الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّاني: إنكاح الصِّغار أنفسَهم
إنَّ ثبوت الولاية في النِّكاح على الصِّغار لا خلاف فيه في الجملة، ولكن ما مدى تأثير هذه الولاية في صحَّة أو بطلان تزويج الصِّغار أنفسهم؟ وهذا يتضح بالبيان التالي:
وهو: أنّ الصغير إمّا أنّ يكون مميِّزًا أو غير مميِّز، وكذلك إمَّا أن يكون ذكرًا أو أنثى.
فأمَّا غير المميِّزين منهم فالولاية ثابتة عليهم إجماعًا، ولا صحّة لتزويج أحدهم نفسه؛ لعدم أهليته وقصده المعتبر، ذكرًا كان أم أنثى.
وأمّا إن كانوا مميزين: فليس للصّغيرة المميِّزة أن تعقد نكاح نفسها
عند الجمهور، سواء أذن لها وليُّها أم لم يأذن لها؟ لصغرها، ولأنوثتها أيضًا، كما سبق في الولاية على الحرّة المكلَّفة، فإنّه لا عبارة- عندهم- للأنثى في باب النّكاح مطلقًا صغيرة أم كبيرة، لنفسها ولا لغيرها، على المذهب المعتمد المشهور عندهم.
وأمّا عند الحنفيّة: فعقد الصّغيرة المميِّزة صحيح بإذن وليِّها أو إجازته؛ لأنَّ لها عبارة صحيحة في العقود، ومنها عقد النكاح، وأمَّا قصور نظرها فيتمّ بانضمام نظر الوليّ لها، وهذا حاصل بالإذن أو الإجازة1.
1 انظر المبسوط (4/226) .
وقد قدّمنا في مبحث "اشتراط الولاية في النِّكاح على الحرّة المكلَّفة". أدلَّة هذه المسألة وخلاف العلماء فيها، وأنّ أقواها وأرجحها دليلاً هو القول بأنّ المرأة لا تلي عقدة النّكاح مطلقًا، وإذا ثبت منع الكبيرة من إنكاح نفسها فالصَّغيرة من باب أولى. والله أعلم.
وأمّا إن كان الصّغير ذكرًا مميِّزًا ففي صحَّة إنكاحه نفسه الأقوال التالية:
أوَّلاً: لا صحَّة لعقده نكاح نفسه مطلقًا، أذن له وليُّه أم لم يأذن له.
وهذا مذهب الشافعية، وذلك بناء على أصل مذهبهم، وهو أنَّه لا عبارة للصّبيان في العقود مطلقًا، ولا أثر لإذن الوليّ لهم، كما لو أذن لمجنون1.
ثانياً: صحَّة عقد الصّبيّ المميِّز نكاحه بإذن وليِّه، أو بإجازته إن عقده بدون إذنه، وهذا مذهب الحنفية والمالكية2.
وقد علّل الحنفية ذلك بأنَّ الصّبيّ العاقل له عبارة صحيحة، إلا أنَّه لقصور نظره احتاج إلى انضمام رأي وليِّه إليه ليحصل بذلك تمام النظر
1 انظر للشافعية: المجموع للنووي (9/156-158) ، وروضة الطالبين (3/342-343) ، ومغني المحتاج (2/66) .
2 انظر للحنفية: المبسوط (4/226) ، بدائع الصنائع (3/1335-1336) ، فتح القدير (3/287 وما بعدها) وكشف الأسرار (4/256-257) .
وللمالكية: الشرح الكبير والدسوقي (2/241) ، والفروق للقرافي (3/101 وتهذيبه124) وبدر الزوجين ونفحة الحرمين (ص55) .
له، مع ما في تصحيح تصرُّفه من زيادة النفع له بالممارسة التي لا تحصل بمباشرة الوليّ، وكذلك التوسعة عليه بتعدُّد طرق تحصيل المنفعة بمباشرته وبمباشرة وليِّه1.
ثالثًا: صحَّة قبول الصّبيّ نكاحه بإذن وليّه. وهذا مذهب الحنابلة2.
فإن لم يأذن له وليُّه فظاهر المذهب عدم الصِّحة، أخذًا من عدم تصحيحهم تصرفات الصّبيّ بغير إذن وليِّه في البيوع3. والله أعلم.
رابعًا: أنَّ الصّبيّ إذا بلغ عشرًا زوّج وتزوّج، وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وظاهرها بدون إذن الوليّ، كما يدلُّ على ذلك إطلاق الروايتين في اشتراط البلوغ في الوليّ.
ووجه ذلك- كما قاله ابن قدامه في توجيه رواية عدم اشتراط بلوغ الوليّ- قال: لأنَّه يصح بيعه ووصيته وطلاقه فتثبت له الولاية كالبائع"4 هـ.
1 انظر: المبسوط (4/226) ، بدائع الصنائع (3/1335-1336) ، وكشف الأسرار (4/256-257) .
2 انظر كشاف القناع (5/44) ، شرح منتهى الإرادات (3/14) ، الإنصاف (8/53) ، السلسبيل في معرفة الدليل على زاد المستقنع (2/121) .
3 انظر كشاف القناع (3/457) . والإنصاف (5/318) .
4 المغني مع الشرح الكبير (7/356والشرح 426) .
وقال المرداوي في الإنصاف: "قال الشارح1: أكثر الرّوايات تحدّد من يقع طلاقه من الصبيان بأنّه يعقل، وهو اختيار القاضي"2 هـ. وظاهر هذا أن أكثر الروايات على عدم التحديد بالسنين. والله أعلم.
هذا خلاصة ما وقفت عليه من الأقوال في إنكاح الصبيّ المميِّز نفسه، وظاهر ممّا تقدّم أنّ عقده لا يخلو من حالين:
فهو إمَّا أن يعقده بإذن وليِّه أو بدونه.
فإن كان بإذن وليِّه فالظاهر صحّته، فإنّه ليس كغير المميِّز، أو المجنون في فقدان الأهليّة، ولا هو كالمرأة في خشية المعرّة.
وأمَّا الآية الكريمة فهي نصّ في حفظ أموال الصغار، وأمّا إلغاء عقودهم فهو شيء آخر، بل لقد نصت الآية على الابتلاء لليتامى، والأظهر أنَّ المقصود بابتلائهم قبل بلوغهم لمعرفة حسن تصرفهم، وإعدادًا لهم لتسلُّم أموالهم بعد بلوغهم، واستقلالهم بأنفسهم، ولا يعقل ابتلاء غير المميّز فلم يبق إلا المميّز العاقل.
1 هو شارح متن المقنع. "المسمى بالشرح الكبير" وهو شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة. ت 682هـ) .
2 الإنصاف (8/432) . والمقصود بالقاضي: هو أبو يعلى الكبير كما هو معروف عند الإطلاق.
وأمّا عدم التكليف الذي دلّ عليه الحديث الشريف فهو رفع لقلم المؤاخذة عنهم، وهذا كما لا يدلّ على إبطال عباداتهم، كصلاتهم، وصيامهم، وحجهم، ونحو ذلك، كذلك لا يدل على إبطال معاملاتهم.
وأمّا إن لم يكن عقد الصبي بإذن وليّه فالحكم بصحته أو ببطلانه مشكل، ولم يظهر لي فيه وجه تطمئن إليه النفس، وذلك أنّه إن وقع عقده من أصله صحيحًا فليس بحاجة إلى إجازة، وإن وقع أصلاً باطلاً فلا يكون بالإجازة صحيحًا، كما أنّه ليس للوليّ أن يجيز ما ظهر ضرره، ولا ردّ ما ظهر نفعه، والعقد الموقوف على الإجازة فيه خلاف يطول بيانه وتحقيق
وجه الحقِّ فيه، والظَّاهر أنَّه حتى لو قيل بصحته في المعاملات لكان الواجب صيانة عقود الأنكحة منه كما تقدّم في مسألة "إذا أنكح الوليّ من يعتبر إذنها بغير إذنها"1 من أنّ كلّ عقدة لا تحلُّ المرأة لزوجها لا تكون بالإجازة صحيحة، إلا أن يقال: إن العقد صحيح، وللوليّ حقٌّ فسخ ما ظهر له ضرره، ومعلوم أن الفسخ شيء، والردّ شيء آخر.
وقد قال ابن القيّم رحمه الله: لم يقم دليل شرعيّ على إهدار أقوال الصبيّ بالكلية، بل الأدلّة الشرعية تقتضي اعتبار أقواله فى الجملة"2 اهـ.
والله أعلم.
1 انظر: هذه المسألة (ص 359 وما بعدها) .
2 أحكام أهل الذمة (2/499) في بحث نفيس في إسلام الأطفال.