تحفة الأحوذي (7/64) ، والمسند لأحمد (4/182) .

ص: 266

تنكح نفسها هي الزَّانية"1. وتقدم رفعه بلفظ: "الزّانية التي تنكح نفسها"2.

وما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: "البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير أولياء"3.

وأيُّ ريبة أشدُّ إيلامًا للنّفس من أن ينظر الرَّجل إلى امرأته، والمرأة إلى زوجها بارتياب في حلِّ نكاحهما؟!، ثم أيُّ إيلام للنّفس من توقُّع انتقال تلك الريبة إلى أولادهما، وقد لا يأمنون من يعيِّرهم بعقد جمع بين أبويهم بغير وليٍّ؟!، ثم من ذا الذي ينشرح صدره لنكاح بدون وليّ؟!

ولو لم يكن في هذا المذهب إلاّ الاحتياط للأنكحة حفظًا للأعراض والأنساب، لكان حَرِيًّا أن لا يعدل عنه إلى غيره، والله أعلم وهو الموفِّق للصَّواب.

1 تقدم تخريجة (ص 147) .

2 تقدم تخريجه (ص 131) وما بعدها.

3 تقدم تخريجه (ص 262) .

ص: 267