المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: استئذان الثيب البالغ - الولاية في النكاح - جـ ١

[عوض بن رجاء العوفي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: تمهيد في معنى الولاية والنكاح وحكمة مشروعيتهما

- ‌المبحث الأوَّل: معنى الولاية

- ‌المبحث الثَّاني: معنى النِّكاح

- ‌المبحث الثَّالث: مشروعية النِّكاح وحكمته

- ‌المبحث الرَّابع: مشروعية الوِلاية في النكاح وحكمتها

- ‌الفصل الثاني: الولاية في النكاح على الحرّة المكلفة

- ‌المبحث الأوَّل: تمهيد في بيان أسباب ثبوت الولاية على النفس عموماً

- ‌المبحث الثَّاني: بيان المذاهب وأدلَّتها في حكم الولاية في النِّكاح على الحرَّة المكلَّفة

- ‌الفصل الثالث: استئذان الوليّ للحرّة المكلفة في نكاحها

- ‌المبحث الأول: استئذان البكر البالغ

- ‌المبحث الثَّاني: استئذان الثيّب البالغ

- ‌الفصل الرابع: الولاية في النكاح على الصغار

- ‌المبحث الأول: ثبوت الولاية في النِّكاح على الصِّغار

- ‌المبحث الثَّاني: إنكاح الصِّغار أنفسَهم

- ‌المبحث الثَّالث: تزويج الأولياء للصّغار

- ‌الفصل الخامس: الولاية في النكاح على المجانين

- ‌المبحث الأوّل: تمهيد: في ثبوت الولاية في النّكاح على المجانين

- ‌المبحث الثَّاني: تزويج الأولياء للمجانين

- ‌الفصل السادس: الولاية في النكاح على السفيه

- ‌المبحث الأوّل: معنى السفه لغة واصطلاحًا

- ‌المبحث الثَّاني: المقصود بالسفيه في هذا المبحث

- ‌المبحث الثَّالث: الولاية على السّفيه في ماله

- ‌المبحث الرَّابع: الولاية في النّكاح على السفيه

الفصل: ‌المبحث الثاني: استئذان الثيب البالغ

‌المبحث الثَّاني: استئذان الثيّب البالغ

1-

المقصود بالثّيب:

أمّا الثيّب في اللغة: فهي من النّساء من تزوّجت، وفارقت زوجها بأيِّ وجه كان، بعدأن مسّها.

وأصل هذا الاسم مأخوذ من مادة "ثوب1"، يقال: ثاب يثوب إذا رجع، وعاد مرة بعد أخرى، ومنه المكان الذي يثوب إليه الناس، قال تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} 2؛ لأنَّ الناس يثوبون إليه مرة بعد أخرى، لا يكادون يغادرونه إلاّ اشتدّ شوقهم للعودة إليه، مرة ثانية.

1 قال صاحب القاموس "إنّ إدخال اسم الثّيّب في مادة "ثوب" وهم". (1/44 القاموس) .

وكذلك استدرك صاحب مقدمة الصحاح على الجوهري إيراده اسم "الثّيّب" في مادة "ثوب" وعدّها من المآخذ على الجوهري. (1/141 المقدمة) .

ولكن الصواب أنّ الجوهري لم يهم في ذلك، نبّه على ذلك صاحب تاج العروس (1/171) ، وقد اقتصر ابن فارس على ذكر مادة "ثوب".

وذكرها كلٌّ من ابن الأثير، وابن منظور في مادة "ثيب"، إلاّ أنّ ابن الأثير استدرك وقال: وأصل الكلمة الواو؛ لأنه من ثاب يثوب إذا رجع، كأن الثيّب بصدد العود والرجوع، وذكرناه هاهنا حملاً على لفظه. (1/231 النهاية في غريب الحديث) .

2 سورة البقرة- آية: 125.

ص: 343

وهو اسم أيضًا للرجل: فيقال للرجل ثيّب إذا دخل بامرأته، كما يقال للمرأة ثيّب إذا دخل بها زوجها، فيكون الذكر والأنثى فيه سواء.

وقيل: لا يسمّى الذكر ثيّبًا إلاّ في قولهم: "ولد الثّيّبين، وولد البكرين"، ومعنى هذا أنّه يسمّى ثيِّبًا من باب التغليب1.

ولكن يشهد لتسمية الرجل "ثيّبًا" قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنِّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: النَّفس بالنَّفس، والثّيّب الزّاني، والتَّارك لدينه المفارق للجماعة". رواه البخاري بهذا اللفظ2 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "الثّيب بالثّيّب جلد مائة ورجم3 بالحجارة ". رواه مسلم وغيره4 من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ولا خلاف في شمول اسم الثّيّب في هذه الأحاديث الذَّكر والأنثى.

1 انظر مادة "ثوب" في كل من: مقاييس اللغة لابن فارس (1/393) ، والصحاح للجوهري (1/95) ، والقاموس (1/44) ، وتاج العروس (1/171) ، والمصباح المنير (1/87)

ومادة "ثيب" في لسان العرب (1/248) .

2 انظر: البخاري (12/201 مع الفتح) كتاب الديات، باب قوله تعالى:{أنّ النَّفس بالنّفس} . ورواه مسلم أيضًا وغيره. انظر تخريجه في (إرواء الغليل)(7/253) .

3 قال ابن الأثير في النهاية: (الجمع بين الجلد والرجم منسوخ اهـ (1/231) .

وفيه خلاف ليس هذا محلّ بيانه.

4 انظر: إرواء الغليل (8/10، وتقدّم تخريجه في الحاشية رقم"1" (ص 273) .

ص: 344

قال ابن الأثير: "الثّيّب من ليس ببكر، ويقع على الذّكر والأنثى، رجل ثيّب وامرأة ثيّب، وقد يطلق على المرأة البالغة إن كانت بكرًا، مجازًا واتساعًا، وأصل الكلمة الواو؛ لأنّه من ثاب يثوب. إذا رجع، كأن الثّيّب بصدد العود والرجوع"1 اهـ المقصود من كلامه.

وأمّا المقصود بالثّيّب عند الفقهاء في هذا المبحث: فهي المرأة التي زالت بكارتها بوطء مطلقًا، إلاّ أن في الموطؤة بالزّنى خلافًا في اعتبار حكمها حكم الثّيّبات أو الأبكار. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في آخر هذا المبحث في الكلام على "الثيوبة المعتبرة"2.

2-

حكم استئذان الثّيب البالغ في النّكاح.

لقد أجمع أهل العلم- إلاّ من شذّ- على أنّ الثّيِّب المكلّفة الرشيدة لا تُنْكح إلاّ بإذنها. وروى عن الحسن البصري رحمه الله: أنَّ أباها يزوّجها ولو كانت كارهة3.

1 النهاية في غريب الحديث (1/231) .

2 انظر (ص352) .

3 انظر: المغني لابن قدامة (7/385) ، وزاد المعاد لابن القيم (5/99) ، والمحلى لابن حزم (9/459) ، وبداية المجتهد لابن رشد (2/4) ، وفتح الباري (9/191) ، وشرح الزرقاني على الموطأ (3/144) .

ص: 345

وروي أيضًا عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنّه قال: يزوّجها أبوها إن كانت في عياله، وأمّا إن كانت بائنة في بيتها مع عيالها فلا يزّوجها حتى يستأمرها1.

وهذان القولان شاذَّان مخالفان للسنّة وإجماع الأئمة2.

فأمّا السنّة فمنها:

أوّلاً: حديث خنساء3 بنت خِدَام الأنصارية: أنّ أباها زوّجها وهي ثيّب فكرهت ذلك، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فردّ نكاحها".

وهذا حديث مجمع على صحته، فقد رواه الأئمة: مالك، وأحمد، والبخاري- وهذا لفظه-، وأبو د اود. وذكره الترمذي مستغنيًا عن إسناده جامعًا بينه وبين حديث "الأيِّم أحقّ بنفسها من وليّها". ورواه أيضًا النسائي، وا بن ما جه، والدَّارمي، وا بن الجارود، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم4.

1 انظر: مصادر التعليق السابق

2 انظر: مصادر التعليق السابق.

3 هي: خَنْسَاء- بمعجمة ثم نون ثم مهملة وزن حمراء- بنت خِدَام- بكسر المعجمة وتخفيف المهملة- ابن خالد الأنصارية من بني عمرو بن عوف. انظر ضبط اسمها واسم أبيها في فتح الباري (9/195) . وانظر ترجمتها في الإصابة (4/286-287) .

4 تخريجه:

1-

مالك: (3/143-144 مع شرح الزرقاني) نكاح، جامع ما لا يجوز من النكاح.

2-

أحمد: (16/161-162 ترتيب المسند للساعاتي، نكاح، باب ما جاء في تزويج الأب ابنته الثيّب أو البكر البالغ بغير رضاها.

3-

البخاري: (9/194 فتح) نكاح، باب إذا زوّج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود. وفي مواضع أخر من الصحيح أشار المحقق إلى أطرافها في هذا الموضع.

4-

أبو داود: (6/128 عون المعبود) نكاح، باب في الثّيب.

5-

الترمذي: اختلف في عزو هذا الحديث إليه، والذي وقفت عليه في جامعه هو ذكر متنه بدون إسناد، جامعًا بينه وبين حديث "الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليّها"(4/245 تحفة) نكاح، باب ما جاء في استئمار البكر والثّيب.

6-

النسائي: (6/86مع حاشيتي السيوطي والسندي) نكاح، الثيّب يزوّجها أبوها وهي كارهة.

7-

ابن ماجه: (1/602) نكاح، باب من زوّج ابنته وهي كارهة.

8-

الدارمي: (2/63 مع تخريجه) نكاح، باب الثيِّب يزوجها أبوها وهي كارهة.

9-

ابن الجاروي: (ص 238 مع تخريجه) نكاح.

0 1- الدارقطني: (3/231- 232 مع التعليق المغني) نكاح.

11-

البيهقي: (7/119) نكاح، باب ما جاء في إنكاح الثيّب.

وانظر من كتب التخريج:

نصب الراية (3/182-183) وإرواء الغليل (6/229-230) .

ص: 346

فدلّ هذا الحديث الصحيح على أنَّ الثيّب البالغ لا يجبرها أحد على النِّكاح؛ إذ لو كان لأحد من أوليائها إجبارها بغير إذنها ورضاها لجاز عليها نكاح أبيها وهي كارهة؛ إذ إنّه أقرب أوليائها، وأوفرهم شفقة عليها.

ص: 347

وبهذا الحديث أخذ الأئمة إلاّ من شذّ كالحسن البصري، وإبراهيم النخعي، رحمهما الله.

قال ابن قدامة في المغني: "قال ابن عبد البرِّ: هذا حديث مجمع على صحّته، والقول به، لا نعلم مخالفًا له إلاّ الحسن. وكانت الخنساء من أهل قباء، وكانت تحت أنيس بن قتادة، فقتل عنها يوم أحد، فزوّجها أبوها رجلاً من بني عوف، فكرهتة، وشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردّ نكاحها، ونكحت أبا لبابة بن المنذر1 اهـ.

2-

حديث أبي هريرة- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنْكَح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُتْكَح البكر حتى تستأذن، قالوا يا رسول الله: وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت". هذا لفظ البخاري، وتقدَّم تخريجه2.

وهذا نهي صريح عن إنكاح الأيِّم بدون إذنها، وهو عامٌّ في كلّ أيِّم وفي كلِّ وليٍّ، والمراد بالأيِّم: في هذا الحديث هي "الثّيِّب" لمقابلتها بالبكر. وفي هذا الحديث الصحيح الصريح قطع لكلّ حجَّة قائلة بإجبار الحرَّة المكلَّفة، سواء كانت بكرًا أم ثيِّبًا.

1 المغني (7/385)، وانظر: شرح الزرقاني على الموطأ (3/44 1) .

2 انظر ما تقدم (ص 277) .

ص: 348

3-

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيِّم أحقّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها". رواه مسلم وا لأربعة وغيرهم، وتقدّم تخريجه1.

والمراد بالأيِّم هنا: الثّيِّب أيضًا، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، لمقابلتها بالبكر في كلا الحديثين، ولما جاء في بعض روايات هذا الحديث صريحًا بلفظ "الثّيِّب"2، وقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ بنفسها من وليِّها، أي بالرضى بزوجها كما تقدّم 3 جمعًا بينه وبين أحاديث إثبات الولاية في النِّكاح.

4-

وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للوليِّ مع الثّيِّب أمرٌ، واليتيمة تستأمر في نفسها، وصمتها إقرارها". وتقدّم تخريجه والكلام على إسناده4.

فهذا نفي لحقِّ الوليّ في إكراهها على من لا ترضاه جمعًا بينه وبين أحاديث الولاية كما تقدّم5.

وأمّا إجماع الأئمَّة على عدم إجبار الثّيِّب المكلَّفة فقد حكاه جمع

1 انظر ما تقدم (ص167) .

2 انظر ما تقدم (ص 170) .

3 انظر ما تقدم (ص 171 وما بعدها) .

4 انظر ما تقدم (ص 173 وما بعدها) .

5 انظر ما تقدم في حديث الخنساء (ص346) .

ص: 349

من الأئمة واعتبروا مخالفته شذودًا.

وأمّا دلالة عدم إجبار الثّيِّب المكلَّفة من جهة المعقول؛ فلما سبق في البكر البالغ، ولزيادة خبرتها بممارسة الرِّجال، وإدراكها لمقاصد النِّكاح. والله أعلم.

3-

صفة إذن الثّيِّب.

وأمّا ما يحصل به معرفة إذن الثّيِّب فهو صريح قولها إجماعًا، فلا يكفي سكوتها- كما هو الشأن في البكر- مع قدرتها على النطق، وذلك للأحاديث الصحيحة التي فرَّقت بين إذن الثّيِّب والبكر، حيث دلّت على أنَّ إذن البكر يكفي فيه سكوتها؛ لغلبة حيائها، فدلّ على أنَّ الثّيِّب بخلافها، ومن تلك الأحاديث ما يلي:

أوّلاً: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيِّم أحقّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها". رواه مسلم والأربعة وغيرهم1.

ثانيًا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنْكَح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُنْكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: يا رسول الله: وكيف إذنها؟ قال: "أنّ تسكت"2. متفق عليه.

1 تقدم (ص167) .

2 تقدم (ص 277) .

ص: 350

فدلّ هذان الحديثان - وما في معناهما من الأحاديث - على أنَّ لكلٍّ من البكر والثّيب إذنًا معتبرًا شرعًا، والإذن إنَّما يدلّ عليه صريح القول مع القدرة عليه؛ لأنّ اللسان هو المعبّر عما في نفس صاحبه مع استطاعة صاحبه، على النُّطق بالكلام، ولكن دلّت تلك الأحاديث على اعتبار صمت البكر رضى؛ لشدّة حيائها من النُّطق بالإذن، فدلّ ذلك بمفهومه على أنَّ الثّيب بخلافها؛ فلا يكفي صمتها؛ لأنّها مارست الرجال ولا تستحي غالبًا من التصريح بالمقال، ثم إنّ القول هو الأصل في الإذن.

وقد استدلّ بعض العلماء على تأكيد النطق بالإذن في حق الثّيب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه "والأيِّم تستأمر والبكر تستأذن" فقالوا: إنّ الأمر آكد من الإذن؛ فلا يكون إلاّ بالقول بخلاف الإذن فقد يكون بالقول أو بالصمت1.

ولكن اعترض عليه بما في حديث ابن عباس وغيره بلفظ "والبكر تستأمر" 2، ولكن أجيب عنه بأنّه خرج بقرينة "وإذنها صماتها"؛ بخلاف الثّيِّب3.

ولكنّ الأظهر والله أعلم: أنّ يقال: إنّ الأصل في كلٍّ من الإذن والأمر إنّما يتأتّى بالقول، وقد قام الدليل على اعتباره بالصَّمت من البكر

1 انظر: فتح الباري (9/192) ، والفتاوى لابن تيميه (32/24-25) .

2 انظر التخريج المتقدم (ص 167، 279) .

3 انظر: نيل الأوطار للشوكاني (6/139) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/192) .

ص: 351

فلزم اعتباره، ولم يرد مثله في الثّيِّب فلزم الرجوع إلى الأصل، فيما يعرف به الإذن، وهو الكلام، وأصرح من هذه الأحاديث كلّها الحديث الآتي وهو:

ثالثًا: حديث عَدِِِيّ بن عَدِِيّ الكندي، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أشيروا على النِّساء في أنفسهنَّ"، فقالوا: إنّ البكر تستحي يارسول الله قال صلى الله عليه وسلم: "الثّيب تُعْرِب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صمتها". وهو حديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه، والبيهقي كما تقدَّم1. وهو وإنّ كان قد قيل فيه إنّه منقطع؛ لأنّ عَدِيًّالم يسمع من أبيه كما قاله أبو حاتم، إلاّ أنَّ معناه متفق عليه بين الأئمة. والله أعلم.

4-

الثيوبة المعتبرة في صفة الإذن.

لقد تقدَّم أنَّ الفرق بين البكر والثّيِّب في صفة الإذن هو: أنّ البكر تستأذن فيكفي صمتها، وأنَّ الثّيب تستأمر فلا بدّ من نطقها.

وبقي أن نعرف ما هي الثيوبة المعتبر لها صريح الإذن عند الفقهاء؟ ولمعرفة ذلك لا بدّ من معرفة سبب ثيوبتها فهي: إمّا أن تكون قد زالت بكارتها بوطء أو بغيره.

أ- فإن زالت بكارتها بغير وطء، كسقطة، أو وثبة، أو شدّة حيضة، أو بأصبع، أو بعود، أو بطول تعنيس، ونحو ذلك فلا أثر لهذه الثيوبة عند

1 انظر تخريجه والكلام على إسناده (ص 327) .

ص: 352

الفقهاء؛ بل إنَّ حكمها حكم الأبكار1. إلاّ ما حكى من وجهٍ في مذهب الشافعية أنّها تعتبر ثيّبًا2.

واستدلّ جمهور الفقهاء على قولهم إنّ حكمها حكم الأبكار:

بأنّ من لم تَزُل بكارتها بالوطء فإنّها لم تختبر المقصود من النِّكاح، ولم تمارس الرجال بالوطء في محلِّ البكارة، فهي على غباوتها وحيائها، فأشبهت من لم تَزُل عُذْرتها3.

ولأنَّها بكر حقيقة: لأنّ مصيبها أول مصيب لها، ومنه الباكورة، والبكرة، لأوَّل الثِّمار وأوّل النّهار4.

وأمَّا وجه ما حكى عن الشافعية فهو أنّها بزوال عُذْرتها لم تعد من الأبكار، بل إنَّها قد أصبحت ثيّبًا، والقول الأوّل هو المعتمد. والله الموفِّق.

ب- وأمّا من زالت بكارتها بوطء فلايخلو حالهامن أمرين:

الأوّل: أنّ يكون الوطء حلالاً أو ما يلحق به.

1 انظر في مذاهب الفقهاء: المغني لابن قدامة (7/388. والمنهاج ومغني المحتاج (3/149) ، وشرح مسلم (9/204) ، وبداية المجتهد (2/5) ، والهداية وفتح القدير (3/270-271) .

2 انظر شرح النووي لمسلم (9/204-205) . والتكملة الثانية للمجموع (16/170) .

3 انظر: مصادر ما تقدم من مذاهب الفقهاء.

4 انظر: الهداية مع فتح القدير (3/270) .

ص: 353

الثَّاني: أن يكون وطء زنى.

فإن كان الوطء حلالاً كالواقع في نكاح صحيح، أو ملك يمين، أو ما يلحق بالوطء الحلال كالواقع في نكاح فاسد، أو وطء شبهة، فلا خلاف في حصول الثيوبة بذلك، واعتبار صريح إذنها في النِّكاح بالقول دون السكوت1.

وأمّا إن زالت بكارتها بالزِّنى فقد اختلف الفقهاء في صفة إذنها، أيكتفى بسكوتها كالأبكار أم لا بدّ من صريح قولها كالثَّيِّب؟ على قولين:

الأوّل: أنَّ حكمها حكم الموطوءة في نكاح صحيح، أو ما يلحق به، فيكون المعتبر نطقها دون صمتها، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وبه قال أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة2.

والثَّاني: أنَّ حكمها حكم الأبكار، وهذا مذهب المالكيَّة، وأبي حنيفة، وحكى عن الشافعي في القديم3.

1 انظر حول هذا المعنى: المغني مع الشرح الكبير (7/388 والشرح403) . والإفصاح لابن هبيرة (2/113) ، والفتاوى لابن تيمية (32/42) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/149-150) ، وشرح النووي على مسلم (9/204) ، وبداية المجتهد (2/5) .

2 انظر: المنهاج ومغني المحتاج (3/149) ، روضة الطالبين (7/54) ، وتكملة المجموع الثانية (16/170) ، والمغني لابن قدامة (7/388) ، والإنصاف (8/64) ، والهداية وفتح القدير (3/270-271) .

3 انظر: بداية المجتهد (2/5) ، الكافي لابن عبد البر (1/428) ، والخرشي (3/176) ، والهداية وفتح القدير (3/270- 271) ، والمغني (7/388) ، والإفصاح لابن هبيرة (2/113) .

ص: 354

دليل القول الأوَّل:

وقد استدلَّ من قال: إنّ الموطوءة بزنى حكمها في الإذن حكم الثيِّب الموطوءة في نكاح صحيح ونحوه بما يلي:

أوَّلاً: عموم الأحاديث الواردة في صفة إذن الثّيِّب مثل:

حديث: "لثيِّبات تعرب عن نفسها بلسانها".

وحديث: "لا تُنْكح الأيِّم حتى تستأمر".

والموطوءة بزنى ثيِّب؛ إذ إنَّ الثّيِّب هي الموطوءة في القبل، وهي كذلك؛ بدليل أنَّه لو أوصى لثيِّب النِّساء دخلت في الوصيَّة، ولو أوصى للأبكار لم تدخل، ولو اشترطها في التزويج أو الشراء بكرًا فوجدها مصابة بالفجور ملك الفسخ1.

ثانيًا: ولأنّها موطوءة في القبل فأشبهت الموطوءة بشبهة2.

ثالثًا: أنّ الحكمة التي اقتضت التفرقة بين صفة إذن البكر والثّيِّب هو الحياء، والمثابة بزنى قد زال حياؤها بمباضعة الرِّجال؛ فإنَّها إذًا لم تستح من مباضعة الرِّجال عن طريق الزِّنى فلن تستحي من التصريح بالإذن في النِّكاح الصحيح3.

1 انظر المغني لابن قدامة (7/388) .

2 نفس المصدر والصفحة.

3 المبدع (7/27) . كشاف القناع (5/46) ، تكملة المجموع الثانية (16/170) .

ص: 355

رابعًا: أنّ الموطوءة بزنى ثيِّب حقيقة؛ لأنَّ مصيبها عائد إليها، ومنه المثوبة والمثابة، والتثويب1.

دليل القول الثَّانى:

واستدلَّ من قال: إنَّ الموطوءة بزنى حكمها في الإذن حكم الأبكار بما يلي:

أوَّلاً: أنَّ علَّة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء، والحياء من الشيء لا يزول إلاّ بمباشرته بالإذن، وهذه لم تباشره بالإذن في نكاح صحيح، فيبقى حياؤها بحاله، والحياء علَّة منصوصة، كما في حديث عائشة الصحيح أنَّها قالت:"يا رسول الله يستأمر النِّساء في أبضاعهنَّ؟ قال: "نعم". قالت: فإنَّ البكر تستأمر فتستحي. قال: "سكاتها إذنها "2. متفق عليه3.

ثانياً: أنَّ النّاس عرفوها بكرًا، فيعيبونها بالنُّطق فتمتنع عنه، فلو لم يكتف بسكوتها لتعطَّلت مصالحها، وهذا بخلاف ما إذا وطئت بشبهة، أو نكاح فاسد؛ لأنّ الشرع أظهره، حيث علَّق به أحكامًا، من لزوم العدّة

1 الهداية وفتح القدير والعناية (3/270- 271) .

2 انظر: المغني لابن قدامة (7/388) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/271) .

3 الحديث تقدم تخريجه (ص 278) .

ص: 356

والمهر، وإثبات النَّسب، بخلاف الزنى المندوب إلى ستره، ولم يتعلَّق به شيء من أحكام النِّكاح الصحيح1.

ولكن نوقش الدليل الأوَّل: بأنّ التعليل بالحياء غير صحيح، فإنّه أمر خفيّ لا يمكن اعتباره بنفسه، وإنّما يعتبر بمظنّته، وهو البكارة؛ لأنَّها وصف ظاهر منضبط بخلاف الحياء2.

وأمَّا قولهم إنَّهالم تباشره بالإذن، فإنَّه باطل بالموطوءة بشبهة، أو في ملك اليمين أو المزوَّجة صغيرة3.

أمَّا قولهم: إنّ النَّاس عرفوها بكراً، فالظاهر أنّ محلّ الخلاف فيمن اشتهر زناها، لا من عرفها النّاس بكرًا، كما قال ابن الهمام: إن زالت- (أي بكارتها) - بزنى مشهور، أو وطء بشبهة أو نكاح فاسدٌ زوِّجت كالثَّيِّبات اتفاقًا، وإن زالت بزنى غير مشهور فهو محلّ الخلاف 4 اهـ-

وقوله هذا يحتمل أن يكون قصد بمحلِّ الاتفاق والخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، ويحتمل أن يكون قد قصد به الحنفية وغيرهم، وعلى كلا الاحتمالين فينبغي أن يكون محلّ الخلاف في المشهور؛ لا في المستور لما يترتَّب على استنطاقها من إظهارعيبها الذي أمر الشارع بستره، مع أنّه

1 انظر الهداية وفتح القدير والعناية (3/271- 272) . وتبيين الحقائق (2/0 12) .

2 فتح القدير (3/271-272) . والمغني لابن قدامة (7/388) .

3 المغني لابن قدامة (7/388) .

4 فتح القدير لابن الهمام (3/271-272) .

ص: 357

ليس هناك ضرورة لنطقها؛ لظهور قرائن الرضى بغيره، كسكوتها أو استلام مهرها، أو تهيّؤها للنِّكاح بعد العلم به، وكم من قرينة حال تعارفها الناس في كلّ زمان ومكان فأغنت عن صريح المقال.

وأمَّا الأحاديث التي فيها الأمر باستئمار الثّيّب، وأنَّها تعرب عن نفسها، فليس فيها إلاّ تأكيد حقّها في الرضى، وإذا عرف فليس الاستنطاق أمرًا تعبّديًّا، وإنّما هو وسيلة لمعرفة الرضى والإذن، مع أنّ الغالب أنّ المقصود بالثّيِّب هي المعهودة عند الناس بسبب نكاح أو شبهة.

ومن هنا نعلم أنَّ الأولى في هذه المسألة هو التفصيل في حال الموطوءة بزنى:

فإن اشتهر أمرها بنحو إقامة حدٍّ عليها، أو اتخاذه عادة لها، فهذه إن لم تكن أولى بالاستنطاق من الموطوءة بشبهة المتفق على استنطاقها، فلا أقلّ من مساواتها بها، وأمَّا إن خفي زناها وغلب عليها حياؤها فمنعها من التصريح بالإذن، فلا ينبغي إجبارها على النطق، بل يكتفى بظاهر أمرها عند الناس؛ ولهذا قال ابن الهمام: الفرض أنَّ الزنى غير مشهور، ففي الزامها النطق دليل المنع من إشاعة الفاحشة في هذه الصورة، والمنع يقدم عند التعارض فيعمل دليل نطق الثّيِّب فيما وراء هذه الصورة، وأيضًا الظاهر من مراد الشارع من البكر المعتبر سكوتها رضى البكر ظاهراً كما في أمثاله، لا في نفس الأمر، ولذا لم يوجب على الوليّ استكشاف حالها عند استئذانها، أهي بكر الآن ليكتفي بسكوتها أم لا؟ اكتفاء بالبناء على

ص: 358

الأصل الذي لم يظهر خلافه، والكلام هنا في ثيوبة بزنى لم يظهر فيجب كونها بكرًا شرعًا؛ ولذا قلنا لو ظهر لا يكفي سكوتها" ا. هـ1 والله أعلم.

خاتمة هذا الفصل: في حكم إنكاح الوليِّ من يعتبر إذنها بدون إذنها

لقد تقدَّم لنا في هذا المبحث أنّ الثَّيِّب الحرَّة المكلَّفة لا يُنْكِحها وليُّها إلَاّ بإذنها اتفاقًا، إلاّ من شذّ، وكذلك البكر الحرَّة المكلَّفة لا يُنْكِحها سائر أوليائها إلاّ بإذنها، عدا الأب والجدّ، ففي إنكاحهما لها بدون إذنها خلاف، تقدَّم بيانه، وأنّ الراجح هوعدم صحة إجبارهما لها أيضًا.

ويجدر بنا أن نختم هذا الفصل ببيان صحَّة أو بطلان إنكاح الوليِّ من يعتبر إذنها بغير إذنها.

وحاصل مذاهب العلماء في هذه المسألة يمكن حصره في ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنّ نكاح من يعتبر إذنها بدون إذنها نكاح باطل، لا يصح مطلقًا، وإن رضيت به بعد ذلك وأجازته. وهذا مذهب الإمام الشافعي، وأصحّ الروايتين عن الإمام أحمد، ورواية عن الإمام مالك. رحمهم الله"2.

1 فتح القدير لابن الهمام (3/272) . وانظر الاختيارات الفقهية لابن تيمية (204) ففيها تقوية لما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك من تزويج المثابة بزنى كما تزوَّج البكر.

2 انظر: الأم للشافعي (5/17-18) ، وروضة الطالبين (7/55) ، وفتح الباري (9/194) ، والمغني لابن قدامة (7/365) ، والإنصاف (7/82) ، والإفصاح لابن هبيرة (2/114-115) ، والفتاوى لابن تيمية (32/29-30) ، والكافي لابن عبد البر (1/432) .

ص: 359

وحجَّة هذا الفريق أحاديث وجوب الاستئمار، والنهي عن إنكاح المرأة بدون إذنها، المتقدّم تفصيلها في هذا الفصل، وأصرحها في هذه المسألة هو: قضاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم في خنساء بنت خِدَام حيث أنكحها أبوها وهي كارهة، فرفعت أمرها إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فردّ نكاحها"1، ولم يقل لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إلاّ أن تجيزي ما فعل أبوك2.

القول الثَّانى: أنّه إذا بلغها الخبر عن قرب فأجازته جاز، وإلا فلا. وهذا هو المشهور من مذهب المالكية3.

ووجه إجازته عن قرب: هو وقوع العقد والإجازة في وقت واحد، والمهلة اليسيرة لا ضرر فيها، وأمَّا وجه بطلانه عن بعد فهو حجّة الفريق الأول4.

القول الثَّالث: انعقاد النِّكاح موقوفًا على إجازتها؛ فإن أجازته جاز، وإن ردّته بطل. وهذا هو مذهب الحنفية5.

1 تقدم تخريجه (ص346) .

2 انظر الأم للشافعي (5/17) .

3 انظر: الكافي لابن عبد البر (1/432) ، والإفصاح لابن هبيرة (2/114) . وشرح الزرقاني على الموطأ (3/144) ، وفتح الباري (9/194) .

4 انظر: الزرقاني على الموطأ (3/144) ، والمنتقى للباجي (3/311) .

5 انظر: المبسوط (5/15) ، الهداية وفتح القدير والعناية (3/306وما بعدها) .

ص: 360

وحجَّتهم حديث الفتاة البكر التي أنكحها أبوها وهي كارهة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها فقالت: "قد أجزت ما صنع أبي، ولكنِّي أردت أن أعلم: أن للنساء من الأمرشيء؟ "1.

ولاختلاف العلماء أيضًا في هذه المسألة سبب آخر:

وهو قياس عقد الوليّ هنا على عقد الفضولي، وهو عقد مختلف في صحَّته، فعندالحنفية كلُّ عقد انعقد وله مجيز انعقد موقوفًا على الإجازة، فعقد الفضولي عندهم عقد صدر من أهله- وهو الحرّ البالغ العاقل- مضافًا إلى محلّه- وهو هنا الأنثى من بنات آدم التي لم يمنع من نكاحها مانع- ولا ضرر في انعقاده؛ لتوقفه على إجازة من له الحق، فإن رأى فيه مصلحة أجازه وإلاّ ردّه.

وهذا بخلاف مذهب الشافعي رحمه الله ومن وافقه فعقود الفضولي

عنده كلُّها لاغية لا حكم لها2.

"الرَّاجح":

والذي يظهر لي- والله أعلم- أنَّ عقد الوليِّ هنا لا يخلو من أمرين:

إمّا أن يكون قد وقع صحيحاًً أو باطلاً أصلاً.

1 تقدم تخريجه (ص177) .

2 انظر في عقد الفضولي: الهداية وفتح القدير والعناية (3/307وما بعدها) .

ص: 361

فإن وقع باطلاً فلا تلحقه الإجازة، بل لا بدّ من استئناف عقد جديد إن رضيت بعد ذلك. وإمّا أن يقال: إنَّه انعقد صحيحًا ولها حقّ الفسخ إن لم ترض، وهذا هو أصحها وأقواها فيما يظهر لي لما يلي:

أوّلاً: أنَّ ما ورد فى السنة الصحيحة من الأمر باستئذان المرأة المكلَّفة في إنكاحها والنهي عن إنكاحها بدون إذنها قد بيَّنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في خنساء بنت خِدَام والفتاة، وكلتاهما قد أنكحهما أبواهما كارهتين، أولاهما ثيِّب، وا لأخرى بكر على أصح القولين فيهما، والمسكوت عنه في حديث الخنساء قد جاء مفسَّرًا في حديث الفتاة البكر، فالقول بأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل لخنساء إلا أن تجيزي- مما يدلّ على عدم الجواز- يردُّه قول الفتاة البكر "قد أجزت ما صنع أبي". وقول من قال: إنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما أثبت لهذه الفتاة الخيار؛ لأنَّ أباها قد أنكحها غير كفء لها، ونقصان الكفاءة يثبت الخيار ولا يبطل النِّكاح مردود بتصريح هذه الفتاة بأنَّ أباها أنكحها وهى كارهة، فالعلَّة هى الكراهة، كما تقدَّم تحقيقه1، ثم إنَّه أيُّ فرق بين أن تكون كارهة، لنقص في كفاءة خاطبها أو لأمرآخر؟ فثبت بهذا أنّ ما جاءت به السنَّة من الأمر بالاستئذان والنهي عن إنكاح المرأة بدونه إنَّما يدل على تأكيد حقّها في الرضى، وحقّها في الفسخ إن لم ترض، لا على بطلان إنكاح وليِّها إن رضيت به بعد ذلك.

1 انظر ما تقدم (ص 182 وما بعدها) .

ص: 362

ثانيًا: أنَّ العقد هنا حقٌّ للوليّ، ورضى المرأة ليس شرطًا في ولايته؛ إذ الوليُّ قد تصرَّف في حقِّه، وكلُّ ما يترتَّب على عقده بدون إذنها هو تداركها ما يلحقها من ضرر، أو يفوّت عليها من مصلحة، فيكون لها حقُّ الفسخ دفعًا للضرر عنها، وتأكيدًا لحقِّها في معاشرة من ترضاه من ذوي الخلق والدِّين.

ثالثًا: أنَّ عقد الوليِّ ليس كعقد الفضولي- سواء قيل بصحته أو ببطلانه- ولا هو أيضًا كعقد المرأة النِّكاح لنفسها أو لغيرها؛ فإنَّ كلاً من الفضولي والمرأة لا يملكان عقدة النِّكاح أصلاً؛ للتصريح في الحديث بنفي النِّكاح بدون وليٍّ، وببطلان نكاح المرأة نفسها، والباطل لا تلحقه الإجازة، والقاعدة التي نستأنس بها في تقرير هذا المعنى هو ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله "من أنَّ كلَّ عقدة لا تحلّ المرأة لزوجها، لا تكون بالإجازة صحيحة"1.

إلاّ أنّ الشافعي رحمه الله قد أجرى هذه القاعدة على النِّكاح بدون وليٍّ، وعلى نكاح من يعتبر إذنها بغير إذنها، والظَّاهر هو الفرق بين المسألتين كما تقدّم، وقدأشارإلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيميَّة في فتاواه2.

1 انظر الأم (5/169-170) .

2 انظر الفتاوى (32/29-30) .

ص: 363

وقد حرر ابن قدامة مذهب الحنابلة في نكاح المرأة بدون وليِّها- رادًّا على بعض الأصحاب- قائلاً: متى تزوَّجت المرأة بغير إذن وليِّها، أو الأمة بغير إذن سيدها فقد ذكره أصحابنا من جملة الصور التي فيها الروايتان، والصحيح عندي أنّه لا يدخل فيها؛ لتصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه بالبطلان1.

رابعًا: أنَّ رضى المرأة بعقد وليِّها وتنازلها عن حقِّها في الفسخ طاعة لوليِّها واحترامًا لتصرَّفه فيه فخرٌ للمرأة، وشرف عند الأقارب والأباعد، بل إنّه دليل على كمال عقلها وحيائها، وهذا بخلاف الأمر- فيما لو أنكحت نفسها، أو أنكحها فضوليِّ، فانَّ تنازل الوليّ عن حقِّه في العقد لا ينجي المرأة، ولا أولياءها من معرَّة الذمّ والتشنيع من الناس، فظهر الفرق واضحًا جليًا بين عقد الوليِّ وعقد غيره. والله الموفِّق للصَّواب وإليه المرجع والمآب.

1 المغني مع الشرح الكبير (7/366) .

ص: 364