الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعطاه الكتاب وعلمه العلم، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
ولا يجوز كتمان العلم إلا إذا خاف الضرر على نفسه، قال أبو هريرة رضي الله عنه:«حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ»
(1)
، وهذا العلم الذي لم يبثه هو العلم المتعلق بولاية الأمويين، فقد جاء في ولايتهم أحاديث فلم يكن أبو هريرة رضي الله عنه يبثها خشية الفتنة.
• وهناك
أحوال يُنهى عن السؤال فيها:
- الحالة الأولى: السؤال عمَّا لا ينفع، وعليه يُحْمَل قول النبي صلى الله عليه وسلم في «الصحيحين»:«إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ»
(2)
، وفي «الصحيحين» أيضًا عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ:«سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ» ، قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ» ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ َقَالَ: «أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ» ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِ رسول الله
(1)
أخرجه البخاري رقم (120).
(2)
أخرجه البخاري رقم (7288)، ومسلم رقم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
مِنَ الغَضَبِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ عز وجل»
(1)
. وهذا هو الشاهد حيث غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل هذه الأسئلة التي لا طائل من ورائها.
- الحالة الثانية: السؤال عما لم يكن، وقد جاء عند الدارمي عن عبدالله بن عمر ب قال:«لا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَلْعَنُ السَّائِلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ»
(2)
.
- الحالة الثالثة: السؤال عن المغيَّبات التي سكت الشارع عن بيانها، ولم يرد فيها شيء عنه، فلا يُشرع مثل هذه الأسئلة إنما يقتصر فيها على ما جاءت به الشريعة.
كمن يَسْأَل ويقول: كيف يعذب الفاسق في قبره؟ وكمن يسأل ويقول: كيف يُنعم المؤمن في قبره ويمد له مد البصر؟ وكيف يكون قبره روضة من رياض الجنة؟
هذا مما سكت الشارع عنه، وكان من منهج الصحابة رضي الله عنهم عدم الخوض في السؤال عن مثل هذا وغيره أيضا، قال أنس رضي الله عنه:«نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري رقم (92)، ومسلم رقم (2360).
(2)
أخرجه الدارمي (1/ 62)، وإسناده حسن.
(3)
أخرجه البخاري رقم (63)، ومسلم رقم (12)، واللفظ له.
وهذا ليس معناه النهي عن السؤال مطلقاً، ولكن عن فَرْضِيَّة المسائل، وعن كيفية المغيبات التي لا يمكن أن تدركها العقول، وتقف أمامها حائرة.
- الحالة الرابعة: سؤال التنطع، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ
(1)
»
(2)
، ويدخل فيه سؤال بعض الناس لأهل العلم بقصد إظهار العلم والمعرفة!
وقد يسأل السائل وهو يعلم، لكن بنية تعليم الناس، فلا بأس بذلك.
- الحالة الخامسة: سؤال المراء والجدال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا»
(3)
.
- الحالة السادسة: سؤال العالم اختبارًا له فهذا ليس محمودًا، وكل
(1)
التنطع: التكلف والمغالاة، ومجاوزة الحدود.
(2)
أخرجه مسلم رقم (2670)، وأبو داود ح (3992) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود رقم (4167) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 420) ، رقم (21176) ، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 98) ، رقم (7488) ، وغيرهم، والحديث له شواهد منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الطبراني في المعجم الأوسط (1/ 269)، رقم (878)، وحديث معاذ ابن جبل رضي الله عنه عند الطبراني أيضا في معاجمه الثلاثة: الكبير (20/ 110) رقم (217) ، والأوسط (5/ 285) ، رقم (5328) ، والصغير (2/ 74) رقم (805)؛ وقد جَوَّد إسناده العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/ 153) ، وحسَّنه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 157) ، وصحَّحه النووي في رياض الصالحين ص (216)، والأرناؤوط في تحقيق سير أعلام النبلاء (18/ 516).
هذه الأسئلة من التكلف الذي نُهي عنه شرعًا.
قوله: (عَنْ مَذْهَبِي): يعني عمَّا أذهب إليه وأقول به وأراه في مسائل الشرائع والأحكام.
والمذهب يُطلق ويراد به الأحكام العملية، ويسمى بالفقه الأصغر، ويطلق ويراد به أصول الدين وعلم التوحيد والأسماء والصفات، ويُسمَّى بالفقه الأكبر.
وقد اشتهر عند بعض أهل العلم تقسيم الدين إلى فروع وأصول، ويعنون بأصول الدين ما يتعلق بعقائده وأصوله الكبرى، ويعنون بالفروع الأحكام العملية. ولكن يُشكل عليه أن من الأحكام العملية: الصلاة، فهل يستقيم أن تكون الصلاة من فروع الدين؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ»
(1)
.
والصلاة هي عمود الدين، فمتى تُركت سقط الدين كله، وقد أفاض في بيان هذا شيخ الإسلام
(2)
، وتلميذه ابن القيم
(3)
، والشيخ ابن عثيمين وغيرهم، والمقصود أن هذا التقسيم فيه نظر.
(1)
أخرجه مسلم رقم (134)، والترمذي رقم (2543) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» .
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 125).
(3)
إعلام الموقعين (4/ 375).
......................
…
رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَلُ
قوله: (وعَقيدَتِي) العقيدة لغة: مأخوذة من العقد، وهو شدُّ الشيء وربطُهُ بإحكام، ومنه عَقْدُ الإزار؛ لأنه يُشدُّ بإحكام، واعتقدت كذا إذا عَقدتَ عليه القلب والضمير.
واصطلاحًا: هي الإيمان الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة من أصول الدين وأموره وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالطاعة والتحكيم والاتباع
(1)
.
قوله: (رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَلُ)(مَنْ) اسم موصول: فيكون المعنى رزق الهدى الذي يسأل سؤال هداية واسترشاد، فهذا الشطر من البيت فيه دعاء، حيث دعا الناظم للسائل بالهداية، والدعاء بالهداية للنفس مشروع، قال تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وفي «صحيح مسلم»:«اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
(2)
، كما يُشرع الدعاء للغير بالهداية كما في دعاء النبي
(1)
ينظر في تعريفها الاصطلاحي: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر العقل ص (9).
(2)
أخرجه مسلم رقم (770)، من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: سألت عائشة أم المؤمنين، بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
اسمَعْ كَلَامَ مُحَقِّقٍ في قَولِه
…
..................................
صلى الله عليه وسلم لدوس: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ»
(1)
، وكدعائه صلى الله عليه وسلم لأم أبي هريرة رضي الله عنه بقوله:«اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ»
(2)
.
قوله: (اسمَعْ) فعل أمر، وفيه حث وتحريض وترغيب على سماع العلم النافع؛ لأن من العلم ما ليس بنافع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا»
(3)
، فينبغي للداعي إذا دعا الله بالعلم أن يقيد ذلك بالعلم النافع، والناظم هنا يقول:(اسمَعْ) أي سماع انتفاع واستجابة.
• والسماع على نوعين:
- النوع الأول: سماع انتفاع واستجابة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ
(1)
أخرجه البخاري رقم (2937)، ومسلم رقم (2524) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم رقم (2491) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة
…
» الحديث.
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى (4/ 444) رقم (7867)، وابن حبان (1/ 273) رقم (82)، والطبراني في الأوسط (9/ 32) رقم (9050) من حديث جابر رضي الله عنه، وإسناده حسن.
إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
- النوع الثاني: سماع مجرد لا يراد من ورائه الانتفاع والاستجابة، كما قال تعالى:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:46]، فهم يسمعون لكن يعاندون.
قوله: (كَلامَ مُحَقِّقٍ) أي: كلام عبدٍ مقرٍّ بلسانه، معتقد بجنانه لما يقول، محقق في دينه لا يعتريه شكٌّ ولا رجوع.
• والكلام على قسمين:
- القسم الأول: الكلام بالحق الذي ينفع صاحبه، وقد يكون مستحبًّا، ويكون واجبًا على حسب ما يقتضيه الحال والمقام.
- القسم الثاني: الكلام بالباطل، وهذا محرم، وهو على درجات، فقد ينطق الرجل بكلمة ويخرج بها عن الإسلام، وقد ينطق بها ويكون فاسقًا، ويدخل في هذا القسم علم الكلام الذي حذر منه السلف ، وقال عنه الشافعي:«ما تردى أحد بالكلام فأفلح»
(1)
، والكلام في هذا الموضوع مشهور في كتب العقائد.
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي رقم (268).
وعلماء الكلام قد وقعوا في حيرة وتناقض واضطراب لبعدهم عن الصراط المستقيم والهدي القويم، الذي جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد رجع كثير من أئمة الكلام الذين بلغوا الغاية فيه إلى مذهب السلف، وتبرؤوا من علم الكلام، وأعلنوا توبتهم منه، فهذا الرازي أحد أكابر أئمة علم الكلام يندب نفسه ويبكي عليها ويقول:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ
…
وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ: قِيلَ وَقَالُوا
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلَةٍ
…
فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا
…
رِجَالٌ، فَزَالُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ
(1)
قال ابن الصلاح: «أخبرني الطوغائي مرتين أنه سمع فخر الدين الرازي يقول: يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام وبكى» .
(1)
ينظر: وفيات الأعيان (4/ 250)، ومجموع الفتاوى (4/ 73)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 89)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 96).
وقال الرازي أيضًا:
العلمُ للرحمنِ جل جلاله
…
وسِوَاه في جَهَلاتِه يَتَغَمْغَمُ
ما للتُّرابِ وللعلومِ وإنَّما
…
يسعى ليعلمَ أنَّهُ لا يعلمُ
وممن اعترف منهم بالوقوع في الحيرة والأمور المشكلة المتعارضة ابن أبي الحديد المعتزلي، وهو من كبرائهم، حيث قال بعد توغله في علم الكلام:
فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَرِ
…
حَارَ أَمْرِي وَانْقَضَى عُمُرِي
سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ فَمَا
…
رَبِحَتْ إِلَّا أَذَى السَّفَر
فَلَحَى الله
(1)
الْأُلَى زَعَمُوا
…
أَنَّكَ الْمَعْرُوفُ بِالنَّظَر
كَذَبُوا إِنَّ الَّذِي ذَكَرُوا
…
خَارِجٌ عَنْ قُوَّةِ الْبَشَر
وقال أيضًا:
وحسبْتُ أَنِّي بَالغٌ أمَلِي
…
فِيمَا طَلَبْتُ ومبرئ شَجَنِي
فإذا الذي استكثرتُ منه هو الـ
…
جاني عليَّ عظائم المحن
فضللتُ في تيهٍ بلا عَلَم
…
وغرقتُ في يمٍّ بلا سفن
(1)
لحى الله فلانا: أي قبحه ولعنه. ينظر: تاج العروس (39/ 443).
وكذلك يقول قائلهم مبيِّنًا أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِم
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
(1)
وقد أجابه محمد بن إسماعيل الصنعاني، مبينًا أثر التمسك بالسنة:
لعلَّك أهملت الطَّواف بمعهد الـ
…
رَّسول ومن والاه من كلِّ عالمٍ
فما حار من يهدي بهدي محمدٍ
…
ولست تراه قارعًا سنَّ نادمٍ
وقال أبو الفتح القشيري:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا
…
وسافرت واستبقيتهم في المفاوز
وخضت بحارًا ليس يُدْرَك قعْرُها
…
وسيَّرت نفسي في فسيح المفاوز
ولجَّجْتُ في الأفكار ثم تراجع اخـ
…
ـتياري إلى استحسان دين العجائز
(1)
هذان البيتان ذكرهما عبد الكريم الشهرستاني في كتابه «نهاية الإقدام في علم الكلام» ، ولم يُبيِّن قائلهما، انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 166).
ومن الذين خاضوا في علم الكلام وندموا على ذلك: الجويني حيث قال: «يا أصحابنا: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به»
(1)
.
(2)
.
قال شمس الدين الخسروشاهي
(3)
، لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يومًا، فقال: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته.
(1)
ينظر: تلبيس إبليس ص (105).
(2)
ينظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص (209).
(3)
هو: عبد الحميد بن عيسى بن عَمُّوَيْه بن يونس بن خليل، شمس الدين، أبو محمد الخسروشاهي (نسبة إلى قرية بقرب تبريز)، التبريزي، واشتغل بالعقليات وعلم الكلام، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي، مات سنة (652 هـ). ينظر في ترجمته: تاريخ الإسلام (48/ 125)، وفوات الوفيات (2/ 257)، وطبقات الشافعية الكبرى (8/ 159).
والخلاصة: أن الانشغال بعلم الكلام عديم الفائدة، فالعلم به لا ينفع، والجهل به لا يضر.
وفي الحقيقة أن أهل الكلام لا للسنة نصروا، ولا للفلاسفة كسروا، بل غاصوا في بحار الحيرة والشك فاضطربوا في تقرير عقائدهم فحاروا وحيروا، وتعبوا وأتعبوا، ولم يكن ذلك ليحصل لهم لو اعتصموا بالله وأخذوا بما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101]، وقال تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123 - 126].
قال ابن عباس ب: «تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة»
(1)
.
قوله: (مُحَقِّقٍ) أي: أقول هذا القول عن تحقيق، وليس عن ظن، ولا عن تخرص، ولكني جازم بصحة ما أقول.
والتحقيق: مأخوذ من الحقيقة التي لا يشوبها شبهة، والتحقيق عند
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (18/ 389)، وأطال الكلام في هذه المسألة هنا لبيان قبح الابتعاد عن نور الوحي، وعاقبة من أعرض عن القرآن والسنة وتشاغل بعلم الكلام.
....................
…
لا يَنْثَني عَنهُ ولا يَتَبَدَّلُ
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلِّهِمْ لي مَذْهَبٌ
…
..................................
أهل العلم: إثبات مسائل العلم بالأدلة الشرعية، والمحقق هو المتثبت المتيقن، المحرر للمسائل حيث لا يعتريه شك ولا رجوع عما اعتقده، ويُطلق على بعض أهل العلم محققون مثل: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من أهل العلم الراسخين.
قوله: (لَا يَنْثَني عَنهُ) أي لا يرجع ولا يتزحزح عمَّا قاله بلسانه واعتقده بجنانه في مسائل الاعتقاد المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة.
قوله: (ولَا يَتَبَدَّلُ) يعني لا يغير ولا يبدل مذهب سلف الأمة بغيره من المذاهب الباطلة؛ وذلك لأن مذهب السلف مبني على الكتاب والسنة، فاكتسب صفة الثبوت واللزوم وعدم التبديل لا سيما في باب الاعتقاد.
وهذا ما يدل على رسوخ الناظم في علمه، واطلاعه على نصوص الكتاب والسُّنة، وما اتفق عليه سلف هذه الأمة، مما دعاه إلى الثبات وعدم التزعزع والتلون في معتقده.
قوله: (حُبُ الصَّحابَةِ كُلِّهِمْ) يعني جميعاً بلا استثناء لأحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
قوله: (لي مَذْهَبٌ) أذهب إليه وأُعَوِّلُ في الاعتقاد عليه، وهذه أُولى عقائد أهل السنة التي ذكرها الناظم.
وحب الصحابة واجبٌ بإجماع أهل السنة والجماعة؛ لسابقتهم في
الإسلام، ولقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، والحب هو ميل القلب إلى المحبوب لسبب ظاهر أو باطن.
قال الطحاوي في «عقيدته» : «ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان»
(1)
.
(2)
.
وقال شيخ الإسلام: «المؤمنون يحبون لله ويبغضون لله، كما في «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ»
(3)
، وفي رواية في «الصحيح»: «لَا يجد حلاوة الْإِيمَان إِلَّا من كَانَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَال: أَن يكون الله ُوَرَسُولُه أحبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، وَأَن يكره أَن يرجع فِي الْكفْر بعد إِذْ أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره أَن يُلقَى
(1)
متن الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز (1/ 467).
(2)
متن الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز (1/ 490).
(3)
أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43) من حديث أنس رضي الله عنه.
فِي النَّار»»
(1)
.
وعند «أبي داود» من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ أَحَبَّ لله، وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى لله، وَمَنَعَ للهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ»
(2)
.
ولا يخفى على كل ذي لُبٍّ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولى من يحب لله وفي الله، كيف لا وهم سادات المؤمنين، وأقوى الناس يقينًا، وأطهرهم قلوبًا، وأزكاهم نفوسًا، وأشدهم إخلاصًا، وأكثرهم بذلًا ونصرًا لدين الله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن هذه المسألة - وهي حب الصحابة - من أصول مذهب أهل السنة والجماعة في باب الاعتقاد.
قال شيخ الإسلام: «أهل السُّنة والجماعة وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغالي في بعضهم، والجافي فيهم، الذي يُكفِّر بعضهم أو يُفسِّقه، وهم خيار هذه الأمة»
(3)
.
وقال أيضًا: «أهل السُّنة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط بين الرافضة
(1)
قاعدة في المحبة ص (69).
(2)
أخرجه أبو داود (2/ 632) رقم (4681). وصححه الذهبي في معجم الشيوخ الكبير (2/ 347)، والجديع في تحرير علوم الحديث (2/ 828)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 657).
(3)
الجواب الصحيح (1/ 57).
والخوارج»
(1)
.
فالرافضة - قبحهم الله - يسبون الصحابة رضي الله عنهم، ويلعنونهم، وربما كفروهم أو كفروا بعضهم، والغالبية منهم - مع سبهم لكثير من الصحابة والخلفاء - يغلون في علي وأولاده، ويعتقدون فيهم الإلهية.
وأما الخوارج؛ فقد قابلوا هؤلاء الروافض، فكفروا عليًّا ومعاوية ومن معهما من الصحابة، وقاتلوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم
(2)
.
ولا يخفى ما قام به ابن ملجم الخارجي -لعنه الله- حين استحل قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا شك أن هذا عمل في غاية الزيغ والضلال، وقد قال عمران بن حطان في ذلك شعرًا يمدح ابن ملجم -لعنه الله-، يقول:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا
…
إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ رِضْوَانَا
إِنِّي لأَذْكُرُهُ حِينًا فَأَحْسِبُهُ
…
أَوْفَى البَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ مِيزَانَا
فرد عليه شاعر السنة بقوله:
(1)
العقيدة الواسطية ص (26).
(2)
شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس، ص (192 - 193) بتصرف.