الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّاني: معنى النِّكاح
للنِّكاح معناه لغة وشرعاً واصطلاحاً، وإليك بيان ذلك ما أمكن:
1-
أمَّا معناه لغة:
فهو: اسم يقع على الوطء، وعقد التزويج.
قال الأزهري: "أصل النِّكاح في كلام العرب الوطء. وقيل للتزويج: نكاح؛ لانَّه سبب الوطء المباح"1.
وقال ابن فارس: "نكح" النون والكاف والحاء أصل واحد وهو
البِضاع 2، ونَكَح ينكِح "أي بكسر الكاف"، وامرأة ناكح في بني فلان أي ذات زوج منهم. والنِّكاح يكون العقد دون الوطء يقال: نكحتُ: تزوَّجت. وأنكحتُ غيري "بضم تاء المتكلم فيهما"3.
وقال الجوهري: "النِّكاح الوطء. وقد يكون العقد، تقول العرب:
نكحتُها "بضم التاء" ونكحت هي أي تزوجت، وهي ناكح في بني فلان أي هي ذات زوج منهم، وقال:
1 تهذيب اللغة للأزهري (4/103) ، وعنه اللسان (2/626) مادة (نكح) .
2 البِضاع: بكسر الباء الموحدة: هو الجماع. ومنه المثل "كمعلِّمة أمِّها البِضَاع"
يضرب لمن يعلِّم من هو أعلم منه. انظر مادة (بضع) . مقاييس اللغة (1/255-256) ، والصحاح (3/1187) .
3 مقاييس اللغة لابن فارس (5/475) .
لصلصلة اللِّجام برأس طِرْفٍ1
…
أحبّ إليّ من أن تنكحيني واستنكحها
بمعنى نكحها، وأنكحها أي زوَّجها، ورجل نُكَحةٌ، كثير النِّكاح.
والنُّكح والنِّكح "أي: بضم النون وكسرها وإسكان الكاف فيهما" لغتان، وهي كلمة كانت العرب تتزوج بها، وكان يقال لأمِّ خارجة عند الخِطبة "بكسر الخاء" خُطْب "أي: بكسر الخاء وضمها وإسكان الطاء" فتقول: نُكْحُ "أي: بضم النون" حتى قالوا: أسرع من نكاح أمِّ خارجة2.
وقال الفيروزآبادي: النِّكاح الوطء والعقد له، نكح كمنع وضرب3.
وقال الزبيدي شارحاً تلك العبارة: النِّكاح بالكسر في كلام العرب الوطء في الأصل. وقيل هو العقد له، وهو التزويج؛ لأنَّه سبب للوطء المباح4.
1 بكسر الطاء المهملة وإسكان الراء، هو الفرس الكريم. انظر مادة (طرف) في مقاييس اللغة (3/448) ، الصحاح (4/1393) ، القاموس (3/ 172) ، اللسان (9/ 214) .
2 الصحاح (1/413) .
3 القاموس (1/263) .
4 تاج العروس (2/242) .
وقال ابن منظور: نكح فلان امرأة ينكحها نكاحًا إذا تزوجها، ونكحها ينكحها: باضعها أيضاً. وكذلك دحمها وفجأها، وقال الأعشى في نكح بمعنى تزوَّج:
ولا تقربنَّ جارة، إنَّ سرَّها1
…
عليكَ حرام فانكحنْ أو تأبَّدَا2
اهـ المقصود منه3.
هذا بعض ما قاله أهل اللغة في معنى النِّكاح، آثرت نقل جمل من
أهمها - فيما يظهر لي- لأنهم أهل الفن- وكما قيل: "أهل مكة أدرى بشعابها"، ومنها يتضح أنّ القدر المشترك بين تلك النصوص جميعاً ثبوت استعمال لفظ النِّكاح في كلٍّ من الوطء، وعقد التزويج، وهذا مما لا خلاف فيه- فيما أعلم- وشواهده من اللغة أكثر من أن تحصى. وإنما الخلاف في تعيين حقيقة الاستعمال في كلِّ من المعنيين. وفيه بحث يطول ذكره على المباحث الفقهية، ولكن نشير إلى أهم ما قيل فيه جرياً على
1 أصل السِّر: ضد العلن، فهو اسم لكلِّ ما يكتم ويخفى، ويسمى الجماع سرًّا لإخفائه وستره. والمقصود به هنا الوطء بدون تزويج. انظر مادة (سرر) ، مقاييس اللغة (3/67) ، الصحاح (2/ 681) ، القاموس (2/48) ، اللسان (4/358) .
2 تأبَّد: أي توحَّش، أي كن منها كالوحش بالنسبة إلى الآدميات، فلا يكن منك قربان لهنَّ كما لا يقربهن، وحش. كذا في فتح القدير لابن الهمام (3/186) . وانظر مادة (أبد) في مقاييس اللغة (1/34) ، الصحاح (2/439) ، القاموس (1/283) ، اللسان (3/68-69) .
3 اللسان (2/625) .
عادة الفقهاء في بيان حقيقة معنى هذه الكلمة وأمثالها من الكلمات التي تتصدَّر أبواب الفقه؛ ليكون بيان معناها اللغوي مدخلاً للمعنى الشرعيّ أو الاصطلاحيّ؛ لذلك فإن أهم ما قيل في حقيقة النِّكاح لغة يمكن حصره في أربعة أقوال:
القول الأوَّل: أنه حقيقة في الوطء، مجاز في عقد التزويج.
وعلى هذا يدلّ كلام الأزهري السابق ذكره، وكذلك الزَّبيدي في شرحه لعبارة القاموس، وإليه تشير عبارة الجوهري فإنه قال:"وقد يكون العقد"، مشيرًا لقلَّة استعماله في التزويج بخلاف الوطء.
القول الثاني: أنَّ النِّكاح حقيقة في كلٍّ من الوطء وعقد التزويج، أي مشترك لفظي، كالعين: للباصرة والجارية.
ويدلُّ على هذا المعنى ما سبق عن الجوهري، وابن فارس، والفيروزآبادي1.
وتوجيه هذا القول: أنّه تحقَّق الاستعمال في اللغة في كلٍّ منهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة2.
واستدلَّ بعض الفقهاء لهذا المعنى بما نقل عن أبي القاسم
1 انظر ما تقدم عنهم ص (31،32) ، وانظر المصباح المنير (2/624) ، وتاج العروس (2/243) .
2 انظر فتح القدير لابن الهمام (3/185) .
الزَّجَّاجي1 أنه قال: "النِّكاح في كلام العرب بمعنى الوطء والعقد جميعاً، وموضع "نكح" على هذا الترتيب في كلام العرب للزوم الشيء على الشيء راكباً عليه، هذا كلام العرب الصحيح، قالوا نكح فلان فلانة ينكحها نكحاً ونكاحاً أرادوا تزوّجها"2.
ولكن ظاهر كلامه أنه جعله من "المتواطئ" فلا يتَّجه حمله على معنى الاشتراك اللفظيِّ كما هو الظاهر عند إطلاق لفظ المشترك "، وإنما يتجه على معنى الاشتراك المعنويّ؛ إذ هو المرادف لمعنى التواطؤ. والله أعلم.
وقال ابن جنِّي: "سألت أبا علي الفارسي عن قولهم "نكحها"، فقال: فرّقت العرب فرقاً لطيقاً يعرف به موضع العقد من الوطء، فإذا قالوا: "نكح فلانة" أو "بنت فلان" أرادوا تزويجها والعقد عليها، وإذا
1 هو: عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي، تتلمذ على إبراهيم بن السري الزَّجَّاج فنسب إليه. انظر ترجمته في معجم المؤلفين (5/124) ، والأعلام (4/96) ، وانظر ترجمة شيخه في معجم المؤلفين (1/33) ، والأعلام (1/33) .
وبعضهم يعزو هذا القول للزجاج، فليلاحظ الفرق بينهما.
2 شرح النووي (9/171) ، فتح الباري (9/103) ، الإنصاف (8/3) ، نيل الأوطار (6/115) .
قالوا "نكح امرأته" لم يريدوا إلا المجامعة؛ لأنّه بذكر امرأته وزوجته تستغنى عن العقد"1.
القول الثَّالث: أنّه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء.
وهذا في المعنى الشرعي أوضح منه في المعنى اللغويِّ كما سيأتي2.
القول الرَّابع: أنّه حقيقة في الجمع والضَّمِّ والتداخل. أي مطلقاً، سواء كان حسيّاً أم معنويّاً.
قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصّلناه عن ثعلب عن الكوفيين، وعن المبرِّد عن البصريين أنّه الجمع، قال الشاعر:
أيّها المنكح الثريّا سهيلاً
…
عَمْرَركَ الله كيف يجتمعان3 "اهـ".
ومن وروده في الضمِّ قولهم: تناكحت الأشجار إذا انضم بعضها إلى بعض. ومنه قول الشاعر:
ضممت إلى صدري معطَّر صدرها
…
كما نكحت أمُّ الغلام صبيَّها
أي كما ضمَّته4.
1 انظر: المبدع (7/3) ، الإنصاف (8/3) ، شرح النووي (9/ 171) ، فتح الباري (9/103) ، شرح الزرقاني على الموطأ (3/ 124) .
2 انظر: تاج العروس (2/242-243) ، فتح القدير لابن الهمام (3/185) ، البحر الرائق لابن نجيم (3/82) .
3 المبدع (7/3) ، كشاف القناع (5/ 5) ، الإنصاف (8/3) . وانظر البيت في الصحاح (2/756) .
4 الزرقاني على الموطأ (3/124) .
ومن وروده في الدخول قولهم: نكح النومُ عينَه إذا غلبه، ونكحت الحصاة أخفاف الإبل إذا دخلت فيها، ومنه قول المتنبي:
أنكحتْ صمُّ حصاها خُفَّ يَعْمَلَةٍ1
…
تَغَشْمَرَتْ2 بي إليك السهلَ والجبلا3
وعلى هذا القول فهل النِّكاح حقيقة في كلٍّ من الوطء والعقد أو مجاز فيهما؟
قال صاحب المصباح المنير: - بعد تصريفات فعل "نكح "- قال: "يقال مأخوذ من نكحه الدواء إذا خامره وغلبه، أو من تناكحت الأشجار إذا انضم بعضها إلى بعض، أو من نكح المطر الأرض إذا اختلط بثراها، وعلى هذا فيكون النِّكاح مجازًا في العقد والوطء جميعاً؛ لأنَّه
1 اليعملة: بفتح الياء الناقة المطبوعة على العمل. كذا في شرح الزرقاني على الموطأ (3/124) .
وانظر مادة (عمل) في مقاييس اللغة لابن فارس (4/145) والصحاح (5/1775) ، والقاموس (4/ 22) ، واللسان (11/476) .
2 تغشمرت: التغشمر - بغين معجمة- الأخذ قهرًا. كذا في شرح الزرقاني على الموطأ (3/124) .
وقال ابن فارس: (الغشمرة) : إتيان الأمر من غير تثبت، وهذه منحوتة من كلمتين: من الغشم والتشمّر، لأنّه يتشمّر في الأمر غاشماً. اهـ (4/430) . وانظر الصحاح (2/770) .
3 الزرقاني على الموطأ (3/124) .
مأخوذ من غيره، فلا يستقيم القول بأنَّه حقيقة لا فيهما ولا في أحدهما، ويؤيِّده أنّه لا يفهم العقد إلا بقرينة نحو "نكح في بني فلان"، ولا يفهم الوطء إلا بقرينة نحو "نكح زوجته"، وذلك من علامات المجاز، وإن قيل غير مأخوذ من شيء فيترجح الاشتراك؛ لأنه لا يفهم واحد من قسيمه إلا بقرينة".اهـ1.
وقال ابن الهمام الحنفي- مبيّناً أنّه لا منافاة بين مذهب الحنفية أنّه حقيقة في الوطء، وقول بعضهم: أنه حقيقة في الضَّمِّ قال: ولا منافاة بين كلاميهم؛ لأنَّ الوطء من أفراد الضمِّ، والموضوع للأعمِّ حقيقة في كلٍّ من أفراده كإنسان في زيد، لا يعرف القدماء غير هذا2.
وتعقبه ابن نجيم في البحر الرائق بالمنع؛ لمغايرة الوطء للضَّمِّ 3.
1 المصباح المنير (2/624) . وانظر في ورود النِّكاح بمعنى الضم والدخول في كل من: تهذيب اللغة للأزهري (4/ 204) ، واللسان (2/226) ، وتاج العروس (2/243) .
2 فتح القدير (3/185-186) .
3 البحر الرائق (3/82) .
ونقل المرداوي1 عن الشيخ تقي الدين 2- رحمه الله قوله:
معناه في اللغة: الجمع والضمّ على أتم الوجوه، فإن كان اجتماعاً بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين، وإن كان اجتماعاً بالعقود فهو الجمع بينهما على الدَّوام واللزوم، ولهذا يقال: استنكحه المذي إذا لازمه وداومه" اهـ3.
2-
معنى النِّكاح شرعاً.
وأمَّا حقيقة النِّكاح شرعاً فقيل فيها أربعة أقوال أيضاً:
القول الأوَّل: أته حقيقة في عقد التزويج دون الوطء.
وهذا هو الصَّحيح من مذهب الشافعية والحنابلة وظاهر صنيع بعض المالكية يدلُّ على اعتماده في المذهب4.
1 هو علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي صاحب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد رحمه الله. انظر ترجمته في معجم المؤلفين (7/102) ، الأعلام (5/104) .
2 هو شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية. انظر ترجمته في معجم المؤلفين (1/261) ، والأعلام (1/140) .
3 الإنصاف (8/3-4) .
4 انظر للشافعية: شرح النووي على مسلم (9/172) ، فتح الباري (9/103) ، مغني المحتاج (3/123) ، تفسير الفخر الرازي (6/55) .
وللحنابلة: المغني والشرح الكبير (7/333) ، الإنصاف (8/4) ، المبدع (7/3) ، كشاف القناع (5/5) ، شرح منتهى الإرادات (3/ 2) .
وللمالكية: شرح الزرقاني على الموطأ (3/124) ، الفواكه الدواني (2/ 21) ، الخرشي
والعدوي (3/ 165) ، والحطاب (3/403) .
ومن أدلة هذا القول ما يلي:
أولاً: أنَّ لفظ النِّكاح بمعنى التزويج أكثر وأشهر استعمالاً في القرآن ولسان أهل العرف. كما في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 1.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأة نَكَحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل- ثلاثاً-"2.
وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تُنكح المرأة إلا بإذن وليِّها، أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان"3
والوطء إنّما يجوز بالعقد، لا بالإذن المجرد عنه. وشواهد ذلك من القرآن والسنة وعرف الصحابة كثيرة مشهورة4.
1 سورة النور – آية رقم: 32.
2 انظر تخريجه ص (112) .
3 انظر تخريجه ص (145) .
4 انظر توجيه هذا الاستدلال لهذا القول في: المغني والشرح الكبير (7/333) ، شرح النووي (9/ 172) ، فتح الباري (9/103) ، مغني المحتاج (3/123) ، نيل الأوطار (6/115) ، شرح الزرقاني على الموطأ (3/124) .
بل قيل: إنَّه لم يرد النِّكاح في القرآن إلا بمعنى التزويج، ولكن أورد على هذا أنه ينتقض في موضعين من القرآن الكريم:
أولهما: قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 1 فإن معناه الوطء؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظيّ حين أرادت الرجوع إلى زوجها الأول قبل وطء الثاني- قال: "لا، حتى تذوقي عُسَيْلته ويذوق عُسَيْلتَك". رواه الستة وغيرهم2.
ولكن قيل: إنّ هذا الاعتراض غير وارد فإن معنى "تَنْكِحَ" في الآية تتزوَّجٌ أي بعقد وليِّها لها. وظاهر الآية أنَّ هذا يكفي، ولكن ثبت في السنة أته لا بدّ من الوطء وهو "ذوق العسيلة" كما أته لا بدَّ من التطليق بعد ذلك والعِدَّة3.
1 سورة البقرة- آية رقم: 230.
2 عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إنَّ رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي، وإنِّي نكحت بعده عبد الرحمن بن الزَّيِير القرظي وإنَّما معه مثل الهدبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لعلِّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته"(رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب الطلاق، باب من جوّز الطلاق الثلاث (9/361 فتح الباري) .
وانظر بقية تخريجه في إرواء الغليل (6/297 وما بعدها)
3 انظر: فتح الباري (9/103) ، شرح الزرقاني على الموطأ (3/124) ، مغني المحتاج (3/123) ، نيل الأوطار (6/115) .
وثانيهما: قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} 1،
فإنَّ معناه بلوغ الحلم2.
وقال الراغب: "أصل النِّكاح للعقد ثم استعير للجماع، ومُحَال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد، لأنَّ أسماء الجماع كلَّها كنايات؛ لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشًا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه"3.
ثانياً: ولأنَّه يصح نفي النِّكاح عن الوطء، فيقال: هذا سفاح لا نكاح، وصحة النفي دليل المجاز4.
ثالثاً: أن النِّكاح أحد اللفظين المجمع على صحة العقد بهما، فكان حقيقة فيه كاللفظ الآخر وهو لفظ التزويج5.
رابعاً: ولأنَّ الذهن ينصرف إليه عند الإطلاق ولا يتبادر إلا إليه فهو إن لم يكن حقيقة فيه أصلاً -أي في اللغة- فهو مما نقله العرف6.
1 سورة النساء- آية رقم: 6.
2 قاله أبو الحسين بن فارس. انظر نفس المصادر السابقة وصفحاتها.
3 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (505) . وانظر مغني المحتاج (3/123) .
4 انظر: المغني والشرح الكبير (7/333-334) ، المبدع (7/3) ، مغني المحتاج (3/123) ، تحفة المحتاج وحواشيها (7/183) .
5 انظر: المغني والشرح الكبير (7/333-334) .
6 المغني والشرح الكبير (7/333) ، شرح منتهى الإرادات (3/ 2) ، كشاف القناع (5/5) .
ولكن المخالف لا يسلِّم بهذا بل يقول: إنَّ هذا مفهومه في العرف الاصطلاحي الفقهي خاصة1.
القول الثَّاني: أنَّه حقيقة في الوطء دون العقد.
وهذا مذهب الحنفية. واختاره بعض الحنابلة، وهو أحد الأوجه عند الشافعية2.
ودليل هذا القول: أنَّ الأصل في استعماله لغة إنَّما هو في الوطء، كما قاله الأزهري وغيره من أهل اللغة، والأصل عدم النقل3.
وجاءت به السنة كما في قوله صلى الله عليه وسلم في بيان ما يَحِلُّ للرجل من
1 انظر: فتح القدير لابن الهمام (3/185-186) .
2 انظر للحنفية: المبسوط (4/ 92 1) ، الفتح والعناية (3/185-187) ، البحر الرائق (3/82) . تبيين الحقائق (2/95) .
وللحنابلة: المغني والشرح الكبير (7/333) ، الإنصاف (8/4)، المبدع (7/3-4) . وللشافعية: شرح النووي (9/172) ، فتح الباري (9/103) مغني المحتاج (3/123) .
3 انظر: فتح القدير لابن الهمام (3/185-187) ، المبدع (7/4) ، كشاف القناع (5/6) .
تنبيه: يلاحظ أنَّ الأزهري قال: إنَّه لا يعرف شيء من ذكر النِّكاح في كتاب الله إلا على معنى التزويج.
انظر: تهذيب اللغة (4/103) ، ونقله ابن منظور في اللسان (3/625) .
امرأته الحائض- "اصنعوا كلَّ شيء إلا النِّكاح"1.
وأمَّا ما ورد في الشرع بمعنى عقد التزويج فلقرينة صرفته عن معناه الحقيقيِّ إلى معنى التزويج كخطاب الأولياء في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} 2.
أو اشتراط إذنهم كما في قوله تعالى: {فانكحوهنَّ بإذن أهلهنَّ} 3.
وسمِّي عقد التزويج نكاحاً؛ لأنَّه سبب الوطء المباح4.
(1) 1- رواه بهذا اللفظ الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه (3/211 شرح النووي) كتاب الحيض، باب جواز قراءة القرآن في حجر الحائض.
2-
وأبو داود (6/207 عون المعبود) . نكاح. باب إتيان الحائض ومباشرتها.
3-
والترمذي: (8/319 تحفة) . التفسير. سورة البقرة.
4-
الدرامي: (1/196) الطهارة. باب مباشرة الحائض.
ورواه النسائي وابن ماجه بلفظ (الجماع) :
1-
النسائي (1/151 مع شرح السيوطي وحاشية السندي) الطهارة، باب تأويل قول الله عز وجل (ويسألونك عن المحيض) .
2-
ابن ماجه (1/ 211) الطهارة. باب ما جاء في مؤاكلة الحائض سؤرها.
2 سورة النور – آية رقم: 32.
3 سورة النساء – آية رقم: 25.
4 المبسوط (4/ 192) ، فتح القدير لابن الهمام (3/185-187) ، البحر الرائق (3/ 82) ، تبين الحقائق (2/95) .
القول الثَّالث: أن النِّكاح حقيقة في كلٍّ من الوطء والعقد. أي مشترك بينهما، ويتعيَّن المقصود منهما بالقرينة.
وهو قول لبعض الحنابلة قيل: إنَّه ظاهر ما نقل عن الإمام أحمد1.
وهو أحد الأوجه عند الشافعية2. قال الحافظ في الفتح: "وهو الذي يترجَّح في نظري وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد"3.
وحكاه غيرهم إمَّا قولاً للفقهاء، أو لأهل اللغة على اعتبار أنَّه لا فرق بين أهل اللغة والشرع في حقيقة النِّكاح إلا في المعنى الاصطلاحي الفقهي، أمّا مجرّد الاستعمال في اللُّغة والشرَّع فالقول فيه واحد4.
ودليل هذا القول أنَّه ثبت الاستعمال في اللغة والشّرع بمعنى الوطء والعقد، والأصل في الإطلاق الحقيقة5.
القول الرَّابع: أنَّه حقيقة فيهما معًا- أي من الألفاظ المتواطئة.
1 المبدع (7/ 4) ، الإنصاف (8/ 5) ، شرح منتهى الإرادات (5/ 6) ، كشاف القناع (5/6) .
2 شرح النووي (9/ 172) ، مغني المحتاج (3/123) .
3 فتح الباري (9/103) .
4 انظر: فتح القدير لابن الهمام (3/185-187) ، والبحر الزخار (4/3) ، والبحر الرائق (3/82) ، وشرح الزرقاني على الموطأ (3/124) .
5 انظر: فتح القدير لابن الهمام (3/185-187) ، والمبدع (7/ 4) ، وكشاف القناع (5/6) .
وبهذا قال بعض الحنابلة، وما نقل عن الإمام أحمد يحتمله ويحتمل الاشتراك1.
وتوجيه هذا القول: أنَّ القول بالتواطؤ أولى من القول بالاشتراك والمجاز؛ لأنَّهما خلاف الأصل2.
ونقل المرداوي عن الشيخ تقي الدين رحمه الله: "أنَّه في الإثبات لهما، وفي النهي لكلِّ منهما، بناء على أنَّه إذا نهي عن شيء نهي عن بعضه، والأمر به أمر بكلِّه في الكتاب والسنة والكلام، فإذا قيل- مثلاً- "انكح ابنة عمِّك"، كان المراد العقد والوطء، وإذا قيل "لا تنكحها" تناول كل واحد منهما" اهـ3.
وظاهر هذا أنَّ النِّكاح حقيقة فيهما بالتواطؤ، وإنما بيَّن الفرق بين دلالة الإثبات والنهي، ويؤيِّده ما سبق عنه من أن النِّكاح لغة الضمُّ على أتِّم الوجوه في الأبدان والعقود"4.
هذه أهم الأقوال في حقيقة النِّكاح لغة وشرعاً، ولا يخفى أنَّ مناقشة كلِّ قول منها وترجيح ما يقوى رجحانه منها بحث يطول بيانه. وكلُّ ما
1 الإنصاف (8/ 5) ، المبدع (7/4) ، شرح منتهى الإرادات (3/ 2) ، الإفصاح لابن هبيرة (2/114) .
2 الإنصاف (8/5) ، شرح منتهى الإرادات (3/2) .
3 الإنصاف (8/6) .
4 انظر نصّ ما حكي عنه فيما سبق (ص 39) .
يمكن أن أقوله في خاتمة هذا المبحث أنَّ ورود النِّكاح في الشرع - أي في استعمال القرآن والسنة وعرف الصحابة- هو في جانب عقد التزويج أكثر وأشهر، وهذا وإن لم ينف حقيقة استعماله في الوطء- أو المعنى الأعمّ وهو الضم ونحوه، فهو أقوى أدلَّة حقائق معاني الألفاظ؛ إذ ليس هناك حجَّة أقوى من كثرة الاستعمال وشهرته في أحد المعنيين، وظهور النِّكاح مرادًا به عقد التزويج في القرآن والسنة وعرف الصحابة بل وحتى العرب قبل الإسلام هو بالمكان المعروف الذي لا يتوقف فهمه على قرينة. والله أعلم.
وثمرة هذا البحث تظهر حين يرد النِّكاح في الشرع مطلقاً عن القرينة كقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} 1، فمن جعل النِّكاح حقيقة شرعية في التزويج لم يثبت التحريم بوطء الزنى، ومن جعله حقيقة في الوطء- حلالاً أم حراماً- أثبت به التحريم2.
والذي لا ينبغي العدول عنه هو حمل "النِّكاح" في الشرع على التزويج عند الإطلاق إذ إنَّه إن لم يكن حقيقة فيه في أصل اللغة فهو حقيقته العرفية في الشرع، كما قاله ابن قدامة رحمه الله3. والله أعلم.
1 سورة النساء – آية رقم: 22.
2 انظر: فتح القدير لابن الهمام (3/187) ، البحر الرائق (3/82) ، مغني المحتاج (3/123) ، الإنصاف (8/5) .
3 المغني (7/333) .
معنى النِّكاح في اصطلاح الفقهاء.
وأمّا معنى النِّكاح في اصطلاح الفقهاء- أي في عرفهم عند الإطلاق- فهو عقد التزويج اتفاقاً وإن اختلفوا في تعريفه تبعاً لحقيقة المعقود عليه. أهو ملك منفعة الاستمتاع بالأنثى؟ أم إباحة الاستمتاع بها لزوجها؟ أم لكلِّ منهما بصاحبه؟
وهل ينعقد بكلِّ لفظ يفيد التمليك أو الحلّ أو لا ينعقد إلا بلفظ "الإنكاح" أو "التزويج"؟ مما هو معروف في محلِّه في الكلام على صيغة
الإيجاب والقبول1.
وخلاصة القول في معنى النِّكاح: أنَّه في عرف الفقهاء لا ينصرف -عند الإطلاق- إلا إلى التزويج. وأمَّا حقيقته في اللغة والشرع فقد اختلف فيها. أهو حقيقة في الوطء مجاز في التزويج؟ أم عكس هذا؟ أم حقيقة في كلٍّ منهما بحسب الاشتراك؟ أو التواطؤ؟، وإنَّما فصَّلت القول - فيما
1 انظر تعريف النِّكاح في الاصطلاح وحقيقة المعقود عليه واللفظ المنعقد به في المراجع التالية:
فتح القدير (3/186) ، تبيين الحقائق (2/95) البحر الرائق (3/83) .
مغنى المحتاج (3/123) ، تحفة المحتاج (7/183) نهاية المحتاج (6/176) ، شرح حدود ابن عرفة (1/235) .
كشاف القناع (5/6) ، شرح منتهى الإرادات (3/2) ، الإنصاف (8/6) .
سبق- في حقيقة النِّكاح في كلٍّ من اللغة والشرع؛ لأنَّ بعض العلماء لا يمانع في كون حقيقته لغة في الوطء دون التزويج.
وإنَّما يقول: إنَّه على عكس ذلك في الشرع. فلهذا التفصيل جرى ما سبق من التقسيم. وقد سبق أنّ المختار من هذه الأقوال هو حمل النِّكاح - عند الإطلاق- في الشرع على التزويج خاصة؛ لكثرته وشهرته في هذا المعنى دون غيره. والله الموفِّق.