المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ وسطية أهل السنة والجماعة في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم - بدر التمام شرح لامية شيخ الإسلام

[عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌نص اللامية

- ‌نسبة نظم اللاميةلشيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌شرح المنظومة اللامية

- ‌ أحوال يُنهى عن السؤال فيها:

- ‌ مسائل تتعلق بالصحابة:

- ‌التوسل ينقسم إلى قسمين:

- ‌ وسطية أهل السُّنة والجماعة في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم

- ‌ الطوائف المعاصرة التي أنكرت الرؤية

- ‌ هل يرى المؤمنون ربهم في الحياة الدنيا

- ‌ أوقات النزول الإلهي

- ‌ هل الميزان يوم القيامة ميزان واحد لكل الأمم، أو لكل أمة ميزان

- ‌ من المغيَّبات التي يجب الإيمان بها الحوض:

- ‌ هل الحوض موجود الآن

- ‌ من أوصاف الحوض

- ‌ ماذا بعد عبور الصراط

- ‌ صفة الصراط

- ‌ هل الجنة والنار موجودتان الآن

- ‌ هل الجنة والنار تفنيان

- ‌ عذاب القبر ونعيمه

- ‌ سؤال الملكين وموقف أهل السنة منه:

- ‌ هل يسمى الملكان بمنكر ونكير

- ‌ هل عذاب القبر خاص بهذه الأمة أو أنه لكل الأمم

- ‌ هل عذاب القبر ونعيمه على الجسد والروح أو هو على أحدهما دون الآخر

- ‌هل المقصود اتباع هؤلاء لذواتهم أو لأنهم أئمة اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أسئلة على الشرح

الفصل: ‌ وسطية أهل السنة والجماعة في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم

وأقولُ قَالَ اللهُ جل جلاله

والمصطفى الهادي ولَا أَتأوَّلُ

يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ

»

(1)

.

وجاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ الله عز وجل فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ»

(2)

.

وبهذا يتبين لنا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو المذهب الحق الموافق لنصوص الكتاب والسنة بلا شك ولا ريب

(3)

.

قوله: (وأقولُ قَالَ اللهُ) أي: أقول مثل ما قال سبحانه، وقد قال تعالى:{تَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3].

قوله: (والمصطفى الهادي) أي: وأقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

ومما ينبغي الإشارة إليه هنا‌

‌ وسطية أهل السُّنة والجماعة في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم

حيث يشهدون له بالرسالة والاصطفاء ويتبعون جميع ما جاء به من أصول الدين والإيمان والشرائع والأحكام.

(1)

أخرجه ابن حبان (15/ 267)، وإسناده صحيح.

(2)

أخرجه ابن ماجه (2/ 1344) رقم (4049)، والحاكم (4/ 520) رقم (8460) والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 356)، رقم (2028)، وقال:«صحيح على شرط مسلم» . قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 194): «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .

(3)

اللآلئ البهية للمرداوي ص (79).

ص: 71

وأهل السنة وسط في محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الغالين فيه والجافين عنه، فهم يحبونه صلى الله عليه وسلم ويعتقدون أنه خير البشر وسيد المرسلين وخاتم النبيين، ويرون أن أكمل المؤمنين إيمانًا أكثرهم له محبة واتباعًا.

وهم مع ذلك يعتقدون أنه بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا لأنه بشر، بخلاف الذين غلوا فيه فرفعوه فوق منزلته واعتقدوا أنه يجيب دعاء من دعاه، فصرفوا له العبادة من دون الله، وبذلك خالفوا ما جاء فيه من نصوص الوحيين، كحال غلاة الصوفية الذين يقول قائلهم في شأن النبي صلى الله عليه وسلم:

يا أكرمَ الخلقِ ما لي من أَلوذُ به

سواكَ عند حلولِ الحادثِ العَمَم

إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي

فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم

بيدي

فإن من جودك الدنيا وضرَّتَها

ومن علومك علم اللوح والقلم

قال ابن رجب رحمه الله: «إنه لم يترك لله شيئًا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

إلى غير ذلك من الغلو الذي يخرج صاحبه من دائرة الإسلام، نسأل الله السلامة والعافية، وأهل السُّنة أيضًا ليسوا جفاة في حقه كالذين أعرضوا عن شرعه ولم يعملوا بما جاء به، أو الذين ادعوا أن شريعته قد نسخت بشريعة

(1)

ذكره الشيخ ابن عثيمين في مجموع الفتاوى له 9/ 57، ولم أجده في غيره.

ص: 72

أخرى كحال غلاة الباطنية الذين يقول قائلهم

(1)

:

خُذي الدُّفَّ يا هذه واضربي

وغني هزاريك ثم اطربي

تولَّى نبيُّ بني هاشم

وهذا نبيُّ بني يعرب

لكل نبيٍّ مضى شرعةٌ

وهذي شريعة هذا النبي

فقد حطَّ عنا فروض الصلاة

وفرض الصيام فلم نتعب

إذا الناس صلوا فلا تنهضي

وإن صَوَّموا فكلي واشربي

ولا تطلبي السعي عند الصفا

ولا زورة القبر في يثرب

إلى آخر ما قاله من الكفر الصراح البواح.

وبما سبق يتبين لنا وسطية أهل السُّنة والجماعة بين أهل الضلال في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

قوله: (ولا أَتأوَّلُ): التأويل له معنيان:

الأول: بمعنى التفسير، كقول الطبري:«القول في تأويل قوله تعالى كذا» .

الثاني: بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء: مثل قوله تعالى:

(1)

القائل هو شاعر عليَّ بن الفضل الباطني، وقيل: هو علي بن الفضل نفسه وليس شاعره. ينظر: كشف أسرار الباطنية للشيخ محمد بن مالك ص (55).

ص: 73

{ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} [النساء: 59]، وهذا معناه في القرآن.

وهناك معنى ثالث: وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى معنًى آخر غير متبادر، وهذا اصطلاح حادث لدى العلماء، وهذا النوع من التأويل له ثلاث حالات:

1 -

صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليلٍ صحيحٍ من كتابٍ أو سنةٍ، فهذا النوع مقبولٌ بلا اختلاف.

2 -

صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيءٍ يعتقده المجتهد دليلًا، وهو في نفس الأمر ليس بدليلٍ.

3 -

صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لا لدليلٍ.

فالنوع الأول: يُسمى تأويلًا صحيحًا وقريبًا، وهو الواجب اتباعه.

وأما الثاني: فيسمى تأويلًا فاسدًا وبعيدًا، ولا يصح اتباعه؛ لأنه حملٌ للفظ على غير ظاهره لغير دليلٍ، وهذا كتأويلات بعض الفقهاء للنصوص الصحيحة الصريحة.

والنوع الثالث: لا يسمى تأويلًا، بل هو تلاعبٌ بالكتاب والسنة، وهذا مثل تأويلات الروافض.

وشيخ الإسلام رحمه الله يقصد بالتأويل هذا النوع الثالث من التأويل، وقد يدخل في ذلك النوع الثاني أيضًا.

ص: 74

وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ أُمِرُّها

حَقًّا كما نَقَلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ

هذا ما لزم تقريره في هذا المقام باختصارٍ، والله الموفق

(1)

.

قوله: (وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ) يعني الواردة في نصوص الوحيين.

قوله: (أُمِرُّها حَقًّا) يعني على حقيقتها التي وردت فلا أصرف شيئًا من نصوص الصفات عن ظاهره بغير دليل؛ لأن التأويل ليس من مذهب أهل السنة والجماعة وإنما يتقيدون بما جاء عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (كما نَقَلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ) أي الرعيل الأول من سلف الأمة ابتداءً من الصحابة فمن دونهم من أئمة الدين والعلم، وأراد الناظم رحمه الله أن يبين في هذا البيت: أنه يقول في هذا الباب بما جاء في القرآن، وما قال به النبي الكريم الذي وصف ربه بجملة من الصفات من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ»

(2)

، وأيضا وصف ربه بالضحك فقال صلى الله عليه وسلم كما في «الصحيحين»:«يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلانِ الْجَنَّةَ؛ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ»

(3)

، كما وصف ربه بالعَجَبِ فقال صلى الله عليه وسلم: «عَجِبَ رَبُّنَا عز وجل مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي

(1)

ينظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية (5/ 328)، ومنهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات، للشنقيطي (ص: 35).

(2)

أخرجه البخاري رقم (758)، ومسلم رقم (1145).

(3)

أخرجه البخاري رقم (2826)، ومسلم رقم (1890) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 75

السَّلاسِلِ»

(1)

، وغير ذلك من الأوصاف التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيمر بنا التفصيل في ذلك في شرح الواسطية إن شاء الله تعالى.

والخلاصة: أن أهل السُّنة والجماعة لا يتكلفون في صرف النصوص عن ظاهرها بغير دليل بل يَسَعُهم ما وَسِعَ الصحابة ومن بعدهم من أئمة الدين الأثبات.

ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن المراد بإمرار الصفات الأخذ بمعانيها دون تكييفها، فأهل السنة والجماعة يثبتون معاني الصفات على ما يليق بجلال الله لكنهم لا يكيفونها، فيثبتون معاني للصفات ويفوضون كيفيتها، قال سفيان بن عيينة:«كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل»

(2)

.

• وهنا قد يرد سؤال وهو: هل معنى ذلك أنه ليس لصفات الله كيفية؟ أو نقول: لها كيفية لكن نجهلها؟

o الجواب: أن لها كيفيةً ولكن نجهلها؛ ولهذا لا يجوز أن نكيف هذه الصفات؛ لأن النصوص لم تكيفها، وكان العديد من السلف يعبر بقوله:«أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف» أي: بلا كيف معلوم لنا؛ فهو نفي للعلم بالكيفية، وليس نفيًا للكيفية؛ لأن ما لا كيفية له لا وجود له، تعالى الله عن

(1)

أخرجه البخاري رقم (3010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أصول الاعتقاد للالكائي ص (736).

ص: 76

ذلك علوًّا كبيرًا.

إذًا نقول: إن صفات الله عز وجل لها كيفية لا نعلمها، ولذلك قال الإمام مالك:«والكيف مجهول» ولم يقل: الكيف معدوم.

وهذه الجملة «أمروها كما جاءت بلا كيف» تحتها العديد من المعاني كالرد على المبتدعة من المعطلة والمشبهة وغيرهم.

فالمعطلة أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، فالعبارة فيها ردٌّ عليهم حيث إنهم عطلوا الصفات خوفًا من أن يشبهوها بالمخلوق، وكذلك فيها ردٌّ على المشبهة الذين شبهوا أوصاف الله بأوصاف خلقه.

قال شيخ الإسلام في «الحموية» : «فقولهم أمروها كما جاءت رد على المعطلة، وقولهم بلا كيف رد على المشبهة»

(1)

.

وأهل السُّنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فأثبتوا الصفات وفق ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقعوا في التشبيه.

وبهذا يتبين لنا أن طريقة أهل السُّنة والجماعة في صفات الله عز وجل هي الإثبات بلا تشبيه والتنزيه بلا تعطيل؛ لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].

(1)

ص (442).

ص: 77

• وهنا مسألة وهي ما الفرق بين المشبهة والمعطلة؟

o الجواب: المشبهة هم الذين شبهوا الله بخلقه، والمعطلة هم الذين عطلوا الصفات ونفوها.

والتشبيه نوعان:

الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق: وهو أن يثبت لله تعالى في ذاته أو صفاته من الخصائص مثل ما يثبت للمخلوق، كقول القائل: إن يدي الله كأيدي المخلوقين، أو نزوله كنزوله، ونحو ذلك.

الثاني: تشبيه المخلوق بالخالق: فهو أن يثبت شيئًا للمخلوق مما يختص به الخالق من الأفعال والحقوق والصفات، كفعل من أشرك في الربوبية أو كمن أشرك في الألوهية وكفعل الغلاة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

والمعطلة ينقسمون إلى قسمين:

1 -

المؤوِّلة: وهم الذين صرفوا معاني صفات الله تعالى عن ظاهرها المتبادر إلى معنى آخر غير متبادر لا دليل عليه ولا مرجح له.

2 -

المفوضة: وهم الذين يفوضون معاني الأسماء والصفات لله تعالى ولا يثبتون منها شيئًا.

(1)

ينظر: شرح الطَّحَاوية، لابن أبي العز (ص: 21)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (4/ 22، 23)، فتح رب البرية بتلخيص الحموية، لابن عثيمين أيضًا (ص: 20).

ص: 78

وأَرُدُّ عُهْدَتَها إلى نُقَّالِهَا

وأَصُونُها عَنْ كُلِّ مَا يُتَخَيَّلُ

وقد اتفق المؤولة والمفوِّضة على صرف نصوص الصفات عن ظاهرها المتبادر المعتبر، ونفوا الصفات المأخوذة منها، ولكن المؤوِّلة أولوها بمعانٍ أخرى بعقولهم، بينما فوَّض المفوِّضة معانيها، ولم يفسروها.

وهناك فرق بين أهل السُّنة والمفوضة: يتبيَّن بالمثال التالي: وهو أنَّ من أسماء الله تعالى (الرحمن) فأهل السُّنة يثبتون هذا الاسم، ويأخذون منه صفة الرحمة، أما المفوضة فهم يثبتون الأسماء ولكن يفوضون معانيها إلى الله، وهم بذلك يثبتون أن القرآن ليس له معانٍ مفهومة.

ولهذا قال أهل السُّنة: المفوضة شر الطوائف؛ لأن ظاهرها التورع والاحتياط، وباطنها تكذيب القرآن، وأنه لا معنى ولا حقيقة له.

قوله: (وأَرُدُّ عُهْدَتَها إلى نُقَّالِهَا) المراد بالذي تُرَدُّ العهدة فيه إلى النُقَّال هو باب الصفات فلا يُتَكَلَّم في شيء من هذا الباب إلا بوحي، والمراد بالنُقَّال هم أهل العلم الذين نَقَلُوا هذه الأحاديث من لدن الصحابة رضي الله عنهم ثم التابعين ومن جاء بعدهم.

قوله: (وأَصُونُها عَنْ كُلِّ مَا يُتَخَيَّلُ) أي: يصون ما جاء في هذا الباب عن التأويل والتحريف والتعطيل والتكييف، ويصون الصفات أيضًا عن التخيل فإن الله أجل وأعظم من أن تتخيل صفاته. وأما الخواطر التي تَرِدُ على النفس، فلا يسلم منها أحد، بل لم يسلم منها الصحابة رضي الله عنهم حتى قالوا:

ص: 79

قُبْحًا لِمَنْ ...................

..................................

«إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ - والمقصود بها الخواطر التي لا يسلم منها أحد - قَالَ صلى الله عليه وسلم: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»

(1)

.

وجاء في غير «مسلم» قال: «الْحَمْدُ لله الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ»

(2)

، قال الإمام أحمد:«كل ما أخبر الله به في كتابه من صفاته فهو كما أخبر لا كما يخطر للبشر» .

ولهذا كانت قاعدة هذا الباب: «التسليم المطلق» كما ذكر أهل العلم وكما جاء عن الله عز وجل وعن الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

فهو تسليم مطلق لما جاء عن الله ورسوله، قال الطحاوي:«لا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام» .

(قُبْحًا لِمَنْ

) استهل الناظم رحمه الله هذا البيت بالدعاء على من أعرض عن القرآن، فهو يدعو عليه بالتقبيح حيث كان محلًّا لكل قبيح، لأنه أعرض

(1)

أخرجه مسلم رقم (132) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود رقم (4448).

ص: 80

قُبْحًا لِمَنْ نَبَذَ القُرَانَ وراءَهُ

وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ

عن القرآن، وكلما بَعُدَ المرء عن القرآن جمع القبائح، وكلما اقترب منه سلَّمه الله من القبائح.

قوله: (قُبْحًا) القبيح: ضد الحسن. (لِمَنْ نَبَذَ) طرح. (القران)

(1)

الكريم.

(وراءَهُ) فلم يلتفت إليه بل أعرض عنه ورغب عن هديه.

قوله: (وإذا اسْتَدَلََّ) في مسائل العقائد (يقولُ قالَ الأخطَلُ) ويعني بذلك الشاعر النصراني المعروف

(2)

، والخطل في اللغة هو الخطأ في الكلام

(3)

.

ويشير الناظم رحمه الله هنا إلى شناعة ما قام به بعض المبتدعة الذين نفوا صفة الكلام عن الله عز وجل بحجة ضعيفة باهتة وهي بيت قاله الأخطل وهو:

إِنَّ الكلامَ لفي الفُؤادِ وإِنَّمَا

جُعِلَ اللسانُ عَلَى الفُؤادِ دَلِيلَا

فاستدلوا بهذا البيت وقالوا: إن كلام الله هو الكلام النفسي، وإن الكلام في الحقيقة هو ما يقوم بالنفس.

(1)

«الْقُرَان» : يعني القرآن، وهي لغة مشهورة وقراءة سبعية، وهي لغة الشافعي.

(2)

هو أبو مالك غياث بن غوث التغلبي، نشأ في العراق، وهو شاعر نصراني، سليط اللسان، مدمن على شرب الخمر، توفي سنة (92 هـ). انظر: البداية والنهاية (9/ 97)، وتاريخ الأدب العربي ص (61).

(3)

مجموع الفتاوى (6/ 297).

ص: 81

ومقتضى قولهم هذا إنكار صفة الكلام لله سبحانه؛ لأنهم قالوا: إن كلام الله هو المعاني دون اللفظ، ويُرَدُّ عليهم بقوله تعالى:(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)[النساء:164]، قال النحاس:«أجمع النحويون على أن الفعل إذا أُكِّدَ بالمصدر لم يكن مجازًا»

(1)

، والفعل (كَلَّمَ) هنا أُكِّدَ بالمصدر الحقيقي (تَكْلِيمًا) فوجب أن يكون كلامًا على الحقيقة.

وقد أجمع السلف والخلف من أهل السُّنة وغيرهم على أنَّ الفعل (كلَّم) هنا المراد به الكلام المنطوق بحروف

(2)

.

وأيضًا يقال: إن العرب لا تنسب للساكت كلامًا ولو كان يحدث نفسه فضلًا عن غيره، وإنما يسمى الكلام كلامًا عندما يُنطق به، وأما قبل النطق به فلا يسمى كلامًا، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الله تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ»

(3)

.

والمقصود أن السلف يستدلون بـ: قال الله، قال رسوله، وهؤلاء يستدلون بهذا البيت، ولا شك أن هذا ضَلالٌ مُبِينٌ، وزيغ واضحٌ عن الصراط المستقيم.

(1)

إعراب القرآن (1/ 251) بنحوه.

(2)

الروضة الندية ص (171، 172) بتصرف يسير.

(3)

رواه البخاري (5269)، ومسلم (127) واللفظ له.

ص: 82

قال شيخ الإسلام: «وقد قالت طائفة إن هذا ليس من شعره»

(1)

، أي ليس من شعر الأخطل؛ لذلك لم يجزم ابن القيم في «نونيته» بنسبته إلى الأخطل حيث قال:

ودليلُهم في ذاك بيتٌ قاله

فما يُقال الأخطلُ النصراني

قال العلامة ابن جبرين رحمه الله: «ثم لو قدَّرنا أنه صحيح وأنه من قول الأخطل لم نقبله وذلك لأن الأخطل نصراني، مشهور بتمسكه بالنصرانية، ويفتخر بها، وقد اشتهر من شعره قوله:

ولستُ بقائمٍ كالعَيْر يدعو

قبيل الصبح حيَّ على الفلاح

ولستُ بقائدٍ عِسًا بكورًا

إلى بطحاء مكة للنجاح

ولستُ بصائم رمضان طوعا

ولستُ بآكل لحم الأضاحي

لا شك أن هذا يدل على كفر صريح، وإذا كان يفتخر بأنه نصراني فكيف يستشهد بكلامه في أمر يتعلق بالعقيدة؟! ثم أيضًا هو يسمى الأخطل، والخطل هو عيب في الكلام، وأيضًا هو نصراني والنصارى قد ضلوا في مسمى (الكلام) حيث جعلوا (عيسى) نفسه (الكلمة) فإذا كان

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 296).

ص: 83

والمؤمنونَ يَرَوْنَ حقًّا ربَّهُمْ

..................................

كذلك فكيف يُسْتَشهدُ بكلامه على أمر من أمور العقيدة؟!»

(1)

.

وقد تولى شيخ الإسلام رحمه الله الرد على من قال بالكلام النفسي وأبطله من نحو تسعين وجهًا وذلك في رسالته المسماة بـ «التسعينية» ، وقد أشار ابن القيم رحمه الله، إلى ذلك بقوله

(2)

:

وكذاك تسعينيةٌ فيها له

ردٌّ على من قال بالنفساني

تسعون وجها بينت بطلانه

أعني كلام النفس ذا الوَحْداني

قوله: (والمؤمنونَ) أي: بربهم وبما جاء في وحيه إيمانًا لا يعتريه شك ولا تردد.

قوله: (يَرَوْنَ حقًّا ربَّهُمْ) عيانًا بأبصارهم حقيقة لا مجازًا، وقد أشار الناظم رحمه الله في هذا الكلام إلى مسألة مهمة من مسائل العقيدة وهي مسألة الرؤية.

• وأهل العلم الذين تكلموا في باب العقائد ذكروا أن الرؤية على نوعين:

- النوع الأول: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه حينما عُرج به إلى السماء، هل رأى

(1)

شرح اللمعة ص (179).

(2)

الكافية الشافية ص (772).

ص: 84

ربه أو لم يره؟ والراجح والصحيح الذي دلت عليه الأدلة، وعليه أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم لم يَرَ ربه.

هذه المسألة من مسائل العقيدة، لكن ليست مما يُضَلَّلُ فيها المخالف، لأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا فيها، وقد حصل بين ابن عباس وعائشة خلاف فيها، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يوجد هناك خلاف حقيقي بين عائشة وابن عباس ب

(1)

، وليس هذا محل بحث هذه المسألة، والمقصود أن هذه المسألة فيها سعة.

- النوع الثاني: رؤية المؤمنين لربِّهم يوم القيامة فهذه المسألة أثبتها أهل السُّنة وعدوها من مسائل العقيدة الكبرى التي يضلل فيها المخالف، لأن هذه الرؤية ثابتة في القرآن والسُّنة، ومن الأدلة التي وردت في ذلك ما يلي:

أولًا: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22،23]، فأثبت رؤية المؤمنين لربهم عياناً بأبصارهم، وذلك لأن النظر إذا عُدِّي بـ (إلى) يكون المقصود به المعاينة بالأَبصار كما في قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى

(1)

أخرج البخاري رقم (3234)، ومسلم رقم (177) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحمدًا رأَى ربَّه فقد أعظم ولكن قد رأى جبريل في صورته وخَلْقُه سادٌّ ما بين الأفقِ» . وأخرج الحاكم في المستدرك (2/ 509) عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم عليه السلام، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد» ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (6/ 509): «والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة أو مقيدة بالفؤاد

ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه».

ص: 85

الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17].

ثانيًا: قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس:26].

فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل، فلما عطف الزيادة على الحسنى التي هي الجنة دل على أنها أَمرٌ آخر وراء الجنة وقدرٌ زائدٌ عليها، وذلك لأن العطف يقتضي المغايرة، وهي الرؤية للمؤمنين وتكون بعد دخولهم الجنة كما جاء ذلك في «صحيح مسلم» من حديث صهيب رضي الله عنه

(1)

.

وقد صرح جمع من الصحابة رضي الله عنهم بأن المراد بالزيادة الرؤية، جاء ذلك عن أبي بكر وابن عباس وحذيفة وأبي موسى رضي الله عنهم.

ثالثًا: قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فلمَّا حَجَبَ الكفار عن الرؤية لسخطه عليهم دل على أن المؤمنين يرونه لرضاه عنهم.

والمقصود أن الرؤية ثابتة في القرآن، وثابتة في السُّنة في أحاديث عديدة أوصلها أهل العلم إلى ثلاثين حديثًا من أشهرها:

حديث جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً

ص: 86

يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ»

(1)

.

وحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عز وجل» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ نِصْفَ النَّهَارِ؟» قَالُوا: لا، قَالَ: فَتُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قَالُوا: لا، قَالَ:«فَإِنَّكُمْ لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي ذَلِكَ»

(2)

.

• ومن المسائل التي يحسن ذكرها في هذا المقام ما يلي:

- المسألة الأولى: ما الطوائف التي أنكرت الرؤية؟

o الجواب: هم الجهمية والمعتزلة، وتبعهم على ذلك الخوارج والرافضة، وقد استدلوا على ذلك بأدلة مثل قوله تعالى لموسى عليه السلام:{لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، قالوا: إن لن للتأبيد، وهذا غير صحيح، لعدة أوجهٍ:

أحدها: أن نفي الرؤية الوارد في الآية إنما هو في الدنيا؛ لأن موسى عز وجل طلب رؤية ربه عز وجل في الحياة الدنيا.

الثاني: أن قولهم: إن (لن) هنا للنفي المؤبد ليس إلا مجرد دعوى فقد قال تعالى حكاية عن الكفار: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، وهذا في الدنيا فلو كانت (لن) للتأبيد المطلق والنفي المؤبد لما تمنى الكفار الموت في الآخرة كما في قوله تعالى:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزُّخرُف:77].

(1)

أخرجه البخاري رقم (554)، ومسلم رقم (633).

(2)

أخرجه البخاري رقم (22)، ومسلم رقم (182)، وأحمد رقم (10697)، واللفظ له.

ص: 87