الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّالث: تزويج الأولياء للصّغار
إنّ الصّغار إمّا أن يكونوا ذكورًا أو إناثًا، والإناث إمّا أن يكن ثيِّبات أو أبكارًا. وهؤلاء يتفقون في بعض الأحكام، ويختلفون في بعضها، وسنتبع في بحث تزويجهم الترتيب التالي:
أ- تزويج البكر الصغيرة.
ب- تزويج الثّيّب الصّغيرة.
ج- تزويج الصبيّ الصّغير.
أ- تزويج البكر الصّغيرة.
فأمّا تزويج البكر الصّغيرة قبل بلوغها فخلاصة مذاهب العلماء في حكم تزويجها يمكن حصره بالتتبع فيما يلي:
أولاً: منع تزويجها مطلقًا، فلا يزوِّجها أبٌ ولا غيره، حتى تبلغ فتزوّج بإذنها واختيارها، وهذا القول يروى عن ابن شبرمة وأبي بكر الأصمّ1.
ثانياً: أنّ لأبيها- خاصَّة- تزويجها دون سائر أوليائها.
1 انظر المبسوط (4/ 212) . والجصاص (2/54) . وفتح القدير لابن الهمام (3/ 274) . المحلى (9/459) . بداية المجتهد (2/5) .
وهذا مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية1.
ووصيّ الأب يقوم مقامه عند المالكية والحنابلة دون الظاهرية2.
ثالثًا: أنَّ لأبيها أو جدّها- عند عدم أبيها- تزويجها دون سائر الأولياء وهذا مذهب الشافعية3.
رابعاً: أنَّ لكلٍّ من الأولياء تزويجها، ولها الخيار إذا بلغت بين الفسخ والإقرار. إلا إذا كان وليّها أباها أو جدّها فلا خيار لها حينئذ. وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن4.
1 انظر للمالكية: الخرشي (3/ 176) . وقوانين الأحكام لابن حزي (222- 223) . وبداية المجتهد (2/5-6) .
وللحنا بلة: المغني والشرح الكبير (7/379والشرح 380) . والإنصاف (8/62) والمبدع (7/22-25) . وللظاهرية: المحلى (9/458-460) .
2 انظر المصادر السابقة: وكذلك كشاف القناع للحنابلة (5/46) . والمحلى (9/463-464) .
تنبيه: وهذا إذا لم يُخف عليها الضيعة أو الفساد، وإلا فيجوز لغير أبيها ووصيّه تزويجها أيضاً عند المالكية انظر: الخرشي (3/178-179) وبلغة السالك (1/383) . والظاهر أنّ هذه ضرورة لا يخالف فيها أحد. والله أعلم.
3 انظر: الأم (5/20) . والمنهاج ومغني المحتاج (3/ 149) . وروضة الطالبين (7/53-54) .
4 انظر المبسوط (4/212-215) . والهداية وفتح القدير والعناية (3/ 274، 277-278) . وبدائع الصنائع (3/ 1 51 1) . وتبيين الحقائق (2/ 1 2 1- 22 1) . والبحر الرائق (3/126-128) .
وروى عن الإمام مالك، وأحمد، نحو قولهما، إلا أنّهما لم يجعلا لها خيارًا إذا كان الوليّ أباها خاصة، وأمّا الجدُّ فهو كسائر الأولياء1.
خامساً: أنَّ لسائر الأولياء تزويجها، ولها الخيار إذا بلغت مطلقًا، لا فرق بين أبٍ أو جدٍّ، أو غيرهما. حكاه ابن قدامة عن الحسن، وعمر ابن عبد العزيز، وعطاء وطاووس، وقتادة وابن شبرمة والأوزاعي2.
سادسًا: أنّ لسائر الأولياء تزويجها إذا بلغت، تسع سنين بإذنها، ولا خيار لها إذا بلغت، وهذه روايةٌ عن الإمام أحمد، رجّح صاحب الإنصاف أنّها المذهب3.
سابعًا: أنَّ لسائر الأولياء تزويجها، ولا خيار لها إذا بلغت، سواء أكان وليّها أباها أم جدّها أم غيرهما. وبهذا قال أبو يوسف رحمه الله4.
وخلاصة هذه الأقوال: أنَّ للأب تزويج ابنته البكر الصغيرة اتفاقًا
إلا ما حكى عن ابن شبرمة وأبي بكر الأصمّ، وأمّا غير أبيها ففي تزويجه لها خلاف، ثم إنَّ القائلين بتزويجها قبل بلوغها قد اختلفوا في
1 انظر للإمام أحمد: المغني (7/ 382) . والإنصاف (8/ 62) . والفتاوى لابن تيمية (32/50) . وللإمام مالك: الكافي لابن عبد البر (1/429) .
2 المغني (7/382) وانظر المحلى لابن حزم (9/463) .
3 الإنصاف (8/62-63) والمغني والشرح الكبير (7/383والشرح 388) وكشاف القناع5/46) والمبدع (7/26) . والفتاوى (32/50) .
4 الهداية وفتح القدير والعناية (3/278) . وتبيين الحقائق (2/ 122) ، والبحر الرائق (3/128) والمبسوط (4/215) وبدائع الصنائع (3/1511) .
إثبات الخيار لها إذا بلغت، وإليك بيان وجهة كلِّ فريق ما أمكن. والله الموفِّق.
الأدلَّة:
أولاً: دليل من منع من تزويج البكر الصغيرة مطلقًا.
استدلَّ السَّرَخْسِي في (المبسوط) لمن منع من تزويج الصّغيرة مطلقًا
بكرا أم ثيِّبا بثلاثة أدلَّة:
أوّلها: قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم} 1. فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة2.
ثانيها: أنَّ ثبوت الولاية على الصّغيرة إنّما هي لحاجة الموليِّ عليه، حتى إنَّ فيما لا تتحقّق فيه الحاجة لا تثبت الولاية، كالتبرعات، ولا حاجة في الصغيرة إلى النّكاح؛ لأنّ مقصود النّكاح طبعًا قضاء الشهوة، وشرعًا النسل، والصّغر ينافيهما3.
ثالثها: أنَّ النّكاح يعقد للعمر، وتلزم الصّغيرة أحكامه بعد البلوغ، فلا يكون لأحد أن يلزمها ذلك؛ إذ لا ولاية لأحد عليها بعد بلوغها4.
1 سورة النساء آية رقم (6) .
2 المبسوط للسرخسي (4/212) .
3 المبسوط للسرخسي (4/212) .
4 المبسوط للسرخسي (4/212) .
وهذا التوجيه الأخير، وكذلك قوله فيما سبق: إنَّ الولاية تثبت للحاجة لا غير، كلاهما مبنى على المشهور من مذهب الحنفية، وهو أنّه لا ولاية على المرأة بعد بلوغها، وإنّما تثبت الولاية لعجز الموليِّ عليه؛ لصغر، أو جنون، ونحوهما، ولا يخفى أنَّ الرَّاجح ثبوت الولاية على الأنثى مطلقًا، صغيرة أم كبيرة.
وأمَّا القول بأنّ إنكاح الصّغيرة ينافي مقصود النّكاح طبعًا؛ لعدم الشهوة، وشرعاً؛ لعدم النسل، فهذا أحسن توجيه لهذا القول، ولكن ثبت حديث عائشة في تزويجها صغيرة كما سيأتي. إن شاء الله تعالى.
ثانياً: دليل من أجاز للأب تزويجها دون غيره من الأولياء.
وأمَّا من أجاز للأب تزويج ابنته البكر دون غيره من الأولياء فاستدلَّ بما يلي:
1-
حديث عائشة رضي الله عنها: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوَّجها وهي بنت ست سنين، وأدخلت عليه وهي بنت تسع".
وهذا الحديث قد رواه الأئمة: أحمد والبخاري- وهذا لفظه- ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن الجارود والحاكم والبيهقي وغيرهم1.
1 تخريجه:
1-
أحمد: (16/159 ترتيب المسند للساعاتي. نكاح. باب ما جاء في إجبار البكر واستئمار الثيب) .
2-
البخاري: (9/190 الفتح) نكاح. باب إنكاح الرجل ولده الصغار. وفي مواضع أخر من الصحيح، انظر الإشارة إلى أطرافه (7/223 فتح الباري) .
3-
مسلم: (9/206-208نووي) . نكاح. باب تزويج الأب البكر الصغيرة.
4-
أبو داود: (6/158عون المعبود) . نكاح، باب تزويج الصغار.
5-
النسائي: (6/ 82-83 مع حاشيتي السيوطي والسندي) . نكاح. إنكاح الرجل ابنته الصغيرة.
6-
ابن ماجه: (1/603-604) . نكاح. باب نكاح الصغار يزوجهنَّ الآباء.
7-
ابن الجارودي: (ص 239 مع تخريجه) . نكاح.
8-
الحاكم: (2/167 نحوه) . نكاح.
9-
البيهقي: (7/114) . نكاح باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار.
وانظر إرواء الغليل: (6/230) .
فهذا الحديث من الصّحّة والشهرة بالمكان المعروف عند الأئمة، فقد ثبت أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قد زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته عائشة رضي الله عنها وهي بكر صغيرة، بين السادسة والسابعة1 من عمرها، فدلّ ذلك على صحّة إنكاح الأب ابنته البكر الصَّغيرة.
قال النووي رحمه الله: "أجمع المسلمون على جواز تزويجه بنته
1 قال النووي: "وأما قولها. أي في الحديث- تزوَّجني وأنا بنت سبع وفي أكثر الروايات بنت ست سنين فالجمع بينهما أنَّه كان لها ست وكسر ففي رواية اقتصرت على السنين وفي رواية عدّت السنة التي دخلت فيها. والله أعلم. (شرح النووي لمسلم9/207) . وانظر شرح المسند للساعاتي (16/159) .
البكر الصّغيرة؛ لهذا الحديث."1.
وأمّا ما حكى عن ابن شبرمة من أنّ تزويج النّبيّ عائشة وهي صغيرة من خصائصه، فأجيب عنه بأنّ دعوى الخصوصية خلاف الأصل، ولا دليل عليها هنا2.
2-
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأيِّم أحقّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها"3. فقد سبق أنَّ هذا الحديث هو عمدة من قال بإجبار الأب ابنته البكر البالغ، وإذا صحّ له إجبارها بالغةً جاز له تزويجها صغيرة؛ إذ ليس لها إذن معتبر- عندهم- يتوقَّف عليه نكاحها بعد البلوغ.
وقد تقدّم بيان خلاف الفقهاء في ذلك، وأنّ الراجح أنّه ليس للأب إجبار حرّة مكلّفة مطلقًا، سواء كانت بكرًا أم ثيّبًا4.
وقد اشتهر هذا الحديث في كتب فقه الشافعية بلفظ "والبكر يزوّجها أبوها" معزوًّا للدارقطني، وسبق5 التنبيه على أنّ لفظ "يزوّجها" ليس في الدارقطني، ولعلّه رواية له بالمعنى.
1 شرح النووي (9/206) .
2 انظر فتح الباري (9/ 190) . والمحلى لابن حزم (9/459-460) .
3 انظر تخريجه (ص 167) .
4 انظر مبحث استئذان البكر المكلّفة المتقدم.
5 انظر ما تقدم (ص305 وما بعدها) .
3-
ما روي أنّ قدامة بن مظعون تزوّج ابنة الزبير حين نفست، فقيل له فقال: ابنة الزبير إن متّ ورثتني، وإن عشت كانت امرأتي". ذكره ابن قدامة وغيره من الحنابلة معزوًّا للأثرم1.
وحكى البيهقي عن الشافعي قوله: "وزوّج الزبير رضي الله عنه ابنته وهي صبيّة"2. وقول الشافعي رحمه الله: "وزوّج غير واحد من أصحاب النبيّ ابنته صغيرة3.
4-
أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد خطب من عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته أمَّ كلثوم4، فزوّجه إيَّاها وهي صغيرة" وهذا الأثر: قد رواه عبد الرزاق في مصنفه5 من عدّة طرق. ورواه أيضًا
1 انظر المغني والشرح الكبير (7/380والشرح 386) . وانظر المبسوط للسرخسي (4/212) . وفتح القدير لابن الهمام (3/274) .
والأثرم: هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الطائي، محدث فقيه من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى انظر ترجمته في معجم المؤلفين (2/167) . والأعلام (1/194) . وطبقات الحنابلة (1/ 66- 74) . والأثر المشار إليه قد أخرجه أيضًا سعيد بن منصور في سننه. (انظر القسم الأول من المجلد الثالث رقم (520-521) .
2 البيهقي (7/114) . نكاح. باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار.
3 البيهقي (7/114) . نكاح. باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار.
4 انظر ترجمتها في: طبقات ابن سعد (8/463-465) ، الاستيعاب (4/ 490- 491) ، الإصابة (4/492 في القسم الثاني) .
5 المصنف لعبد الرزاق (6/163-164) .
سعيد ابن منصور في سننه1. ورواه الحاكم بإسناده إلى علي بن الحسين: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب إلى عليّ- رضي الله عنه أمّ كلثوم فقال: أنكحنيها، فقال عليّ: إنّي أرصدها لابن أخي عبد الله بن جعفر، فقال عمر: أنكحنيها، فوا لله ما من الناس أحد يرصد من أمرها ما أرصده، فأنكحه عليّ فأتى عمر المهاجرين فقال: ألا تهنوني؟ فقالوا بمن يا أمير المؤمنين. فقال: بأمّ كلثوم بنت عليّ، وابنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كلّ نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا ما كان من سببي ونسبي، فأحببت أن يكون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب وسبب". ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. وتعقّبه الذهبي بقوله: قلت: منقطع2. (أي بين عليّ بن الحسين وجدّه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .
وأخرجه البيهقي عن طريق الحاكم بإسناده ولفظه، وقال: وهو مرسل حسن. وقد روى من أوجه أخر موصولاً ومرسلاً. ثم روى بإسناده عن: حسن بن حسن عن أبيه، أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب إلى عليّ رضي الله عنه أمّ كلثوم فقال له عليّ رضي الله عنه: إنّها تصغر عن ذلك، فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي
1 سنن سعيد بن منصور. القسم الأول من المجلد الثالث رقم (639) .
2 المستدرك مع التلخيص (3/142) في كتاب معرفة الصحابة منه.
ونسبي". فأحببت أن يكون لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب، فقال عليّ رضي الله عنه لحسن وحسين: زوّجا عمّكما. فقالا: هي امرأة من النِّساء تختار لنفسها، فقام عليّ رضي الله عنه مغضبًا، فأمسك الحسن رضي الله عنه بثوبه وقال: لا صبر على هجرانك يا أبتاه، قال فزوّجاه1. وقد ساقه البيهقي رحمه الله تأييدًا لقول الشافعي رحمه الله "وقد زوّج عليّ عمر رضي الله عنهما أمّ كلثوم بغير أمرها"2.
ولكن ليس في هذا الأثر ما يدل صراحة على أنّها صغيرة لم تبلغ، بل فيه ما يشعر بأنّها قد بلغت من يصح لها رأي في نفسها؛ بدليل قول الحسن والحسين:"هي امرأة من النِّساء تختار لنفسها" إلا أنّ في مصنف عبد الرزاق أنّها كانت جارية صغيرة تلعب مع الجواري3، وهذا إن صحَّ فهو أصرح دلالة على صغرها حينذاك. والله أعلم.
5-
ما حكاه غير واحد من أهل العلم من الإجماع على صحّة تزويج الأبّ ابنته البكر الصّغيرة، ومن ذلك:
1 البيهقي (7/64) ، نكاح. باب الأنساب كلّها منقطعه يوم القيامة إلا نسبه، 114 باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار.
2 البيهقي (7/64) ، نكاح. باب الأنساب كلّها منقطعه يوم القيامة إلا نسبه، 114 باب ما جاء في إنكاح الآباء الأبكار.
3 المصنف (6/163) .
أ- قول الشافعي: وزوّج غير واحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابنته1 صغيرة.
وهذا إن لم يكن إجماعًا منهم فهو حجّة أيضًا؛ لعدم نقل الخلاف عنهم في هذا.
ب- قول النووي رحمه الله: في حديث تزويج عائشة وهي صغيرة قال: "أجمع المسلمون على جواز تزويجه ابنته البكر الصّغيرة لهذا الحديث"2.
ج- وقال الحافظ ابن حجر: قال المهلّب3: أجمعوا أنّه يجوز للأب تزويج ابنته الصّغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلا أنَّ الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى ابن حزم عن ابن شبرمة مطلقًا أنّ الأب لا يزوّج بنته البكر الصّغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أنّ تزويج النّبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه"4 أهـ المقصود من كلامه.
1 البيهقي (7/114) .
2 شرح النووي لمسلم (9/206) .
3 لعله يقصد شارح صحيح البخاري كما يصرح بذلك أحياناً. وانظر ترجمته في معجم المؤلِّفين (13/31-32) .
4 فتح الباري (9/190) ونحوه نيل الأوطار (6/136) . وانظر المحلى فيما حكاه عن ابن حزم (9/459) .
د- وقال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر: "أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم أنَّ إنكاح الأب ابنته البكر الصّغيرة جائز، إذا زوّجها من كفء، ويجوز له تزويجها مع كراهيتها وامتناعها"1 اهـ
هـ- وكذلك حكى ابن رشد الإجماع والاتفاق على ذلك2.
والله أعلم.
ثالثًا: دليل من منع غير الأب من تزويج البكر الصّغيرة.
وأمَّا من منع غير الأب من تزويج البكر الصَّغيرة فاستدلَّ بما ورد في السّنّة من الأمر باستئمار اليتيمة والنهي عن تزويجها بغير إذنها ومن ذلك:
أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز3 عليها" رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبّان والحاكم والبيهقي4.
1 المغني والشرح الكبير (7/379والشرح 386) .
2 بداية المجتهد (2/5) .
3 بفتح الجيم، أي فلا تعدِّي عليها ولا إجبار اهـ (شرح المسند للساعاتي 16/ 160) .
4 تخريجه:
1-
أحمد: (16/ 160 ترتيب المسند للساعاتي. نكاح. باب عدم إجبار اليتيمة وأنَّها لا تزوّج إلا بإذنها ورضاها) .
وانظر المسند (4/394، 408، 411) .
2-
أبو داود: (6/117-118عون المعبود) . نكاح. باب في الاستئمار.
3-
الترمذي: (4/245-246 تحفة) . نكاح. باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج.
4-
النسائي: (6/87 مع حاشيتي السيوطي والسندي) . نكاح. البكر يزوجها أبوها وهى كارهة.
5-
ابن حبان (ص 304 موارد الظمآن. نكاح. باب في الاستئمار) .
6-
الحاكم: (2/166 في تلخيص الذهبي ورمز له بأنه على شرط مسلم. وقد سقط من الأصل) . نكاح.
7-
البيهقي (7/120) نكاح. باب ما جاء في إنكاح اليتيمة.
وانظر إرواء الغليل (6/228-229، 232-233) .
ثانياً: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت لم تكره". رواه أحمد والدرامي وابن حبَّان والدارقطني والحاكم والبيهقي1.
1 تخريجه:
1-
أحمد: (16/ 160 ترتيب المسند للساعاتي. نفس الباب السابق) .
وقال الساعاتي: قال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح. نفس الصفحة.
2-
ابن حبّان (ص-304 موارد الظمآن. نكاح. باب الاستئمار) .
3-
الدرامي: (2/62مع تخريجه) . نكاح. باب في اليتيمة تزوج نفسها.
4-
الدارقطي: (3/241-242 مع التعليق المغني) . نكاح.
5-
الحاكم (2/166-167) نكاح/ وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
6-
البيهقي (7/120) / نكاح/ باب ما جاء في إنكاح اليتيمة.
ثالثاً: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: توفي عثمان بن مظعون فترك ابنة له من خويلة1 بنت حكيم بن أمّية بن حارثة بن الأوقص قال: وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون. قال عبد الله: وهما خالاي قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوّجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة- يعني إلى أمِّها- فأرغبها في المال، فحطَّت إليه، وحطَّت الجارية إلى هوى أمِّها، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له قدامة بن مظعون: يا رسول الله، ابنة أخي أوصى بها إليَّ فزوَّجتها ابن عمّتها عبد الله بن عمر، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنّها امرأة وإنّما حطَّت إلى هوى أمِّها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها". قال: فانتزعت منيّ- والله- بعد أن ملكتها فزوّجوها المغيرة بن شعبة"، رواه أحمد بهذا اللفظ. ورواه أيضًا الدارقطني والحاكم والبيهقي. وروى ابن ماجه طرفًا منه موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنه2.
1 خويلة بالتصغير ويقال لها خولة أيضًا. انظر ترجمتها في الإ صابة (4/291) .
2 تخريجه:-
1-
أحمد: (16/159 ترتيب المسند للساعاتي. نكاح. باب عدم إجبار اليتيمة وأنّها
لا تنكح إلا بإذنها ورضاها) .
2-
الدارقطني: 3/229- 231 مع التعليق المغني) . نكاح.
3-
الحاكم: (2/167) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
وأقره الذهبي.
البيهقي: (7/133) . نكاح. باب لا ولاية لوصيّ في نكاح.
وانظر: نصب الراية (3/191-192) والتلخيص الحبير (3/185) . وإرواء الغليل (6/233-234 وحسّنه) .
رابعاً: وقد تقدّم في حديث ابن عباس رضي الله عنه من طريق معمر، عن صالح بن كَيْسان، وغيرهما لفظ "واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها"1.
فهذه الأحاديث صريحة في الأمر باستئذان اليتيمة في نفسها والنهي عن نكاحها بدون إذنها، واليتيمة حقيقة هي الصّغيرة قبل بلوغها؛ "إذ لا يتم بعد احتلام "2- والصّغيرة ليس لها إذن معتبر، فدلّت هذه الأحاديث
1 تقدم (ص 173) .
2 هذا لفظ حديث روى عن عليّ، وابن عباس، وجابر، مرفوعًا وموقوفًا. وقد صححه الألباني لطرقه وشواهده. انظر إرواء الغليل (5/79-83) .
وقال ابن الأثير في معنى اليتيم: "واليتيم في الناس فقد الصبي أباه قبل البلوغ، وفي الدواب فقد الأم، وأصل اليتم- بالضم والفتح: الانفراد. وقيل: الغفلة. وقد يتم الصبي - بالكسر- ييتم فهو يتيم.
والأنثى يتيمة، وجمعها: أيتام، ويتامى. وقد يجمع اليتيم على يتامى، كأسير وأسارى. وإذا بلغا زال عنهما اسم اليتم حقيقة. وقد يطلق عليهما مجازًا بعد البلوغ كما كانوا يسمون النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو كبير -: يتيم أبي طالب؛ لأنّه ربّاه بعد موت أبيه "النهاية في غريب الحديث (5/291-292) . وانظر مادة "يتم" في: مقاييس اللغة لابن فارس (6/154) . وصحاح الجوهري (5/2064) .، ولسان العرب (12/645-646) .
بمنطوقها على أنَّ اليتيمة لا تنكح إلا بإذنها، ولا إذن لها قبل البلوغ، وذلك دليل على اشتراط بلوغها الذي يصح به الإذن. كما دلّت بمفهومها على أنَّ ذات الأب بخلافها كما تقدّم.
وقد أجيب عن هذا بأنّ المراد باليتيمة هنا البالغة؟ إذ لا معنى لاستئذان من لا إذن لها، والبالغة تسمَّى يتيمة استصحابًا للاسم الأول كما قال تعالى: أو {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم} 1 وإنّما يدفع إلى اليتامى
أموالهم بعد بلوغهم2. وحمله بعضهم على المقاربة للبلوغ، حملاً للفظ اليتيمة على حقيقته ما أمكن3.
وقد حمل بعض الحنفية حديث قدامة بن مظعون على أنَّ ابنة أخيه
قد بلغت، فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلوغها، بدليل قول ابن عمر:"والله لقد انتزعت منِّي بعد أن ملكتها"4. إلا أنَّ هذا الجواب الأخير لا يخفي تكلّفه، فهو غريب بعيد عن سياق تلك الواقعة، وحمل هذه الأحاديث على من يعتبر إذنها بالغة، أو مقاربة للبلوغ هو الجواب المعتمد فيما يظهر لي. والله أعلم.
1 سورة النساء آية رقم (2) .
2 انظر المبسوط (4/215) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/276) ، وبلوغ الأماني، شرح المسند للساعاتى (16/159) .
3 بلوغ الأماني: نفس الجزء والصفحة.
4 المبسوط (4/215) . وفتح القدير (3/276) .
رابعًا: دليل من ألحق الجدّ بالأب فى تزويج البكر الصّغيرة.
وأمّا من ألحق الجدّ بالأب في تزويج البكر الصّغيرة دون غيره من
بقيَّة الأولياء- وهم الشافعية- فذلك لأنّه أب أعلى، له ولادة وتعصيب، وله الولاية على ما لها، بخلاف غيره من بقية الأولياء1.
ولهذا فإنَّ الجدّ له أن يجبر البكر- عندهم- صغيرة أم كبيرة كما سبق، ومن جاز له تزويجها بدون إذنها كبيرة لم تكن له حاجة لانتظار إذن الصّغيرة حتى تبلغ، وهم إنّما منعوا من تزويجها صغيرة انتظارًا لإذنها الذي يتوقَّف عليه نكاحها، والبكر لا يتوقَّف نكاحها على إذنها - عندهم- إذا كان وليّها أباها أو جدّها.
وقد ردّه من لم يجعل لغير الأب تزويج البكر الصّغيرة، بأنَّ غير الأب قاصر الشَّفقة، وهو يدلي بغيره؛ فأشبه سائر العصبات، فلا يُلحق بالأب الذي ثبت حقّه في التزويج بالنّص، فقد زوّج أبو بكر ابنته عائشة – رضي الله عنهما بكرًا صغيرة، وكذلك دلّ على صحّة تزويج الأب دون غيره مفهوم أحاديث استئذان اليتامى، فدلّ على أنَّ الأب بخلاف غيره2.
1 انظر التكملة الثانية للمجموع (16/168) .
2 انظر: المغني لابن قدامة: (7/383) . وفتح القدير لابن الهمام (3/274- 275) . والمبسوط (4/ 214) .
خامسًا: دليل من ألحق وصيّ الأب بالأب.
وأمَّا من ألحق وصيَّ الأب بالأب في جواز تزويج البكر الصّغيرة؛ فذلك لقيامه مقامه، كوكيله في حياته، عند من قال بولاية الوصيّ، وسيأتي ذكر خلاف العلماء في ثبوت ولاية النّكاح للوصيّ في أسباب الولاية في النّكاح - إن شاء الله تعالى - مع بيان ما يظهر رجحانه، والله الموفِّق.
سادساً: دليل من أجاز لجميع الأولياء تزويجها بإذنها إذا بلغت تسعًا.
وأمّا من أجاز لجميع الأولياء تزويج البكر الصّغيرة بإذنها إذا بلغت
تسعًا فاستدّل بما يلي:
1-
حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله خير تزوَّجها وهي ابنة ست سنين، وأدخلت عليه وهي ابنة تسع"1.
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة". ذكره الترمذي في كتاب النّكاح بدون إسناد2، وعزاه ابن قدامة في المغني لأحمد3.
وقال الألباني في إرواء الغليل "تخريج أحاديث منار السبيل": وقول
1 تقدم تخريجه (ص380) .
2 الترمذي: (4/247تحفة) . نكاح. باب ما جاء في استئمار البكر والثّيب.
3 المغني لابن قدامة (7/383) .
المصنف: (أي صاحب منار السبيل) رواه أحمد، تبع في ذلك ابن عبد الهادي، كما تقدّم نقله هناك، ولعلّه يعني في غير المسند1 والله أعلم" اهـ
ومعنى قول عائشة هذا "إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة": أي في حكم المرأة البالغة، لأنّه يحصل لها حينئذ ما تعرف به نفعها وضررها من الشعور، والتمييز2.
2-
ما روي أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد خطب أمَّ كلثوم3 ابنة أبي بكر إلى عائشة بعد موت أبيها فأجابته وهي لدون عشر؛ لأنّها إنّما ولدت بعد موت أبيها، وإنّما كانت ولاية عمر عشرًا، فكرهته الجارية، فتزوَّجها طلحة بن عبيد الله ولم ينكره منكر". فدّل ذلك
1 إرواء الغليل (6/229) .
2 انظري المغني والشرح الكبير (7/383والشرح 388) وتحفة الأحوذي (4/ 248) .
3 قال ابن حجر في الإصابة- في القسم الثاني منه- (أم كلثوم: بنت أبي بكر الصديق التيميّة. تابعية مات أبوها وهي حمل، فوضعت بعد وفاة أبيها، وقصتها بذلك صحيحة في الموطأ وغيره.. الإ صابة (4/493) .
وانظر ترجمتها في تهذيب التهذيب (12/477) . والتقريب (2/624) وطبقات ابن سعد (8/462) .
وقال ابن حجر أيضًا في ترجمة طلحة بن عبيد الله: وقال ابن السكن يقال: إنَّ طلحة تزوَّج أربع نسوة، عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أخت كلّ منهنّ: أمَّ كلثوم بنت أبي بكر أخت عائشة. وحمنة بنت جحش أخت زينب. والبارعة بنت أبي سفيان أخت أم حبيبة، ورقية بنت أبي أمية أخت أمَّ سلمة. اهـ. (الإصابة 2/230) .
على اتفاقهم على صحّة تزويجها قبل بلوغها بولاية غير أبيها. كذا قاله ابن قدامة في (المغني) وتابعه الشارح1.
ولكن هذا الخبر- إن صحّ- فإنّه لا يدلّ صراحة على التحديد بالتسع سنين، وإنّما يدلّ أنّها كانت صغيرة حين خطبها عمر، فكون ولاية عمر عشرًا، وأمّ كلثوم قد مات أبوها- أبو بكر الصديق- وهي حمل في بطن أمّها، لا يدلُّ على أنّ عمر خطبها في آخر سنة من خلافته. والله أعلم.
3-
أنّ في هذا القول جمعًا بين الأدلّة التي ظاهرها جواز نكاح الصّغيرة، والأدلّة التي فيها الأمر باستئذان اليتيمة، والنهي عن إنكاحها إلا بإذنها".
فمن الأدلة التي ظاهرها جواز نكاح الصّغيرة:
1-
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْن} 2 فقوله تعالى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْن} بيان لعدةّ الصّغيرة التي لم تحض، وهذا لا يتصوّر إلا بعد نكاحها.
2-
وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 3. فدلَّت هذه الآية على جواز إنكاح اليتيمة بشرط أن
1 المغني والشرح (7/ 384 والشرح 389) .
2 سورة الطلاق آية رقم (4) .
3 سورة النساء آية رقم (3) .
يقسط لها في صداقها. وأمَّا الأدلّة التي فيها أنَّ اليتيمة لا تنكح إلا بإذنها فمنها:
1-
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:- في ابنة عثمان بن مظعون- "هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها"1.
2-
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله عن قال: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها"2.
3-
وحديث أبي موسى - رضى الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت لم تكره"3.
فقالوا: إنَّ اليتيمة حقيقة هي الصّغيرة قبل بلوغها، وقد انتفى إمكان إذنها قبل تسع، فوجب حمله على من بلغت تسعًا، حملاً للفظ على حقيقته ما أمكن، فإذا بلغت اليتيمة تسع سنين استأذنها وليّها، فإن رضيت زوّجها، ولا خيار لها بعد بلوغها وإن كرهت لم تزوّج4. والله أعلم.
1 تقدم تخريجه (ص 389) .
2 تقدم تخريجه (ص 387) .
3 تقدم تخريجه (ص 388) .
4 انظر المغني لابن قدامة (7/383والشرح 388) .
سابعًا: دليل من أجاز لجميع الأولياء تزويجها سواء بلغت تسعًا أم أقلّ.
وأمَّا من أجاز لجميع الأولياء تزويج البكر الصّغيرة- سواء بلغت تسعًا أم أقلَّ من ذلك، وسواء كان وليّها أباها أم جدَّها- فقد احتجُّوا بظاهر عموم القرآن، والسنّة، والآثار، والمعقول، ومن ذلك ما يلي:
أ- الأدلّة من القرآن الكريم:
أولاً: قوله تعالى: {واللَاّئي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهنَّ ثلاثة أشهر واللَاّئي لم يحضن} 1.
ففي قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} إثبات لعدّة الصغيرة التي لم تبلغ المحيض، وسبب العدّة شرعًا هو النّكاح، فدلّ ذلك على تصوّر نكاح الصّغيرة، فبطل بذلك منع من منع من إنكاح الصّغيرة مطلقًا كابن شبرمة، وأبي بكر الأصمّ، كما أنَّ ظاهره عامٌّ أيضًا في تزويج الآباء، وغيرهم من سائر الأولياء2. والله أعلم.
1 سورة الطلاق- آية رقم: (4) .
2 انظر: المبسوط (4/212) ، وفتح القدير (3/ 274) ، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 4 5) ، والمغني لابن قدامة (7/380، والشرح 386) ، والفتاوى لابن تيمية (32/44-48) ، وفتح الباري (9/ 189-190) .
ثانياً: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1.
فإنَّ ظاهر هاتين الآيتين جواز تزويج اليتيمة بشرط القسط لها، وهو العدل، والوفاء لها في مهرها، وسائر حقوقها المترتبة على نكاحها، واليتيمة حقيقة: من كانت دون البلوغ ولا أب لها، وإذا بلغت فليست بيتيمة، وإن سميّت يتيمة فبطريق المجاز. والله أعلم.
والدَّليل على أنَّ هاتين الآيتين نازلتان في نكاح اليتامى من النِّساء ما صحّ عن عائشة رضي الله عنها أنّهما نازلتان في اليتيمة تكون في حجر وليّها، فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينقص من صداقها، فنهوا عن نكاحهنَّ إلا أن يقسطوا لهنّ في إكمال الصداق.
1 سورة النساء- آية رقم: (3) .
2 سورة النساء- آية رقم: (127) .
فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أنّه سأل عائشة رضي الله عنها قال لها: يا أمّتاه! {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} - إلى قوله- {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالت عائشة: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حَجْر وليّها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينقص من صداقها، فنهوا عن نكاحهنَّ إلاّ أن يقسطوا لهنَّ في إكمال الصداق، وأُمروا بنكاح من سواهنَّ من النِّساء، قالت عائشة: استفتى النَّاس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} - إلى- {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُن} فأنزل الله عز وجل هذه الآية: إنَّ اليتيمة إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا1 في نكاحها ونسبها والصداق، وإذا كانت مرغوبًا عنها في قلَّة المال والجمال تركوها، وأخذوا غيرها من النِّساء، قالت: فكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها، ويعطوها حقّها الأوفى من الصداق ".
رواه الأئمة: البخاري- وهذا لفظه- ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي2، وغيرهم.
1 في الأصل هنا "ورغبوا " بواو العطف، ولكنّه غير مستقيم مع ما بعده، فالظاهر زيادتها. والله أعلم.
2 تخريجه:
1-
البخاري: (9/197 الفتح) نكاح، باب تزويج اليتيمة لقوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} ، وفي مواضع أخر من الصحيح. انظر التنبيه على أطرافه (5/133من الفتح) .
2-
مسلم: (18/154-156نووي) تفسير.
3-
أبو داود: (6/74-76عون المعبود) نكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء.
4-
النسائي: (6/115-116 مع حاشيتي السيوطي والسندي) نكاح، القسط في الأصدقة.
5-
الدارقطني (3/ 264- 266) نكاح.
6-
البيهقي: (7/141-142) نكاح، باب ما جاء في نكاح اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في نكاحها.
قال الحافظ ابن حجر: "وفيه- أي في هذا الحديث- دلالة على تزويج الوليّ غير الأب التي دون البلوغ، بكرًا كانت أو ثيِّبًا؛ لأنَّ حقيقة اليتيمة من كانت دون البلوغ، ولا أب لها، وقد أذن في تزويجها بشرط أن لا يبخس من صداقها، فيحتاج من منع ذلك إلى دليل قويِّ "1 اهـ.
وقال ابن الهمام في توجيه الاستدلال بالآية الأولى: "منع من نكاحهنَّ عند خوف عدم العدل فيهنَّ، وهذا فرع جواز نكاحها عند عدم الخوف، ولا يقال: ذلك بمفهوم الشرط؛ لأنَّ الأصل جواز نكاح غير المحرَّمات مطلقًا، فمنع من هذه عند خوف عدم العدل فيهنَّ، فعند عدمه
1 فتح الباري (9/197) .
يثبت الجواز بالأصل، لا مضافًا إلى الشرط، ويصرح بجواز نكاحها قول عائشة: "إنّها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليّها
…
"1.
هذا خلاصة ما قيل في توجيه الآية الكريمة للاستدلال بها على تزويج اليتيمة، وقد نوقش الاستدلال بهذه الآية الكريمة وما ورد في سبب نزولها من جواز نكاح اليتامى من أوجه عدّة، خلاصتها في أمرين:
الأوّل: أنَّ ما تقدّم من توجيه الاستدلال بهذه الآية على صحّة تزويج اليتامى إنّما هو مبني على التسليم بأنَّها نازلة في نكاح اليتامى - كما سبق عن عائشة رضي الله عنها ولكن بعض الصحابة والتابعين لم يوافق عائشة رضي الله عنها على ذلك التفسير.
والثّاني: أنّه على التسليم بترجيح ما قالته عائشة رضي الله عنها في معنى الآية فلا يسلّم بأنَّ المقصود باليتامى في الآية الكريمة الصّغيرات، بل المقصود بهن البوالغ من النِّساء، وإليك بيان ذلك مفصَّلاً:
أمّا الاعتراض الأوّل: فقد أفاض أئمة المفسرين في ذكر أوجه كثيرة في معنى الآية الكريمة، فذكروا أوجهًا من تفسيرها يطول ذكرها وتوجيهها، ونحن نكتفي بذكر أربعة منها، اشتهر ذكرها، ويرجع - غالبًا- إليها غيرها.
1 فتح القدير لابن الهمام (3/275) .
وانظر: المبسوط (4/ 214) ، والفتاوى لابن تيمية (32/44- 46) ، وزاد المعاد لابن القيّم (5/200) ، وعون المعبود (6/16) ، وتفسير أضواء البيان (1/268) .
أوّلها: ما سبق ذكره عن عائشة رضي الله عنها1.
ثانيها: أنّه لما نزلت الآية التي قبلها في أموال اليتامى وهي قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} 2. خاف أولياء اليتامى أن يلحقهم الحُوبُ في حقوق اليتامى، فتحرجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان عنده العشر من الأزواج وأكثر، ولا يقوم بحقوقهنَّ، ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرَّجتم منها فكونوا خائفين من ترك العدل في حقوق النساء، ولا تنكحوا منهنَّ إلا واحدة إلى الأربع، ولا تزيدوا، وإن خفتم أيضًا في الزيادة على الواحدة فلا تنكحوا إلاّ ما لا تخافون أن تجوروا فيهنّ من واحدة، أو ما ملكت أيمانكم، لأنّ المرأة كاليتيم في ضعف كلٍّ منهما، وعدم قدرته على المدافعة عن حقِّه، فكما خشيتم من ظلمه فاخشوا من ظلمها.
وهذا الوجه من التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن غيره من التابعين، واختاره ابن جرير إمام المفسرين3.
1 انظر: تفسير ابن جرير الطبري (4/155) ، والتفسير الكبير للفخر الرازي (9/ 171) ، وأحكام القرآن للجصاص (2/50) .
2 سورة النساء- آية رقم: (2) .
3 انظر: تفسير ابن جرير الطبري (4/156-158) ، وتفسير الفخر الرازي (4/171) ، وأحكام القرآن للجصاص (2/50) ، وأضواء البيان (1/269) .
وثالثها: أنّهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل لهم: كما خفتم في حقِّ اليتامى فكونوا خائفين من الزنى، فانكحوا ما حلَّ لكم من النِّساء، ولا تحوموا حول المحرّمات. وهذا مروي عن مجاهد رحمه الله1.
وقد عقّب عليه الأمين في (أضواء البيان) بقوله: "وهذا أبعد الأقوال فيما يظهر لي "2. والله أعلم.
ورابعها: النهي عن نكاح ما فوق الأربع خشية أن تضطرّهم مؤن النّكاح إلى أكل أموال الأيتام، وذلك أن قريشًا كان الرجل منهم يتزوَّج العشر من النساء، والأكثر، والأقلّ، فإذا صار معدمًا بسبب إنفاق ماله على أزواجه، ولم يبق له مال اضطر إلى الأخذ من مال يتيمه الذي في حجره، فأنفقه أو تزوَّج به، فنهوا عن ذلك. وقيل لهم: يا معشر أولياء اليتامى إن خفتم على إنفاق أموال أيتامكم لحاجتكم لما يلزمكم من نسائكم فلا تتجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء أربعًا، وإن خفتم أيضا من الأربع أن تضطركم إلى إنفاق أموال أيتامكم فاقتصروا على الواحدة، أو ما ملكت أيمانكم ". وهذا الوجه من التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن عكرمة رحمه الله3.
1 أضواء البيان (1/269) ونفس المصادر السابقة.
2 أضواء البيان (1/269) .
3 ابن جرير الطبري (4/156) ، والفخر الرازي (9/ 171- 172) . وأحكام القران للجصاص (2/50)
فهذه أوجه أربعة من التفسير في معنى الآية الكريمة، وهناك أوجه أخر راجعة تقريباً إلى ما ذكر.
والذي يظهر لي من تأمَّل هذه الأوجه الأربعة وغيرها: أنَّ أقواها وأولاها بتفسير الآية الكريمة هما القولان: الأول والثّاني.
أمّا القول الأوّل: فلصحته عن عائشة رضي الله عنها كما تقدّم، بل ذكرت أنّه سبب نزول الآية؛ وخير ما يعين على فهم الآية سبب نزولها.
وأمّا القول الثَّاني: فيؤيِّده ظاهر نظم الآية مع التي قبلها؛ ولذلك اختاره ابن جرير رحمه الله.
والذي يظهر والله أعلم: أنّه لا منافاة بين هذه الآية والتي قبلها؛ فالأولى في تحذير أولياء اليتامى من أكل أموال أيتامهم مطلقًا، والثَّانية في التحذير من نقص مهور يتامى نسائهم اللاتي يرغبون في نكاحهنَّ، خاصّة إذا علمنا ضعف النِّساء اليتامى ظهر وجه تخصيصهنّ بعد تعميم. والله أعلم.
وبنحو هذا قال أبو بكر الجصاص رحمه الله1.
1 انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 51) وقال أيضًا: فإن قيل: يجوز أن يكون المراد الجد. قيل: إنّما ذكرا (أي ابن عباس وعائشة، فإنه قد روي عن ابن عباس نحو ما تقدّم عن عائشة) أنّها نزلت في اليتيمة التي في حجره، ويرغب في نكاحها، والجد لا يجوز له نكاحها، فعلمنا: أنّ المراد ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء اهـ (2/ 51) .
وأمّا الاعتراض الثَّاني: وهو أنّ المراد باليتامى في الآيتين الكريمتين1 البالغات من النِّساء لا الصّغيرات، وأنَّ تسميتهنَّ هنا يتامى إنّما هو استصحاب للاسم السابق لهنّ فاستدلوا له بأمرين:
أولهما: قوله تعالى في الآية الثَّانية: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} 2 فقالوا: إنَّ اليتامى في هذه الآية هنّ اليتامى في قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} 3، وقد راعى في هذه الآية اسم النِّساء مرتين فقال:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} ، و {يَتَامَى النِّسَاء} والنِّساء اسم لكبار الإناث دون صغارهنَّ، كالرِّجال اسم لكبار الذكور دون صغارهم، فدلّ ذلك على أنَّ المراد باليتامى في هاتين الآيتين البالغات لا الصّغيرات4.
وثانيهما: ما جاء في5 السنة الصحيحة من الأمر باستئذان اليتيمة والنهي عن نكاحها بدون إذنها، والصّغيرة لا إذن لها مما يدلّ على اشتراط
1 هما المشار إليهما في مقدمة المبحث: (آية رقم: 2) و (آية رقم: 127) من سورة النساء.
2 سورة النساء- آية رقم: 127.
3 سورة النساء آية رقم: 3.
4 انظر: تفسير ابن العربي (1/ 310- 311) ، والقرطبي (5/13-14) .
5 انظر ما تقدم (ص 387 وما بعدها) .
بلوغها لصحّة إذنها، فدلّ ذلك على أنَّ المراد باليتامى في كلتا الآيتين من يعتبر إذنهنَّ وهن البوالغ دون الصّغيرات1.
وقد أجيب عن الأمر الأول- وهو القول إنّ النساء اسم لكبار الإناث، دون صغارهنَّ من وجهين:
الوجه الأوّل: أن إطلاق اسم اليتامى على الصّغيرات هو حقيقته اللُّغوية، وأمّا البالغات فهو مجاز، ولا يجوز صرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بدليل2.
وأمّا مراعاة إطلاق اسم النساء في قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} و {يتامى النِّساء} فإنَّ الصّغيرات داخلات في جنس النِّساء كما في قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} 3، وقوله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاء} 4، ولا خلاف في دخول الصّغيرات في
1 انظر: تفسير ابن العربي (1/ 310- 311) ، والقرطبي (5/13-14) .
2 انظر: أحكام القران للجصاص (2/52) .
3 سورة النساء- آية رقم: 3.
4 سورة النساء- آية رقم: 22.
ذلك، وكذلك قوله {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} 1، ولو تزوّج الرجل صغيرة حرمت عليه أمّها تحريماً مؤبّدًا، كذا قال أبو بكر الجصاص2.
وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله: يؤخذ من هذه الآية جواز تزويج اليتيمة إذا أعطيت حقوقها وافية، وما قاله كثير من العلماء من أنَّ اليتيمة لا تزوَّج حتى تبلغ محتجِّين بأنّ قوله تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} اسم ينطلق على الكبار دون الصّغار فهو ظاهر السقوط؛ لأنّ الله صرّح بأنهنّ يتامى بقوله: {ويتامى النِّساء} وهذا الاسم أيضًا قد ينطلق على الصغار كما في قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُم} 3 وهنّ إذ ذاك رضيعات، فالظاهر المتبادر من الآية جواز نكاح اليتيمة، مع الإقساط في الصداق وغيره من الحقوق، ودلّت السنّة على أنّها لا تجبر فلا تزوّج إلاّ برضاها وإن خالف في تزويجها خلق كثير من العلماء "4 اهـ.
الوجه الثَّاني: أنّ الكبيرة إذا رضيت بأقلّ من مهر مثلها جاز إنكاحها، ولا اعتراض لأحد عليها، فدلّ ذلك على أنّ المراد باليتامى
1 سورة النساء- آية رقم: 23
2 أحكام القرآن للجصاص (2/52) .
3 سورة البقرة آية (49) .
4 أضواء البيان 1/ (168) .
الصغيرات اللاّتي يتصرّف في نكاحهنَّ ومهورهنَّ، من هنّ في حجره من أوليائهن1.
وقد أجاب ابن العربي عن هذا بأنّه محمول على أحد وجهين:
أحدهما: أن تكون اليتيمة ذات وصيّ2.
ولكن يعكّر على هذا الخلاف في ولاية الوصيِّ، وممن لم يقل بها المنازع في هذه المسألة كالحنفيّة.
ثانيهما: أن يستظهر عليها الوليّ بالرجولة والولاية، فيستضعفها لأجل ذلك، ويتزوّجها بما شاء، ولا يمكنها خلافه فنهوا عن ذلك إلا بالحقِّ الوافر3.
وهذا وإن كان له وجه من النظر، كما يشهد له الواقع، إلا أنّه خلاف الحقيقة في مسمّى اليتيمة.
وأمّا قولهم: إن اليتيمة لا تنكح إلا بإذنها، والصّغيرة لا إذن لها، وهذا دالة على اشتراط بلوغها.
فجوابه أن يقال: إنَّ اليتيمة التي جاءت السنّة باستئذانها هي البالغة، بدلالة اشتراط إذنها، فتكون الصّغيرة غير داخلة في الأمر بالاستئذان
1 انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 52) .
2 أحكام القرآن لابن العربي (1/ 311) .
3 أحكام القرآن لابن العربي (1/ 311) .
مطلقًا؛ لعدم اعتبار إذنها، وعلى هذا فالظاهر تزويجها، لعدم الفائدة من استئذانها.
وإمّا أن يقال: إنّها اليتيمة الصّغيرة المميِّزة كابنة تسع، وبهذا يرتفع الإشكال جملة- كما سيأتي في توجيه الأحاديث التالية.
والذي يظهر لي مما تقدّم: أنّ المقصود باليتامى في الآيتين الكريمتين أعمُّ وأشملُ من قصره على الصّغيرات أو البالغات، فظاهر الآية العموم؛ فإنَّ كون الصّغيرات يتامى حقيقة لا يمنع دخول الكبيرة، وذلك استصحابًا لحقيقة وصفها قبل بلوغها، وإشعارًا للوليّ بالعطف عليها، وتقوى الله فيها، وإنّما تكون الصّغيرة أحقَّ بالدخول في عموم الآية من الكبيرة.
وكذلك مراعاة اسم النساء في قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} و {يَتَامَى النِّسَاءِ} ، فإنّه لا يخرج الصّغيرة من الدخول في جنس النِّساء كما تقدَّم. والله أعلم.
ب- الدَّليل من السُّنَّة.
وأمّا الدليل من السُّنَّة على صحّة تزويج البكر الصّغيرة، سواء كان الوليّ أبًا أم غيره، فهو:
أولاً: ما تقدّم في تزويج ذات الأب من حديث عائشة وغيره1.
ثانيًا: ما تقدّم أيضًا من حديث أبي هريرة وأبي موسى وابن عمر رضي الله عنهم في تزويج اليتيمة2.
فإن ظاهر تلك الأحاديث أنّ اليتيمة تزوّج بإذنها، ومن كانت دون البلوغ، فهي يتيمة حقيقة، بخلاف البالغة، فهي وإن دخلت في عموم التسمية، فعن طريق المجاز.
إلاّ أنّ العلماء استشكلوا كيف تستأذن من لم تبلغ؟
فحمل بعضهم هذه الأحاديث على البالغة للاتفاق على اعتبار إذنها دون الصّغيرة، ثم إنَّ منهم من منع من تزويج الصّغيرة، حتى تبلغ فتزوّج بإذنها؛ ومنهم من أجاز تزويجها بدون إذنها؛ لأنّه لا اعتبار لإذن الصّغيرة، وأثبت لها الخيار إذا بلغت، ومنهم من أجاز تزويجها بإذنها إذا بلغت تسعًا، ولا خيار لها بعد بلوغها، كما روى عن الإمام أحمد رحمه الله؟ لبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي ابنة تسع، وقولها: "إذا بلغت الجارية تسع
1 انظر الأدلة على تزويج الأب ابنته البكر الصغيرة (ص 380 وما بعدها) .
2 انظر الأدلة من السنّة وغيرها على تزويج اليتيمة بإذنها (ص 387 وما بعدها) .
سنين فهي امرأة ". أي في حكم المرأة البالغ، إلاّ أنَّ تقييد تلك الأحاديث الواردة في تزويج اليتيمة بإذنها بمن بلغت تسعًا، دون غيرها، لا يخلو من نظر. والله أعلم.
وقد اختار شيخ الإسلام ابن تيميَّة القول بتزويج اليتيمة بإذنها، واستبعد حمل اليتيمة في تلك الأحاديث وغيرها على البالغة دون الصّغيرة1.
وتبعه في ذلك تلميذه ابن القيِّم رحمه الله قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّ اليتيمة تستأمر في نفسها- ولا يتم بعد احتلام- فدلّ ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وهذا مذهب عائشة رضي الله عنها وعليه يدلّ القرآن والسنة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرهما "2 اهـ.
وتقدّم قول الأمين الشنقيطي- رحمه الله: دلّت السنَّة على أنّها- أي اليتيمة- لا تجبر فلا تزوّج إلا برضاها، وإن خالف في تزويجها خلق كثير من العلماء "3.
ج- الدليل من المعقول.
وأمّا الدليل على تزويج كلِّ وليٍّ للبكر الصّغيرة، فلأنّ النّكاح من جملة المصالح وضعًا، والوليُّ - وإن بعد - ناظر لموْلِيَّته بعين المصلحة،
1 انظر: الفتاوى لابن تيمية (32/44-49) .
2 زاد المعاد (5/100) .
3 تقدم (ص407) . وانظره في: أضواء البيان (1/268) .
والنّكاح يعقد لمقاصده، وهي لاتتوفَّر- غالبًا- إلاّ بين المتكافئين، والكفء لا يتوفّر في كلِّ وقت، ولأنّ غير الأب من سائر الأولياء هم أولياؤها بعد بلوغها، إمّا وجوبًا عند الجمهور، أو استحبابًا عند غيرهم، فكانوا أولياءها في صغرها من باب أولى كالأب1.
ثامنًا: دليل من أثبت للصغيرة الخيار إذا زوّجها غير أبيها أو جدّها.
وأمّا من أثبت لها الخيار بعد بلوغها2 إذا زوّجها غير أبيها، أو جدِّها، فاستدلَّ بما يلي:
أوّلاً: ما روى أنّ قدامة بن مظعون زوّج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بلوغها، فاختارت نفسها، حتى روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنّها انتزعت منِّي بعد أن ملكتها. وهذا نصٌّ في الباب، كذا قال بعض الحنفية3. وقد تقدم تخريج حديث ابن عمر هذا4.
1 انظر: المبسوط (4/ 212-215) ، والهداية وفتح القدير والعناية (3/ 275-276) .
2 يثبت لها حق الفسخ- عند الحنفيّة- بشرط القضاء إن اختارت الفسخ.
3 انظر: بدائع الصنائع (3/1511) ، والمبسوط (4/215) ، وفتح القدير (3/ 276) .
4 تقدم (ص 389) .
ثانيًا: ما روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّج ابنة عمّة حمزة، وهي صغيرة، وقال لها الخيار إذا بلغت"1.
وهذا الأثر قد رواه البيهقي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ عمارة2 بنت حمزة بن عبد المطلب كانت بمكة، فلمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في عمرة القضيّة- خرج بها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: تزوّجها، فقال: ابنة أخي من الرضاعة، فزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة3 بن أبي سلمة، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول:"هل جزيت سلمة؟ "
ثم قال البيهقي: "هذا إسناد ضعيف، وليس فيه أنّها كانت صغيرة، وللنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في باب النّكاح ما ليس لغيره، وكان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وبذلك تولَّى تزويجها دون عمّها العباس، إن كان فعل ذلك. والله أعلم"4 اهـ.
1 انظر: فتح القدير (3/278) .
2 قال الحافظ في الفتح: اسمها عمارة، وقيل: فاطمة، وقيل: أمامة، وقيل: أمة الله، وقيل: سلمى، وهذا هو المشهور. (7/505) . وانظر: الإصابة (4/235، 331، 365، 381) ، وترجمة أمها سلمى بنت عميس (4/332) .
3 هذا هو المشهور في اسم زوجها في هذه القصّة. انظر ترجمته في الإصابة أيضا (2/66) والتراجم السابقة.
وليس كما ذكره في المبسوط (4/214) ، وفتح القدير (3/276) من أنّ زوجها عمر أخوه. فليلا حظ.
4 البيهقي (7/122) نكاح، باب ما جاء في نكاح اليتيمة.
وقد روى البخاري في صحيحه قصَّة بنت حمزة هذه عن ابن إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنه في باب عمرة القضاء وفيها: "فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي من مكة بعد انتهاء العمرة- فتبعتة ابنة حمزة تنادى: يا عمّ، يا عمّ، فتناولها عليّ فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: "دونك ابنة عمّك حمّليها"1، فاختصم فيها عليّ وزيد وجعفر، قال عليّ: أنا أخذتها وهي ابنة عمِّي، وقال جعفر: ابنة عمِّي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأمِّ، وقال لعليّ: أنت منّي وأنا منك، وقال لجعفر: أشبهت خَلْقي وخُلُقي، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا، وقال عليّ: ألا تتزوّج بنت حمزة؟ قال: إنَّها ابنة أخي من الرضاعة2 أهـ.
وقصَّة عرض عليّ رضي الله عنه لابنة حمزة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة في صحيح مسلم3 أيضَا وغيره، من حديث عليّ وابن عباس وأمّ سلمة رضي الله عنهم، ولكن ليس في هذه الأحاديث الصحيحة، ذكرٌ لتزويجها مطلقًا لا بسلمة، ولا بأخيه عمر، ولا بغيرهما، وليس فيها أيضًا بيان
1 قوله: "حمِّليها "- بتشديد الميم المكسورة وبالتحتانيّة بصيغة الأمر- أي احمليها كما في اللفظ الآخر، وفي لفظ: امسكيها عندك. انظر: فتح الباري (7/506) .
2 البخاري (7/499 مع الفتح) المغازي، باب عمرة القضاء.
وانظر: نصب الراية (3/267) ، وإرواء الغليل (7/245-249) .
3 انظر: صحيح مسلم (10/23- 24 نووي) الرضاع، ونصب الراية (3/168) ، وإرواء الغليل (6/284) .
لمقدار عمرها حين تبعتهم من مكَّة، ولا حين عرضها عليّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتزوّجها، بل ورد أنَّ عليّاً لم يعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغت1.
ولكن ذكر الحافظ في الإصابة في ترجمة "سلمة بن أبي سلمة "
عن ابن إسحاق، أنّه قال: حدّثني من لا أتّهم، عن عبد الله2 بن شدّاد
قال: كان الذي زوّج أمّ سلمة من النبيّ صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة ابنها فزوّجه النبيّ صلى الله عليه وسلم أمامة3 بنت حمزة، وهما صبيّان صغيران فلم يجتمعا حتى ماتا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"هل جزيت سلمة؟ "4 اهـ.
1 انظر: فتح الباري (7/508) .
2 هو: عبد الله بن شدّاد بن الهادي، أخو أولاد حمزة لأمهم، فأمُّه "سلمى بنت عميس " أمّ صاحبة القصة هنا. انظر ترجمته في: الإصابة (3/60من القسم الثاني منها) وترجمة أبيه (2/141-142) وترجمة أمّه سلمى بنت عميس (4/332) . وهو من كبار التابعين الثقات (وقد قيل: إنّه ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم . انظر ترجمته في: التقريب (1/322) ، وتهذيب التهذيب (5/251-252) .
3 هذا لا يخالف رواية البيهقي السابقة من أنَّ اسمها "عمارة " فهو خلاف في الاسم كما تقدَّم عن الحافظ أنّه اختلف في اسمها وقد ذكر لها خمسة أسماء منها "أمامة ".
(انظر: الحاشية رقم "2 " ص413) .
4 الإصابة (2/66) ، ونحوه في الاستيعاب (2/87 مع الإصابة) .
فإن صحّ هذا الخبر فهو صريح في صغر ابنة حمزة وتزويجها، وإلاّ ففي القول بتزويجها نظر، ومن هذا نعلم أيضًا أنّه لا ذكر لتخييرها إذا بلغت، وإنّما ذكرت ما صحّ من قصة ابنة حمزة هذه لشهرتها عند الفقهاء واستدلالهم بها على تزويج اليتيمة الصّغيرة، وعلى تخييرها عند بلوغها - كما هو مقصودنا هنا- وإنّما لم أذكرها في أدلّة تزويج الصّغيرة المتقدَّمة إذا كان الوليُّ غير أب؛ للاستغناء عنها هناك بما ذكر، وللحاجة إليها هنا فناسب تأخيرها. والله أعلم.
ثالثًا: واستدلُّوا لإثبات خيار البلوغ إذا كان الوليّ غير أب أو جدّ بأنَّ غير الأب والجدّ قاصر الشفقة، فإذا ملكت أمرها ببلوغها ثبت لها الخيار؛ لتستدرك ما فاتها، كالأمة إذا زوّجها مولاها ثم أعتقها.
وهذا هو أقوى أدلّة من أثبت للصغيرة خيار البلوغ1. والله أعلم.
والذي يظهر لي- والله أعلم- أنّه لا دلالة فيما ذكروا على ثبوت خيار البلوغ لما يلي:
أوّلاً: أنّ حديث عبد الله بن عمر – المتقدِّم - ليس فيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيَّرها بعد بلوغها، بل الذي فيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاحها بدون إذنها فقال:"إنها يتيمة ولا تُنْكح إلا بإذنها". وهذا يدلّ على أنّها بالغة حين خطبها أو تزوّجها عبد الله بن عمر، أو أنّ لليتيمة قبل
1 انظر: المبسوط (4/215) ، والبدائع (3/1511) ، والهداية وفتح القدير والعناية (3/277-278) .
بلوغها إذنًا معتبرا شرعًا، كما قاله بعض المحقّقين. وإنّما القول بإثبات الخيار لها بعد البلوغ استنباط من قول عبد الله بن عمر "والله لقد انتزعت منّي بعد أن ملكتها ". كما يدلُّ عليه كلام السَّرَخْسِي وابن الهُمام1.
ولكن هذا لا يدلّ على أنّه تزوّجها صغيرة، فبقيت في عصمته من غير نكير حتى بلغت، ثم رفعت أمرها إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقضى لها بالخيار لأنّها بلغت، ففي هذا تكلّف وغرابة لا ملجيء إليها، والله الموفِّق.
ثانياً: وأمّا تزويجة ابنة عمّه حمزة رضي الله عنه فقد سبق ذكر ما أمكن الوقوف عليه من طرق وألفاظ هذا الخبر، وليس في شيء منها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لها الخيار إذا بلغت". والله أعلم.
ثالثًا: وأمّا قولهم: إنَّ الأب والجدّ وافرا الشفقة بخلاف غيرهما، فإنّ وفور شفقتهما؛ لقربهما، وقربهما يدلّ على أحقِّيتهما في التقدّم على من يليهما من العصبات، لا على إثبات حقٍّ في فسخ عقد وليّ لم يأت دليل بفسخه. وأمّا قولهم:"إنّ الصّغيرة قد ملكت نفسها ببلوغها فملكت الخيار كالأمة إذا زوّجها وليُّها ثم أعتقها"، فهذا مبنٌّي على أصلين مختلف فيهما:
أولهما: أنّ الحرّة المكلّفة تملك نكاح نفسها بعد بلوغها، وقد تقدّم أنّ الراجح في هذا مذهب الجمهور أنّ عقدة نكاح المرأة لوليّها، لا لها،
1 انظر: المبسوط (5/4 21) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/276) .
وإنّما حقّها الرِّضى قبل العقد أو الفسخ بعده إن لم ترض1.
ثانيهما: أنّ خيار الأمة لملكها نفسها، لا لرقّ زوجها مع عتقها، والعمدة في هذا حديث بريرة المشهور، وبريرة قد عتقت، وزوجها عبد، - على الصحيح- فسبب خيارها هو رقّ زوجها مع حرّيتها - كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث خيار الأمة 2؛ - إذ لو عتقت تحت حرٍّ لم يكن لها عليه فضل مزيّة، مع ما في قياس الحرّة الصّغيرة على الأمة قبل عتقها من الفارق بين الحرّية والرِّق، وبين ولاية المالك وولاية الوليّ. والله أعلم.
تنبيه:
قال الزيلعي الحنفي- صاحب (تبيين الحقائق) -: "ومذهبنا منقول عن عمر، وعليّ، والعبادلة، وأبي هريرة، وكفى بهم حجّة. وحكى الكرخيُّ رحمه الله إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت حمزة- وهي صغيرة- سلمة بن أبي سلمة، وهي بنت عمّه، وقال لها الخيار إذا بلغت"3 انتهى المقصود من كلامه.
وهذا الاستدلال لمذهبهم يحتمل أن يكون لتزويج الصّغيرة قبل
1 انظر: آخر الفصل الثاني في الولاية على الحرّة المكلّفة، وآخر الفصل الثالث في استئذانها.
2 انظر (ص 2/37 إلى آخر المبحث) .
3 تبيين الحقائق2/121) ، وقد عزا خبر ابنة حمزة لسبط ابن الجوزي وغيره، ولكن لم أتمكن من الوقوف عليه هناك.
بلوغها، وإن لم يكن الوليّ أبًا أو جدًّا، ويدلّ على هذا حكاية الإجماع، كما حكاه غير واحد، كقول الشافعي رحمه الله:"وزوّج غير واحد من الصحابة ابنته صغيرة "1.
ويحتمل أن يكون قد قصد به الاستدلال لمذهبهم مطلقًا في هذه المسألة، أي تزويج الصّغيرة مع إثبات خيار البلوغ لها، إن لم يكن المزوِّج أبًا أو جدًّا، وهذا بعيد؛ فإنّني لم أقف على قول لواحد من الصحابة في إثبات خيار البلوغ، فضلاً عن إجماعهم عليه. والله أعلم.
تاسعًا: دليل من أثبت للصغيرة الخيار مطلقًا مع جميع الأولياء.
وأمّا من أثبت للصغيرة الخيار بعد بلوغها مع جميع الأولياء - حتى وإن زوّجها أبوها أو جدّها - فلم أجد لهم دليلاً إلا ما قيل: بأنّها تستدرك ما فاتها حين بلوغها2.
والأظهر: أنّ وجهة أصحاب هذا القول هي نفس وجهة أصحاب القول السابق، وكلُّ ما في الأمر أنّ بينهما عمومًا وخصوصًا، فأولئك استثنوا الأب والجدّ؛ لوفور شفقتهما، وهؤلاء لم يروا موجبًا لتخصيصهما دون غيرهما. والله أعلم.
عاشراً: دليل من لم يجعل للصغيرة خياراً بعد بلوغها مطلقًا.
وأمّا من لم يجعل للصغيرة خيارًا بعد بلوغها مطلقًا - سواء أكان وليّها أباها أم جدّها أم غيرهما، - فذلك لأنّ نكاح الصّغيرة قد صدر من
1 انظر ما تقدم (ص 383) .
2 انظر: المبدع لابن مفلح (7/26) .
وليّ، والوليّ ناظر للموْلِيِّ عليه، وقائم مقامه، وفيه دافع الشفقة والحرص على النظر فيلزم نفاذ عقده قياسًا على الأب، وكذلك الجدّ عند من ألحقه به؛ إذ وفور شفقتهما لا يدلّ على تخصيصهما في نفاذ عقدهما دون غيرهما من الأولياء1. والله أعلم.
خلاصة ما تقدّم وبيان الرَّاجح
وممّا تقدّم يتَّضح أنّ هذا المبحث قد اشتمل على ثلاث مسائل هي:
أوّلها: تزويج البكر الصّغيرة.
ثانيها: اعتبار إذنها.
ثالثها: إثبات خيار البلوغ لها.
فأمّا تزويجها: فالأدلّة على صحّته قويَّة - كما تقدّم - لا فرق بين وليّ وآخر.
وأمّا اعتبار إذنها: فان كانت غير مميِّزة فلا معنى لاعتباره، وأمّا إن كانت مميِّزة ففي القول بعدم اعتباره نظرٌ، وإن لم تبلغ تسعًا، خاصَّة إذا كانت يتيمة.
وأمّا إثبات خيار البلوغ لها: مطلقًا، أو مع غير أبيها وجدّها، ففيه نظرٌ أيضًا، وهو إلى الضعف أقرب.
1 انظر: المبسوط (4/215) ، بدائع الصنائع (3/1511) والهداية وفتح القدير والعناية (3/278) ، والبحر الزخار (3/128) ، وتبيين الحقائق (2/ 122) .
ولهذا فيبدو لي- والله أعلم- أنّ لوليّ الصّغيرة أن يزوّجها بإذنها إن بلغت سنًّا يمكن أن يحدث لها في نفسها نظر، ولو لم تبلغ تسعًا؛ فقد يحدث لها رأي قبل هذا السّنّ وقد يتأخَّر، أمّا من لا رأي لها في نفسها، كمن لم تبلغ سنّ التمييز فلا معنى لاستئذانها، ولا موجب للمنع من تزويجها، ويكفيها نظر وليّها، كما أنّه لا خيار لها إذا بلغت على كلا الحالين، وإليك بيان ذلك:
أوّلاً: أمّا تزويج الأولياء لها وإن كانوا غير آباء فلِما يلي:
1-
أنّ الحجّة في هذا الباب هو تزويج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة بين السادسة والسابعة من عمرها، وليس فيه منع من تزويج غير الأب، ولم يقم دليل على خصوصية هذا النّكاح في مثل هذا السنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد سبق حكاية الإجماع إلاّ من شذّ على صحّة إنكاح الأب ابنته البكر الصّغيرة.
2-
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1، فهذه الآية إن لم تكن قاصرة على تزويج اليتيمة، فلا مخرج لها من عمومها - كما تقدّم - مع ما يعضد دلالة هذه الآية الكريمة وذلك الحديث الصحيح، من الأحاديث والآثار والمعقول التي تقدّم ذكرها وتوجيه الاستدلال بها.
1 سورة النساء- آية رقم: 3
3-
أنَّ النّكاح مصلحة وضعًا في حقّ الصّغار والكبار والذكور والإناث، وتصرّف الوليّ تصرّف نظر ومصلحة، ودافع الشفقة موجود في حقِّ كلِّ وليّ، فإن خرج تصرف الوليّ عن المصلحة والنظر فهو مردود؛ لضررٍ عارضٍ كان الأصل خلافه.
ثانياً: وأمّا الدَّليل على استئذانها فقد سبق حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، رضي الله عنهم في الأمر باستئذان اليتيمة والنهي عن تزويجها بدون إذنها، وظاهر هذه النّصوص دخول اليتيمة حقيقة فيها وهي الصّغيرة، والقول بأنّه لا معنى لاستئذانها قبل بلوغها ممنوع بتلك النّصوص وبالواقع، فإن إكراه فتاة في سنّ العاشرة ونحوها على زوج لا ترضاه مستكره عقلاً، ومعيب عادة، ولا يخفى ضرره، والضرر ممنوع شرعًا، مع أنّ الواقع شاهد بأنّ أولياء الصّغار يعتبرون رضى صغارهم فيما هو أقلّ من هذا، ويرون فيه مصلحة لهم، وقد سبق أنّ القول باستئذان اليتيمة الصّغيرة هو اختيار المحقّقين كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم، والأمين الشنقيطي1. رحمهم الله.
وقد تقدّم في فصل استئذان الحرّة المكلّفة أنّه لا فرق في اعتبار الإذن بين ذات أب وغيرها، وكذلك الشأن فيمن يمكن أن يحدث لها في نفسها
1 انظر ما تقدم (ص411) ، وبلوغ الأماني شرح المسند للساعاتي (16/159) .
نظر قبل البلوغ. وهذا هو المنصوص1 عن الإمام أحمد- رحمه الله فيمن بلغت تسع سنين سواء كان وليّها أباها أم جدّها أم غيرهما، ولكن التحديد بالتسع يحتاج إلى نصّ؛ إذ إنّ باب التحديدات التوقيف، وما روي عن عائشة لا يساعد على ذلك، بل قيل إنّها بلغت في تلك السنّ، مع أنّ عائشة رضي الله عنها إنّما زوّجها أبوها وهي ابنة ست أو سبع سنين، وإنّما أدخلت عليه وهي ابنة تسع، والخلاف هنا في تزويج الصّغيرة لا في وقت إدخالها على زوجها. والله أعلم.
ثالثاً: وأمّا عدم إثبات خيار البلوغ لها، فلعدم نهوض دليله كما تقدَّم. ولا يفسخ نكاح بعد صحّته إلا بدليل، وليس مع من أثبته أقوى من قياس الصغيرة بعد بلوغها على الأمة بعد عتقها، وهذا القياس لو صحّ لاستوى فيه الأب والجدّ مع غيرهما، فيبطل القول باستثنائهما.
وأمّا دعوى وفور شفقتهما فهذا معتبر بقرب درجتهما، وقرب درجتهما يستحقّان بها التقديم على من بعدهم من الأولياء، بناء على قاعدة تقديم الأقرب فالأقرب، وهذا لا يوجب تخصيصهما دون غيرهما بنفاذ عقدهما، وفسخ عقد غيرهما من الأولياء.
وأمّا ما استدلوا به من حديث ابن عمر وابنة حمزة رضي الله عنهم فلو صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في هذا لقطع قول كلِّ مخالف له، وأمّا
1 انظر: الإنصاف (8/54-56،62-63) ، والاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيميَّة (ص 204) .
والحال كما سبق1 بيانه، فالعجب ممّن يحتج لثبوت الخيار بمثل ذلك. والله أعلم.
ب- تزويج الثّيب الصّغيرة.
إنَّ القول في تزويج الثّيب الصّغيرة هو كالقول في تزويج البكر الصّغيرة، في كلِّ ما سبق تقريبًا، إلاّ أنّ للشافعية وابن حزم الظاهري وبعض الحنابلة تفصيلاً بين البكر والثّيب الصّغيرتين وإليك بيانه:
وهو أنَّ مذهب الشافعية هنا: أنّ الثّيّب الصّغيرة لا يزوّجها أبٌّ ولا غيره حتى تبلغ، فيزوّجها وليّها بإذنها2، وهذا بخلاف ما تقدَّم عنهم في البكر الصّغيرة، فإنَّ للأب والجدّ - دون غيرهما - تزويجها بدون إذنها ولا خيار لها إذا بلغت.
وكذلك مذهب ابن حزم في المسألتين، إلاّ أنّ الجدّ عنده كسائر الأولياء3.
وأمّا الحنابلة: فلهم في الثّيِّب الصّغيرة ثلاثة أوجه:
الأوّل: أنّ للأب ووصيّه تزويجها كالبكر الصّغيرة4.
الثَّاني: أنّه لا يزوّجها أحدٌ كمذهب الشافعية وابن حزم.
1 انظر أدلَّة ذلك (ص 412) وما بعدها.
2 انظر: الأم (5/18) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/ 149) ، والتكملة الثانية للمجموع (16/170) .
3 انظر: المحلى (9/459) .
4 انظر: المغني (7/385-386) .
قال ابن مفلح في المبدع: "إنّه المذهب "1.
الثَّالث: التفصيل بين من بلغت تسعًا، فيجوز تزويجها بإذنها، ومن لم تبلغ تسعًا فلا يجوز.
وهذا الوجه مخرَّج على الرِّواية السابقة في إجبار البكر الصّغيرة.
قال صاحب الإنصاف: إنّه المذهب، وعليه جماهير الأصحاب "2.
دليل من منع من تزويج الثّيب الصّغيرة.
وقد استدلَّ الشافعية ومن وافقهم كابن حزم وبعض الحنابلة على
المنع من تزويج الثّيب قبل بلوغها بعموم الأحاديث التي فرقت بين البكر والثّيب في الاستئذان مثل:
1-
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنْكَح الأيِّم حتى تُستأمر، ولا تُنْكَح البكر حتى تُستأذن "3.
2-
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الأيِّم أحقّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها "4.
والثّيب هنا اسم للصّغيرة والكبيرة، وقد دلّت هذه الأحاديث على أنّ الثّيب لا تُنْكَح إلاّ بإذنها، والصّغيرة لا إذن لها معتبر، فوجب تأخير
1 انظر: المبدع (7/23- 24)، وانظر أيضًا: المغني (7/385) .
2 الإنصاف (8/56-57) ، والمغني (7/386) ، وكشاف القناع (5/43) .
3 تقدم تخريجه (ص 277) .
4 تقدم تخريجه (ص 167) .
تزويجها إلى بلوغها؛ لتختار وتأذن لوليّها في تزويجها، وهذا بخلاف البكر؛ فإنّها لو بلغت لكان لأبيها إجبارها؛ لأنّه أحقُّ بها من نفسها، وكذلك جدّها عند الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة في الأب خاصّة. وأمّا ابن حزم فإنّه لا يقول بإجبار البالغ مطلقًا لا بكر ولا ثيّب، وإنّما دليله هنا شمول اسم الثّيب للصّغيرة والكبيرة، كما أنّه ورد في البكر الصّغيرة حديث عائشة الصحيح في تزويج أبيها لها، فيقتصر على ذلك- عنده- فلا يزوّج الأب ابنته الثّيب الصّغيرة، كما لا يزوّج غير الأب صغيرة بحال، ولا يزوّج أب ولا غيره كبيرة بالغ إلا بإذنها1.
وقوله هذا في الكبيرة هو القول الرَّاجح كما تقدّم، وبه يضعف القول بتأثير البكارة في الإجبار، فلا يكون فرق بين بكر وثّيب في اعتبار الإذن حتى وإن كانتا صغيرتين.
وأمّا الأحاديث الآمرة باستئذان الثّيب، فهذه إمّا أن تحمل على الثّيِّب المكلّفة؛ لاعتبار إذنها اتفاقًا، أو على الصّغيرة المميّزة التي بلغت سنًّا يمكن أن يحدث لها في نفسها رأي، كما تقدَّم في اليتيمة، وأمّا غير المميّزة فلا معنى لاستئذانها.
وأمّا التفريق بين من بلغت تسعًا ومن لم تبلغه، فقد تقدّم عدم نهوض دليله؛ لأن التحديدات بابها التوقيف.
1 انظر المحلى (9/458-459) .
وبهذا يكون لا فرق في صحّة تزويج الصّغيرة بين بكر وثيِّب، كما لا فرق في الكبيرة بين بكر وثيِّب على الصحيح، وقد تقدّم القول في تزويج البكر الصّغيرة وأدلّتها، فكذلك الثّيّب الصّغيرة ولا فرق. والله أعلم.
ج- تزويج الغلام الصغير.
إنَّ القول في تزويج الصّغير هو- غالبًا- كالقول في تزويج الصّغيرة كما سبق؛ فقد منع منه قوم مطلقًا، وأجازه قوم مطلقًا، وقصر بعضهم تزويجه على بعض أوليائه دون بعض، وأثبت له بعضهم خيار البلوغ ولم يقل به آخرون كما تقدّم في الصّغيرة؛ وذلك لاشتراك الصّغيرين في علّة الولاية وهي الصّغر. وإليك بيان ذلك:
القول الأول: أنَّ الغلام الصّغير لا يزوّجه أحد أبدًا حتى يبلغ فيزوّج نفسه، فإن زوّجه أبوه أو غيره فالنّكاح مفسوخ، كذا قال ابن حزم الظاهري1، ويحتمل أن يكون مذهبًا لابن شبرمة، وأبي بكر الأصمّ كما هو صريح قول السرخسي في المبسوط2، إلا أنّني لم أجد من عزاه إليهما غيره. والله أعلم.
والقول الثَّاني: أنّ لأبيه أو وصيّه أو الحاكم تزويجه دون غيرهم.
وهذا ظاهر مذهب المالكية والحنابلة، إلاّ أنّ الصحيح من مذهب الحنابلة أنّ الحاكم لا يزوّج الصّغير إلاّ للحاجة، وقد قيّدها بعضهم بحاجته
1 انظر: المحلى لابن حزم (9/462) .
2 انظر: المبسوط (4/212) .
إلى النّكاح، والأكثر على إطلاقها للنكاح أو الخدمة أو غيرهما، وكذلك نص المالكية في مسألة إجبار الصّغير على اعتبار المصلحة، وأنّه لا بدّ من ظهورها إذا كان المجبر له الوصيّ أو الحاكم وذلك كتزويجه غنيّة أو شريفة، أو ابنة عمّ، ولكن قال بعضهم إن قيد الحاجة إنّما هو حيث يكون المهر من مال الصّغير وإلاّ فلا يعتبر1.
والقول الثَّالث: يزوّجه أبوه أو جدّه دون سائر الأولياء، وكذلك لا يزوّجه سلطان ولا وصيّ. وهذا مذهب الشافعية2.
القول الرَّابع: أنَّ لأبيه وجدّه وسائر الأولياء تزويجه. وهذا مذهب الحنفية3. إلاّ أنّه إن زوّجه أبوه أو جدّه فلا خيار له عند البلوغ بلا خلاف عندهم.
1 انظر للحنابلة: المغني والشرح الكبير (7/392-393 والشرح (382-383) ، والإنصاف (8/52، 61) ، وكشاف القناع (5/45-46) ، والمبدع (7/22) .
وانظر للمالكية: بداية المجتهد (2/6) ، قوانين الأحكام لابن جزي (ص 223) ، الكافي لابن عبد البر (1/433) ، والخرشي والعدوي (3/202) ، والشرح الصغير وبلغة السالك (1/369) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/245) .
2 انظر للشافعية: الأم (5/21) ، وروضة الطالبين (7/95) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/169) ، وتحفة المحتاج (7/285) ونهاية المحتاج (6/263) .
3 انظر للحنفيّة: الهداية وفتح القدير والعناية (3/247) ، المبسوط (4/ 212) ، تبيين الحقائق (2/ 121) ، البحر الرائق (3/ 126-127) .
وإن زوّجه غيرهما فله الخيار عند الإمام أبي حنيفة ومحمد، دون أبي يوسف1.
الأدلّة:
إنّ الأدلّة على تزويج الصّغير منعًا أو إثباتًا أو تفصيلاً هي في جملتها نفس الأدلّة على تزويج الصّغيرة التي سبق بيانها، وإليك بعض ما قيل هنا:
أوّلاً: أدلّة من منع من تزويج الصّغير مطلقًا:
1-
استدل ابن حزم رحمه الله لمنع تزويج الصّغير مطلقا حتى يبلغ، فيزوّج نفسه بعموم قوله تعالى:{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} 2.
فقال: إنَّ هذه الآية مانعة من جواز عقد أحد على أحد إلأ أن يوجب نفاذ ذلك نصُّ قرآن أو سنّة، ولا نصّ ولا سنّة في جواز نكاح الأب لابنه الصّغير3.
2-
منع قياس تزويج الأب ابنه الصّغير على تزويجه ابنته الصّغيرة فقال: "وأجازه قوم ولا حجّة لهم إلا قياسه على الصّغيرة، والقياس كلّه باطل، ولو كان القياس حقًّا لكان قد عارض هذا القياس قياس آخر مثله،
1 انظر: المبسوط (4/215) ، بدائع الصنائع (3/ 1511) ، الهداية وفتح القدير والعناية (3/277-278) ، وتبيين الحقائق (2/122-123) ، والبحر الرائق (3/128) .
2 سورة الأنعام، الآية رقم 164.
3 المحلى (9/462-463) .
وهو: أنّهم أجمعوا على أنّ الذَّكر إذا بلغ لا مدخل لأبيه ولا لغيره في إنكاحه أصلاً، وأنّه في ذلك بخلاف الأنثى التي له فيها مدخل إمّا بإذن، وإمّا بإنكاح وإمّا بمراعاة الكفء، فكذلك يجب أن يكون حكمهما مختلفين قبل البلوغ "1 اهـ.
ثانيًا: دليل من أجاز تزويج الصّغير.
وأمّا القول بصحّة تزويج الصّغير فهو في الجملة القول المعروف عن أكثر أهل العلم، ولم أقف على من صرّح بالمنع مطلقًا إلاّ ابن حزم الظاهريّ، وما ذكرت من الاحتمال عن ابن شبرمة وأبي بكر الأصمّ، إلَاّ أنَّ القائلين بصحّة تزويجه قد اختلفوا فيمن يحقُّ له تزويجه من الأولياء كما تقدّم في الصّغيرة، فأمّا من أجازه للأب خاصّة دون غيره فاستدل بما يلي:
1-
ما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه زوّج ابنه وهو صغير، فاختصما إلى زيد فأجازاه جميعًا. قال ابن قدامة: رواه الأثرم بإسناده2.
وقد رواه أيضًا البيهقي من طريق سعيد بن منصور، عن سليمان بن يسار أنّ ابن عمر زوّج ابنه وهو صغير يومئذ اهـ3.
1 نفس المصدر (9/ 462) .
2 المغني (7/393) .
3 البيهقي: (7/143) نكاح، باب الأب يزوّج ابنه الصغير.
قال البيهقي: وهذا محمول على أنّ أخاه أوجب العقد، وأنّ عمّه1 قبله لابنه الصّغير2.
وقد صححّ الألباني إسناده في (إرواء الغليل3.)
2-
ولأنّ الأب يتصرَّف في مال ابنه الصّغير شرعًا فكذلك تزويجه4.
3-
الإجماع على ذلك. قال ابن قدامة: "لا نعلم بين أهل العلم خلافًا أنّ لأبيه تزويجه كذلك قال ابن المنذر "5.
وأمّا من ألحق الجدّ بالأب، فلأنّه أب أعلى، وافر الشفقة، تامّ الولاية، كالأب الأدنى.
وأمّا من ألحق الوصيّ بالأب؛ فلقيامه مقام الأب عند من قال بصحّة ولايته في النّكاح، فهو بمنزلة وكيله في حياته.
وأمّا من ألحق الحاكم بالأب دون سائر الأولياء؛ فلأنّ له ولاية عامّة في النظر له وحفظ ماله6.
1 قال مصححه: "كذا في النسخ- لعل الصواب: وابن عمر اهـ.
2 نفس المصدر والصفحة.
3 إرواء الغليل (6/228) .
4 انظر: المبدع (7/22) ، وكشاف القناع (5/43) .
5 انظر: المغني (7/382) .
6 انظر: كشاف القناع (5/45-46) .
وأمّا من ألحق سائر الأولياء بالأب في صحّة تزويج الصّغير، وأثبت له الخيار إذا زوّجه غير أبيه أو جده؛ فلأنّ قرابة الوليّ داعية إلى الشفقة والنظر، والصّغير إنّما يزوّج إذا كان مصلحة له، وجميع الأولياء من أهل الحرص على تحقيق مصلحته، إلأ أنّه لمّا كان الأب والجدّ أوفر شفقة من سائر الأولياء لم يجعل له خيارًا لوفور شفقتهما، وتمام ولايتهما على النفس والمال، بخلاف سائر الأولياء، كما مرّ في الصّغيرة سواء بسواء.
الرَّاجح:
والرَّاجح هو صحّة تزويج جميع الأولياء للصغير، ولا خيار له إذا بلغ، كما سبق في الصّغيرة.
فأمّا صحّة تزويج جميع الأولياء: فلأنّ الزَّواج مصلحة وضعًا، والوليّ وإن بعُد فهو ناظر لهذه المصلحة، فمتى ظهرت له المصلحة في تزويج الغير كان إحرازها هو الأولى.
ولأنّ الأصل أيضًا في نكاح الأولياء حمله على الصّحّة ما لم يقم دليل على تخصيص بعضهم بذلك دون بعض، وقد وجدنا ما يشبه الإجماع على صحّة إنكاح الأب ابنه الصّغير، ولم نجد دليلاً ناهضًا على تخصيصه بذلك دون سائر الأولياء، فعلى من خصه بذلك أو ألحق به بعض الأولياء دون بعض إقامة الحجّة على ذلك، ولن يجد إلا المنع من تزويجه مطلقًا كما فعل ابن حزم، أو القول بصحّة تزويجه مطلقًا كما ذهب إليه الحنفيّة ومن وافقهم وهو الذي اخترنا رجحانه.
وأمّا عدم ثبوت الخيار للصغير إذا بلغ؛ فلعدم نهوض دليله كما تقدّم في الصّغيرة، مع أنّ الصّغير يزيد بأنّ بيده حلَّ عقدة النّكاح إن لم تظهر له رغبة فيه بخلاف الأنثى. والله أعلم.
هل للصغير إذن معتبر في نكاحه؟
وأمّا هل للصغير إذن معتبر في نكاحه فإن ظاهر مذاهب الفقهاء التي سبق بيانها أنّه ليس له إذن معتبر شرعًا، وعلى هذا بنوا خلافهم السابق في صحّة إنكاح بعض الأولياء له دون بعض، إلاّ أنّ بعض الحنابلة قال: إنّ في إجبار مراهق نظر. وصوّب صاحب (الإنصاف) عدم إجباره1. وقال بعضهم: يحتمل في ابن تسع أنّه يزوّج بإذنه، سواء كان وليّه أباه أم غيره2.
ولعلّ هذا تخريج على الرواية المشهورة عن الإمام أحمد رحمه الله وهي عدم إجبار ابنة تسع كما تقدّم.
والرَّاجح: أنّ الصبيّ المميّز يزوّج بإذنه، وغير المميّز يكفيه نظر وليّه، كما تقدّم في الصّغيرة استدلالاً وترجيحًا.
وممّا يقويِّ عدم إجبار الصبيّ هو القول بصحّة طلاقه، وهذا بخلاف الأنثى، وصحّة وقوع طلاق الصبيّ المميّز وإن كان فيه خلاف مشهور بين العلماء إلاّ أنّ القول بعدم وقوعه واعتباره لاغيًا لا معنى له، فإنَّ
1 انظر: الإنصاف (8/52) .
2 نفس المصدر والصفحة، وكذلك المبدع (7/22) .
للصّغير المميّز قصدًا وإرادة، بخلاف غير المميّز، والطلاق سبيل لتحريم ما كان حلالاً ولم يحرِّم الله شيئًا على الكبير وجعله للصغير حلالاً، بل كلُّ ما في الأمر أنّ الله رفع عن الصّغير قلم المؤاخذة حتى يبلغ، وهذا لا يعني تمكينه من المحرَّمات، أو أنّ كلَّ محرَّم أصبح في حقّه حلالاً، بل إجماع المسلمين قائم على عدم تمكينه من الزِّنى وغيره من مساويء الأخلاق، وعلى هذا إذا صحّ طلاقه فما جدوى إجباره؟
والله الموِّفق.