الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَة]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلْنَا خَيْرَ أُمَمٍ أُمَّةٍ مَرْحُومَةٍ مَغْفُورَةٍ مُثَابَةٍ غَايَةَ كَرَمٍ وَمُبَارَكَةٍ لَا يَدْرِي أَوَّلُهَا خَيْر
أَو آخِرِهَا مِنْ شُمُولِ النِّعَمِ مِنْ فَضْلٍ أَتَى مِنْ قِبَلِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ التَّحِيَّةُ وَالْكَرَمُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَفْضَلِ رُسُلِهِ الَّذِي بِتَبَعِيَّتِهِ يُفَازُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بَلْ يُنَالُ إلَى أَقْصَى الرِّيَاسَتَيْنِ وَبِمُحَافَظَةِ حُدُودِ شَرِيعَتِهِ يُتَنَجَّى عَنْ الْأَهْوَالِ وَالْهَلَكَاتِ وَبِحِرَاسَةِ حِمَى سُنَّتِهِ يُوصَلُ إلَى قُصْوَى الْأَمَانِي وَالدَّرَجَاتِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ هُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ كَانُوا هُمْ تَبِعُوهُ، وَجَاهَدُوا مَعَهُ وَآوَوْا وَقَدْ نَصَرُوا.
(وَبَعْدُ) فَمِنْ أَجْلَى الْبَدِيهِيَّاتِ شَرْعًا وَأَوْضَحِ الْيَقِينِيَّاتِ عَقْلًا أَنَّ الدُّنْيَا فَانٍ وَآخِرَ لِبَاسِ الْإِنْسَانِ الْأَكْفَانُ وَأَنَّ الِارْتِحَالَ مِنْهَا كَانَ وَعْدًا مَأْتِيًّا وَالشُّرْبَ مِنْ كَأْسِ الْمَنِيَّةِ حَتْمًا مَقْضِيًّا أَوَّلُهَا ضَعْفٌ وَفُتُورٌ وَآخِرَهَا مَوْتٌ وَقُبُورٌ فَدَارُ نِفَاقٍ وَشِقَاقٍ وَمَوْطِنُ عُبُورٍ وَفِرَاقٍ مَشُوبَةٌ بِالْفِتَنِ وَالشُّرُورِ سَلَّابَةٌ لِلْأَذْوَاقِ وَالسُّرُورِ عِزُّهَا مَعَ الذُّلِّ مُحَرَّمٌ وَنِعَمُهَا مَعَ النِّقَمِ تَوْأَمٌ فَأَوَّلُهَا خِزْيٌ وَغَمٌّ وَآخِرُهَا مُذَمٌّ وَهَمٌّ مَنَّاعَةُ النِّعَمِ أَكَّالَةُ الْأُمَمِ مِنَحُهَا مِحَنٌ وَمِحَنُهَا مِنَحٌ وَمِنَنٌ فَرُكُونُهَا وَيْلٌ وَوَبَالٌ وَاعْتِمَادُهَا وِزْرٌ وَضَلَالٌ.
رَأَيْت الدَّهْرَ مُخْتَلِفًا يَدُورُ
…
وَلَا حُزْنٌ يَدُومُ وَلَا سُرُورُ
وَشَيَّدَتْ الْمُلُوكُ بِهَا قُصُورًا
…
فَمَا بَقِيَ الْمُلُوكُ وَلَا الْقُصُورُ
وَلَا يُوثَقُ بِالدَّوْلَةِ فَإِنَّهَا ظِلٌّ زَائِلٌ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى النِّعْمَةِ فَإِنَّهَا ضَيْفٌ رَاحِلٌ، لَوْ كَانَ الدَّوْلَاتُ دَائِمَةً لَكَانُوا كَغَيْرِهِمْ رَعَايَا لَكِنْ لَيْسَ لِلدَّوْلَاتِ دَوَامٌ.
أَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَأَيْنَ الْأَسْلَافُ وَالْأَحْفَادُ أَيْنَ قَيَاصِرَةُ الْقُصُورِ وَأَيْنَ هُرَامِزِةِ الدُّهُورِ أَيْنَ شَدَّادٌ وَعَادٌ وَأَيْنَ إرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ؟
وَإِنَّ فِي الْآخِرَةِ دَارًا لَيْسَ فِيهَا إلَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ وَعَظِيمُ الْبَطْشِ بِمَقَامِعِ الْحَدِيدِ وَيَنَابِيعِ الصَّدِيدِ وَعِنْدَ النُّضْجِ التَّبْدِيلُ بِالْجَدِيدِ وَالْأَخْذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ وَاسْوِدَادُ وُجُوهِ الْأَقْوَامِ وَالْكَبُّ عَلَى الْوُجُوهِ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَسَرَاوِيلُ الْقَطْرَانِ وَالْأَنْكَالِ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ الرُّءُوسِ الْحَمِيمُ وَيُصْهَرُ مَا فِي الْبُطُونِ بِحُكْمِ الْحَكِيمِ وَطَعَامُهُمْ زَقُّومٌ وَغَسَّاقٌ وَغِسْلِينٌ وَالْعَطَشُ إلَى انْقِطَاعِ الْأَكْبَادِ وَغَلُّ الْأَعْنَاقِ إلَى الْإِيَادِ وَلَيْسَ الْكُلَّ إلَّا وَارِدٌ وَلَيْسَ فِيهَا رَاحَةٌ وَلَا بَارِدٌ وَأَنْتَ فِي ذُهُولٍ
وَغُفُولٍ بَعِيدٍ وَتَقُولُ النَّارُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ.
وَإِنَّ فِيهَا دَارًا أُخْرَى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ فِي اللَّهِ جَاهَدُوا وَصَارُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ وَمُلْكٌ كَبِيرٌ عَظِيمٌ وَنَضْرَةُ النَّعِيمُ عِزَّتُهَا بَاقِيَةٌ وَنِعَمُهَا صَافِيَةٌ وَعَنْ الْفَنَاءِ خَالِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا لَاغِيَةٌ وَقُطُوفُهَا دَانِيَةٌ وَأَذْوَاقُهَا مُتَوَالِيَةٌ شَرَابُهَا رَحِيقٌ وَلِبَاسُهَا حَرِيرٌ أَنِيقٌ وَسُنْدُسٌ وَإِسْتَبْرَقٌ عَمِيقٌ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ وَسُرَرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ مُتَّكِئِينَ عَلَى أَرَائِكَ مَصْفُوفَةٍ.
فِيهَا الْوِلْدَان وَالْغِلْمَانُ وَحُورٌ عَيْنٌ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ شَكِلَاتٌ غِنْجَاتٌ آمِنَاتٌ مِنْ الْهَرَمِ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخَيْمِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ مِنْ مَاءٍ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَفِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ وَعَتْ وَلَا عَلَى قَلْبٍ خَطَرَتْ وَأَعْظَمُ النِّعَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ رُؤْيَةُ الْمَلِكِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَبِمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدِينَ فِيهَا عَلَى الْوِفَاقِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَلَاصَ مِنْ الدَّارِ الْأُولَى وَالْوُصُولَ إلَى الثَّانِيَةِ فِي الْعُقْبَى إنَّمَا يَحْصُلَانِ بِالتَّشَرُّعِ بِالشَّرْعِ الْمَتِينِ وَالتَّسَنُّنِ بِأَصَحِّ السَّنَنِ الْمَكِينِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَدَوَاعِي فَاسِدَاتِ الْمُيُولَاتِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَتَحْلِيَةِ الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةِ وَصِدْقِ الْمُجَاهَدَةِ فِي تَحْصِيلِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَقَهْرِ إمَارَةِ النَّفْسِ وَالْمُيُولَاتِ الْفَاسِدَاتِ كَمَا قِيلَ الْإِسْلَامُ ذَبْحُ النَّفْسِ بِسُيُوفِ الْمُجَاهَدَةِ وَتَرْكُ الْهَوَى بِالْمُخَالَفَةِ فَإِنَّهَا مُعِينَةٌ لِلْأَعْدَاءِ سَائِقَةٌ لِلْأَسْوَاءِ، سَيْفُ الشَّيْطَانِ وَآلَةُ الْعِصْيَانِ وَمَنْشَأُ الطُّغْيَانِ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ وَبَلَاؤُهَا أَصْعَبُ الْبَلْوَى وَعِلَاجُهَا أَعْسَرُ الْأَشْيَاءِ وَدَاؤُهَا أَعْضَلُ الدَّاءِ وَدَوَاؤُهَا أَشْكَلُ الدَّوَاءِ لِأَنَّهَا عَدُوٌّ مِنْ الدَّاخِلِ وَلَيْسَ لِدَفْعِ ضُرِّهِ كَافِلٌ
نَفْسِي إلَى مَا ضَرَّنِي دَاعِي
…
تُكْثِرُ أَسَقَامِي وَأَوْجَاعِي
كَيْفَ احْتِيَالِي مِنْ عَدُوِّي إذَا
…
كَانَ عَدُوِّي بَيْنَ أَضْلَاعِي
إنَّهَا عَدُوٌّ مَحْبُوبٌ وَذَنْبُ الْمَحْبُوبِ مَرْغُوبٌ بَلْ مُسْتَحْسَنٌ وَمَطْلُوبٌ فَكُلُّ الْفَضَائِحِ إنَّمَا تَنْشَأُ مِنْهَا وَكُلُّ الْمَصَائِبِ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِهَا وَأَيْضًا مُخَالَفَةُ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ مَكِينٌ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَغَايَةُ جَهْدِهِ لَيْسَ إلَّا هَلَاكًا قَوِيًّا {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] غَوِيًّا فَمَجْبُولٌ عَلَى إيقَاعِ كُلِّ خِزْيٍ عَلَيْهِ قَدِيرٌ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِإِيقَاعِ النَّارِ الْحَمِيمِ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] .
إلَى أَنْ قَالَ {لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ لِقَوْمٍ غَافِلِينَ {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] فَيُوقِعُهُمْ إلَى فِتْنَةِ الْمَعَاصِي نَحْوَ ذُنُوبٍ كَالْجِبَالِ الرَّوَاسِي وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ وَالْقَهْرُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ بِاتِّبَاعِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا اتِّبَاعُهُ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْأُخْرَى فَبِقَدْرِ الْإِعْرَاضِ وَالْإِقْبَالِ قَدْرُ سُلُوكِ سَبِيلِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ وَعَلَى قَدْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِ قَدْرُ قُرْبِهِ وَلُحُوقِ زُمْرَتِهِ وَنَيْلِ شَفَاعَتِهِ وَبِقَدْرِ إقْبَالِ الدُّنْيَا قَدْرُ الْبُعْدِ عَنْهُ، وَبِقَدْرِ قُرْبِ الْهَوَى قَدْرُ اللُّحُوقِ فِي زُمْرَةِ {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37] {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 38]{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39] وَلَعَمْرِي لَوْ أَنْصَفْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا مِنْ الصُّبْحِ إلَى الْمَسَاءِ لَا نَسْعَى إلَّا لِلْعَاجِلَةِ كَأَنَّا لَا نَطْمَعُ الدُّخُولَ بِزُمْرَتِهِ فِي الْآجِلَةِ فَإِنْ ظَنَنَّا ذَلِكَ وَنَحْنُ نُصِرُّ عَلَى فِعْلِنَا فَمَا أَبْعَدَ ظَنَنَّا وَمَا أَبْرَدَ طَمَعَنَا {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] .
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 36] ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ كَافِلًا لِمُعْظَمِ هَذِهِ كُلِّهَا دِقُّهَا وَجُلُّهَا وَلَمْ يُهْمِلْ دَقِيقَةً مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَقَطْرَةً مِنْ الْمُنْجِيَاتِ إلَّا وَقَدْ أَتَى بِأُسْلُوبٍ عَجِيبٍ وَتَرْتِيبٍ غَرِيبٍ وَنَهْجٍ بَدِيعٍ، اجْتَهَدْت فِي شَرْحِهِ وَتِبْيَانِهِ خِدْمَةً مَوْعُودَةً لَهُ صلى الله عليه وسلم، وَقُرْبَةً وَوَصْلَةً لِلَّهِ الْأَعَزِّ الْأَجَلِّ الْأَكْرَمِ فَجَاءَ بِحَمْدِهِ تَعَالَى بِلَطَائِفَ دِيَانِيَّةٍ وَمَعَارِفَ نَبَوِيَّةٍ فِي قَوَاعِدَ فَاخِرَةٍ وَأُصُولٍ بَاهِرَةٍ مَعَ زِيَادَاتٍ جَلِيلَةٍ وَتَوْضِيحَاتٍ جَمِيلَةٍ وَتَلْوِيحَاتٍ بَاهِرَةٍ وَتَصْرِيحَاتٍ ظَاهِرَةٍ وَتَحْقِيقَاتٍ عَمِيقَةٍ وَتَدْقِيقَاتٍ أَنِيقَةٍ وَتَقَيُّحَاتٍ بَهِيَّةٍ وَتَرْشِيحَاتٍ عَلِيَّةٍ وَلَطَائِفَ مَزِيَّةٍ وَفَوَائِدَ شَهِيَّةٍ وَفَرَائِدَ وَافِيَةٍ مِنْ كُتُبٍ مُعْتَبَرَةٍ وَزُبُرٍ مُعْتَمَدَةٍ، وَمِنْ أَسْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْفَاسِ الْأَوْلِيَاءِ وَكُنُوزِ الْعُلَمَاءِ وَخَزَائِنِ الْحُكَمَاءِ وَأَبْكَارِ أَفْكَارِ
الْفُضَلَاءِ فَإِذَا هُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ وَالتِّرْيَاقُ الْأَكْبَرُ لِكَوْنِهَا شُمُوسًا مِنْ مَشَارِقِ النُّبُوَّةِ طَلَعَتْ وَأَقْمَارًا مِنْ أُفُقِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ بَدَرَتْ فَكَأَنَّهَا حَرِيَّةٌ بِأَنْ تُسَمَّى (بَرِيقَةٌ مَحْمُودِيَّةٌ فِي شَرْحِ طَرِيقَةٍ مُحَمَّدِيَّةٍ وَشَرِيعَةٍ نَبَوِيَّةٍ فِي سِيرَةٍ أَحْمَدِيَّةٍ) .
فَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَيَنْفَعَ بِهِ لِجَامِعِهِ وَقَارِئِهِ وَنَاظِرِهِ وَكَاتِبِهِ نَفْعًا مُوجِبًا لِعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ بَلْ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ مَعَ الْمُنَعَّمِينَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِسُنَّتِهِمْ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَدْ قَضَيْنَا الْوَطَرَ فِي حَقِّ الْبَسْمَلَةِ الشَّرِيفَةِ فِي رِسَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْفُنُونِ إلَى أَنْ تَبْلُغَ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَنًّا فَلْنَكْتَفِ بِمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَالْبَيْضَاوِيِّ تَرْجِيحُ جَانِبِ الِاسْتِعَانَةِ فِي الْبَاءِ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي جَوَازِهَا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ الِاسْتِعَانَةِ طَلَبُ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى إيقَاعِ الْفِعْلِ وَإِحْدَاثِهِ وَذَلِكَ بِإِفَاضَةِ الْقُدْرَةِ مُمْكِنَةً أَوْ مُيَسَّرَةً عَلَيْهِ مَا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْفِعْلِ إمَّا التَّصْنِيفُ أَوْ الْقِرَاءَةُ أَوْ الْعِبَادَةُ أَوْ نَحْوُهَا فَإِنْ أُرِيدَ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ الْقُوَّةُ الَّتِي يَصِحُّ صَرْفُهَا لِلْفِعْلِ وَعَدَمِهِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ قَبْلَ الطَّلَبِ فَيَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِنْ أُرِيدَ الْقُدْرَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالصَّرْفِ أَيْ صَرْفِ الْعَبْدِ قُدْرَتَهُ إلَى الْفِعْلِ فَهُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ قُدْرَةِ اللَّهِ بِفِعْلِ الْعَبْدِ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ الصَّرْفِ عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ الصَّرْفُ مِنْ الْعَبْدِ لَا يُوجَدُ الْخَلْقُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَادَته وَإِنْ أُرِيدَ تَعَلُّقُ قُدْرَتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الصَّرْفِ مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ أَيْضًا عَلَى عَادَتِهِ تَعَالَى فَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ وَبِالْجُمْلَةِ طَلَبُ الْمُعَاوَنَةِ هُوَ طَلَبُ الْقُدْرَةِ.
فَالْقُدْرَةُ الْمَطْلُوبَةُ إنْ كَانَتْ مَا هِيَ صِفَةٌ لِلْعَبْدِ صَالِحَةٌ صَرْفُهَا لِلضِّدَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَوْ سَلَامَةِ الْآلَاتِ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا صِحَّةُ التَّكْلِيفِ فَهِيَ صَالِحَةٌ قَبْلَ الطَّلَبِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنَ ذَلِكَ الصَّرْفِ وَلَوْ مَجَازًا فَقَدْ قُرِّرَ أَنَّهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فِي الْخَارِجِ وَصُدُورُهُ مِنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَقَطْ وَلَوْ فُرِضَ صُدُورُهُ مِنْ اللَّهِ يَلْزَمُ الْجَبْرُ فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِ الْمُعَاوَنَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى فِعْلٍ مَا وَنَحْوُهُ طَلَبُ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ وَنَحْوِهَا وَمُذْ زَمَانٍ كَثِيرٍ يَخْتَلِجُ ذَلِكَ فِي خَاطِرِ هَذَا الْفَقِيرِ عَصَمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجِدُ مَلْجَأً غَيْرَ التَّفْوِيضِ إلَى عِلْمِهِ تَعَالَى وَالتَّبَعِيَّةِ بِالنُّصُوصِ وَالسَّلَفِ ثُمَّ اطَّلَعْت فِي بَحْثِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلْعَبْدِ مِنْ الْبَيْضَاوِيِّ.
وَلِصُعُوبَةِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْكَرَ السَّلَفُ مُنَاظَرَتَهُ لِتَأَدِّيهِ إلَى إنْكَارِ التَّكْلِيفِ أَوْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ بَعْدَمَا قَالَ الْأَوْلَى هُوَ طَرِيقُ السَّلَفِ مِنْ تَرْكِ الْمُنَاظَرَةِ وَتَفْوِيضِ الْعِلْمِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هَذَا ثُمَّ سَبَقَ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ طَلَبُ الْمُعَاوَنَةِ بِإِلْقَاءِ نَحْوِ الشَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ وَإِخْطَارِ الْأَمْرِ الْمُلَائِمِ بِالْقَلْبِ عَلَى وَجْهٍ يُرَجِّحُ الْعَبْدُ جَانِبَ الْفِعْلِ مَثَلًا يَعْنِي يَحْصُلُ الصَّرْفُ بِلَا رُتْبَةِ إيجَابٍ وَاضْطِرَارٍ وَنَحْوِهَا لَا يَبْعُدُ صُدُورُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ عَلَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا يَبْعُدُ صُدُورُ نَحْوِ هَذَا الْوُجُودِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَالْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ وَغَايَتُهُ لُزُومُ عَدَمِ الْمَخْلُوقِيَّةِ فِي بَعْضِ مَا صَدَرَ عَنْهُ تَعَالَى لَعَلَّهُ لَا بَأْسَ فِيهِ بَلْ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ.
فَلَعَلَّك بِهَذَا الْقَدْرِ تَفْهَمُ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَفِعُ حُجُبٌ نَحْوَ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ بَلْ اسْتِصْعَابُ الْبَيْضَاوِيِّ وَاعْتِرَافُ الْأَصْفَهَانِيِّ حَتَّى التَّفْتَازَانِيِّ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَبِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ بِحَقَائِقِ الْمَقَامِ يَنْكَشِفُ ظُلُمَاتُ الْأَوْهَامِ بِعِنَايَةِ الْمُفَضِّلِ الْمِنْعَامِ.
وَتَمَامُ تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِي بَحْثِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْفَتَّاحُ الْمَنَّانُ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) هُوَ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ لِلتَّعْظِيمِ وَكَوْنُهُ غَيْرَ نِعْمَةٍ هَذَا هُوَ الْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ
يُفَسِّرُونَهُ بِهِ وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ اخْتِيَارُ جَانِبِ الْعُرْفِيِّ إذْ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا أَيْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ بَلْ الشَّرْعُ أَيْضًا يُرَجِّحُ الْعُرْفَ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْعُرْفِ إمَّا الْعُرْفُ الْعَامُّ فَيَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُطْلَقًا فِي أَيِّ فَنٍّ كَانَ أَوْ الِاصْطِلَاحُ الْخَاصُّ وَالْمُتَبَادِرُ فِي أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ هُوَ اصْطِلَاحُ أَهْلِ الشَّرْعِ وَالْمَقَامُ تَخَاطُبُ الشَّرْعِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَا يُصَارُ إلَى مَجَازِهِ بِلَا صَارِفٍ وَقَدْ قُرِّرَ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ بِلَا تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ وَأَيْضًا مُقْتَضَى الْعَقْلِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْعُرْفِيِّ إذْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا إذْ حَاصِلُهُ مُطْلَقُ التَّعْظِيمِ الشَّامِلِ لِمَا بِاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْأَرْكَانِ وَظَاهِرٌ أَنَّ مَا كَانَ شُمُولُهُ أَكْثَرَ فِي الْفَائِدَةِ أَوْفَرُ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَمْدَ هُنَا لَيْسَ مُنْبَعِثًا مِنْ قِرَاءَةِ هَذَا الْكِتَابِ فَقَطْ بَلْ تَصْنِيفُهُ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ حَتَّى الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ.
وَأَمَّا خُصُوصُ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ النِّعْمَةُ فَلَا يَضُرُّ بَلْ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ حَمْدَ اللَّهِ لَا يَخْلُو عَنْ نِعْمَتِهِ وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ تَعَالَى الْحَمْدَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ وَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ نِعْمَتِهِ وَإِنْ أَهَمَّ فَمِنْ قَبِيلِ اسْتِلْزَامِ مُحَالٍ مُحَالًا آخَرَ أَوْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْوَاقِعِ بِمَقَامِ التَّصْنِيفِ وَالْقِرَاءَةِ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ أَنَّ التَّحْمِيدَاتِ النَّبَوِيَّةَ وَالْمَأْثُورَةَ عَلَى أَلْفَاظِ نَحْوِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَمْثَالِهَا إنْشَاءُ الْحَمْدِ لَا الْإِخْبَارُ وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِي الْمُؤْثُورَاتِ هُوَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي الْحَمْدِ كَوْنُ الْمَحْمُودِ مُخْتَارًا وَهُوَ كَمَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيجَابِ وَأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الِاخْتِيَارِيِّ أَبْلَغُ مِمَّا عَلَى الْإِيجَابِيِّ وَكَوْنُهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَأَيْضًا لِلْعُمُومِ السَّابِقِ فِي الْحَمْدِ مَدْخَلٌ مَا فِي التَّرْجِيحِ وَإِنَّ اللِّسَانَ أَكْثَرُ شُيُوعًا لِلنِّعَمِ وَأَدَلُّ عَلَى شَرَفِهَا لِخَفَاءِ الِاعْتِقَادِ وَلِاحْتِمَالِ الْجَوَارِحِ لِغَيْرِ الشُّكْرِ أَوْ لِغَيْرِ شُكْرِ النِّعْمَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
وَبِمَا قَرَّرْنَا عَرَفْت وَجْهَ اخْتِيَارِ الْحَمْدِ عَلَى الشُّكْرِ وَالْمَدْحِ سِيَّمَا الشُّكْرَ الْعُرْفِيَّ الَّذِي هُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إلَى مَا خَلَقَ لَهُ وَمِمَّا ذُكِرَ عَرَفْت سِرَّ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَأْسُ الشُّكْرِ» لِأَنَّ الشُّكْرَ لَمَّا كَانَ بِاللِّسَانِ وَالْجِنَانِ وَالْأَرْكَانِ وَكَانَ اللِّسَانُ أَشْيَعَ وَأَدَلَّ وَفِيهِ إظْهَارُ النِّعْمَةِ كَانَ رَأْسًا وَلَعَلَّ بِمِثْلِ هَذَا فُضِّلَ التَّحْمِيدُ عَلَى التَّسْبِيحِ بَلْ عَلَى التَّهْلِيلِ عِنْدَ بَعْضٍ بِظَاهِرِ بَعْضِ الْحَدِيثِ وَإِنْ رُدَّ فِي التَّهْلِيلِ لِعَدَمِ مُعَادَلَةِ شَيْءٍ لَهُ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْجَمِيلِ إنْ كَانَ صِلَةً لِلْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْمُودِيَّةِ مُطَابَقَةً وَعَلَى الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ الْتِزَامًا وَإِنْ لِلسَّبَبِيَّةِ فَعَلَى الْعَكْسِ وَالْوَصْفِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاصِفٍ فَهُوَ الْحَامِدُ وَمِنْ مَوْصُوفِ تِلْكَ الصِّفَةِ فَهُوَ الْمَحْمُودُ وَنَفْسُ الْوَصْفِ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِيَّةِ فَتَحْقِيقُ مَاهِيَّةِ الْحَمْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ.
فَالْأَوَّلُ أَيْ الْمَحْمُودُ بِهِ صِفَةٌ تُظْهِرُ اتِّصَافَ شَيْءٍ بِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ صِفَةَ كَمَالٍ يُدْرَكُ عَقْلًا وَلَوْ بِدِقَّةِ نَظَرٍ أَوْ تَعَلُّمٍ
وَالْجَمِيلُ عَامٌّ لِمَا فِي الْوَاقِعِ أَوْ عِنْدَ الْحَامِدِ أَوْ الْمَحْمُودِ بِزَعْمِ الْحَامِدِ فَالظُّلْمُ الَّذِي ادَّعَى حُسْنَهُ حَمْدٌ وَأَيْضًا يَجُوزُ كَوْنُ الْمَحْمُودِ بِهِ سَلْبِيًّا أَيْضًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ فَوَاضِلَ أَيْ مُتَعَدِّيًا كَأَنْعَامٍ أَوْ فَضَائِلَ أَيْ غَيْرِ مُتَعَدٍّ كَحَسَنٍ وَلَا بَيْنَ كَوْنِهِ الْمُتَعَدِّيَ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لَا عَلَى مَا نَقَلَ مِنْ الدَّوَانِيِّ وَصَدْرِ الْأَفَاضِلِ فِي حَاشِيَةِ التَّجْرِيدِ وَالْمَطَالِعِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ شَرْحِ التَّهْذِيبِ اخْتِصَاصُهُ بِالِاخْتِيَارِيِّ وَلِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ.
أَقُولُ هَذَا لَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ عَلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ بِالْمَشْهُورِ فِي دِيبَاجَتِهِ وَأَنَّ الْمَشْهُورَاتِ مِنْ الْجَدَلِيَّاتِ وَأَنَّ تَعْلِيلَهُ بِأَنَّ الْجَمِيلَ اخْتِيَارِيٌّ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ بِالِاخْتِيَارِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ بُرْهَانًا تَأَمَّلْ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَالِعِ اخْتِيَارُ التَّعْمِيمِ وَالثَّانِي أَيْ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ الْمَحْمُودُ بِهِ لِأَجْلِهِ فَلَوْلَاهُ لَمْ يَقَعْ فَهُوَ كَالْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ لِلْوَاصِفِ عَلَى الْوَصْفِ أَوْ هُوَ عِلَّتُهُ وَقَدْ يَتَّحِدُ الْمَحْمُودُ بِهِ وَعَلَيْهِ ذَاتًا وَيَتَغَايَرَانِ اعْتِبَارًا فَإِنَّ الشَّجَاعَةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْوَصْفِ بِهَا مَحْمُودًا بِهِ وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْوَصْفِ لِأَجْلِهَا لِقِيَامِهَا فِي مَحِلِّهَا مَحْمُودًا عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ الْمَحْمُودَ عَلَيْهِ يَجِبُ كَوْنُهُ كَمَالًا وَلَوْ فِي زَعْمِ الْحَامِدِ أَوْ الْمَحْمُودِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِعْلَ الْمَحْمُودِ أَوْ كَيْفِيَّتَهُ ثُمَّ الْمَشْهُورُ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا وَلَوْ حُكْمًا فَأَوْرَدَ بِنَحْوِ الثَّنَاءِ عَلَى صَفَاءِ اللُّؤْلُؤِ وَرَشَاقَةِ الْقَدِّ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ مَدْحٌ لَا حَمْدٌ وَلَوْ مَجَازًا وَأَشْكَلَ بِثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاخْتِيَارِيَّ شَامِلٌ لِمَا يَكُونُ أَثَرُهُ اخْتِيَارِيًّا أَوْ بِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُسْتَقِلًّا فِي مَصْدَرِيَّتِهَا كَالِاخْتِيَارِ أَوْ هُوَ مَجَازٌ وَبَابُ الْمَجَازِ وَاسِعٌ كَتَحَامُدِ الرَّعَايَا عَلَى الْكَلَأِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمِنْ الْمَجَازِ حَمِدَتْ الْأَرْضُ وَالثَّالِثُ أَيْ الْحَامِدُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَظِّمًا لِلْمَحْمُودِ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِ وَجَمِيعِ أَفْعَالِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَوْ اقْتَرَنَ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ بِنَحْوِ تَحْقِيرٍ وَاسْتِهْزَاءٍ وَلَوْ بِاحْتِمَالٍ مَعَ تَحَقُّقِ التَّعْظِيمِ مِنْ الْجَمِيعِ يَكُونُ حَمْدًا لِأَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ فِي التَّعْظِيمِ عُمُومُ الْإِفْرَادِ.
كَذَا قَرَّرَ صَدْرُ الْأَفَاضِلِ وَأَيَّدَ بِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعْظِيمُ وَالتَّحْقِيرُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَلَوْ فُرِضَ اجْتِمَاعُهُمَا يُرَجَّحُ جَانِبُ التَّحْقِيرِ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنْ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ خَارِجٌ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحَظْرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اعْتِقَادُ الْحَامِدِ اتِّصَافَ الْمَحْمُودِ بِالْجَمِيلِ الَّذِي أَتَاهُ إنْ لَمْ يُقَارَنْ بِشَوْبِ تَحْقِيرٍ فَيَدْخُلُ هَذَا الْوَصْفُ الَّذِي اعْتَقَدَ الْحَامِدُ انْتِفَاءَهُ عَنْ الْمَحْمُودِ فِي الْحَمْدِ هَذَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لَكِنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَابِقْ الْقَوْلُ الِاعْتِقَادَ يَكُونُ سُخْرِيَةً فَدَفَعَهُ الدَّوَانِيُّ بِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الِاعْتِقَادِ لَازِمُهُ الَّذِي هُوَ إنْشَاءُ التَّعْظِيمِ إذْ الْحَمْدُ إنْشَاءٌ وَلَا حُكْمَ فِي الْإِنْشَاءِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ أَلَا يَرَى أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ أَوْصَافًا جَمِيلَةً فِي نَحْوِ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيِّ انْتِفَاؤُهَا عَنْ الْمَمْدُوحِ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَيَعُدُّونَهَا حَمْدًا وَمَدْحًا ثُمَّ قَالَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْحَامِدَ مُعْتَقِدٌ تِلْكَ الْأَوْصَافَ فِي الْمَحْمُودِ أَوْ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا مَعَانِيَ مَجَازِيَّةً مُعْتَقِدًا إيَّاهَا فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ الْأَوَّلَ خِلَافُ الْبَدِيهَةِ وَالثَّانِيَ خِلَافُ الْوَاقِعِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَدْرُ الْأَفَاضِلِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ خِلَافَ الْبَدِيهَةِ وَالثَّانِي خِلَافَ الْوَاقِعِ لَزِمَ خُلُوُّ الْكَلَامِ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ الدَّوَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِقَادِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ عَدَمُ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ كَقَوْلِ السُّنِّيِّ الْمُخْفِي عَنْ الْمُعْتَزِلِيِّ الْعَبْدُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِهِ ثُمَّ حَاصِلُ مَا تَحَرَّرَ هُنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحَامِدِ مِنْ التَّعْظِيمِ فِي ثَنَائِهِ وَلَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ أَنْ يَكُونَ مُعَظِّمًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ مُطَابَقَتُهُ بِاعْتِقَادِهِ إنْ لَمْ يُقَارِنْ نَحْوَ اسْتِهْزَاءٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ.
وَالرَّابِعُ الْمَحْمُودُ وَقَدْ عَرَفْت اشْتِرَاطَ كَوْنِهِ فَاعِلًا وَمُخْتَارًا أَوْ فِي حُكْمِهِ ثُمَّ إنَّ الْمُحَقِّقِينَ كالتَّفْتَازانِيِّ وَالْجُرْجَانِيِّ وَأَفَاضِلِ الْمُفَسِّرِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ حَصَرُوا الْحَمْدَ لَهُ تَعَالَى وَعَلَيْهِ إشْكَالٌ حَكَمُوا بِصُعُوبَتِهِ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كَمَا تَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ خَلْقُ اللَّهِ الْجَمِيلُ فِيهِ وَمَكَّنَهُ بِصَرْفِ إرَادَتِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ فَلَوْلَا صَرْفُهُ لَمْ يُوجِدْهُ تَعَالَى عَلَى عَادَتِهِ فَيَحْمَدُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَرُجُوعُ هَذَا إلَى اللَّهِ لَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ.
وَالنَّاسُ فِيهِ فَرِيقَانِ
فَرِيقٌ كَابْنِ الْكَمَالِ مَنَعُوا حَصْرَ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى لِنَحْوِ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَعَنْ أَبَوَيْهَا نَحْمَدُ اللَّهَ لَا نَحْمَدُك وَفِي الْمَثَلِ عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى فَالْمَحْمُودُ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فِعْلًا لِلْمَحْمُودِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُخْتَارًا فِيهِ وَلَا مَدْخَلَ لِخَلْقِ الْأَعْمَالِ إذْ الْكَلَامُ فِي الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ فَمَرْجِعُهُ النَّقْلُ مِنْهُمْ كَمَا عَرَفْت وَفَرِيقٌ أَوَّلُوا مَعَهُمْ كَالدَّوَّانِيِّ وَحَصَرُوا الْحَمْدَ لَهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ الْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِالْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَلَا اخْتِيَارَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ.
قَالَ الْمَوْلَى الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ مُشِيرًا إلَى تَرْجِيحِ الْأَخِيرِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ نَزَّلُوا حَمْدَ الْغَيْرِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ وَمَنْزِلَةَ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَبْدَأُ كُلِّ جَمِيلٍ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ خَلْقًا وَتَمْكِينًا وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ سِوَى الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ بِجَعْلِهِ أَيْضًا وَكُلُّ جَمَالٍ وَكَمَالٍ مُضْمَحِلٌّ فِي جَنْبِهِ تَعَالَى رَاجِعٌ إلَيْهِ وَكُلُّ اخْتِيَارٍ لِغَيْرِهِ يَعُودُ إلَى اضْطِرَارٍ. انْتَهَى.
(وَالْخَامِسُ) وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِ بِهِ وَهُوَ بِاللِّسَانِ كَمَا فُهِمَ مِنْ لَفْظَةِ الْوَصْفِ ضِمْنًا وَلَزِمَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحَمْدِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] فَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ أَوْ أَمْرٌ بِهِ أَوْ مَجَازٌ عَنْ إظْهَارِ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ مَيْلُ السَّيِّدِ إلَى الْأَخِيرِ أَقُولُ قَالَ السَّيِّدُ عِنْدَ قَوْلِ شَارِحِ الْمَطَالِعِ وَهُوَ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ حَقِيقَةُ الْحَمْدِ إظْهَارُ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَهُوَ أَقْوَى لِدَلَالَتِهِ عَقْلًا وَدَلَالَةُ الْقَوْلِ وَضْعًا الَّذِي يَجُوزُ تَخَلُّفُهُ عَنْ مَدْلُولِهَا بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا عَلَى وَفْقِ مَا ذَكَرَهُ الدَّوَانِيُّ أَنَّ ذِكْرَ اللِّسَانِ قَيْدٌ غَالِبِيٌّ إذْ هُوَ مَوْضُوعٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْأَمْرِ الْعَامِّ ثُمَّ بِالْغَلَبَةِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ اللِّسَانُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهِ مَعَ أَنَّهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ أَعَمُّ بِالْإِظْهَارِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى وَأَتَمُّ فَيَشْمَلُ أَيْضًا حَمْدَ الْمَلَائِكَةِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَقْيِيدِ تَشَكُّلِهِمْ بِشَكْلِ الْإِنْسَانِ لَكِنْ أَخْرَجَ الْمُنَاوِيُّ حَمْدَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ وَالنَّائِمِينَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَلَا يَخْفَى إذَا اُعْتُبِرَ حَمْدُ الْجَمَادَاتِ كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَالْحَيَوَانَاتُ أَوْلَى مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ تِلْكَ الْآيَةِ وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَكُلُّ أَمْرٍ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ فَحُمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ غَايَتُهُ عَدَمُ اطِّلَاعِنَا بِهِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ تَسْبِيحُهُمْ وَتَحْمِيدُهُمْ إلَّا أَنْ يُرَادَ الْحَمْدُ الَّذِي يَحْمَدُ بِهِ الْحَيَوَانُ بِتَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ لَا مُطْلَقُ الْحَمْدِ.
قَالَ الشَّرِيفُ وَمِنْ قَبِيلِ الْحَمْدِ الْفِعْلِيِّ حَمْدُهُ تَعَالَى وَثَنَاؤُهُ عَلَى ذَاتِهِ لِأَنَّهُ حِينَ أَوْجَدَ الْمَوْجُودَاتِ أَظْهَرَ عَنْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ بِدَلَالَاتٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا تَدُلُّ الْعِبَارَةُ مِثْلُهَا وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» فَلَوْلَا خَوْفُ إمْلَالِ الْمَقَامِ لَقَضَيْت حَقَّ حَمْدِ الْمُفَضِّلِ الْمِنْعَامِ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ
(الَّذِي جَعَلَنَا) إنْ أُرِيدَ بِهَذَا الْوَصْفِ بَيَانُ دَاعِي هَذَا الْحَمْدِ فَمَحْمُودٌ عَلَيْهِ وَإِنْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَوْصِيفِهِ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ فَمَحْمُودٌ بِهِ فَمِنْ قَبِيلِ اجْتِمَاعِهِمَا بِالْجِهَتَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَمَالٌ وَاخْتِيَارِيٌّ وَجَمِيلٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ فِعْلِيَّةً فَالْمُرَادُ أُمَّةُ إجَابَةٍ وَإِنْ مُمْكِنَةً فَأُمَّةُ دَعْوَةٍ فَالْمُتَبَادَرُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي أَيْضًا نِعْمَةٌ فَإِنَّ التَّمْكِينَ نِعْمَةٌ وَالْأَقْدَارَ عَلَيْهَا نِعْمَةٌ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ لِإِزَالَةِ امْتِنَاعِهَا لَكِنْ لَوْ لَمْ يُوقِعْ ذَلِكَ لَزَادَ نِقْمَةً وَعُقُوبَةً يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ شَاهِقِ الْجَبَلِ ثُمَّ هَذَا الْجَعْلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ سِيَّمَا لِمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْأُسْتَاذِ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ صَعُبَ الْفَهْمُ إذْ مَعْنَى جَعَلَهُ تَعَالَى مِنْ الْأُمَّةِ إعْطَاءُ الْإِسْلَامِ مَثَلًا وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ فَإِنْ أُرِيدَ مِنْ إعْطَاءِ الْإِسْلَامِ إعْطَاؤُهُ ابْتِدَاءً بِلَا تَوَسُّطِ مَدْخَلِ الْعَبْدِ فَمَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ أَوْ الْحُكَمَاءِ وَإِنْ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِأَنْ يَصْرِفَ قُدْرَتَهُ فَيُوجِدَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَيَرْجِعُ إلَى تَمْكِينِ الْإِسْلَامِ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ اللَّفْظِ وَالْمُعْتَدُّ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ لَيْسَ إمْكَانَهُ بَلْ وُقُوعَهُ وَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ اسْتِقْلَالُهُ تَعَالَى فِي إعْطَاءِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ اشْتَرَكَ فِيهِ الْعَبْدُ بِصَرْفِ قُدْرَتِهِ إذْ هَذَا الصَّرْفُ مِنْ الْعَبْدِ فَقَطْ عِنْدَنَا لَعَلَّ حَلَّ هَذَا الْإِشْكَالَ كَمَا أُشِيرَ بِأَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ عِلْمَ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَحَبَّتَهُ وَسَائِرَ دَوَاعِيهِ نَحْوَ إرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ الْمُلْهِمَةِ وَكَرَاهَةِ ضِدِّهِ وَمَنْعِ الشَّيْطَانِ عَنْ وَسَاوِسِهِ وَسَلَامَةِ آلَاتِهِ وَبِعَدَمِ إرَادَةِ ضِدِّهِ (أُمَّةٍ) جَمَاعَةٌ
فَإِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ جَمَاعَةٌ لِنَبِيِّهِمْ وَالنَّبِيُّ إمَامُهُمْ (وَسَطًا) بِالتَّحْرِيكِ أَيْ عَدْلًا كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ وَأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]-.
وَأَيْضًا فِي الْقَامُوسِ أَيْ عَدْلًا خِيَارًا وَفِي تَرْجَمَةِ الصِّحَاحِ جَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى مَا يَنْبَغِي كَأَنَّهُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَالْعَدَالَةُ إنَّمَا تَظْهَرُ وَتُعْتَدُّ بِالتَّزْكِيَةِ وَمُزَكِّيهِمْ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالصَّلَاحُ وَالدَّعَةُ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ الَّذِي فُسِّرَ بِالْعَدَالَةِ هُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ انْتِفَاءُ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ أَوْ لِتَسَاوِي الْحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُمْ.
وَأَمَّا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ قَدْ يَغْلِبُ جَانِبُ الْعَمَلِيَّةِ وَقَدْ يَغْلِبُ جَانِبُ النَّظَرِيَّةِ قِيلَ وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي كَوْنِهَا خَاتَمَ الشَّرِيعَةِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَالَةَ إمَّا لِلْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَشْرَفِ الْأَجْزَاءِ وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ الْكُلِّ الْإِفْرَادِيِّ مُشْكِلٌ ثُمَّ فِيهِ تَنْبِيهٌ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ ادَّعَى الْإِفْرَاطَ وَكَذَا التَّفْرِيطَ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُبَيِّنُ ذَلِكَ التَّوَسُّطِ الْأَصْلِيِّ الشَّرْعِيِّ وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إلَى الْأُمُورِ الَّتِي اخْتَارَ فِيهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ طَرِيقَةَ التَّوَسُّطِ كَالْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ فِي قَاعِدَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَفِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ بَلْ فِي قَاعِدَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الْمُفَصَّلَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فَفِيهِ إشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إلَى إمْكَانِ دَلِيلِ الْمَسَائِلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَرَدٌّ لَطِيفٌ إلَى مُخَالِفِ الْمَسَائِلِ وَلَوْ كَانَ الْأَشْعَرِيُّ وَنَوْعُ بَرَاعَةِ اسْتِهْلَالٍ لِكُلِّ مَا ذَكَرَ مِنْ التَّوَسُّطِ وَتِلْكَ الْمَسَائِلِ ثُمَّ قِيلَ هَذَا اقْتِبَاسٌ مِنْ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ.
أَقُولُ الِاقْتِبَاسُ إمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَغْيِيرٌ أَوْ يَكُونَ يَسِيرًا وَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِضَرُورَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّغْيِيرَ هُنَا لَيْسَ بِيَسِيرٍ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَ هُنَا ضَرُورَةٌ إذْ هِيَ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ النَّحْوِ وَزْنٌ أَوْ قَافِيَةٌ فَالْأَوْلَى أَنَّ مَا وُجِدَ فِيهِ نَحْوُ الِاقْتِصَاصِ الْمُفَسِّرِ بِكَوْنِ كَلَامٍ فِي صُورَةٍ مُقْتَصًّا مِنْ كَلَامٍ آخَرَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]- كَمَا فِي الْإِتْقَانِ عَنْ ابْنِ فَارِسٍ (خَيْرَ أُمَمٍ) قِيلَ أَيْضًا هَذَا اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]-.
أَقُولُ الْكَلَامُ كَالْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِبَاسِ بِمُجَرَّدِ قَيْدٍ مِنْ الْكَلَامِ بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ تَحْرِيرِهِمْ لُزُومُ أَصْلِ الْكَلَامِ ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ خَيْرِيَّتِهِمْ مَا هُوَ مِنْ النِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأُمَمِ لِكَوْنِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْرَمَ الْبَشَرِ وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَلَ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً وَأَقْرَبَهُمْ زُلْفَى بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ وَقِيلَ لِكَوْنِ دِينِهِمْ خَيْرَ الْأَدْيَانِ لِأَنَّهُ رُفِعَ عَنْهُمْ الْإِصْرُ وَالْأَغْلَالُ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ مِنْ بَخْعِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَخَمْسِينَ صَلَاةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ عِنْدَ مَعْصِيَةٍ.
قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ» وَأَيْضًا حُفِظُوا مِنْ نَحْوِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ الَّذِي عُوقِبَ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَقِيلَ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَكْثَرَ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِيهِمْ أَوْفَرَ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِمُقَابَلَةِ قَلِيلِ أَعْمَالِهِمْ ثَوَابًا عَظِيمًا وَأَكْرَمَهُمْ بِنَحْوِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالْجُمُعَةِ خُصُوصًا وَقْتُهَا الْمَعْهُودُ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ نَازِلَةٌ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ فِي حَقِّ نَحْوِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذٍ رضي الله عنهم حِينَ فَضَّلَ بَعْضُ الْيَهُودِ دِينَهُمْ عَنْ دِينِنَا فَكَيْفَ يَعُمُّ الْخَيْرِيَّةَ عَلَى جَمِيعِنَا حَتَّى يَصْلُحَ لَأَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا عَلَيْهِ هُنَا وَقَدْ خَصَّ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ الْمُهَاجِرِينَ بِرِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» الْحَدِيثَ.
فَإِنْ قِيلَ لَا عِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ بَلْ بِعُمُومِ اللَّفْظِ قُلْنَا لَا عُمُومَ هُنَا لِأَنَّ كُنْتُمْ لَيْسَ عَامًّا بَلْ قَالُوا إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَكُنْ عَامًّا فَمُخْتَصٌّ بِهِ قَطْعًا وَمَثَّلَ لَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]- مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى حَصْرِ الْأَفْضَلِيَّةِ لَهُ وَدَفَعَ وَهْمَ تَسَاوِي مَنْ عَمِلَ عَمَلَهُ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ بِعَدَمِ الْعُمُومِ إذْ اللَّامُ لِلْعَهْدِ
لِلْقَرِينَةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ نَحْوَ كُنْتُمْ خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ وَقْتَ النُّزُولِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْغَائِبِينَ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً أَوْ بِنَصٍّ كَمَا فِي مَحِلِّهِ قُلْنَا هَذَا قَرِيبٌ أَنْ يَكُونَ رَأْيًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ مِمَّا ذُكِرَ.
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ فَضْلُ فَرْدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ عَلَى بَعْضِ فَرْدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي مَرَّةً وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ» .
وَبِقَوْلِهِ «أَفْضَلُ الْخَلْقِ إيمَانًا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي فَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ إيمَانًا» كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ فَقَرِيبٌ بِظَاهِرِهِ أَنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا لِلْآحَادِ عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بَلْ الْمُتَوَاتِرُ إذْ الْأَحَادِيثُ فِي أَفْضَلِيَّةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالُوا فَضْلِيَّةُ الصُّحْبَةِ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَا يُعَدُّ لَهَا عَمَلٌ ثُمَّ نَقُولُ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ لَا يَلْزَمُ اسْتِفَادَةُ أَفْضَلِيَّةِ الْجَمِيعِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ إذْ يَجُوزُ فَهْمُهَا مِنْ نَصٍّ آخَرَ وَيَجُوزُ فَضْلُ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِعْمَةً مُوجِبَةً لِلْحَمْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ لِظُهُورِ انْتِفَاءِ الْبَاقِينَ نَصًّا أَوْ عَقْلًا عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ مَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ وَالتَّخْصِيصِ غَيْرُ مَعْلُومٍ قَطْعًا فَنَعْمَلُ بِقِيَاسِنَا فِي مِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَالصَّلَاةُ) فِي الْقَامُوسِ الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ وَالرَّحْمَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَحُسْنُ الثَّنَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ فَمَا خُصَّ أَنَّ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ وَأَنَّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءٌ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ فَلَيْسَ بِتَمَامِهِ لُغَوِيًّا لَعَلَّ لِهَذَا.
قَالَ الْفَاضِلُ الْمُنَاوِيُّ كَذَا أُثِرَ عَنْهُ الْخَبَرُ فَتَكُونُ مَعْنَى شَرْعِيًّا وَأَبْطَلَ مَنْ أَرْجَعَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ إلَى طَلَبِ الرَّحْمَةِ بِلُزُومِ إرْجَاعِ جَمِيعِ الْمُشْتَرَكِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ يَجْمَعُ الْجَمِيعَ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ وَلَيْسَ فِيهَا جِهَةُ الْإِخْبَارِيَّةِ كَالْحَمْدِ إذْ لَيْسَ الْأَخْبَارُ بِثُبُوتِ الدُّعَاةِ دُعَاءً فَلَا يَصِحُّ هُنَا غَيْرُ مَعْنَى الرَّحْمَةِ إذْ الْمَعْنَى أَيْ مَعْنَى الصَّلَاةِ صَلِّ بِمَعْنَى نَطْلُبُ الصَّلَاةَ أَيْ الرَّحْمَةَ وَلَا مَعْنَى مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ عليه السلام هُنَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ هُنَا مَا هِيَ مِنْ اللَّه فَقَطْ فَلَعَلَّ أَنَّ جُمْهُورَ الشُّرَّاحِ ذَهِلُوا فَوَقَعُوا عَلَى مَا وَقَعُوا بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ الْقَامُوسِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَطْلُوبُ حُسْنَ الثَّنَاءِ نَقَلَ عَنْ فَتْحِ الْبَارِي.
وَهَذَا أَوْلَى الْأَقْوَالِ فَتَأَمَّلْ ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الرَّحْمَةِ أَوْ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ نَحْوُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي أُمِرْنَا بِسُؤَالِهَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «سَلُوا لِي الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ» وَنَحْوُ إبْقَاءِ الشَّرِيعَةِ وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ وَتَشْفِيعِهِ فَإِنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا غَايَةَ لِإِحْسَانِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُحَسِّنَهُ تَعَالَى بِسَبَبِ دُعَائِنَا غَيْرَ إحْسَانِهِ مِنْ كَرَمِهِ وَمِنْ مُجَازَاةِ أَعْمَالِهِ صلى الله عليه وسلم فَنَوْعٌ مِنْ الرَّحْمَةِ مَنُوطٌ بِدُعَاءِ الْأُمَّةِ كَسَائِرِ الْعَادِيَّات عَلَى حِكْمَتِهِ وَمِنْ الْحِكْمَةِ تَثْوِيبُ الْمُصَلِّي وَتَقْرِيبُهُ وَرَبْطُ عَلَاقَةٍ وَمَحَبَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَكُونَ شَفِيعَهُ أَوْ صَاحِبَهُ بَلْ رَفِيقَهُ وَيَقْضِي بِهَا حَاجَاتِهِ وَقِيلَ فَائِدَةُ الصَّلَاةِ مُجَرَّدُ التَّقَرُّبِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ تَعَالَى وَقَضَاءِ حَقِّ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَقُولُ هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرِيٌّ إذْ يُقَالُ حِينَئِذٍ مَا فَائِدَةُ أَمْرِهِ تَعَالَى وَكَيْفَ يَقْضِي حَقَّهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُ وَقِيلَ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْنَا شُكْرُ نِعَمِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَجْزِنَا عَنْهُ أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَا شَفَقَةً لَنَا وَإِلَّا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ يَشْفَعُ لِلْكُلِّ وَهَذَا قَرِيبٌ لِمَا ذُكِرَ آنِفًا عَلَى أَنَّهُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ عَنْ الشُّكْرِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَبِالْجُمْلَةِ إنْ كَانَ الصَّلَاةُ شُكْرَهَا فَلَيْسَ بِعَجْزٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهَا فَائِدَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ لَيْسَ بِعَقْلِيٍّ بَلْ شَرْعِيٌّ فَالْأَوْلَى مَا قَدَّمْنَا وَهُوَ أَيْضًا أَوْلَى مِمَّا نُسِبَ إلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَقَرِيبٌ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ مِنْ أَنَّ فَائِدَتَهَا تَرْجِعُ إلَى الْمُصَلِّي فَقَطْ لِدَلَاتِهَا عَلَى صِدْقِ الْعَقِيدَةِ وَإِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَاحْتِرَامِ الْوَاسِطَةِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ بِالرَّحْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]- أَقُولُ قَدْ عَرَفْت مَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ الْقَابِلَةِ وَإِنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْوَاوِ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى مُسَاوِيهِ بَلْ عَلَى مُرَادِفِهِ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ تَبَعٍ قِيلَ تَجُوزُ وَالْأَصَحُّ لَا تَجُوزُ فَأَوْرَدَ بِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَدُفِعَ بِكَوْنِهِ مِنْ خَوَاصِّ النَّبِيِّ أَقُولُ يُرَدُّ عَلَيْهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43]
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} [البقرة: 157]{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] فَالْوَجْهُ مَا قَالُوا مِنْ جَعْلِهِمْ ذَلِكَ شِعَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّلَاةُ عَلَى غَيْرهمْ صَارَتْ شِعَارَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لِمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْعِصْمَةَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ هِيَ حَرَامٌ أَوْ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى أَقْوَالٌ أَرْجَحُهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ بَقِيَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا قِيلَ مُسْتَحَبٌّ وَقِيلَ وَاجِبٌ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْوُجُوبِ أَيْضًا هَلْ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ قِيلَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَكِنْ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ فَرْضٌ عَلَى الْجُمْلَةِ غَيْرُ مَحْدُودٍ بِوَقْتٍ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْوُجُوبِ وَمَا ادَّعَى الطَّبَرِيِّ مِنْ إجْمَاعِ الِاسْتِحْبَابِ فَلَعَلَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ طَوِيلِ كَلَامِهِ الْمَرَّةُ فِي الْعُمُرِ فَرْضٌ وَالْإِكْثَارُ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا حُكْمُهَا فِي الصَّلَاةِ فَمَعْلُومٌ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ خِلَافًا وَوِفَاقًا ثُمَّ تَكْرَارُ الْوُجُوبِ عِنْدَ تَكَرُّرِ ذِكْرِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الذَّاكِرِ وَالسَّامِعِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ كَالطَّحَاوِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ قِيلَ وَهُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَحْوَطُ وَفِي الْقُنْيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ وَقِيلَ بِكِفَايَةِ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَوْ كُرِّرَ مِرَارًا وَنُسِبَ إلَى التِّرْمِذِيِّ.
وَفِي الأسروشنية وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَقِيلَ تَجِبُ إلَى ثَلَاثٍ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ لِمُصَنَّفِهِ الْفَتْوَى عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا عَدَا الْفَرْضَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ.
قَالَ فِي الأسروشنية وَلَوْ سَلَّمَ بَدَلَ التَّصْلِيَةِ جَازَ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة إذَا كَانَ السَّامِعُ قَارِئَ قُرْآنٍ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَلَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَحَسَنٌ لَكِنْ فِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ عَنْ الْجَزَرِيِّ إذَا مَرَّ بِذِكْرِهِ حَالَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَوْ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الأسروشنية لَا يَأْتِي فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ وَلَوْ أَتَى بَعْدَ الْفَرَاغِ حَسَنٌ فَإِنْ قِيلَ الْإِتْيَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَعْنِي فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ مِنْ أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قُلْت لَعَلَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثٍ أُسْنِدَ إلَى الْجَزَرِيِّ كُلُّ كَلَامٍ لَا يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُبْدَأُ بِهِ وَبِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ.
وَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤْتَى فِي ابْتِدَاءِ التَّذْكِيرِ وَالشُّرُوعِ فِي الدَّرْسِ بِتَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَفِي طَالِعِ الْمَسَرَّاتِ بِاسْتِحْبَابِهِ كُلُّ مُصَنِّفٍ وَدَارِسٍ وَمُدَرِّسٍ وَالْكُلُّ يَدَّعِي بِنَاءَ كَلَامِهِ عَلَى الْأَثَرِ فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْوُجُوبِ كَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ فَلَعَلَّهُ عَادِيٌّ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ الشَّرْعِيَّ يُؤْخَذُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يُسْمَعْ.
قَالَ الْقُطْبُ فِي شَرْحِ الْمَطَالِعِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْكِمَالَاتِ مُسْتَفَاضَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي غَايَةِ الْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى فِي غَايَةِ التَّجَرُّدِ عَنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ وَاسِطَةٍ ذِي جِهَتَيْنِ التَّجَرُّدُ وَالتَّعَلُّقُ فَالنَّفْسُ تَسْتَفِيضُ مِنْ الْوَاسِطَةِ بِجِهَةِ التَّعَلُّقِ وَالْوَاسِطَةُ تَسْتَفِيضُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِجِهَةِ التَّجَرُّدِ فَالْوَاسِطَةُ لَنَا مَالِكُ أَزِمَّةِ الْجِهَتَيْنِ صلى الله عليه وسلم وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ وَاسِطَةٍ أَيْضًا إلَى ذَلِكَ الْوَاسِطَةِ لِكَمَالِ قُصُورِنَا وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ.
قَالَ الشَّرِيفُ فِي حَاشِيَتِهِ هَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي صِحَّتِهِ عليه الصلاة والسلام وَأَمَّا بَعْدُ فَمُجَرَّدٌ مَحْضٌ فَالْمُنَاسَبَةُ مُنْتَفِيَةٌ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ أَثَرَ الْقُوَّةِ الْمَاضِيَةِ بَاقٍ فِيهِمْ بَعْدَ انْتِقَالِهِمْ كَمَا يُشَاهِدُ زُوَّارُ قُبُورِهِمْ فَيَضَانَ أَنْوَارِهِمْ مِنْ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ أَقُولُ هَذَا أَمْرٌ نِزَاعِيٌّ بَيْنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَبَيْنَ أَكْثَرِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي طَوَالِعِهِ وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِي حَاشِيَتِنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ
(وَالسَّلَامُ) أَيْ التَّسْلِيمُ مِنْ الْآفَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِغَايَةِ الْكَمَالِ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَمَلًا بِصُورَةِ قَوْله تَعَالَى - {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]- أَوْ عَمَلًا بِالِاتِّفَاقِ وَأَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ وَالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَحَدِهِمَا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ أَوْ تَرْكُ الْأَوْلَى؟ أَقْوَالٌ رَجَّحَ الْكَرَاهَةَ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ وَرَدَّهُ فِي جَامِعِ الرُّمُوزِ وَأَيْضًا عَنْ النَّخَعِيِّ عَدَمُ الْكِرْهَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ لَا كَرَاهَةَ خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ وَالْوَاوُ فِي الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي الْجَمْعَ عِنْدَ ذِكْرِ أَحَدِهِمَا بَلْ إذَا صَلَّى فِي وَقْتٍ وَسَلَّمَ فِي آخَرَ يُوجَدُ الِامْتِثَالُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ وَعَنْ الْعَسْقَلَانِيِّ إنْ صَلَّى فِي وَقْتٍ وَسَلَّمَ فِي وَقْتٍ لَا يُكْرَهُ وَإِلَّا كُرِهَ وَفِي الْمُنَاوِيِّ اخْتِيَارُ جَانِبِ الْكَرَاهَةِ وَبِالْجُمْلَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ وَالْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ قَدْ نَرَى فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ جَمْعَهُمَا وَفِي بَعْضِهَا بِانْفِرَادِ الصَّلَاةِ وَبَعْضِهَا بِانْفِرَادِ
السَّلَامِ قُلْنَا إمَّا لِتَعْلِيمِ الْجَوَازِ أَوْ لِأَنَّ لِلصَّلَاةِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ لِلسَّلَامِ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِعَامٍّ وَكَذَا السَّلَامُ أَوْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْمُخَاطَبِينَ أَوْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ثُمَّ السَّلَامُ كَالصَّلَاةِ لَا يُفْرَدُ بِهِ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَمَّا مَنْ اُخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ فَقِيلَ كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ لَا بَأْسَ فِي ذَلِكَ بَلْ الْأَوْلَى التَّرْضِيَةُ.
(عَلَى أَفْضَلِ مِنْ أُوتِيَ) أَيْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى (النُّبُوَّةُ) مِنْ النَّبَأِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ بِمَعْنَى الْمُخْبَرِ إنْ مَهْمُوزًا وَبِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَهْمُوزًا وَالْمُرَادُ هُنَا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ سِفَارَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَوِي الْأَلْبَابِ لِإِزَاحَةِ عِلَلِهِمْ وَالنَّبِيُّ إنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ فَأُورِدَ بِمَنْ بُعِثَ لِمُجَرَّدِ إكْمَالِ نَفْسِهِ فَاكْتَفَى فِي التَّعْرِيفِ بِمُجَرَّدِ الْوَحْيِ فَرُدَّ بِلُزُومِ نُبُوَّةِ نَحْوِ مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَالْتِزَامُهُ شَاذٌّ.
وَأُجِيبَ عَنْ أَصْلِ الِاعْتِرَاضِ بِتَأْوِيلِ الْخَلْقِ وَالتَّبْلِيغِ ثُمَّ أُورِدَ أَيْضًا بِمَنْ بُعِثَ لِتَبْلِيغِ الْغَيْرِ كَمَا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا أُوحِيَ إلَيْهِ وَإِنْ شَرَعَ غَيْرُهُ إلَيْهِ فِيمَا أُوحِيَ فِي الْجُمْلَةِ وَالنَّبِيُّ مُرَادِفٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ الْهُمَامِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ وَابْنِ حَجَرٍ خَطَّأَهُ فِيمَا نَسَبَهُ وَذَهَبَ إلَى الْعُمُومِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ لَهُ إلْهَامٌ رَبَّانِيٌّ فَقَطْ وَالرَّسُولُ مَنْ لَهُ إلْهَامٌ وَكِتَابٌ. أُورِدَ بِأَنَّ الْكُتُبَ قَلِيلَةٌ وَالرُّسُلَ كَثِيرَةٌ إذْ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ وَدُفِعَ بِمَأْمُورِيَّةِ تَبْلِيغِ كِتَابٍ وَلَوْ نَزَلَ إلَى الْغَيْرِ أَوْ بِتَكَرُّرِ نُزُولِهِ وَقِيلَ الرَّسُولُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِتَبْلِيغِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ سَوَاءٌ لَهُ كِتَابٌ أَوْ لَا وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا إشْكَالَ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّف مَنْ أُوتِيَ الرِّسَالَةَ بَدَلَ النُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِمَّا ذَكَرَ أَفْضَلِيَّةُ جِهَةِ الرِّسَالَةِ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ عِنْدَهُ التَّرَادُفَ أَوْ لِإِيهَامِ إثْبَاتِ الْأَفْضَلِيَّةِ مِنْ جِهَتَيْ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ يَعْنِي أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ وَمَعَ مَا فِيهِ مِنْ الرِّسَالَةِ أَوْ لِإِيهَامِ أَنَّهُ لَوْلَا جِهَةُ الرِّسَالَةِ لَكَفَى جِهَةُ النُّبُوَّةِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ فَيَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ يَلِيقُ ذِكْرُ الرِّسَالَةِ ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْقَلْبِ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ أُوتِيَتْ لَهُ لَا الْعَكْسُ وَمِنْ أَفْضَلِيَّةِ كَوْنِهِ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ الثَّقَلَيْنِ وَالْمَلَائِكَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كَالسُّبْكِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى - {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]- وَخَبَرِ «أُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» خِلَافًا لِمَنْ اخْتَصَّ بِالْأَوَّلِينَ مُدَّعِيًا فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَإِنْ رَدَّ مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ بِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيهِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ.
قَالَ السُّيُوطِيّ عَنْ السُّبْكِيّ أُرْسِلَ لِلْخَلْقِ كَافَّةً وَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ نُوَّابٌ وَمَعُونَاتٌ لَهُ وَمُرْسَلٌ إلَى الْجِنِّ وَالْمَلَكِ فِي الْقَوْلِ الرَّاجِحِ وَبُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حَتَّى الْكُفَّارِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَالَ هُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ وَأَفْضَلُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَنِسَاؤُهُ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَبَلَدُهُ أَفْضَلُ الْبِلَادِ إلَّا مَكَّةَ وَمَسْجِدُهُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَالْبُقْعَةُ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الْكَعْبَةِ دُونَ الْعَرْشِ وَالتُّرْبَةِ الَّتِي مَاسَّتْ بَدَنَهُ الشَّرِيفَ أَفْضَلُ مِنْ الْعَرْشِ.
وَأَيْضًا حَكَى السُّيُوطِيّ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمَاوَرْدِيِّ عَدَمَ جَوَازِ الْخَطَإِ وَعَنْ قَوْمٍ عَدَمَ النِّسْيَانِ أَيْضًا جَامِعٌ لِخَوَاصِّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَأَنَّهُ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ لَهُ خَاصَّةٌ فِي أُمَّتِهِ إلَّا وَفِي أُمَّتِهِ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَائِهَا يَقُومُ فِي قَوْمِهِ مَقَامَ ذَلِكَ النَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ كَمَا وَرَدَ «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ» وَأَنَّ لَهُ الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى وَالْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَاللِّوَاءَ الْمَعْقُودَ وَالْحَوْضَ وَالْكَوْثَرَ وَالْوَسِيلَةَ وَآدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْبَيَانِ عَنْ إحَاطَةِ مَا دَلَّ عَلَى فَضْلِهِ وَلِذَا صُنِّفَ فِيهِ الْكُتُبُ وَالرَّسَائِلُ الطِّوَالُ وَالْقِصَارُ فَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ
(وَالْحِكَمُ) جَمْعُ حِكْمَةٍ وَهِيَ تَحْقِيقُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُهُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حِكْمَةٍ نَظَرِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ وَقِيلَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّي وَقِيلَ عِلْمُ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ وَقِيلَ (وَعَلَى آلِهِ) أَعَادَ لَفْظَ عَلَى مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى نَوْعِ اسْتِقْلَالٍ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّبَعِيَّةِ رَدًّا عَلَى الشِّيعَةِ وَالرَّوَافِضِ فَإِنَّ إعَادَةَ عَلَى عِنْدَهُمْ مَكْرُوهَةً بِحَدِيثٍ لَيْسَ لَهُ صِحَّةٌ وَلَوْ فُرِضَ فَلَيْسَ بِجَارٍ بَلْ اسْمُ فِعْلٍ لَعَلَّ وَجْهَ الْتِزَامِهِمْ تَرْكُهُ لِإِيجَابِ إتْيَانِ الْمُبَاعِدَةِ وَهُمْ يَلْتَزِمُونَ كَمَالَ الْمُقَارَبَةِ ثُمَّ أَصْلُ آلٍ أَهْلُ بِدَلِيلِ أُهَيْلٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَعِنْدَ الْكِسَائِيّ أَوَّلٌ بِدَلِيلِ أُوَيْلٍ ثُمَّ خُصَّ بَعْدَ الْقَلْبِ أَوْ مُطْلَقًا بِمَا لَهُ شَرَفٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَوْ رُدَّ
بِنَحْوِ آلِ فِرْعَوْنَ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ شَرِيفٌ بِحَسَبِ الدُّنْيَا أَوْ بِاعْتِقَادِهِمْ أَوْ فِي الصُّورَةِ.
وَفِي الْقُرْآنِ تَهَكُّمٌ عَلَى حَدِّ - {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]- نَقَلَ عَنْ صَاحِبِ الْقَامُوسِ وَهُوَ هُنَا مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَقِيلَ إمَّا نَسَبًا كَأَوْلَادِ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ وَعَبَّاسٍ وَالْحَارِثِ أَوْ دِينًا هُوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ أَوْ كُلُّ مُؤْمِنٍ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَيُرْوَى أَنَّهُ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]- سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْقَرَابَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَابْنَاهُمَا وَقَدْ يُرَادُ مِنْ الْآلِ أَهْلُ الْبَيْتِ وَقِيلَ مَنْ نَاسَبَهُ إلَى جَدِّهِ الْأَدْنَى وَقِيلَ مَنْ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي رَحِمٍ وَقِيلَ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ وَأَيْضًا ذَوُو الْقُرْبَى هُمْ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَابْنَاهُمَا وَقِيلَ ذُرِّيَّتُهُ وَأَزْوَاجُهُ وَقِيلَ أَتْبَاعِهِ قِيلَ رَجَّحَ النَّوَوِيُّ كَوْنَهُ أَتْقِيَاءَ أُمَّتِهِ وَجَرَى عَلَيْهِ الدَّوَانِيُّ
(وَأَصْحَابِهِ) قِيلَ جَمْعُ صَاحِبٍ وَرُدَّ بِأَنَّ فَاعِلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ فَقِيلَ جَمْعُ صَحْبٍ تَخْفِيفُ صَاحِبٍ أَوْ جَمْعُ صَحْبٍ اسْمُ جَمْعٍ كَتَمْرٍ وَأَتْمَارٍ وَقِيلَ اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ بِمَعْنَى الصَّحَابِيِّ هُوَ لُغَةً مَنْ صَحِبَ غَيْرَهُ وَاصْطِلَاحًا مَنْ لَقِيَ الْمُصْطَفَى يَقْظَةً بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ وَفَاتِهِ مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يَرَهُ لِعَارِضٍ كَعَمًى أَوْ لَمْ يَرَهُ النَّبِيُّ وَلَوْ بِلَا مُكَالَمَةٍ وَلَا مُجَالَسَةٍ كَكَوْنِهِ مَارًّا وَلَوْ بِغَيْرِ جِهَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَشْعُرْ بِالْآخَرِ أَوْ تَبَاعُدًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِشَاهِقٍ وَالْآخَرُ بِوَهْدَةٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا مَانِعُ مُرُورٍ كَنَهْرٍ أَوْ سِتْرٍ رَقِيقٍ لَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ وَكَذَا لَوْ تَلَاقَيَا نَائِمَيْنِ أَوْ كَانَ غَيْرَ النَّبِيِّ مَجْنُونًا وَقِيلَ لِأَزْمِنَةِ إفَاقَتِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ يَظْهَرُ أَثَرُ نُورِهِ فِي قَلْبِ مُلَاقِيهِ وَعَلَى جَوَارِحِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْجِنِّ وَالْأَصَحُّ نَعَمْ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَطْفَالُ كَمَا فِي النُّخْبَةِ قِيلَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّمَيُّزِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَكَذَا الْمَلَكُ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ دَاخِلَةً لَكِنْ عَنْ الْبُلْقِينِيِّ الْجَزْمُ بِخُرُوجِهِمَا وَالْأَكْثَرُ شَرْطِيَّةُ اللِّقَاءِ بِالتَّعَارُفِ دُونَ الْخَارِقِ فَيَخْرُجُ أَيْضًا جَمِيعُ مَنْ رَآهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَكِنْ فِي النُّخْبَةِ إنْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كُشِفَ لَهُ عِيَانًا جَمِيعُ مَنْ فِي الْأَرْضِ إنْ آمَنَ فِي حَيَاتِهِ يُعَدُّ صَحَابِيًّا لِأَنَّهُ وَقَعَ الرُّؤْيَةُ مِنْ جَانِبِهِ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا مَنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَبْلَ دَفْنِهِ وَمَنْ رَآهُ حَيًّا عَلَى طَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِجَسَدِهِ الْمُكَرَّمِ كَمَا جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ بَلْ نُقِلَ وُقُوعُهُ لِلْغَزَالِيِّ وَمَنْ رَآهُ فِي الْمَنَام وَإِنْ حَقًّا فَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا مِنْ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُمْ يَوْمَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّرَايَةِ (الْمُقْتَدِينَ بِهِ) صِفَةٌ لِلْآلِ وَالْأَصْحَابِ فَيَجُوزُ جَمْعُهُ وَتَثْنِيَتُهُ كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى وَجْهِ تَشْرِيكِهِمْ فِي الصَّلَاةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ إنْ اسْتَحَقُّوا هَذَا التَّعْظِيمَ بِالِاقْتِدَاءِ فَغَيْرُهُمْ أَيْضًا يَسْتَحِقُّونَ التَّعْظِيمَ وَالْإِحْسَانَ بِالِاقْتِدَاءِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اقْتِدَاءَهُمْ نِعْمَةٌ لَنَا لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُمْ وَاسِطَةٌ لِاقْتِدَائِنَا وَتَشْرِيك الصَّلَاةِ مِنَّا شُكْرٌ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْمُقْتَدِينَ مِنْهُمْ لَيْسَ جَمِيعَهُمْ الَّذِي فُضِّلَ فِي مَعْنَى الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَالصَّلَاةُ لَيْسَ لِجَمِيعِهِمْ أَوْ لَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ عِلَّةً لِلصَّلَاةِ كَمَا فُهِمَ مِمَّا ذُكِرَ وَأَنَّ الْوَصْفَ فِي مِثْلِهِ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي الْأُصُولِ.
قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْعَلِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْجِنْسِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ شَأْنِهِمْ الِاقْتِدَاءُ سَوَاءٌ جَامَعَ بِالْفِعْلِ أَوْ لَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يَقْتَدِي فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ كَيْفَ وَقَدْ نُقِلَ إجْرَاءُ الْحُدُودِ بَلْ الْقَتْلُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا أَوْ سِيَاسَةً قُلْنَا هُوَ قَلِيلٌ وَنَادِرٌ وَعَلَى طَرِيقِ خَطَئِهِ فَكَالْمَعْدُومِ فِي جَنْبِ الْأَكْثَرِ وَأَنَّهُمْ مَغْفُورُونَ بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ بِالْآثَارِ وَغَيْرُهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَنْ لَا يَقْتَدِي مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ لَهُ هَذَا الدُّعَاءُ بِتَشْرِيكِ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ صِفَاتٌ مَادِحَةٌ لَا يَجْرِي فِيهَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ (فِي الْقَصْدِ) يَعْنِي أَنَّ اقْتِدَاءَهُمْ بِالنِّيَّةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ وَلَا عَلَى طَرِيقِ نَحْوِ الرِّيَاءِ أَوْ لِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ كَاقْتِدَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَفِيهِ إيمَاءٌ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ إنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِ إذَا كَانَ عَنْ نِيَّاتٍ حَمِيدَةٍ وَأَغْرَاضٍ صَالِحَةٍ أَوْ مِنْ الِاقْتِصَادِ أَيْ التَّوَسُّطِ فَالْمَعْنَى تَبِعُوا لَهُ عليه الصلاة والسلام بِالْإِخْلَاصِ أَوْ تَبِعُوا فِي تَوَسُّطِ الْأَعْمَالِ أَمَّا عَلَى الْقَيْدِ الْوُقُوعِيِّ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَكِنِّي أَصُومُ
وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .
أَرَادَ بِذَلِكَ رَدَّ قَوْمٍ يُرِيدُونَ خِلَافَ مَا ذُكِرَ بِنَحْوِ صَوْمِ الدَّهْرِ أَوْ الِاحْتِرَازِيِّ فَإِنْ بَعْضَ شَيْءٍ يَفْعَلُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَوَاصُّ لَهُ كَصَوْمِ الْوِصَالِ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ لِلْأُمَّةِ لِأَنَّهُ إفْرَاطٌ فِي حَقِّهِمْ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَائِلًا إنَّ الْمُرَادَ الْمُقْتَدُونَ فِي إخْلَاصِ النِّيَّةِ وَتَوَسُّطِ الْأَعْمَالِ فَقَطْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
(وَالشِّيَمِ) جَمْعُ شِيمَةٍ وَهِيَ الْخَلْقُ وَالْعَادَةُ وَنُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ هِيَ الْغَرِيزَةُ وَالطَّبِيعَةُ وَالْجِبِلَّةُ الَّتِي خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا انْتَهَى هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا جَبْرِيًّا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ بَلْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ بَعْضِ الْحَدِيثِ فَلَا يُلَائِمُ قَاعِدَةَ التَّكْلِيفِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَسَبْيٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآثَارِ غَايَتُهُ أَنَّ أَصْلَهُ ضَرُورِيٌّ، وَأَثَرُهُ كَسَبْيٍ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِتَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِاقْتِدَاءُ وَالْمَدْحُ بِهِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِيَارِيِّ ثُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْخَلْقِ الْعَادَةُ وَيُرَادَ بِالْعَادَةِ مَا اعْتَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِقَادًا أَوْ أَخْلَاقًا أَوْ أَفْعَالًا أَوْ أَقْوَالًا فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَوْ الْعَادِيَّاتِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ إلَّا إنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ عليه السلام فَفِيهِ أَيْضًا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ أَكْمَلَ (مَا دَامَتْ) مُدَّةَ دَوَامِ (السَّمَوَاتِ) جَمْعُ سَمَاءٍ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ وَتُجْمَعُ عَلَى اسْمِيَّةٍ أَيْضًا (وَالْأَرْضُ) بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ وَالْأَصَحُّ سَبْعٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «طَوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» فَالْإِفْرَادُ لِكَوْنِهَا طَبَقَةً وَاحِدَةً.
نَقَلَ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي الْإِتْقَانِ لِأَنَّ لَفْظَهُ ثَقِيلٌ وَلِهَذَا يُؤْتَى بِمَا يُفِيدُ الْعَدَدَ عِنْدَ إرَادَةِ التَّعَدُّدِ {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْخُلُودِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مِثْلِهِ أَوْ الْمُرَادُ سَمَوَاتُ الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا لِأَنَّ كُلَّ عُلُوٍّ سَمَاءٌ وَكُلَّ مُسْتَقِرٍّ أَرْضٌ فَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود: 107]- (وَمَا تَعَاقَبَتْ) أَيْ مُدَّةَ تَتَابُعِ (الْأَضْوَاءِ) جَمْعُ ضَوْءٍ وَهُوَ الضِّيَاءُ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا وَهُوَ النُّورُ وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهَا مُظْهِرَةٌ لِغَيْرِهَا وَقِيلَ الضِّيَاءُ أَقْوَى وَأَتَمُّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]- وَقِيلَ الضَّوْءُ ضَوْءٌ ذَاتِيٌّ وَالنُّورُ ضَوْءٌ عَارِضِيٌّ.
(وَالظُّلَمُ) جَمْعُ ظُلْمَةٍ إمَّا يُرَادُ بِهِمَا حَقِيقَتُهُمَا أَوْ مَحِلُّهُمَا أَيْ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ أَوْ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَوْ نَحْوُهُمَا ثُمَّ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَعَ مَعْطُوفِهِ إمَّا قَيْدٌ لِلصَّلَاةِ فَقَطْ أَوْ قَيْدٌ لَهَا مَعَ الْحَمْدِ عَلَى التَّنَازُعِ فَهُوَ أَبْلَغُ مَعْنًى وَالْمَقْصُودُ هُوَ الدَّوَامُ كَمَا مَرَّ لَا التَّوْقِيتُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْعِبَارَةِ وَبَيْنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ طِبَاقٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى عَلَّلَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الصُّورِيِّ يَعْنِي قَوْلَهُ الَّذِي جَعَلَنَا فَهُوَ بَاعِثُ الْحَمْدِ فَمَحْمُودٌ عَلَيْهِ يَعْنِي إنَّمَا حَمِدْنَاهُ لِأَنَّهُ جَعَلَنَا خَيْرَ أُمَمٍ ثُمَّ احْتَاجَ هَذَا إلَى بَيَانٍ أَيْضًا أَشَارَ إلَى عِلَّتِهِ فِي ضِمْنِ الصَّلَاةِ يَعْنِي إنَّمَا صِرْنَا خَيْرَهَا لِأَنَّا أُمَّةُ أَفْضَلِ مَنْ أُوتِيَ إلَخْ أَوْ نَقُولُ لَمَّا قَالَ جَعَلَنَا خَيْرَ أُمَمٍ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ مِنْ قِبَلِنَا بِاسْتِعْدَادِ أَنْفُسِنَا وَاكْتِسَابِهَا فَكَأَنَّهُ دَفَعَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُدْخَلٍ مِنَّا بَلْ مِنْ قِبَلِ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحِكَمِهِ أَفْضَلَ الْحِكَمِ وَلَمَّا كَانَ هَاتَانِ النِّعْمَتَانِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَتَيْنِ وَاقْتَضَتَا شُكْرًا كَذَلِكَ قُيِّدَ شُكْرَيْهِمَا أَعْنِي الْحَمْدَ وَالصَّلَاةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ اللَّا تَنَاهِي أَعْنِي قَوْلَهُ {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ} [هود: 107] إلَخْ.
(وَبَعْدُ) كَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يَأْتِي بِهَا فِي خُطَبِهِ وَكُتُبِهِ فَأَتَى لِلتَّبَرُّكِ وَالِاقْتِدَاءِ
فَائِدَتُهَا الْإِشَارَةُ إلَى انْقِطَاعِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا هِيَ الْبَسْمَلَةُ وَالْحَمْدَلَةُ وَالتَّصْلِيَةُ وَمَا بَعْدَهَا هُنَا إشَارَةٌ إلَى مُقَدَّمَاتِ الْعِلْمِ مِنْ نَحْوِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ أَيِّ عِلْمٍ يَعْنِي الْكَلَامَ وَالتَّصَوُّفَ يَعْنِي الْأَخْلَاقَ وَالْفِقْهَ أَيْ الْأَعْمَالَ وَمِنْ الْإِشَارَةِ إلَى شَرَفِ هَذَا الْكِتَابِ وَرُتْبَتِهِ فِي الشَّرَفِ وَإِلَى سَبَبِ التَّأْلِيفِ وَإِلَى غَايَةِ الْعُلُومِ الَّتِي أُخِذَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَشَرَفِهَا وَإِلَى اسْمِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ أَبْوَابِهِ وَنَحْوِهَا وَيَحْصُلُ التَّصَوُّرُ بِوَجْهٍ مَا الَّذِي يَجِبُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي ضِمْنِ مَا ذُكِرَ فَافْهَمْ.
(فَإِنَّ) الْفَاءُ إمَّا جَوَابُ (أَمَّا) الْمُقَدَّرَةِ أَوْ الْمَوْهُومَةِ أَوْ لَفْظُ (الْوَاوِ) لِقِيَامِهِ مَقَامَ أَمَّا أَوْ لَفْظُ بَعْدُ لِغَلَبَةِ الشَّرْطِيَّةِ فِي الظُّرُوفِ كَمَا قِيلَ (الْعَقْلُ) لَهُ مَعَانٍ مِنْهَا جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ.
قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: هَذَا مَا قِيلَ جَوْهَرٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ فِي أَفْعَالِهِ إلَى جِسْمٍ قِيلَ هَذَا مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ»
وَمِنْهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إدْرَاك الْحَقَائِقِ لَعَلَّ هَذَا مَا قَالُوا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا تَسْتَعِدُّ لِلْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ وَمِنْهَا الْغَرِيزَةُ الَّتِي يَلْزَمُهَا الْعِلْمُ بِالضَّرُورَاتِ أَوْ نَفْسُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَمِنْهَا قُوَّةٌ مُمَيِّزَةٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ وَمِنْهَا هَيْئَةٌ مَحْمُودَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَكَلَامِهِ وَنَحْوِهِ وَمِنْهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا تَنْتَقِلُ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ إلَى النَّظَرِيَّاتِ.
قِيلَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ نُورٌ يُضِيءُ بِهِ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَى دَرْكِ الْحَوَاسِّ فَيَبْتَدِئُ الْمَطْلُوبَ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَوْلِيدًا إعْدَادًا وَلُزُومًا وَهَذَا مَا عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ جَوَّزَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَيْنَ الْأَوَّلِ فَرَدَّهُ التَّلْوِيحُ بِأَنَّ ذَاكَ صِفَةُ الْمُكَلَّفِ وَذَلِكَ لَيْسَ صِفَةً لَهُ وَجَوَّزَ أَيْضًا كَوْنَ هَذَا التَّعْرِيفَ أَثَرًا فَائِضًا مِنْ الْأَوَّلِ أَيْضًا عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ وَيُعِدُّهَا لِلْإِدْرَاكِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَةِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى إنْكَارِهَا إلَّا أَنْ يُحْمَلَ مَذْهَبُ صَاحِبِ التَّوْضِيحِ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ كَالْغَزَالِيِّ وَالرَّاغِبِ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَجَمْعٍ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وِفَاقًا لِلْحُكَمَاءِ لَكِنَّ ظَاهِرَ التَّلْوِيحِ تَسْلِيمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَهُوَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَمْ يُقِرَّ بِثُبُوتِ الْمُجَرَّدَاتِ فَتَأَمَّلْ وَمِنْهَا جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ فِي ذَاتِهِ مُقَارِنٌ لَهَا فِي فِعْلِهِ وَهِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الَّتِي يُشِيرُ إلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ أَنَا لَعَلَّ هَذَا مَا قِيلَ جَوْهَرٌ يُدْرِك بِهِ الْغَائِبَاتِ بِالْوَسَائِطِ وَالْمَحْسُوسَاتِ بِالْمُشَاهَدَةِ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْعُرْفَ وَاللُّغَةَ عَلَى مُغَايَرَةِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَدَفَعَ بِجَوَازِ كَوْنِ الْمُرَادِ أَنَّهُ يُطْلِقُ الْعَقْلَ عَلَى النَّفْسِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى قُوَّتِهَا.
ثُمَّ الظَّاهِرُ هُنَا هُوَ الثَّانِي أَعْنِي قُوَّةً لِلنَّفْسِ إذْ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْعِلْمِ هُوَ ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ.
وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا غَيْرَهُ ثُمَّ لِلْعَقْلِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ لِأَنَّ النَّفْسَ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ خَالِيَةٌ عَنْ الْعُلُومِ مُسْتَعِدَّةٌ لَهَا سُمِّيَ عَقْلًا هَيُولَانِيًّا كَمَا فِي الطِّفْلِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ الضَّرُورِيَّاتِ وَاسْتَعَدَّتْ لِلنَّظَرِيَّاتِ سُمِّيَ عَقْلًا بِالْمَلَكَةِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ النَّظَرِيَّاتِ وَحَصَلَ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِحْضَارِهَا مَتَى شَاءَتْ سُمِّيَ عَقْلًا بِالْفِعْلِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ النَّظَرِيَّاتُ حَاضِرَةً عِنْدَهَا مُشَاهِدَةً لَهَا سُمِّيَ عَقْلًا مُسْتَفَادًا.
قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي تَعْدِيلِ الْعُلُومِ الرُّوحُ الْعُلْوِيُّ فِي مَرْتَبَةِ كَمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ يُسَمَّى عَقْلًا وَفِي مَرْتَبَةِ الِانْشِرَاحِ بِنُورِ الْإِسْلَامِ يُسَمَّى صَدْرًا وَفِي مَرْتَبَةِ الْمُرَاقَبَةِ وَالْمَحَبَّةِ يُسَمَّى قَلْبًا وَفِي مَرْتَبَةِ الْمُشَاهَدَةِ يُسَمَّى سِرًّا وَفِي مَرْتَبَةِ التَّجَلِّي يُسَمَّى رُوحًا.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَدْعِيَةِ اللَّهُمَّ زَيِّنْ ظَوَاهِرَنَا بِخِدْمَتِك وَبَوَاطِنَنَا بِمَعْرِفَتِك وَقُلُوبَنَا بِمَحَبَّتِك وَأَسْرَارَنَا بِمُشَاهَدَتِك وَأَرْوَاحَنَا بِمُعَايَنَتِك انْتَهَى ثُمَّ هَلْ الْأَفْضَلُ الْعِلْمُ كَمَا فِي بَحْرِ الْكَلَامِ أَوْ الْعَقْلُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ الْأَلْوَغِيَّةِ وَالْأَصَحُّ الْعُلُومُ الزَّاجِرَةُ أَفْضَلُ.
(وَالنَّقْلُ) أَيْ الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ الْقَطْعِيُّ لَا الظَّنِّيُّ أَيْضًا كَمَا تَوَهَّمَ إذْ دَلِيلُ فَنَاءِ الدُّنْيَا مَثَلًا قَطْعِيٌّ كَأَدِلَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ إذْ كُلُّ مَا ثَبَتَ حُدُوثُهُ ثَبَتَ زَوَالُهُ كَمَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْمُرَادُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى فَنَاءِ الْعَالَمِ مَثَلًا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا أَخْبَارُ السَّلَفِ فَلَا إلَّا أَنْ تَرْجِعَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَطْلَبَ قَطْعِيٌّ وَالْمُقَدَّمَاتِ الْمَقْبُولَةَ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهُمَا ظَنِّيَّةٌ وَمِنْهُ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا يُقَالُ وَكَذَا كَلَامُ السَّلَفِ وَالْحُكَمَاءِ مُتَّفِقَانِ وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ الْحُكَمَاءِ مَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَصِحُّ رَأْسًا لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا
بَقَاءَ الْعَالَمِ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ الْجُسْمَانِيَّ.
فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ لِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ وَالْعَقْلُ لَا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ كَيْفَ وَالْإِجْمَاعُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى حُسْنِ شَيْءٍ وَإِنَّ النَّقْلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إنْ لَمْ يُخَالِفْ الْعَقْلَ وَإِلَّا يَتَوَقَّفُ كَالْمُتَشَابِهِ قُلْنَا بِجَوَازِ إرَادَةِ الْمَجْمُوعِ يَعْنِي مَجْمُوعُ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَطَالِبِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَعْنَى لَوْلَا خِطَابُ الشَّرْعِ لَمْ يُدْرَكْ بَلْ مِنْ الْمَطَالِبِ الَّتِي يَجُوزُ حُصُولُهَا بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ فَيَثْبُتُ بِالْعَقْلِ ثُمَّ يُطَبَّقُ بِالشَّرْعِ لِيُعْتَدَّ بِهِ فَإِنْ قُلْت إنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَطْعِيًّا فَأَحَدُهُمَا كَافٍ فَمَا الْحَاجَةُ إلَى الْآخَرِ وَإِنْ ظَنِّيًّا فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ مِنْ اجْتِمَاعِ الظُّنُونِ قُلْت الِاحْتِيَاجُ إلَى الْآخَرِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ إذْ الْيَقِينُ كُلِّيٌّ مُشَكَّكٌ بِتَفَاوُتِ أَفْرَادِهِ
كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وَلِهَذَا سَمَّوْهُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَعَيْنَ الْيَقِينِ وَحَقَّ الْيَقِينِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ التَّفَاوُتَ بِالظُّنُونِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ وُجُوهٍ أَقْوَى مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِوَجْهٍ وَأَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا هُنَا لَكِنْ قَدْ يَشُوبُ بِالْوَهْمِ كَشُبَهِ الْفَلَاسِفَةِ فِي بَقَاءِ الْعَالَمِ فَلَا يَصْفُو عَنْ الْكَدَرِ فَيَحْتَاجُ إلَى ضَمَّ النَّقْلِ وَأَنَّ النَّقْلَ أَيْضًا وَإِنْ قَاطِعًا لَا يَخْلُو عَنْ شُبَهٍ أَيْضًا كَمَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ اللَّفْظِيِّ قَطْعًا كَمَا أُسْنِدَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَنَّهُ سَفْسَطَةٌ كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَالتَّلْوِيحِ فَإِذَا ضُمَّ إلَيْهِ الْعَقْلُ فَيَصْفُو عَنْ الشُّبَهِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ مَوَاضِعِ الْمَقَاصِدِ وَالتَّلْوِيحِ إفَادَةُ مَجْمُوعِ الْأَمَارَاتِ الْقَطْعَ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ.
نَعَمْ الْمَقَامُ كَالْخَطَّابِيِّ فَافْهَمْ ثُمَّ لَوْ ضُمَّ إلَيْهِمَا الْحِسُّ كَمَا نُشَاهِدُ أَحْوَالَ مُعَاصِرِنَا وَنَسْمَعُ أَحْوَالَ أَسْلَافِنَا لَحَصَلَ الْحُكْمُ الْآتِي مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ الْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْخَبَرِ الصَّادِقِ (مُتَوَافِقَانِ) فِي الدَّلَالَةِ عَلَى خَرَابِ الْعَالَمِ وَفَنَاءِ نِعَمِهِ وَنَحْوِهِمَا (وَالْكِتَابُ) الْقُرْآنُ (وَالسُّنَّةُ) الظَّاهِرُ السُّنَّةُ الْقَوْلِيَّةُ هُنَا وَلَوْ ضُمَّ الْإِجْمَاعُ لَمْ يَخْلُ عَنْ وَجْهٍ وَكَانَ أَبْلَغَ، وَتَعْمِيمُ السُّنَّةِ لَهُ لِكَوْنِهِ سُنَّةَ الْعُلَمَاءِ بَعِيدٌ كَالتَّوْجِيهِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ رَاجِعٌ إلَيْهِمَا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى السُّنَّةِ مِنْهُمَا وَكَالتَّوْجِيهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِمَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ إذْ الْإِجْمَاعُ لَا يَجْرِي فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الْغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ رَدَّهُ التَّلْوِيحُ بِأَنَّ الْعَقْلِيَّ يَكُونُ ظَنِّيًّا فَيَصِيرُ بِالْإِجْمَاعِ قَطْعِيًّا وَالْحِسِّيُّ قَدْ يَسْتَنْبِطُهُ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ النُّصُوصِ فَيَقْطَعُ بِسَبَبِ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ سَنَدَ الْإِجْمَاعِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ظَنِّيَّانِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنَّ دَلَالَتَهُمَا قَطْعِيَّتَانِ وَإِمَّا الْإِجْمَاعُ الَّذِي سَنَدُهُ قَطْعِيٌّ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِهِ فَلَا يُفِيدُ نَفْعًا كَثِيرًا (مُتَطَابِقَانِ) ثُمَّ قَوْلُهُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ دَافِعٌ لِوَهْمِ اخْتِصَاصِ النَّقْلِ بِأَحَدِهِمَا أَوْ لِوَهْمِ كَوْنِ النَّقْلِ مِنْ نَحْوِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ (عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا) نَقِيضُ الْآخِرَةِ إمَّا لِدُنُوِّهَا أَيْ لِقُرْبِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ أَوْ لِقُرْبِ مُشْتَهَيَاتِهَا فِي الْقَلْبِ أَوْ لِدَنَاءَتِهَا قِيلَ فِي حَقِيقَتُهَا عَنْ الْعَيْنِيِّ هِيَ إمَّا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْهَوَاءِ وَالْجَوِّ.
وَأَمَّا كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ قَبْلَ الدَّارِ الْآخِرَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
(فَانِيَةٌ) فِي أَمَدٍ قَرِيبٍ لِأَنَّهُ آتٍ، فَسَّرَ الْفَنَاءَ بِالْعَدَمِ الطَّارِئِ عَلَى الْوُجُودِ خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ كَالْفَلَاسِفَةِ يُرَدُّ عَلَيْهِ قَدْ فَسَّرَ الدُّنْيَا بِالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ فَلَزِمَ فَنَاءُ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ وَالْمُخْتَارُ بَعْثُ الْإِنْسَانِ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَفَنَاءُ الْأَعْمَالِ وَلَا تُتَصَوَّرُ الْمُجَازَاةُ بِالْمَعْدُومِ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ فَنَاءَ كُلِّ شَيْءٍ عَدَمُ شَكْلِهِ وَبُطْلَانُ صُورَتِهِ لِانْعِدَامِ جَمِيعِ مَوَادِّهِ فَمُجَرَّدُ بُطْلَانِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ كَافٍ فِي فَنَائِهِ وَإِنَّ الْأَعْمَالَ لِكَوْنِهَا أَعْرَاضًا لَا بَقَاءَ بَعْدَ آنِ الْوُجُودِ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ فِي أَعْمَالِ الْعَبْدِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ وَفِي أَعْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَوْلَى قِيلَ فِي وَجْهِ الْفَنَاءِ إنَّ وُجُودَ الْإِنْسَانِ عَرَضٌ فَهُوَ غَيْرُ بَاقٍ فَهُوَ فَانٍ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أُرِيدَ الْعَرَضُ الْعَارِضُ بِمَعْنَى الْحَادِثِ كَمَا عَرَفْت.
وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ ضِدُّ الْجَوْهَرِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِهِ وَسَوْقِهِ فَلَا يَصِحُّ إذْ الْإِنْسَانُ لَيْسَ بِعَرَضٍ وَأَنَّ الْفَنَاءَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُؤَقَّتًا بَلْ يَكُونُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَيُنَافِيهِ غَرَضُ الْمُصَنِّفِ فَبِهِ يَظْهَرُ أَيْضًا عَدَمُ صِحَّةِ إرَادَةِ كَوْنِ الْوُجُودِ الْإِمْكَانِيِّ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُسْتَهْلَكًا
دَائِمًا لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّف مَا يَكُونُ فَانِيًا فِي وَقْتٍ مَا كَالْقِيَامَةِ فَمِثْلُ ذَلِكَ وَإِنْ صَحَّ فِي ذَاتِهِ لَكِنْ لَا يَصِحُّ هُنَا فِي إرَادَتِهِ.
أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي فَنَاءِ الدُّنْيَا فَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ وَنَحْوِهِمَا. (سَرِيعَةُ الزَّوَال) كَأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْفَنَاءِ أَوْ تَعْلِيلٌ لَهُ أَوْ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَقْتَ الْفَنَاءِ وَجَوَابٌ عَلَى طَرِيقِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إذْ الْكَلَام لِلسَّائِلِ مَعْرِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا مَعْرِفَةُ الْحَدِّ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَسْرَارِ الْمَكْتُومَةِ وَقَوْلُهُ (وَالْخَرَابُ) دَاخِلٌ فِي حُكْمِ مَا سَبَقَ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الزَّوَالَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَشْخَاصِ، وَالْخَرَابَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الدُّنْيَا، أَوْ الْأَوَّلَ إلَى نِعَمِهَا وَالثَّانِيَ إلَى أَشْخَاصِهَا وَنَفْسِهَا ثُمَّ إنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ بَلْ عَارِيَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ وَوُجُودُهَا مَجَازِيَّةٌ صُورِيَّةٌ فَاعْتِمَادُهَا ضَلَالٌ وَرُكُونُهَا وِزْرٌ وَوَبَالٌ لِأَنَّ خُلُودَهَا أَمْرٌ مُحَالٌ (عِزُّهَا) أَيْ الشَّرَفُ وَالْعِزَّةُ الْحَاصِلَةُ فِيهَا نَحْوُ الْجَاهِ وَالْحَشَمِ وَالْأَمْوَالِ (ذُلٌّ) مِنْ الذَّلِيلِ أَيْ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ سَبَبَ تَحْصِيلِهَا يُضَيِّعُ الْعُمُرَ الْعَزِيزَ الَّذِي خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ وَكَسْبِ الصَّالِحَاتِ بَلْ بِسَبَبِهَا يُرْتَكَبُ الْقَبَائِحُ وَالسَّيِّئَاتُ وَلِهَذَا قَالَ (وَنِعَمُهَا) جَمْعُ نِعْمَةٍ (نِقَمٌ) بِالْقَافِ جَمْعُ نِقْمَةٍ بِمَعْنَى الْمِحْنَةِ الَّتِي تَنْفِرُ عَنْهَا الطَّبَائِعُ لِأَنَّهَا إمَّا مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ وَلَا أَدْنَى مِنْ الْحِسَابِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ»
وَأَنَّ مَا جُمِعَ مِنْ الدُّنْيَا سَيَنْتَقِلُ إلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ الْجَامِعُ أَسِيرًا لِلْغَيْرِ وَخَدِيمَهُ فَالْعَاقِلُ يَخْتَارُ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى (وَشَرَابُهَا) أَيْ مَشْرُوبَاتُهَا كَالْمَاءِ وَسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ اللَّذِيذَةِ (سَرَابٌ) يُرَى مِنْ بَعِيدٍ عَلَى صُورَةِ مَاءٍ وَلَوْ قُرِّبَ بِهِ لَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَذَلِكَ الدُّنْيَا بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ نَظَرُ الْحَمْقَاءِ تُرَى شَيْئًا يَسْتَرِيحُ بِهِ النَّفْسُ وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَتِهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَعَلِمَ أَنَّهَا عَدِيمٌ لَا أَصْلَ لَهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَشْبَاحِ وَالظِّلَالِ عَلَى مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88]-
{وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 64] لِتَأَخُّرِهَا عَنْ الدُّنْيَا فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الدَّارِ دُونَ الدُّنْيَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الدَّارَ هِيَ الْآخِرَةُ فَقَطْ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارٍ لِأَنَّهَا مَعَ وُجُودِهَا الصُّورِيِّ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] بِفَتْحِ الْيَاءِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَجْهُ الْحَصْرِ مَعَ لَامِ التَّأْكِيدِ فِي خَبَرِ إنَّ لِرَدِّ مَنْ أَنْكَرَ الْآخِرَةَ أَوْ بَقَاءَهَا كَالْمُشْرِكِينَ وَالْحُكَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ لِأَمَارَةِ الْإِنْكَارِ مِنْ صُورَةِ الْمُسْتَغْرِقِينَ بِالدُّنْيَا وَإِنْ أَقَرُّوا فَيَنْزِلُ الْعَالِمُ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بَلْ الْمُنْكِرِ لِعَدَمِ جَرَيَانِهِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِ كَقَوْلِك لِمَنْ يُصَلِّي مَعَ عِلْمِهِ بِهَا إنَّ الصَّلَاةَ فَرِيضَةٌ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِهَا الْجَنَّةُ لَا الْمُطْلَقُ وَإِلَّا لَا يَسْتَقِيمُ قَوْله تَعَالَى {أُعِدَّتْ} [آل عمران: 133] أَيْ هُيِّئَتْ فِيمَا مَضَى لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الْآنَ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ عَدَمُ مَعْلُومِيَّةِ مَحِلِّهَا {لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] الَّذِينَ حَفِظُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُخَالَفَةِ رَبِّهِمْ وَلِلتَّقْوَى مَرَاتِبُ: وِقَايَةُ الْكُفْرِ لِلْعَوَامِّ، وَالْمَعَاصِي لِلْخَوَاصِّ، وَعَمَّا سِوَى اللَّهِ لِأَخَصِّ الْخَوَاصِّ. وَالْجَنَّةُ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِكُمْ» فَالْعَاقِلُ لَا يَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ مَعَ إمْكَانِ الْقَدْرِ الْجَلِيلِ فَإِنَّ الْمُنْتَهَى فِي التَّقْوَى مُنْتَهًى فِي الْأَكْرَمِيَّةِ الْأَعْلَى كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]- عَلَى أَنَّ مَنْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مَعَ الْخَوَالِفِ عَنْ فُرْسَانِ هَذَا الْمَيْدَانِ بِأَنْ يَكْتَفِيَ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ خَطَرِ زَوَالِ الْإِيمَانِ وَلَوْ يُسِّرَ لَهُ الْجِنَانُ لَا يَخْلُو مِنْ قَهْرٍ وَعُقُوبَةٍ مِنْ الدَّيَّانِ فَالْوَاجِبُ دِقَّةُ النَّظَرِ فِي اسْتِحْصَالِ دَقَائِقِ التَّقْوَى وَاسْتِحْضَارِ حَقَائِقِهَا بِتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَتَنْقِيحِ الْجَوَارِحِ عَمَّا يُوجِبُ سَخَطَ اللَّهِ وَوَزْنِ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ بِمِيزَانِ اللَّهِ لِيَلِيقَ بِجِنَانِ اللَّهِ.
(مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ) وَهُمْ الَّذِينَ جَمَعُوا الْإِيمَانَ مَعَ الصَّالِحَاتِ فَيَنْدَفِعُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقُيُودِ احْتِرَازٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ الِاتِّقَاءُ بِلَا إيمَانٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْمُتَّقِينَ غَيْرَ الْأَوَّلِ مِنْ التَّقْوَى وَيَكُونُ إشَارَةً إلَى أَنَّ تَحَقُّقَ التَّهَيُّؤِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْمَاضِي إنَّمَا هُوَ لِصَاحِبِ الْأُخْرَيَيْنِ وَالْأَوَّلُ
وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكِنْ كَمْ مِنْ عَقَبَةٍ كَئُودٍ تَسْتَقْبِلُهُ، أَوَّلُ تِلْكَ الْعَقَبَةِ عَقَبَةُ الْإِسْلَامِ هَلْ يَسْلَمُ لَهُ فِي آخِرِ الْأَوَانِ مِنْ مَكْرِ الشَّيْطَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ لَكِنَّ دَوَامَ الْإِيمَانِ لِغَيْرِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَى خَطَرٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ وَقِيلَ هَذَا بَيَانٌ لِلْمُتَّقِينَ.
أَقُولُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى فَقَطْ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، أَوْ مُحْتَاجٍ إلَى تَكَلُّفٍ (عِزَّتُهَا بَاقِيَةٌ) خِلَافُ عِزَّةِ الدُّنْيَا (أَبَدِيَّةٌ) لَا تَنْقَطِعُ بَلْ تَدُومُ عَلَى الْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ (وَنِعَمُهَا) كَقُصُورِ الْجِنَانِ وَالْحُورِ مِنْ الْغِلْمَانِ وَالْوِلْدَانِ مَعَ سَائِرِ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ مِصْدَاقَ - {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]- (صَافِيَةٌ) مِنْ الْكُدُورَاتِ كَمَا فِي الدُّنْيَا (سَرْمَدِيَّةٌ) لَا نِهَايَةَ لَهَا قَالَ تَعَالَى {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] وَمُحْكِمَاتُ النُّصُوصِ الدَّالَّةُ عَلَى الْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ لِلْجَنَّةِ وَنِعَمِهَا قَرِيبَةٌ إلَى أَنْ لَا تَتَنَاهَى (وَشَرَابُهَا) أَيْ خَمْرُهَا وَيُمْكِنُ إرَادَةُ مُطْلَقِ الْمَشْرُوبَاتِ كَالْكَوْثَرِ وَالرَّحِيقِ.
(خَالِيَةٌ عَنْ إثْمٍ) أَيْ جَرِمَةٍ وَمَعْصِيَةٍ أَوْ عَنْ كَدَرٍ كَالصُّدَاعِ وَالسُّكْرِ وَضَرَرِ الْعَقْلِ وَوَجَعِ الْبَطْنِ وَعُرُوضِ الْجَفَاءِ كَالْبَوْلِ وَالْقَيْءِ فَإِنَّهَا شَرَابٌ طَهُورٌ يَعْنِي طَاهِرٌ عَنْ الْأَقْذَارِ لَمْ تَمَسَّهَا الْأَيْدِي وَلَمْ تَدُسَّهَا الْأَرْجُلُ كَشَرَابِ الدُّنْيَا لَا يَسْتَحِيلُ بَوْلًا وَلَكِنْ رَشْحًا فِي أَبْدَانِهِمْ كَالْمِسْكِ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ أَكْلِهِمْ الطَّعَامَ يُؤْتَوْنَ بِالشَّرَابِ فَتَطْهُرَ بُطُونُهُمْ وَيَرْشَحَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ جُلُودِهِمْ كَالْمِسْكِ وَقِيلَ الشَّرَابُ الطَّهُورُ عَيْنٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ تَنْزِعُ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ غِلٍّ وَغِشٍّ (وَ) كَذَا عَنْ (لَاغِيَةٍ) لِأَنَّهُ لَا يُسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةٌ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ وَلَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا لَغْوٌ حَتَّى يُسْمَعَ فَلَا تُشْرَبُ عَلَى اللَّغْوِ وَالْكَلَامِ الْفَاحِشِ وَالْغِنَاءِ الْبَاطِلِ وَإِنَّمَا تُشْرَبُ عَلَى الْأَلْحَانِ بِاللَّطَائِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْكَلَامِ الْحَقِّ (فِيهَا) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ (حُورٌ) يُقَالُ أَحْوَرُ حَوْرَاءُ حُورٌ كَأَحْمَرَ حَمْرَاءُ حُمْرٌ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْعَظِيمَةُ الْعَيْنِ الْخَالِصَةُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَبِذَلِكَ يَكْمُلُ الْجَمَالُ وَالْبَهَاءُ، وَقِيلَ هِيَ النَّقِيَّةُ الْبَيَاضُ مِنْ النِّسَاءِ وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ الْحُورُ الْبِيضُ الْوُجُوهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَائِدَةُ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ التَّغَذِّي وَدَفْعُ ضَرَرِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَفَائِدَةُ الزَّوْجَةِ التَّوَلُّدُ وَحِفْظُ النَّوْعِ وَهَذِهِ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْجَنَّةِ قُلْت فَائِدَتُهَا هُنَالِكَ الِاسْتِلْذَاذَاتُ الْحِسِّيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِيهَا طَبِيعَةُ نَوْعِ الْإِنْسَانِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْجَوَابِ نِعَمُ الْجَنَّةُ لَا تُشَارِكُ نِعَمَ الدُّنْيَا فِي تَمَامِ حَقِيقَتِهَا حَتَّى تَسْتَلْزِمَ جَمِيعَ مَا يَلْزَمُهَا وَتُفِيدَ عَيْنَ فَائِدَتِهَا (مَقْصُورَاتٌ) مُخَدَّرَاتٌ وَمَسْتُورَاتٌ لَا يَخْرُجْنَ لِشَرَفِهِنَّ وَلَا يَنْظُرْنَ إلَى الْغَيْرِ قِيلَ أَيْ مَحْبُوسَاتٌ لِئَلَّا تَتَطَرَّقَ شَائِبَةُ الِاتِّهَامِ وَقِيلَ مَقْصُورَاتٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَهُمْ وَلَوْ بَدَلًا كَمَا فِي الدُّنْيَا.
وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَشْرَقَتْ إلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتْ الْأَرْضَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلَأَذْهَبَتْ ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ» .
(فِي الْخِيَامِ) جَمْعُ خَيْمَةٍ فِي الْقَامُوسِ الْخَيْمَةُ كُلُّ بَيْتٍ مُسْتَدِيرٍ أَوْ ثَلَاثَةُ أَعْوَادٍ أَوْ أَرْبَعَةُ أَعْوَادٍ يُلْقَى عَلَيْهَا الثُّمَامُ وَيُسْتَظَلُّ بِهَا فِي الْحَرِّ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا.
«إنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سَبْعُونَ مِيلًا» قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ اللُّؤْلُؤِ التَّشْبِيهُ فِي الصَّفَاءِ وَرُدَّ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي نَفْسِهَا لَعَلَّ الْأَوَّلَ بُنِيَ عَلَى الْعَادِي وَالثَّانِي عَلَى الْإِمْكَانِ النَّفْسِيِّ الْأَمْرِيِّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ عَادَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ فِي الْأُخْرَى خِلَافَ الْأُولَى.
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِصْرَاعٍ مِنْ ذَهَبٍ قِيلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ عَنْ أَنَسٍ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُسْرِيَ بِي دَخَلْت فِي الْجَنَّةِ مَوْضِعًا يُسَمَّى الْبِدْحَ عَلَيْهِ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ وَالزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ وَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ فَقُلْنَ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْت يَا جَبْرَائِيلُ مَا هَذَا النِّدَاءُ قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَقْصُورَاتُ فِي الْخِيَامِ اسْتَأْذَنَّ رَبَّهُنَّ فِي السَّلَامِ عَلَيْك فَأَذِنَ لَهُنَّ فَطَفِقْنَ يَقُلْنَ نَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا وَنَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا» .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُزَوَّجُ خَمْسَمِائَةِ حَوْرَاءَ وَأَرْبَعَةَ آلَافِ بِكْرٍ وَثَمَانِيَةَ آلَافِ ثَيِّبٍ يُعَانِقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِقْدَارَ عُمُرِهِ فِي الدُّنْيَا» (نَاعِمَاتٌ) لَيِّنَاتٌ (مُطَهَّرَاتٌ) نَظِيفَاتٌ تَقِيَّاتٌ (عَنْ الْأَقْذَارِ) عَمَّا يُسْتَقْذَرُ
وَيُذَمُّ كَالْحَيْضِ وَسَيِّئِ الْأَخْلَاقِ وَالْوَسَخِ وَالدَّرَنِ فَإِنَّ التَّطْهِيرَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَبِالْجُمْلَةِ عَنْ جَمِيعِ مَا لَا يَسْتَحْسِنُهُ الطَّبْعُ.
(وَالْآلَامُ) جَمْعُ أَلَمٍ وَهُوَ الْمَرَضُ وَالْوَجَعُ أَوْ عَمَّا يُوجِبُ الْآلَامَ مِنْ نَحْوِ ذَهَابِ حُسْنِهِنَّ وَتَغْيِيرِ جَمَالِهِنَّ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ الْأَحْقَابُ يَزْدَادُ الْحُسْنُ وَالْجَمَالُ وَقِيلَ مُطَهَّرَاتٌ مِنْ نَحْوِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ وَقِيلَ عَنْ بُغْضِ ضَرَائِرِهِنَّ {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ} [الرحمن: 58] الْأَظْهَرُ الْيَوَاقِيتُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ يَاقُوتًا فَالْمَقَامُ مَحِلُّ انْقِسَامِ الْآحَادِ إلَى الْآحَادِ فَيُنَاسِبُ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ إلَّا أَنَّهُ اقْتَبَسَ مِنْ قَوْله تَعَالَى لَعَلَّ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنْ اللَّامِ الِاسْتِغْرَاقُ قِيلَ الْيَاقُوتُ أَرْبَعَةٌ أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وأسمانجوني وَأَبْيَضُ ثُمَّ لِلْأَقْسَامِ أَنْوَاعٌ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا الْأَحْمَرُ أَوْ الْأَبْيَضُ.
( {وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58] قِيلَ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ هُوَ صِغَارُ اللُّؤْلُؤِ وَقِيلَ عَنْ الْخَازِنِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى - {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58]- فِيهِ تَشْبِيهُ لَوْنِهِنَّ بِبَيَاضِ اللُّؤْلُؤِ يَعْنِي الْمَرْجَانَ مَعَ حُمْرَةِ الْيَاقُوتِ لِأَنَّ أَحْسَنَ الْأَلْوَانِ الْبَيَاضُ الْمَشُوبُ بِالْحُمْرَةِ وَمِنْهُ عُلِمَ وَجْهُ التَّخْصِيصِ وَالْأَصَحُّ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الصَّفَاءُ بِحَيْثُ يُرَى مَا فِي بَاطِنِهِ مِنْ ظَاهِرِهِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يُرَى مُخُّهَا» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ أَرَادَ صَفَاءَ الْيَاقُوتِ فِي بَيَاضِ صَفَاءِ الْمَرْجَانِ ثُمَّ فِي إتْقَانِ السُّيُوطِيّ الْمَرْجَانُ لَفْظٌ عَجَمِيٌّ وَالْيَاقُوتُ فَارِسِيٌّ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 56] الطَّمْثُ النِّكَاحُ أَوْ الْوَطْءُ أَوْ الْمَسُّ أَقُولُ فَلِلْكُلِّ وَجْهٌ.
{إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 56] يَعْنِي لَمْ يَمَسّهُنَّ قَبْلَ أَزْوَاجِهِنَّ فَرْدٌ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَالتَّقْيِيدُ بِالْجِنِّ إمَّا لِأَنَّ الْجِنَّ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَنِعَمِهَا كَالْحُورِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ مُسْتَدِلًّا بِنَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ فِي أَنَّهَا صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فِي النِّسَاءِ تَتَسَارَعُ بِهَا النُّفُوسُ ثُمَّ هَذِهِ بَعْضُ صِفَاتِ الْحُورِ
وَأَمَّا نِسَاءُ الدُّنْيَا فَأَعْلَى مِنْهُنَّ مَرَاتِبَ فِي الْأَحَادِيثِ فَلَوْ قَدَّمَ قَوْلَهُ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 56] عَلَى قَوْلِهِ {كَأَنَّهُنَّ} [الرحمن: 58] لَوَافَقَ تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ وَإِنَّ عَدَمَ الطَّمْثِ أَنْسَبُ وَأَقْرَبُ لِلتَّطْهِيرِ إذْ طَمْثُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِنْ مُسْتَقْدَرَاتِ الطَّبْعِ وَمُؤْلِمِهِ وَمَا قِيلَ لِأَنَّ شَرْطَ الِاقْتِبَاسِ عَدَمُ إرَادَةِ الْقُرْآنِ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الِاقْتِبَاسَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّغْيِيرِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّغْيِيرِ لَا يَضُرُّ الِاقْتِبَاسَ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ عَلَى تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ لَزِمَ قَصْدِيَّةُ قُرْآنِيَّتِهِ وَيَفُوتُ قَصْدُ الِاقْتِبَاسِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَأَيْضًا قِيلَ هُمَا سَجْعَانِ فَلَوْ رُتِّبَ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ لَكَانَ السَّجْعُ الثَّانِي أَقَلَّ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا يَحْسُنُ إطَالَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي أَقُولُ الْمَانِعُ مِنْ الْحُسْنِ مَا يَكُونُ أَكْثَرَ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل: 1] .
إلَى قَوْلِهِ {فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل: 2] عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْبَدِيعِيَّةِ إنَّمَا تَتَأَتَّى بَعْدَ رِعَايَةِ أَسْرَارِ أَصْلِ الْفَصَاحَةِ وَقَدْ عَرَفْت الْأَقْرَبِيَّةَ وَالْأَنْسَبِيَّةَ لَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ الْمُصَنِّف نَظَرَ الْيَاقُوتِيَّةَ وَالْمَرْجَانِيَّةَ مِنْ الْمَحَاسِنِ الذَّاتِيَّةِ وَعَدَمَ الطَّمْثِ مِنْ الْعَرَضِيَّةِ وَأَنَّ تَوَهُّمَ الطَّمْثِ إنَّمَا يَتَبَادَرُ بَعْدَ الْكَمَالِ فِي الْحُسْنِ وَمِنْ الْكَمَالِ مَا قُدِّمَ وَلَوْ جُعِلَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّشْبِيهِ عَدَمُ قَبُولِ الْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ شَيْئًا مِنْ نَوْعِ الْوَسَخِ وَمَا يَنْفِرُ الطَّبْعُ فَلَهُ وَجْهٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ اللَّذَّةُ الْجِسْمِيَّةُ كَالْمُقَدَّمَةِ لِلَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ قُدِّمَ الْجِسْمِيَّةُ مَعَ شَرَفِ الرُّوحِيَّةِ إذْ هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَقْصَى وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْجِسْمِيَّةِ الْمَسْكَنَ وَالْمَطْعَمَ وَالْمُشْرَبَ وَالنِّكَاحَ اكْتَفَى بِمَا ذَكَرَ
ثُمَّ قَالَ لِلَّذَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ {وُجُوهٌ} [القيامة: 22] الظَّاهِرُ مِمَّا سَبَقَ وُجُوهُ الْمُتَّقِينَ جَمْعُ وَجْهٍ إنَّمَا خَصَّ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْحُسْنِ وَالسُّرُورِ يَظْهَرُ فِيهِ وَلِأَنَّ الْعَيْنَ النَّاظِرَةَ فِيهِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْوُجُوهِ هُوَ الذَّاتُ أَوْ الْمُرَادُ أَصْحَابُ وُجُوهٍ {يَوْمَئِذٍ} [القيامة: 22] فِي الْجَنَّةِ أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] خَبَرُ وُجُوهٍ إمَّا لِتَخْصِيصِهِ بِالظَّرْفِ أَوْ بِوَصْفٍ مُقَدَّرٍ أَيْ وُجُوهٍ عَظِيمَةٍ وَمَعْنَى نَاضِرَةٍ حَسَنَةٌ مَسْرُورَةٌ مُشْرِقَةٌ مُسْفِرَةٌ مُضِيئَةٌ وَقِيلَ بِيضٌ يَعْلُوهَا نُورٌ {إِلَى رَبِّهَا} [القيامة: 23] أَيْ رَبُّ تِلْكَ الْوُجُوهِ.
{نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ قُدِّمَ مُتَعَلِّقُهُ أَعْنِي إلَى رَبِّهَا لِلِاخْتِصَاصِ فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْظُرُوا غَيْرَهُ تَعَالَى كَسَائِرِ نِعَمِ الْجَنَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ
قُلْنَا الِاخْتِصَاصُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِ الرُّؤْيَةِ خِلَافَ رُؤْيَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ وَقْتَ رُؤْيَتِهِمْ يَسْتَغْرِقُونَ فِي مُطَالَعَةِ جَمَالِهِ بِحَيْثُ يَغْفُلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ الْغَيْرِ وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الرُّؤْيَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ وَالْمُرَادُ مِنْ الرُّؤْيَةِ مَا هُوَ لِعَيْنِ الرَّأْسِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا إذْ النَّظَرُ الْمُسْتَعْمَلُ بِإِلَى فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ.
وَكَذَا الْإِجْمَاعُ فَمَنْ قَالَ إنَّمَا نَسَبَ الرُّؤْيَةَ إلَى الذَّاتِ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَجْهِ وَكَذَا حَقِيقَةُ الْوَجْهِ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِجَمِيعِ ذَوَاتِهِمْ بِلَا اخْتِصَاصٍ بِالْعَيْنِ بَلْ يَرَى بِكُلِّ مِنْ الْحَاسَّةِ وَكَذَا مَا بِسَائِرِ الْحَوَاسِّ يُدْرِكُ بِكُلِّ مَا يُدْرِكُ بِالْآخَرِ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا ارْتَكَبَ خِلَافَ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ وَقَدْ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فُلَانٌ رَأَى وَيُرَادُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ كَمَا يُقَالُ تَكَلَّمَ فُلَانٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ بَلْ بِلِسَانِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ «إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلَى جَنَّاتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنِعَمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُورِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ وَتَمَامُهُ «ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]-»
ثُمَّ قَالَ عَنْ الْغَيْرِ لَا غَدْوَةَ وَلَا عَشِيَّةَ هُنَاكَ فَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ كَثْرَةِ النَّظَرِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يُقَوِّيهِمْ لِيَسْتَوْفُوا لَذَّةَ النَّظَرِ فَيُنْسِيهِمْ ذَلِكَ كُلَّ النَّعِيمِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُرْجَى نَيْلُ الرُّؤْيَةِ بِمُحَافَظَةِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ رَبِّهَا (مَرْضِيَّةٌ) أَيْ تِلْكَ الْوُجُوهُ يَعْنِي رضي الله عنهم بِطَاعَتِهِ (مُطْمَئِنَّةٌ) بِذِكْرِهَا - {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]- فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَرَقَّى فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ إلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ فَتَسْتَقِرُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ إلَى الْحَقِّ بِحَيْثُ لَا يَرِيبُهَا شَكٌّ أَوْ الْآمِنَةُ الَّتِي لَا يَسْتَفِزُّهَا خَوْفٌ أَوْ حَزَنٌ كَمَا ذَكَرَ الْبَيْضَاوِيُّ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَصْفًا تَعْلِيلِيًّا إذَا لَوْ وُصِفَ الصَّالِحُ لِلْعِلَّةِ عِلَّةً مَا فَوُصُولُ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إلَى رُتْبَةِ الِاطْمِئْنَانِ سَبَبٌ إلَى رِضَاهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي الْعُقْبَى.
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَثَلًا مَنْ لَمْ يَصِلْ فِي الدُّنْيَا إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الرِّضَا قُلْنَا نَعَمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الرِّضَا لَعَلَّ الرِّضَا مُشَكَّكٌ يَتَفَاوَتُ بِالْقُوَّةِ وَنَحْوِهَا وَفَسَّرَ أَيْضًا بِالْمُؤْمِنَةِ الْمُوفِيَةُ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ الْمُتَقَرِّرَةُ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الرَّاسِخَةِ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ رَبِّهَا أَوْ عَطَاءِ رَبِّهَا عَلَى الِاسْتِخْدَامِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ (رَاضِيَةٍ) لِأَنَّهُمْ رَضُوا عَنْهُ بِثَوَابِهِ وَعَطَائِهِ ثُمَّ قِيلَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ أَيْ الْوُجُوهُ لَمْ يَرْضَى عَنْهُمْ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ لِتَرْكِهِمْ جَمِيعَ مَنْ سِوَاهُ أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ عِنْدَهُ إمَّا بَدَلٌ مِنْ يَوْمئِذٍ أَوْ إلَى رَبِّهَا وَإِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِمَرْضِيَّةٍ وَمَرْضِيَّةٌ إمَّا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِوُجُوهٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ نَاضِرَةٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَيْسَ فِيهِ حَصْرٌ وَعَلَى الثَّانِي لَوْ كَانَ لَيْسَ مِنْ قَبْلِ مَا ذَكَرَهُ وَلَوْ سُلِّمَ صِحَّةُ الْحَصْرِ مُطْلَقًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُ إرَادَتِهِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]- تَلْمِيحًا أَوْ اقْتِبَاسًا أَوْ اقْتِصَاصًا فَلَا يَلِيقُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ (شَاكِرَةً)
فَإِنْ قِيلَ الشُّكْرُ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ إلَيْهِ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ قُلْنَا يَجُوزُ الْعِبَادَةُ فِي الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا لَا تَكْلِيفًا وَلَوْ جُعِلَ مُقَدَّمَةُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَاجِبًا عَقْلِيًّا كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا شَرْعِيًّا كَمَا هُوَ الْحَقُّ فَالْأَمْر سَهْلٌ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الشُّكْرُ رُؤْيَةُ الْمُنْعِمِ لَا رُؤْيَةُ النِّعْمَةِ وَمِنْ الشُّكْرِ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ
(وَهَذِهِ) الظَّاهِرُ رُؤْيَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ إذْ سَائِرُ نِعَمِ الْجَنَّةِ فِي جَنْبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ كَنِعَمِ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ نِعَمِ الْجَنَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إلَى جَمِيعِ نِعَمِ الْآخِرَةِ (هِيَ النِّعْمَةُ) الْحَقِيقِيَّةُ التَّامَّةُ الدَّائِمَةُ لَا الْمَجَازِيَّةُ الصُّورِيَّةُ الْفَانِيَةُ الْمُتَشَتِّتَةُ الْقَذِرَةُ الَّتِي هِيَ مِحَنٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَنِقْمَةٌ فِي النَّتِيجَةِ وَعُقُوبَةٌ فِي الْوَصِيلَةِ.
(وَاللَّذَّةُ الْعُظْمَى) الظَّاهِرُ أَنَّ أَعْظَمِيَّتَهَا فِي نَفْسِهَا لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نِعَمِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا لَا تَقْبَلُ نِسْبَةً إلَيْهَا بَلْ تُلْحَقُ إلَى الْعَدَمِ فِي جَنْبِهَا فَضْلًا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي أَصْلِ الْعَظَمَةِ كَمَا تَوَهَّمَ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ نَحْوِ اللَّهُ أَكْبَرُ (وَالْفَوْزُ) أَيْ الْوُصُولُ وَالظَّفَرُ بِتَمَامِ الْمُرَادِ أَوْ بِرِضَا اللَّهِ (وَالْفَلَاحُ)
أَيْ الْخَيْرُ الْمُفْرِطُ الْكَثِيرُ أَوْ الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وُصُولِ النِّعَمِ وَالثَّانِي إلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْبُؤْسِ وَالنِّقَمِ (وَالسَّعَادَةُ الْكُبْرَى) أَيْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ سَعَادَةٍ إذْ لَا شَقَاوَةَ بَعْدَهَا أَبَدًا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ النِّعْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ نِعَمِ الْجَنَّةِ وَاللَّذَّةِ الْعَظِيمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرُّؤْيَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَالْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ لِسَائِرِ النِّعَمِ وَالسَّعَادَةُ الْكُبْرَى لِلرُّؤْيَةِ فَقَوْلُهُ النِّعْمَةُ مَعَ قَوْلِهِ وَالْفَوْزُ وَالسَّعَادَةُ كَالْمُتَسَاوِيَيْنِ وَكَذَا الْأَخِيرَانِ فَعِنْدَ قَصْدِ الْإِغْرَاءِ وَالْبَسْطِ وَالتَّرْغِيبِ يُؤْتَى بِمِثْلِ هَذَا الْإِطْنَابِ وَالتَّكْرِيرِ الْبَيَانِيِّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بِالِاعْتِبَارِ فَبِاعْتِبَارِ كَرَمٍ مِنْ اللَّهِ وَعَطَائِهِ لَا لِعِوَضٍ وَلَا لِغَرَضِ نِعْمَةٍ وَبِاعْتِبَارِ وُصُولِ الْإِنْسَانِ إلَيْهِ بَعْدَ سَعْيٍ وَكَدٍّ فِي طَرِيقِهِ وَخَلَاصٍ مِنْ مَخَاوِفِهِ وَعَوَائِقِهِ فَوْزٌ وَفَلَاحٌ، وَأَيْضًا اللَّذَّةُ حَالَّةٌ بِوَاسِطَةِ قُوَّةِ الذَّائِقَةِ وَقَدْ يَزُولُ، وَالسَّعَادَةُ شُرَافَةٌ فِي الذَّاتِ لَيْسَ لَهَا زَوَالٌ. فَلَوْ قَدَّمَ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ عَلَى النِّعْمَةِ لَكَانَ أَنْسَبَ إذْ هُمَا كَالْحَاصِلَيْنِ فِي طَرِيقِهَا أَيْ النِّعْمَةِ نَعَمْ قَدْ تُقَدَّمُ الْمَقَاصِدُ عَلَى الْوَسَائِلِ.
(وَأَنَّ الظَّفَرَ) عَطْفٌ عَلَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ (بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ يَعْنِي لَمَّا ذَكَرَ كَوْنَ نِعَمِ الْآخِرَةِ فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَنِهَايَةِ الشَّرَفِ يُرِيدُ بَيَانَ سَبَبِ الْوَصْلِ إلَيْهَا لِيَسْعَى كُلُّ مَنْ يُرِيدُ وُصُولَهُ إلَيْهَا وَهِيَ مُتَابَعَةُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ قُلْت هَذَا التَّسَبُّبُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]- إذْ اللَّامُ لِلتَّخْصِيصِ وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ فِي الْمُشْتَقَّاتِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ عِنْدَ صَلَاحِهِ لَهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ إلَّا مَعْنًى لِلتَّقْوَى فَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرَ ثَانِيًا قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْصِيلًا بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَتَصْرِيحًا بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا أَوْ الْتِزَامًا وَلِتَمْهِيدِ مَا بَعْدَهُ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيْطَانِ وَمَرَاتِبِ الْإِنْسَانِ وَأَنَّ التَّكْرِيرَ فِي الْمَقَامِ الْخَطَّابِيِّ مِمَّا يُسْتَحْسَنُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْقَوْلُ عِلَّةً لِذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ مُعَدَّةٌ لِلْمُتَّقِينَ لِأَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ لِمَنْ تَابَعَ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَمَنْ تَابَعَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُتَابَعَةِ) إي إتْيَانِ مِثْلِ فِعْلِ (خَاتَمِ النَّبِيِّينَ) يَجُوزُ الْكَسْرُ فِي التَّاءِ اسْمُ فَاعِلٍ وَفَتْحُهَا بِمَعْنَى الطَّابَعِ وَهُوَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ فَالْمَفْهُومُ مِنْ الْبَيْضَاوِيِّ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْ آخِرُهُمْ الَّذِي خَتَمَهُمْ وَعَلَى الثَّانِي خُتِمُوا بِهِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مُتَابَعَتُهُ وَلَوْ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ إذْ عَمَلُهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَتَمِّ طِرَازِ وَلَنْ يُتَصَوَّرَ لِأَحَدٍ وَلَوْ وَلِيًّا مُقَرَّبًا إتْيَانُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَضْلًا عَنْ الْجَمِيعِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.
نَقُولُ مَأْمُورِيَّةُ كُلٍّ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ وَلَا يُكَلَّفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَاللَّازِمُ بَذْلُ الْوُسْعِ وَصَرْفُ الطَّاقَةِ فِي أَمْرِ الْمُتَابَعَةِ حَتَّى يَتَشَرَّفَ بِتِلْكَ الْكَرَامَاتِ الْعَلِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِلَ إلَيْهَا مَنْ لَا يُتَابَعُ فِي الْجَمِيعِ وَمِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ أَصْلًا دُخُولُ الْجَنَّةِ قُلْنَا الْمُرَادُ هُوَ الظَّفَرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْتَرِيهِ مِحْنَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَلَا يُطْرِيهِ خَوْفٌ وَحَزَنٌ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ الظَّفَرِ ثُمَّ إنَّهُ أَشْكَلَ عَلَى كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعِيسَى وَأَشَارَ الْبَيْضَاوِيُّ إلَى جَوَابِهِ بِأَنَّهُ إذَا نَزَلَ كَانَ عَلَى دِينِهِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ آخِرُ مَنْ نُبِّئَ انْتَهَى وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَنْسَخُ شَرِيعَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِهِ وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لِمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» فَعِيسَى وَكَذَا الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ مَنْ أَتْبَاعِهِ وَبِهِ أَيْضًا دُفِعَ الْإِشْكَالُ عَلَى الْخَاتِمِيَّةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا» وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ يُفِيدُ جَوَازَ النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ نُبُوَّتُهُ يَكُونُ تَابِعًا لَا نَاسِخًا وَالْخَاتِمِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَوْنِهِ نَاسِخًا أَقُولُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّبِيِّ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَنْصِبِهِ الْعَالِي وَشَرَفِهِ السَّامِي فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ وَالْمَوَاهِبِ مِنْ أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْمُقَدَّمِ أَيْ بَقَاءِ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَعَلَّ تَحْقِيقَهُ مَا ذَكَرَ أَهْلُ الْمَعْقُولِ أَنَّ صِدْقَ الشَّرْطِيَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمُقَدَّمِ صَادِقًا إذْ تَصْدُقُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ مُحَالٍ بِمُحَالٍ آخَرَ إذْ بَقَاءُ إبْرَاهِيمَ بَعْدَ مَوْتِهِ مُحَالٌ فَنُبُوَّتُهُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَيْهِ مُحَالٌ
وَلِخَفَاءِ هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالنَّوَوِيِّ حَكَمَا بِبُطْلَانِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا حَكَى الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ مُعَقِّبًا عَلَيْهِمَا أَنَّهُ عَجِبَ مِنْهُمَا مَعَ وُرُودِ الْحَدِيثِ عَنْ ثَلَاثَةِ صَحَابِيِّينَ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَرْبَعَةٌ أَنَسٌ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ أَقُولُ لَوْ حُمِلَ الْمَقَامُ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْخَارِجِ لَانْدَفَعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ
وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا
…
لَطَارَتْ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَطِرْ
(سَيِّدُنَا) لَعَلَّ الْأَنْسَبَ أَيْ مُعَاشِرُ أَمَتِهِ (وَسَيِّدٌ) بِصِيغَةِ اسْمِ فَاعِلٍ فِيهِمَا مِنْ السِّيَادَةِ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ (الْأَوَّلِينَ) الْأَظْهَرُ أَيْ مَنْ تَقَدَّمَ صلى الله عليه وسلم زَمَانًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْأَوَّلِ مُطْلَقُ النَّاسِ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَمِنْ الثَّانِي فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى يَعْنِي الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْأَجْسَامِ فَإِنَّ سِيَادَتَهُ صلى الله عليه وسلم بِحَسَبِ نُورِهِ الرُّوحِيِّ عَلَى الْجَمِيعِ ثَابِتٌ بِالْآثَارِ وَتَكَاثُرِ الْأَخْبَارِ بَلْ نُورُهُ اللَّطِيفُ أَصْلُ أَنْوَارِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُسْتَفَادَةٌ عَنْهُ فَيُنَاسِبُ أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ (وَالْآخِرِينَ) الْعَرَصَاتُ وَالْقِيَامَةُ وَإِنْ اتَّفَقَ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ قَدْ بَيَّنَ سِيَادَتَهُ فِي بَيَانِ أَفْضَلِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم إجْمَالًا وَنُفَصِّلُ بَعْضَهُ بَعْضًا
قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81]- الْآيَةَ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَن بِهِ وَلْيَنْصُرَنهُ وَقِيلَ عَنْ قَتَادَةَ رضي الله عنه الْمُرَادُ كُلُّ نَبِيٍّ مَعَ أُمَّتِهِ أَوْرَدَ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ عِنْدَ مَبْعَثِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ أَمْوَاتًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْإِيمَانُ فَأَوَّلَ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُهُمْ الْمِيثَاقَ مِنْ أُمَمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ صلى الله عليه وسلم إنْ وَصَلُوا بَعْثَهُ وَأَيَّدَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ الْحُكْمُ بِالْفِسْقِ عِنْدَ الْمُتَارَكَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِلَائِقٍ بِالْأَنْبِيَاءِ أَقُولُ الْمِيثَاقُ مِنْ الْأَرْوَاحِ كَمَا يَشْهَدُهُ بَعْضُ الْآثَارِ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ إظْهَارِ رُتْبَتِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الشَّرَفِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَعْنَى أَنَّ نِسْبَةَ الشَّرَفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً فِي زَمَانِهِ لَكَانُوا كَذَا وَأَيْضًا الْفِسْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَارَكَةِ وَهِيَ مُحَالٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْجَوَابِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ كَمَا فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]- عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مِثْلِهِ إرَادَةُ الْغَيْرِ وَالتَّعْرِيضُ لَا النَّبِيُّ وَعَنْ السُّبْكِيّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نُبُوَّتَهُ لَيْسَتْ بِمُخْتَصَّةٍ بِمَنْ بَعْدَهُ بَلْ إلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً» .
وَفِي الْمَوَاهِبِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ جَابِرٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ الْإِجْمَالِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ نُورَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَخَلَقَ مِنْهُ الْقَلَمَ وَاللَّوْحَ وَالْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ وَالْكُرْسِيَّ وَسَائِرَ الْمَلَائِكَةِ وَأَيْضًا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأَيْضًا نُورَ أَبْصَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَنُورَ قُلُوبِهِمْ وَنُورَ أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» .
وَأَمَّا سِيَادَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِينَ فَمَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ أَيْضًا وَلْنُذْكَرْ تَفْصِيلَ بَعْضِهِ أَيْضًا وَهُوَ مَا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ «أَنَّ الزَّبَانِيَةَ يَأْتُونَ بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ تَمْشِي عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ وَتُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفِ زِمَامٍ فِي كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفِ حَلْقَةٍ عَلَى كُلِّ حَلْقَةٍ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ فَإِذَا انْفَلَتَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إمْسَاكِهَا لِعِظَمِ شَأْنِهَا فَيَجْثُو كُلُّ مَنْ فِي الْمَوْقِفِ عَلَى الرُّكَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28]- حَتَّى الْمُرْسَلِينَ وَيَتَعَلَّقُ إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْعَرْشِ وَهَذَا قَدْ نَسِيَ الذَّبِيحَ وَهَذَا هَارُونُ وَهَذَا مَرْيَمُ عليهم السلام قَائِلِينَ نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُك الْيَوْمَ غَيْرَهَا» لَكِنْ قَالَ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ «لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ خَوْفِهِمْ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ بَلْ لِإِظْهَارِ شَرَفِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ أُمَّتِي أُمَّتِي سَلِّمْهَا وَنَجِّهَا يَا رَبُّ وَعِنْدَ نَقْلِهَا تَكْبُو مِنْ الْحَنَقِ وَالْغَيْظِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] أَيْ لِغَضَبِهَا وَحَنَقِهَا تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ فَيَقُومُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَيَأْخُذُ بِخِطَامِهَا وَيَقُولُ ارْجِعِي مَدْحُورَةً إلَى خَلْفِك فَتَقُولُ خَلِّ سَبِيلِي فَإِنَّك حَرَامٌ يَا مُحَمَّدُ عَلَيَّ فَيُنَادَى مِنْ سُرَادِقَاتِ الْعَرْشِ اسْمَعِي وَأَطِيعِي لَهُ ثُمَّ تُجْذَبُ وَتُجْعَلُ عَنْ شِمَالِ الْعَرْشِ فَيَخِفُّ وَجَلُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] » .
قِيلَ هَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فَإِنَّ نَفْعَ هَذِهِ لَا يَخْتَصُّ بِأُمَّتِهِ بَلْ يَعُمُّ الْكُلَّ حَتَّى الْكُفَّارَ بِالتَّأْخِيرِ وَبِالتَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ وَمِنْ سِيَادَتِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» الْمُرَادُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «لِوَاءٌ طُولُهُ مَسَافَةُ أَلْفِ سَنَةٍ قَبْضَتُهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ وَرُمْحُهُ مِنْ الزُّمُرُّدِ لَهُ ثَلَاثُ شُقَقٍ إحْدَاهَا بِالْمَشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ وَالثَّالِثَةُ عَلَى مَكَّةَ مَكْتُوبٌ فِي إحْدَاهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَفِي الْأُخْرَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَفِي الْأُخْرَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَيُؤْتَى بِالْعَرَصَاتِ فَيُنَادَى النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ الْقُرَشِيُّ الْحَرَمِيُّ التِّهَامِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَيَتَقَدَّمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَيَأْخُذُ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ ثُمَّ يَجْمَعُ حَوَالَيْهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ آدَمَ إلَى عِيسَى - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ثُمَّ الصُّلَحَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَكَافَّةُ أَهْلِ الْعُرْفَانِ ثُمَّ يُحْضَرُ لِكُلِّ فِرْقَةٍ تَاجٌ وَحُلَّةٌ وَبُرَاقٌ ثُمَّ يُجَرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ عَلَمٍ وَسَبْعُونَ أَلْفَ لِوَاءٍ فَيُعْطِي لِوَاءَ الْحَمْدِ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْبَوَاقِيَ بِحِذَائِهِ وَوَرَائِهِ» فَمَنْ تَابَعَهُ صلى الله عليه وسلم يَذْهَبُ بِهَذَا اللِّوَاءِ إلَى جَنَّةِ عَدْنٍ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا مُتَابَعَةَ هَذَا السَّيِّدِ الْمُبِينِ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
وَفِي رِوَايَةٍ «يُؤْمَرُ إلَى الْمَلَائِكَةِ بِالْحَمْلِ وَلَمْ يَقْدِرُوا فَيُؤْمَرُ إلَى أَسَدِ اللَّهِ الْغَالِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَيَحْمِلُهُ كَقَبْضَةٍ مِنْ الْوَرْدِ بِلَا مُؤْنَةٍ» وَقِيلَ يُجْعَلُ كَتَاجٍ عَلَى رَأْسِهِ وَقِيلَ مَا دَامَ اللِّوَاءُ فِي الْعَرْصَاتِ يَخِفُّ الْعَذَابُ فِي الدَّرَكَاتِ وَإِذَا مَرَّ تَشْتَدُّ وَتَضُمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَأْتِيَ هُنَا بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مَنْ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ قَدْ عَرَفْت لُزُومَ الصَّلَاةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ عليه السلام وَمُجَرَّدُ ذِكْرِهِ اللِّسَانِيِّ بِدُونِ الْخَطِّ الْبَيَانِيِّ لَوْ سَلَّمَ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْمُصَنِّف فِي التَّوَرُّعِ وَالِاحْتِيَاطِ
بَقِيَ أَنَّ فِي إيثَارِ الْمُصَنِّفِ مِنْ جُمْلَةِ أَوْصَافِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِيَادَتُهُ هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى تَأْكِيدِ وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُنْوَانِ خَاتِمِيَّهِ الْأَنْبِيَاءِ مُحْتَاجٌ إلَى عِنَايَةٍ يَسِيرَةٍ إذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ خِتَامَ الشَّيْءِ شَرَفُهُ وَنَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتُهُ وَمِنْ شَأْنِهِ كَذَا لَازِمُ الِاتِّبَاعِ (فِي الْعَقَائِدِ) يَعْنِي أَنَّ الْفَوْزَ وَالسَّعَادَةَ مَقْصُورٌ بِمُتَابَعَتِهِ فِي الْعَقَائِدِ إلَخْ فَالظَّفَرُ مُتَعَلِّقٌ بِمُتَابَعَةٍ جَمْعُ عَقِيدَةٍ اسْمٌ لِمَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ مِنْ الْمَعَانِي الدِّينِيَّةِ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ بِمَعْنَى مَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِنَفْسِ اعْتِقَادِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ كَمَبَاحِثِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْيَقِينِيِّ فِي الْأُصُولِ وَالْأُمَّهَاتِ وَفِيمَا هُوَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ أَيْضًا فِي اللَّوَاحِقِ وَالْفُرُوعَاتِ.
وَأَمَّا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ فَلَعَلَّ عَدَمَ ضَرَرِ الظُّنُونِ وَإِلَّا يَلْزَمُ إكْفَارُ كُلِّ فِرْقَةٍ فِرْقَةً أُخْرَى فِي الْأُصُولِ لِمُخَالَفَتِهَا لَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ ذَلِكَ فِي أَقَلِّ قَلِيلٍ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِرْقَةً بَلْ أَزْيَدَ كَمَا سَيُشِيرُ الْمُصَنِّف فَمَا قِيلَ الظَّنُّ فِي هَذَا الْبَابِ كُفْرٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى إطْلَاقِهِ وَقَدْ قِيلَ مُطْلَقُ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَعُمُّ الظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ الَّذِي لَا يَحْضُرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّ إيمَانَ أَكْثَرِ الْعَوَامّ كَذَلِكَ ثُمَّ إنَّمَا قَدَّمَ الْعَقَائِدَ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَسَاسُ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَصْلُهُ (وَ) فِي (الْأَقْوَالِ) لَعَلَّ الْأَوْلَى الِاكْتِفَاءُ بِالثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْأَقْوَالِ نَحْوُ الْإِقْرَارِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْإِيمَانِ لَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ كَمَا هُوَ عَادَةُ كُلِّ أَحَدٍ مَعَ عَدَمِ تَبَادُرِ اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ أُرِيدَ مُطْلَقُ الْعِبَادَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فَدَاخِلَةٌ فِي الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ يُقَالُ فِعْلُ اللِّسَانِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَعَمَلُ الْعَامَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْأَقْوَالِ لَكِنْ لِزِيَادَةِ الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ اللِّسَانِ وَآفَاتِهِ عُدَّ نَوْعًا مُقَابِلًا لَهَا فَلَا يُنَاسِبُ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ بَلْ تُؤَخَّرُ عَنْ الْأَفْعَالِ وَعَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ غَايَتُهَا أَنْ تُؤَخَّرَ عَنْ الْأَخْلَاقِ كَمَا فِي التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ الْآتِي هُنَا لَعَلَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ أَرَادَ رِعَايَةَ السَّجْعِ الْبَدِيعِيِّ مَعَ الْإِشَارَةِ اللَّطِيفَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ
فِي الِاعْتِقَادِيَّات وَالتَّفْسِيرِ بِقَوْلِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَتَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصِّصٍ مَعَ مَا عَرَفْت فِيهِ.
(وَالْأَخْلَاقِ) جَمْعُ خُلُقٍ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَلَكَةٍ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ النَّفْسَانِيَّةُ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالتَّهْذِيبِ عَنْ الذَّمِيمَةِ إذْ الصَّالِحُ بِسَبَبِ التَّصْنِيفِ هُوَ هَذَا لَا مَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] مِنْ تَحَمُّلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْمِهِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ أَمْثَالُهُ فَقَطْ بَلْ نَحْوُ مَا فَسَّرَ مِنْ أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ مِنْ نَحْوِ إحْسَانِ الْمُسِيءِ وَالْعَفْوِ عَمَّنْ ظَلَمَ، وَالْوَصْلِ لِلْقَاطِعِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ وَالْبَذْلِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ فِي الْأُمُورِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى مَعَ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وَقَالَ - {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] .
رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام عَنْ تَأْوِيلِهَا فَقَالَ جِبْرِيلُ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ ثُمَّ ذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك. وَقَالَ لَهُ - {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]- وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَذَى إلَّا صَبْرًا وَعَلَى الْإِسْرَافِ إلَّا حِلْمًا وَإِنَّ كُلَّ حَلِيمٍ قَدْ عُرِفَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ وَحُفِظَتْ عَنْهُ هَفْوَةٌ» وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كُسِرَتْ لَهُ رُبَاعِيَّتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَدِيدًا وَقَالُوا لَوْ دَعَوْت عَلَيْهِمْ فَقَالَ إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنِّي بُعِثْت دَاعِيًا رَحْمَةً لَهُمْ اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» .
وَبِالْجُمْلَةِ حِلْمُهُ وَصَبْرُهُ وَعَفْوُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ بَالِغٌ حَدَّ التَّوَاتُرِ كَصَبْرِهِ عَلَى مُقَاسَاةِ قُرَيْشٍ وَأَذَى الْجَاهِلِيَّةِ وَعَفْوِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ وَوَلِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ الَّذِي سَحَرَهُ وَلَمْ يُعَاتِبْ فَضْلًا عَنْ الْمُعَاقَبَةِ وَالتَّفْصِيلِ فِي نَحْوِ شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَالْأَفْعَالِ) الظَّاهِرُ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا فَيَلْزَمُ التَّبَعِيَّةُ فِيمَا كَانَ تَرْكُهُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا إلَى مَا تَرْكُهُ أَوْلَى وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لَازِمَةٌ فِيمَا عَطَفَ عَلَيْهَا أَيْضًا بَلْ الْمُتَابَعَةُ فِي الْمُتَارَكَةِ أَوْلَى وَأَقْدَمُ وَقَدْ رُوِيَ «عَنْهُ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ ذَرَّةٍ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» .
فَإِنْ قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بَلْ التَّجَوُّزُ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ كَإِرَادَةِ الْفَرَسِ مِنْ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَصَرَّحُوا بِامْتِنَاعِهِ قُلْنَا لَا يَبْعُدُ جَعْلُهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَيْ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ أَوْ مِنْ جَعْلِ النَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرًا بِنَقِيضِهِ ابْتِدَاءً أَوْ اسْتِلْزَامًا فَإِنْ قِيلَ الْأَفْعَالُ جَمْعٌ مُحَلَّى بِاللَّامِ فَالْمُتَبَادَرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ الِاسْتِغْرَاقُ وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِيمَا يَكُونُ خَاصَّةً لَهُ إمَّا بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ كَالْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا وَعَدَمِ نَقْضِ وُضُوئِهِ بِالنَّوْمِ وَإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِبَاحَةِ نَظَرٍ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَخَلْوَتِهَا وَعَدَمِ مَهْرِ نِسَائِهِ وَجَوَازِ نِكَاحِهِ بِلَا شُهُودٍ وَفَوْقَ الْأَرْبَعِ وَتَزْوِيجِ أَيِّ امْرَأَةٍ بِلَا إذْنِهَا وَإِذْنِ وَلِيِّهَا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَلَوْ رَغِبَ تَزَوُّجَ امْرَأَةً حَرُمَ عَلَى الْغَيْرِ خِطْبَتُهَا وَلَوْ مُزَوَّجَةً يَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا لِيَنْكِحَهَا أَوْ بِطَرِيقِ الْحُرْمَةِ كَالزِّكْوَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالشَّعْرِ وَرِوَايَتِهِ وَالْقِرَاءَةِ فِي الْكِتَابِ وَأَكْلِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَالْأَكْلِ مُتَّكِئًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فِيهِمَا.
قُلْنَا الْأَصْلُ الِاتِّبَاعُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ فَالْكَلَامُ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلِ وَيُقِرُّ بِهِ الْعَامَّ الَّذِي خَصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ أَوْ الْمُرَادُ هُوَ الْعَهْدُ وَالِاسْتِغْرَاقُ إنَّمَا يُرَادُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ وَدَلِيلِ الْجِنْسِ هَذَا ثُمَّ لَا عَلَيْنَا فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَفْعَالِهِ بَلْ لَعَلَّك حَرِيصٌ بِبَيَانِنَا لِفَرْطِ حُبِّك فِي مُتَابَعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمَ الْبِشْرِ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يَنْفِرُهُمْ وَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ يُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ نَصِيبَهُ يُعْطِي بِحَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنْ
الْقَوْلِ لَيِّنَ الْجَانِبِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا فَحَّاشٍ وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مَدَّاحٍ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ مِسْكِينًا» .
(وَإِنَّ الشَّيْطَانَ) عَطَفَ عَلَى وَإِنَّ الظَّفَرَ بِهَا. إمَّا فَيْعَالُ عَلَى أَنْ تَكُونَ نُونُهُ أَصْلِيَّةً مِنْ شَطَنَ إذَا بَعُدَ لِبُعْدِهِ عَنْ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ أَوْ فَعْلَانُ عَلَى أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً مِنْ شَاطَ إذَا هَلَكَ أَوْ بَطَلَ فَالْوَجْهُ فِيهِمَا ظَاهِرٌ أَوْ إذَا أَسْرَعَ فِي السَّيْرِ لِسُرْعَةِ سَيْرِهِ فِي بَاطِنِ الْآدَمِيِّ أَوْ فِي إضْلَالِ الْآدَمِيِّ أَوْ إذَا احْتَرَقَ لِكَوْنِ أَصْلِهِ نَارًا أَوْ لِكَوْنِ أَوَّلِهِ نَارًا فَعَلَى هَذَيْنِ يَجُوزُ صَرْفُهُ وَعَدَمُ صَرْفِهِ إذَا جُعِلَ عَلَمًا.
قَالَ الْجَعْبَرِيُّ الشَّيْطَانُ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ وَقِيلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْخَازِنِ جِنْسٌ لِلْمَرَدَةِ مِنْ الشَّيَاطِينِ الظَّاهِرُ كُلُّ شَيْطَانٍ مَرَدَةٌ ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْجِنَّ هَلْ هُمَا مَوْجُودَانِ أَوْ مَعْدُومَانِ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ فَعَلَى الْأَوَّلِ اُخْتُلِفَ أَيْضًا هَلْ هُمَا مُجَرَّدَانِ غَيْرُ مُتَحَيِّزَيْنِ أَوْ لَا؟ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الثَّانِي فَعَلَى الثَّانِي اُخْتُلِفَ أَيْضًا فِي أَنَّهُمَا هَلْ مُخْتَلِفَانِ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ جِسْمٌ لَطِيفٌ نَارِيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْجِنُّ هَوَائِيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّشَكُّلِ كَذَلِكَ وَأَيْضًا الْمَلَكُ جِسْمٌ لَطِيفٌ نُورِيٌّ كَذَلِكَ أَوْ مُتَّحِدَانِ جِنْسًا فَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ خَيِّرَةً سَعِيدَةً جِنٌّ وَشِرِّيرَةً شَقِيَّةً شَيْطَانٌ قِيلَ وَلَهُمْ عُقُولٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالٍ صَعْبَةٍ فَإِنْ قِيلَ هَلْ لِلشَّيْطَانِ نَسْلٌ قُلْنَا نَعَمْ.
قَالَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ قِيلَ إنَّ الشَّيَاطِينَ تَبِيضُ بَيْضَاتٍ وَيَخْرُجُ مِنْهَا الْوَلَدُ وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ فِي إحْدَى فَخِذَيْهِ فَرْجًا وَفِي الْأُخْرَى ذَكَرًا فَيُجَامِعُ
نَفْسَهُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْوَلَدُ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ وَقِيلَ يُدْخِلُ ذَنَبَهُ فِي دُبُرِهِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْوَلَدُ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ
(لِلْإِنْسَانِ) وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْ بَنِي آدَمَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مِنْ الْإِنْسِ قِيلَ لِاسْتِئْنَاسِ آدَمَ بِحَوَّاءَ وَقِيلَ بِرَبِّهِ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الْمُطْلَقُ وَلِذَا قِيلَ الْإِنْسَانُ مُتَّحِدٌ بِالطَّبْعِ وَقِيلَ لِظُهُورِهِمْ كَمَا سُمِّيَ الْجِنُّ لِاجْتِنَانِهِمْ أَيْ اخْتِفَائِهِمْ وَقِيلَ مِنْ النَّوْسِ بِمَعْنَى الْحَرَكَةِ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِهِمْ الْقَلْبِيَّةِ وَالْجَوَارِحِ الْأَرْكَانِيَّةِ وَقِيلَ مِنْ نَسِيَ لِنِسْيَانِهِمْ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ عَهِدَ إلَيْهِ فَنَسِيَ ثُمَّ الْإِنْسَانُ بَعْدَمَا اُتُّفِقَ فِي أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ اُخْتُلِفَ فِي هُوِيَّتِه هَلْ هُوَ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ مُجَرَّدٌ أَوْ مَادِّيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَ الدَّوَانِيُّ لَعَلَّهُ إجْمَالُ مَا فِي نَحْوِ الْمَوَاقِفِ مِنْ أَنَّهَا إمَّا جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْقَلْبِ هَذَا لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ.
وَإِمَّا أَجْزَاءُ أَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ سَارِيَةٍ فِي الْبَدَنِ وَإِمَّا قُوَّةٌ فِي الدِّمَاغِ أَوْ الْقَلْبِ وَإِمَّا ثَلَاثُ قُوَى حَيَوَانِيَّةٌ فِي الْقَلْبِ وَنَبَاتِيَّةٌ فِي الْكَبِدِ وَنَفْسَانِيَّةٌ فِي الدِّمَاغِ وَإِمَّا الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِمَّا الْأَخْلَاطُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَدِلَةُ وَإِمَّا اعْتِدَالُ الْمِزَاجِ وَإِمَّا الدَّمُ الْمُعْتَدِلُ وَإِمَّا هَوَاءٌ بِحَيْثُ يَكُونُ الْبَدَنُ كَالزِّقِّ الْمَنْفُوخِ وَهَذِهِ تِسْعَةُ مَذَاهِبَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى كَيْفِيَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ عَرَضٌ لَكِنْ قَالَ الشَّرِيفُ الْمَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ وَمَا ذُكِرَ مَشْهُورُهَا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا مُجَرَّدٌ فَهُمْ: الْحُكَمَاءُ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّاغِبُ قَالَ الشَّرِيفُ وَأَيْضًا جَمْعٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُكَاشِفِينَ قَالُوا النُّفُوسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُجَرَّدَةٌ لَيْسَ بِقُوَّةٍ جُسْمَانِيَّةٍ وَلَا جِسْمًا مُتَعَلِّقَةً بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ بِلَا دُخُولٍ وَلَا حُلُولٍ بِالْبَدَنِ أَقُولُ وَكَذَا فِي تَجَرُّدِ الْعُقُولِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَكَذَا فِي الْجِسْمِيَّةِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ لَكِنْ مَعَ نَوْعِ خِلَافٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ (عَدُوٌّ مُبِينٌ) بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ، لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ سَبَبًا لِطَرْدِهِ وَلَعْنِهِ بِسَبَبِ تَرْكِ سَجْدَةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام وَلِهَذَا عَقَدَ الْخُصُومَةَ وَنَصَبَ نَفْسَهُ وَبَذَلَ غَايَةَ جُهْدِهِ وَصَرَفَ نِهَايَةَ طَاقَتِهِ لِإِضْلَالِ الْإِنْسَانِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ مُكَافَأَتَهُ فَبَدَأَ مِنْ آدَمَ عليه الصلاة والسلام فَوَسْوَسَ إلَيْهِ {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120] الْآيَةَ وَقَالَ {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62]
وَقَالَ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16]{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَغْفُلَ الْإِنْسَانُ عَنْ كَيَدِهِ وَلَا يَذْهَلَ عَنْ مَكْرِهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ وَيُدِقَّ فِي تَرَقُّبِ مَدَاخِلِهِ وَحِيَلِهِ وَيَصْرِفَ وَسَاوِسَهُ بِحِيَلِهَا.
(يَصُدُّ) أَيْ يَمْنَعُ الشَّيْطَانُ الْإِنْسَانَ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ الظَّفَرِ الْمَذْكُورِ أَوْ الْمُتَابَعَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ فِي مِثْلِهَا أَوْ بِتَأْوِيلٍ وَاسِعٍ أَوْ الْإِنْسَانَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ الْمُتَابَعَةَ (صَدًّا) مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْفِعْلِ إشْعَارًا لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ يَعْنِي اهْتِمَامَ الشَّيْطَانِ بِالصَّدِّ فَإِنْ قِيلَ الصَّدُّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] قَالَ {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ: 21]
قُلْنَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف: 37] وَقَالَ {اسْتَحْوَذَ} [المجادلة: 19] أَيْ غَلَبَ {عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] فَإِنْ قِيلَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ أَوْ التَّرْجِيحِ وَإِلَّا فَحُكْمُ التَّعَارُضِ التَّسَاقُطُ أَقُولُ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ إسْنَادُ نَحْوِ الصَّدِّ وَالِاسْتِحْوَاذِ إلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا لِكَوْنِهِ سَبَبًا بِالْوَسْوَسَةِ لَأَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ الشُّرُورَ بِإِلْقَاءِ الْمَكَارِهِ إلَى الْقَلْبِ وَإِغْرَاءِ الْأَبَاطِيلِ وَتَحْسِينِ الْمَنَاهِي وَتَزْيِينِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِلَّا فَاَللَّهُ {كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وَاَللَّهُ {مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَخَلَقَ إبْلِيسَ مُزَيِّنًا وَلَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ» فَإِنْ قِيلَ مَا كَيْفِيَّةُ الْوَسْوَسَةِ مَعَ أَنَّا لَا نُدْرِكُ الشَّيْطَانَ بِوَاحِدٍ مِنْ مَشَاعِرِنَا فَكَيْفَ يُحَرِّكُنَا وَيُعَلِّمُنَا الْوَسْوَسَةَ
قُلْنَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ فِي كَيْفِيَّتِهَا الْقَلْبُ كَالْقُبَّةِ لَهَا أَبْوَابٌ تُنْصَبُ إلَيْهَا الْأَحْوَالُ مِنْ كُلِّ بَابٍ وَمِثْلُ هَدَفٍ تُرْمَى إلَيْهَا السِّهَامُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَكُلَّمَا أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ وَمِنْ الْبَاطِنَةِ كَالْخَيَالِ وَالشَّهْوَةِ وَالْغَصْبِ حَدَثَ فِيهِ أَيْ الْقَلْبِ أَثَرٌ وَكَذَا عِنْدَ هَيَجَانِ شَيْءٍ مِنْ نَحْوِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَهَذِهِ الْآثَارُ هِيَ الْخَوَاطِرِ وَهِيَ مُحَرِّكَاتٌ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ فَإِنْ مَحْمُودَةً فَإِلْهَامٌ وَإِنْ مَذْمُومَةً فَوَسَاوِسُ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ اسْتِنَادُ الْوَسْوَسَةِ إلَى الشَّيْطَان فَضْلًا عَنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا أَقُولُ هِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ إذْ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ
إفَاضَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاسْتِفَاضَتُهُ مِنْ الْآخَرِ لِمُجَانَسَتِهِمَا وَمُؤَانَسَتِهِمَا.
وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَلَعَلَّ لَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إلَّا الْوِجْدَانُ فِي النَّفْسِ وَالْمُشَاهَدَةُ مَعَ أَنَّ فِيهِ كَلَامًا وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الشَّيْطَانِ مَعَ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُفِيدُ إذْ الْكَلَامُ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْمَفْهُومُ عَنْ ظَاهِرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَسْوَسَتُهُ بِوَضْعِ بَعْضِ آلَاتِهِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ كَوَضْعِ خُرْطُومِهِ عَلَى الْقَلْبِ وَمَسْحِهِ وَجَرَيَانِهِ مَجْرَى الدَّمِ وَبِالْجُمْلَةِ النُّصُوصُ نَاطِقَةٌ وَالتَّأْثِيرُ مُجَرَّبٌ وَالتَّحْرِيكُ مُشَاهَدٌ فَلَيْسَ إلَّا التَّحَفُّظُ وَالتَّحَرُّزُ بِالتَّسَلُّحِ مِنْ نَحْوِ ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّقَائِهِ (بِأَقْصَى جَهْدٍ) بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الطَّاقَةُ وَقَدْ يُخَصُّ الْفَتْحُ بِالْمَشَقَّةِ الظَّرْفُ لَغْوٌ بِمَعْنَى السَّبَبِ مُتَعَلِّقٌ بِيَصُدُّ أَوْ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ (مَتِينٌ) مِنْ الْمَتَانَةِ وَالْقُوَّةِ لَعَلَّ الْمَتَانَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَهْدِهِ، أَوْ الْمُرَادُ كَالْمَتَانَةِ فِي ظُهُورِ غَايَتِهِ وَبِكَثْرَةِ مُبَالَاةِ أَهْلِ الْهَوَى وَإِلَّا فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِجَهْدِهِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى قَاعِدَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنْ لَا يَقْدِرَ أَيْضًا عَلَى التَّحْرِيكِ أَصْلًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي لِلْعَبْدِ قُدْرَةً يَصِحُّ بِهَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ ثُمَّ الْعَبْدُ بِلَا صُنْعٍ مِنْ أَحَدٍ وَلَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَصْرِفُ تِلْكَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الصَّرْفِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ اللَّا مَوْجُودٌ وَاللَّا مَعْدُومٌ الَّذِي يُسَمُّونَهُ حَالًا قُدْرَةً فِي الْعَبْدِ مَوْجُودَةً تَامَّةً تُسَمَّى الِاسْتِطَاعَةَ وَيُقَارِنُهُ تَعَالَى بِقُدْرَةِ نَفْسِهِ فَبِمَجْمُوعِ الْقُدْرَتَيْنِ يَخْلُقُ الْفِعْلَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِلَا قَبْلِيَّةِ الِاسْتِطَاعَةِ فَهُمَا مُؤَثِّرَانِ فِي الْفِعْلِ لَا غَيْرُ فَكُلَّمَا وُجِدَ الصَّرْفُ مِنْ الْعَبْدِ يُوجَدُ الْخَلْقُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى لِفِعْلِ الْعَبْدِ مَشْرُوطٌ بِصَرْفِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ مَدْخَلٌ مِنْ الشَّيْطَانِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَسْوَسَتُهُ مَبَادِئَ وَدَاعِيًا لِذَلِكَ الصَّرْفِ فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يُرَجِّحُ بِتَحْرِيكِهِ جَانِبَ الْفِعْلِ أَيْ الشَّرِّ مِنْ رُتْبَةِ التَّسَاوِي فَلَوْ لَمْ يُوقِعْ وَسْوَسَتَهُ جَازَ أَنْ لَا يَصْرِفَ قُدْرَتَهُ إلَيْهِ بَلْ يَصْرِفُ إلَى خِلَافِهِ أَيْ الطَّاعَةِ
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى مَا ذَكَرْت يَلْزَمُ أَنْ لَا يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْ الضَّلَالَةِ وَكَذَا الْهِدَايَةُ فِي الْعَبْدِ إذْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجِدَ اللَّهُ فِعْلَ الْعَبْدِ بِلَا صَرْفِ الْعَبْدِ بَلْ يَفْعَلُ اللَّهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ شَيْئًا بِصَرْفِ قُدْرَتِهِ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَهُ وَإِلَّا فَلَا قُلْنَا لَا كَلَامَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ مُيُولًا وَأَشْوَاقًا مَوْجُودَةً لِكَوْنِهَا مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ فَيُرَجِّحُ الْعَبْدُ بِهَا جَانِبَ صَرْفٍ فَلَوْ لَمْ يَخْلُقْ لَمْ يَصْرِفْ فَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ يَعْنِي كُلَّمَا وُجِدَ الصَّرْفُ يُوجَدُ الْخَلْقُ عَادِيَةٌ وَمُلَازَمَةُ الْمَشِيئَةِ ذَاتِيَّةٌ فَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَخْلُقَ الْفِعْلَ بَعْدَ صَرْفٍ بَلْ قَدْ وَقَعَ مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَةً لِلْأَوْلِيَاءِ كَمَا فَصَّلَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ التَّوْضِيحِ فَلَا إشْكَالَ فَخُذْهُ فَاسْتَمْسِكْ فِي الْمَوَاضِعِ وَلَعَلَّهُ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الْكِتَابِ.
{إِنَّمَا يَدْعُو} [فاطر: 6] أَيْ الشَّيْطَانُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَقِيلَ بِمَعْنَى يَقْهَرُ وَيَغْلِبُ ( {حِزْبَهُ} [فاطر: 6] أَيْ جُنْدَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَهِيَ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَلَا يُجِيبُ دَعْوَةَ اللَّهِ الَّذِي يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَلَا يَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ فَدَعْوَتُهُ مَقْصُورَةٌ إلَى حِزْبِهِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ حِزْبِهِ لَا يَمْتَثِلُ وَلَا يُجِيبُ بِدَعْوَتِهِ فَهَذِهِ إمَّا تَعْلِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِلْعَدَاوَةِ لِأَنَّ الْإِيصَالَ إلَى الْمَضَرَّةِ كَالسَّعِيرِ لَيْسَ إلَّا شَأْنَ الْعَدُوِّ بَلْ شَأْنُ الْحَبِيبِ الْمَنْعُ عَنْ نَحْوِهَا أَوْ بَيَانٌ لِمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ الْمُتَابَعَةِ السَّابِقَةِ يَعْنِي لَا يَمْنَعُ الْكُلَّ عَنْ مُتَابَعَةِ حَبِيبِهِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ يَمْنَعُ أَحِبَّاءَهُ وَلَيْسَ دَعَوْتُهُ كَسَائِرِ الدَّعْوَةِ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ بَلْ {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] .
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: تَقْرِيرٌ لِعَدَاوَتِهِ وَبَيَانٌ لِغَرَضِهِ فِي دَعْوَةِ شِيعَتِهِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالرُّكُونِ إلَى الدُّنْيَا وَهُوَ أَيْ الْغَرَضُ لَيْسَ سَوْقَ مَنَافِعِهِمْ كَمَا بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ بَلْ تَوْرِيطُهُمْ وَإِلْقَاؤُهُمْ فِي مُخَلَّدِ الْعَذَابِ فِي رُفَاقَتِهِ وَمُقَارَنَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] فَالْعَاقِلُ لَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ بَلْ يَتَّخِذُهُ عَدُوًّا وَيَأْخُذ رَدَّهُ مِنْ مُتَابَعَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْهَادِي الدَّاعِي إلَى الْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي الِاعْتِقَادِيَّات وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى مَا كَانَ عَهْدُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيْهَا.
{خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] أَيْ حِفْظَكُمْ أَيْ أَسْبَابَ حِفْظِكُمْ يَعْنِي إذَا كَانَتْ
دَعْوَةُ الشَّيْطَانِ مَقْصُورَةً لِاتِّبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَكَانَتْ دَعَوْته رَاجِعَةً إلَى السَّعِيرِ فَالْوَاجِبُ التَّحَفُّظُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَجُنُودِهِ وَاتِّخَاذُهُ عَدُوًّا وَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] فَإِنَّ الْعَدُوَّ لَا يَدْعُو عَدُوَّهُ بَلْ الدَّعْوَةُ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ وَلَوْ دَعَا لَا يُجِيبُ وَلَا يَمْتَثِلُ وَالتَّحَفُّظُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْفِرَارِ إلَى اللَّهِ فَفَرُّوا إلَى اللَّهِ بِالتَّعَوُّذِ وَبِالْمُسَارَعَةِ إلَى مَا فِيهِ مَغْفِرَةُ اللَّهِ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] لَا سِيَّمَا الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «إنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خُرْطُومَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] أَنَّهُ قَالَ هُوَ مُنْبَسِطٌ عَلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَانْقَبَضَ وَإِذَا غَفَلَ انْبَسَطَ عَلَى قَلْبِهِ.
قَالَ تَعَالَى {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19]
- (فَإِنَّهُ كَلْبٌ مُبِيرٌ) أَيْ مُهْلِكٌ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَكَلْبٍ مُبِيرٍ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ الْكَلْبُ مُؤَثِّرٌ فِي إهْلَاكِهِ وَالشَّيْطَانُ لَيْسَ مُؤَثِّرًا لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ مُوَسْوِسٍ إذْ لَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَأَكْثَرُ تَسَلُّطِهِ فِي خِيَارِ الْأَعْمَالِ سِيَّمَا الصَّلَاةَ.
«وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَسْوَسَةِ الصَّلَاةِ فَقَالَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ إذَا أَحْسَسْت بِهِ فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِك ثَلَاثًا قَالَ فَفَعَلْت ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي» وَيُقَالُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الشَّيْطَانِ سِتَّةٌ الِاسْتِعَاذَةُ وَكَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَالْبَسْمَلَةُ وَتَرْكُ الطَّمَعِ وَتَرْكُ الْأَمَلِ وَتَرْكُ الدُّنْيَا.
وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا حِينَ شَكَوْا إلَى الْحَسَنِ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ إنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي الْآنَ وَيَشْكُو مِنْكُمْ وَقَالَ قُلْ لِلنَّاسِ دَعُوا دُنْيَايَ حَتَّى أَدَعَ دِينَهُمْ ثُمَّ رَبَطَ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ كَلْبٌ يَعْنِي لَا تَغْتَرُّوا بِمَا زَيِّنَّ الشَّيْطَانُ وَلَا تَذْهَلُوا عَنْ مَكَايِدِهِ حَتَّى لَا تُجِيبُوا دَعَوْتَهُ فَخُذُوا أَسْلِحَتَكُمْ خَائِفِينَ مِنْ عَدُوِّكُمْ فَإِنَّ عَدُوَّكُمْ كَلْبٌ مُهْلِكٌ فَيُهْلِكُكُمْ بِلَا خِبْرَةٍ مِنْكُمْ (فَغَايَةُ بُغْيَتِهِ) أَيْ نِهَايَةُ مَطْلُوبِهِ وَمُعْظَمُهُ (سَلْبُ الْإِيمَانِ) الظَّاهِرُ تَعْلِيلِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا أَيْ لَا بِتَأْثِيرٍ بَلْ بِتَشْوِيشِ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ وَتَحْسِينِ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ وَأَفْعَالِ الِارْتِدَادِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ السَّكَرَاتِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ بِالشَّدَائِدِ وَالْكُرُبَاتِ لِأَنَّهُ آخِرُ فُرْصَتِهِ لَا يُقْبَلُ التَّدَارُكُ بَعْدَهَا الْعِيَاذُ بِهِ تَعَالَى كَمَا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ «يَجِيءُ شَيْطَانٌ عَنْ الْيَمِينِ وَيُحَسِّنُ دِينَ الْيَهُودِ وَيُظْهِرُ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ وَيُقَدِّمُ بِقَبُولِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَيَجِيءُ شَيْطَانٌ آخَرُ عَنْ يَسَارِهِ عَلَى صُورَةِ أُمِّهِ وَيُحَسِّنُ دِينَ النَّصَارَى كَذَلِكَ» .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «يَقْدَحُ مَاءً بَارِدًا قَائِلًا إنْ أَجَبْتَنِي بِشَيْءٍ مِمَّا يُوجِبُ الْكُفْرَ أُعْطِك» فَاَلَّذِي أَحْكَمَ إيمَانَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ وَحَصَّنَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يُثَبِّتُهُ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ لِلْأَعْمَالِ إعَانَةً قَوِيَّةً فِي رُسُوخِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي مِنْهَا الْإِيمَانُ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ لِصُلَحَاءِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قِصَّةِ بَرْصِيصٍ.
(وَالْخُلُودُ الدَّائِمُ) الْأَظْهَرُ أَنَّ الْخُلُودَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِي وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الدَّوَامِ كَأَنْ يُقَالَ دَوَامٌ دَائِمٌ فَيَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مَا يُقَالُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لَهُ وَلَا يَبْعُدُ مَا يُقَالُ الْخُلُودُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ بَلْ عِنْدَ هُمْ بِمَعْنَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ دَوَامًا أَوَّلًا (فِي النِّيرَانِ) .
وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَلُومُ وَيَتَبَرَّأُ مِنْ الْإِنْسَانِ فِي النِّيرَانِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ يُوضَعُ لَهُ مِنْبَرٌ فِي النَّارِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ لَائِمِينَ وَمُقَرِّعِينَ إيَّاهُ بِأَنَّ مَا مَسَّنَا مِنْ الْعَذَابِ لَيْسَ إلَّا مِنْك فَيَقُولُ لَسْت أَنَا بِجَابِرٍ وَلَيْسَ لِي وِلَايَةٌ عَلَيْكُمْ أَمَا تُلِيَتْ عَلَيْكُمْ الْآيَاتُ الْقَطْعِيَّةُ أَلَمِ تُنْذَرُوا بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَلَيْسَ حَالِي إلَّا الدُّعَاءَ وَالْوَسْوَسَةَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَلْتَفِتُوا إلَى دَعْوَتِي وَحِيَلِي جَنْبَ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَلَا تَلُومُوا إلَّا أَنْفُسَكُمْ بِإِجَابَتِي بِلَا حُجَّةٍ {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] يَعْنِي أَنَا بَرِيءٌ مِنْكُمْ وَمِمَّا اعْتَقَدْتُمْ.
(ثُمَّ الْفِسْقُ) يَعْنِي إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَلْبِ الْإِيمَانِ فَيَرْضَى وَيَتَنَزَّلُ إلَى الْفِسْقِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ بَقَاءِ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ أَوْ بِإِصْرَارِ الصَّغِيرَةِ وَلِلْفِسْقِ طَبَقَاتٌ ثَلَاثٌ التَّغَابِي بِارْتِكَابِهَا أَحْيَانًا مُسْتَقْبِحًا لَهَا وَالِانْهِمَاكُ فِي تَعَاطِيهَا وَالْمُثَابَرَةُ عَلَيْهَا مَعَ جُحُودِ قُبْحِهَا وَالثَّالِثُ مِنْ الْكُفْرِ فَالْمُرَادُ الْأَوَّلَانِ (الظَّاهِرُ)
لِأَنَّ أَصْلَ الْفِسْقِ مَعْصِيَةٌ وَمُجَاهَرَتُهُ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى لِتَضَمُّنِهَا عَدَمَ الْمُبَالَاةِ وَاتِّبَاعَ الْغَيْرِ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ أَيْ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي لَا يُعَافُونَ (وَالظُّلْمُ) سَوَاءٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (الْقَاهِرُ) الْغَالِبُ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ (وَأَدْنَاهَا) أَيْ أَدْنَى بُغْيَةِ الشَّيْطَانِ (التَّثْبِيطُ) الْمَنْعُ وَالتَّعْوِيقُ (فِي) فِعْلِ (الْخَيْرَاتِ) وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّأْخِيرِ فَكُلُّ طَاعَةٍ يَظْهَرُ فِيهَا دَوَاعِي الْكَسْلَانِ وَخِلَافُ النَّشَاطِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ (وَالْحَطُّ) أَيْ التَّسَفُّلُ وَالرِّضَا بِالدُّونِ (فِي الْمَرَاتِبِ) الْعَلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ (وَالدَّرَجَاتِ) الْعِلْمِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ إلَى أَنْ يَنْزِلَ إلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَفِعْلِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ بِتَحْسِينِ الرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَثْقِيلِ عَزَائِمِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَلِيَّةِ.
(وَلَا يَرْضَى بِهِ) أَيْ الْأَدْنَى (إلَّا عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ غَيْرِهِ) مِنْ السَّلْبِ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا مُضِرًّا وَخَصْمًا خَفِيًّا وَقَصْدُهُ أَمْرًا عَظِيمًا وَمُصِيبَةً كَبِيرَةً وَلَزِمَ التَّحَرُّزُ وَالتَّحَفُّظُ وَكَأَنَّ النَّفْسَ مُطَاعَةٌ وَمَجْبُولَةٌ عَلَى هَوَاهُ وَمُقِرَّةٌ فِي دَعْوَاهُ وَلَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ مِحَنِهِ وَحِيَلِهِ إلَّا بِالتَّحَصُّنِ وَالِالْتِجَاءِ إلَى اللَّهِ.
قَالَ الْمُصَنِّف (نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) أَيْ نَلْتَجِئُ وَقِيلَ أَسْتَغِيثُ وَقِيلَ أَسْتَعْصِمُ وَقِيلَ أَسْتَهْرُبُ وَفِي الْحَقِيقَةِ دَعَا أَنْ يُعَاوِنَهُ أَيْ أَعِذْنِي مِنْ قَبِيلِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَيْ أَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْإِخْبَارِيِّ مَوْضِعَ الْإِنْشَائِيِّ لَعَلَّ وَجْهَهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ صُورَةِ الْأَمْرِ تَأَدُّبًا ثُمَّ فِي التَّعَوُّذِ إظْهَارُ عَجْزِ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ وَإِثْبَاتُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَافْتِقَارِهِ إلَيْهِ تَعَالَى بَلْ فِيهِ حَصْرُ الِافْتِقَارِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَالْفِرَارُ إلَى اللَّهِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ حَبِيبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97]{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 98 - 200] وَ - {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]- الْآيَاتِ (ثُمَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ) .
الظَّاهِرُ الْإِضَافَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ جَمِيعِ شَرِّهِ اعْتِقَادِيًّا أَوْ أَخْلَاقِيًّا أَوْ أَعْمَالِيًّا عَظِيمًا كَالْكُفْرِ صَغِيرًا كَتَرْكِ الْأَوْلَى وَفِعْلِ مَا لَا بَأْسَ فِيهِ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ أَوْ فِي أَوْصَافِهِ فَإِنْ قِيلَ كَثِيرًا مَا نَتَعَوَّذُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْخَلَاصِ مِنْ شَرِّهِ قُلْنَا إنْ لَمْ يَصْدُرْ التَّعَوُّذُ بِشَرْطِهِ كَحُضُورٍ تَامٍّ وَخَشْيَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَتَعَوَّذْ لِعِظَمِ شَرِّهِ أَوْ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ النَّفْسِ لَا مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ قَبُولِ التَّعَوُّذِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتٍ آخَرَ أَوْ عَمَلٍ آخَرَ.
وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ شَرْطُهُ سَدُّ سِلَاحِ الشَّيْطَانِ وَمَدَاخِلِهِ فِي الْمَلَكَاتِ الرَّدِيئَةِ وَمُحَافَظَةِ التَّقْوَى وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ اللِّسَانِ رُبَّمَا يَكُونُ آلَةُ الشَّيْطَانِ لِاغْتِرَارِ الذَّاكِرِ بِهِ وَيَذْهَلُ فَيَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ لَكِنْ لَا يَخْلُو فِعْلُهُ عَنْ حِكْمَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ شَرٌّ مَحْضٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِهِ وَتَسْلِيطِهِ عَلَى النَّاسِ قُلْنَا لَا اطِّلَاعَ لَنَا فِي حِكْمَةِ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ تَعَالَى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ تَكْثِيرَ ثَوَابِ الْمُخَالِفِينَ إيَّاهُ لِإِتْعَابِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَهُ إذْ خَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ وَصَلَ مَنْزِلَةَ قَتْلِ نَفْسِهِ الْأَمَارَةِ فَأَرَادَ قَتْلَهَا فَنُودِيَ إلَيْهِ بِأَنَّ وُصُولَك الْمَنَازِلَ وَقَطْعَك الرُّتَبَ الْعَالِيَةَ إنَّمَا هُوَ بِمُجَاهَدَتِهَا وَلِهَذَا لَا ثَوَابَ فِي عِبَادَةِ الْمَلَائِكِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ تَلَذُّذِيٌّ.
وَقِيلَ الْحِكْمَةُ اخْتِبَارُ أَوْلِيَائِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ إذْ مَنْ يَتْبَعْ عَدُوَّهُ يَعْنِي الشَّيْطَانَ لَيْسَ بِوَلِيِّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ بَعْضِ مَا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الشِّفَاءِ لِابْنِ قُبْرُسَ عَنْ شَرْحِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَأَيْضًا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ مُحَمَّدٍ الشِّهْرِسْتَانِيّ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ إبْلِيسُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ مَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْكَافِرِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلَّا الْإِثْمُ وَمَا فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ عَوْدِ الْفَائِدَةِ إلَيْهِ تَعَالَى وَمَا يَعُودُ إلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الثَّوَابِ فَقَادِرٌ عَلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةِ تَكْلِيفٍ وَمَا وَجْهُ تَكْلِيفِهِ إلَيَّ بِسُجُودِ آدَمَ مَعَ تَكْلِيفِهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَا فَائِدَتُهُ مِنْ لَعْنِهِ إيَّايَ بِتَرْكِ السُّجُودِ وَلِي فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَمَا وَجْهُ تَمْكِينِهِ إلَيَّ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَوَسْوَسَةِ آدَمَ وَلِمَ سَلَّطَنِي عَلَى بَنِي آدَمَ وَلِمَ أَمْهَلَنِي فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ حِينَ اسْتَمْهَلْته وَلَوْ أَهْلَكَنِي لَخَلَا الْعَالِمُ عَنْ الشُّرُورِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى
مِنْ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَا إبْلِيسُ مَا عَرَفْتَنِي لَوْ عَرَفْت لَعَلِمْت أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِي فَإِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَفِي رِوَايَةِ الشِّهْرِسْتَانِيّ قَالَ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ قُولُوا لَهُ كُلُّ مَا قُلْت مِنْ عَدَمِ تَسْلِيمِك إيَّايَ وَالْحُكْمِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيَّ كُفْرٌ.
وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ لَا جَوَابَ غَيْرُ مَا أَجَابَهُ تَعَالَى وَأَقُولُ إنَّمَا أَجَابَ تَعَالَى بِكَذَا لِعِلْمِهِ عَجْزَ إدْرَاكِ فَهْمِ اللَّعِينِ عَنْ تَحْقِيقِ أَجْوِبَةِ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ فَمِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَيْفَ وَالْحِكْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّهَا أَلْبَتَّةَ قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ بَعْضُهَا مِمَّا يَظْهَرُ عَلَيْنَا وَبَعْضُهَا مِمَّا يَخْفَى لَا عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الْمُؤَيَّدِينَ بِنُورٍ مِنْ اللَّهِ وَرَوْحٍ مِنْهُ.
وَقَالَ الْبَعْضُ هَذِهِ الشُّبَهُ غَيْرُ بَالِغٍ فِي الْخَفَاءِ وَمَلَالَةُ التَّطْوِيلِ مَانِعٌ مِنْ الذِّكْرِ وَأَقُولُ وَبِاَللَّهِ الْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حِكْمَةُ خَلْقِ الْكَافِرِ هُوَ الْعِبَادَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]- وَعَدَمُ إرَادَةِ عِبَادَتِهِمْ لِعَدَمِ شَرْطِ خَلْقِ عِبَادَتِهِمْ مِنْ صَرْفِ الْقُدْرَةِ إلَى الطَّاعَةِ كَمَا مَرَّ وَالْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وَهَذَا الصَّرْفُ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ، وَتَمَامُهُ سَيُفْهَمُ مِمَّا سَيُذْكَرُ وَفَائِدَةُ التَّكْلِيفِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْإِنْسَانَ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ لَزِمَ الشُّكْرُ وَالْإِنْسَانُ قَاصِرٌ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ فَمِنْ كَمَالِ رَأْفَتِهِ بَيَّنَ طُرُقَ الشُّكْرِ بِالتَّكْلِيفَاتِ ثُمَّ إنَّ الْإِنْسَانَ فِيهَا مُطِيعٌ وَعَاصٍ فَلَوْ أَثَابَ الْكُلَّ لَزِمَ عَدَمُ تَفْرِيقِ مَنْ عَبَدَهُ عَمَّنْ يَعْبُدُ عَدُوَّهُ أَيْ الشَّيْطَانَ وَلَوْ عَاقَبَ الْكُلَّ لَزِمَ صُورَةُ ظُلْمٍ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يَتَجَلَّى لَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْقَهْرِ وَاللُّطْفِ ذَكَرَهُ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ حَدِيثِ لَوْ أَنَّ الْعِبَادَ لَمْ يُذْنِبُوا لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
فَفَائِدَةُ التَّكْلِيفِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَبْدِ بِالْإِثَابَةِ وَإِلَى اللَّهِ لَا بِالِاسْتِكْمَالِ وَنَحْوِهِ بَلْ بِإِظْهَارِ صِفَاتِهِ مِنْ نَحْوِ الْكَرَمِ وَالْعَفْوِ وَالْقَهْرِ وَوَجْهُ تَكْلِيفِ اللَّعِينِ إلَى السَّجْدَةِ مَعَ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ هُوَ تَعْظِيمٌ لِآدَمَ عليه السلام لِإِنْبَائِهِمْ الْأَسْمَاءَ وَتَعْلِيمِهِمْ الْعُلُومَ وَاعْتِرَافَ فَضْلِهِ وَأَدَاءٍ لِحَقِّهِ وَاعْتِذَارٍ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَجْعَلُ فِيهَا الْآيَةَ وَفَائِدَةُ اللَّعْنِ عُرِفَتْ مِمَّا سَبَقَ مِنْ جَزَاءِ عِصْيَانِهِ وَعُقُوبَةِ اعْتِرَاضِهِ وَحُكْمِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَضَمَّنَ حِكَمًا أُخْرَى كَعَدَمِ اغْتِرَارِ الْعَابِدِينَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ بَلْ اللَّائِقُ عَدَمُ الْأَمْنِ وَكَالِاعْتِبَارِ عَنْ حَالِ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِ الْعِصْيَانِ وَالِانْزِجَارِ عَنْ الطُّغْيَانِ وَكَإِعْلَامِ ضَرَرِ الْكِبْرِ وَالْبُغْيَانِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَفَائِدَةُ التَّمْكِينِ تَعْظِيمُ أَجْرِ الْعَامِلِينَ بِمَشَاقِّ الْجِهَادِ الْأَعْظَمِ وَاخْتِبَارِ وَلِيِّهِ تَعَالَى وَعَدُوِّهِ وَإِظْهَارِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ مَنْ عَبَدَهُ تَعَالَى فَهُوَ وَلِيُّهُ وَمَنْ عَبَدَ عَدُوَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَدُوُّهُ وَإِظْهَارِ مَظْهَرِيَّةِ عَفَوْهُ وَغُفْرَانِهِ وَإِظْهَارِ شَرَفِ آدَمَ عليه السلام بِاسْتِغْفَارِهِ وَرُجُوعِهِ إلَيْهِ تَعَالَى فِي فَوْرِهِ خِلَافَ الشَّيْطَانِ وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَسْلِيطِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ عَلَى أَنَّ فِيهِ تَكْذِيبَ دَعْوَى الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ - {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]- بِمُخَالَفَةِ الصِّدِّيقِينَ وَالْمُخْلَصِينَ.
وَأَيْضًا ظَهَرَ وَجْهُ إمْهَالِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةِ بِاسْتِمْهَالِهِ مِمَّا سَبَقَ وَبِهِ يَتَخَرَّجُ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ مَا الْحِكْمَةُ فِي مَوْتِ النَّبِيِّ وَبَقَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّ فِي مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقَدُّمُهُ لِلشَّفَاعَةِ عِنْدَ عَرْضِ أَعْمَالِ أُمَّتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ» قِيلَ وَمِنْ فَوَائِدِهِ فَتْحُ بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْإِثَابَةِ بِحُزْنِ مَوْتِهِ وَتَسْهِيلِ كُلِّ مُصِيبَةٍ بِمُصِيبَتِهِ وَحُصُولِ الرَّحْمَةِ مِنْ اخْتِلَافِ أُمَّتِهِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِلَائِقَةٍ لِلْقَرَارِ بَلْ لِلْفِرَارِ وَلَيْسَتْ بِدَارِ السُّعَدَاءِ بَلْ الْأَشْقِيَاءِ وَأَنَّ الرَّاحَةَ فِي الْعُقْبَى أَعْلَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ الدُّنْيَا إنَّمَا تَلِيقُ بِأَهْلِهَا دُونَ أَهْلِهِ تَعَالَى.
(وَالْمُؤْمِنُ) الظَّاهِرُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ مُتَنَسِّكًا جَاهِلًا أَوْ غَافِلًا عَالِمًا لَكِنْ يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْجَاهِلِ الْعَامِّيِّ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ (الطَّالِبُ لِلْحَقِّ وَالْبَاقِيَةِ) الظَّاهِرُ الْحَقُّ هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْبَاقِيَةُ الْآخِرَةُ وَيُمْكِنُ الْحَقُّ مُتَابَعَتُهُ الرَّسُولَ وَالْبَاقِيَةُ عَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ وَبُغْيَتَاهُ وَقِيلَ الْحَقُّ مَعْرِفَتُهُ تَعَالَى وَالْبَاقِيَةُ دَارُ الْآخِرَةِ (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ) الْبُغْيَةُ.
(الْأُولَى) مِنْ السَّلْبِ وَالْخُلُودِ وَالظُّلْمِ (وَلَا) الْبُغْيَةُ.
(الثَّانِيَةُ) مِنْ نَحْوِ التَّثْبِيطِ وَالْحَطِّ فَإِذَا لَمْ يَخْفَيَا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيهِمَا لِأَحَدٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِمَا فَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّف إلَى مَا فِيهِ اشْتِبَاهٌ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَتِمُّ هَذَا وَقَدْ كَانَ فِيهِمَا أُمُورٌ مُفَصَّلَةٌ
وَمَسَائِلُ خَفِيَّةٌ تَشْتَبِهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ.
قُلْنَا الْمُرَادُ أَصْلُهُمَا أَوْ جِنْسُهُمَا أَوْ إضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا سَيُذْكَرُ وَكَانَ الرَّاجِحُ عَدَمَ الْخَفَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَمَّا مَا سَيَذْكُرُهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبٍ مَا بَلْ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الْكِتَابِ فَكَأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ فَقَطْ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُهُ هُنَا وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْأُولَى الْحَقُّ أَيْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَالثَّانِيَةِ الْبَاقِيَةُ يَعْنِي الدَّارَ الْآخِرَةَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الشُّرُورِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَا يَصِحُّ تَفْرِيعٌ فَيُفَرِّطُونَ إلَخْ وَلَوْ أَوَّلَ ذَلِكَ فَلَا يَحْسُنُ قَوْلُهُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ إلَخْ فَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَ فِي أَصْلِ الْمَرَامِ.
(وَإِنَّمَا الِاشْتِبَاهُ) هُوَ دُخُولُ الشَّيْءِ فِي شُبْهَةٍ بِعَدَمِ تَمَيُّزِهِ مِنْ أَشْبَاهِهِ.
(وَ) كَذَا (الِالْتِبَاسُ) فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا لَبِسَ هَيْئَةَ الْآخَرِ اشْتَبَهَ بِهِ (وَنُفُوذُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُضِيُّ وَبِالْمُهْمَلَةِ التَّمَامُ وَالْفَرَاغُ (وَسْوَاسٌ) اسْمُ مَصْدَرٍ وَالْمَصْدَرُ بِالْكَسْرِ وَالْوَسْوَسَةُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ وَقِيلَ الْحَرَكَةُ وَالْوَسْوَاسُ اسْمُ الشَّيْطَانِ وَالصَّوْتُ الْجَلِيُّ وَحَدِيثُ النَّفْسِ (الْخَنَّاسُ) الَّذِي يَخْنَسُ أَيْ يَتَأَخَّرُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ أَيْ الْمُخْتَفِي عَنْ الْأَعْيُنِ وَقِيلَ يَخْنَسُ مَرَّةً وَيُوَسْوِسُ أُخْرَى وَقِيلَ أَيْ الرَّجَّاعُ وَعَنْ قَتَادَةَ رضي الله عنه لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْكَلْبِ وَقِيلَ كَخُرْطُومِ الْخِنْزِيرِ يَضَعُهُ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ وَيُقَالُ رَأْسُهُ كَرَأْسِ الْحَيَّةِ فِي ثَمَرَةِ الْقَلْبِ يَمِينُهُ وَيُحَدِّثُهُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ (فِي الْجَاهِلِينَ) أَيْ نُفُوذُ الشَّيْطَانِ فِي الَّذِينَ جَهِلُوا عِلْمَ الْحَالِ وَالْأَعْمَالِ (الْمُتَنَسَّكِينَ) أَيْ الْمُتَكَلِّفِينَ فِي الْعِبَادَةِ بِغَايَتِهَا وَالْمُرَادُ الْعِبَادَةُ مَعَ الْجَهْلِ (وَالْعَالَمِينَ الْغَافِلِينَ) عَنْ مُمَاشَاةِ مُقْتَضَى عُلُومِهِمْ بِانْهِمَاكِ الشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالِاغْتِرَارِ بِزَخَارِف الْأَمَانِيِّ الدُّنْيَوِيَّةِ فَتَحْصِيلُهُمْ الْعُلُومَ لِمُجَرَّدِ رُسُومٍ عَادِيَةٍ لِلتَّوَصُّلِ لِأَمْرٍ دُنْيَاوِيٍّ فَيَكُونُ أَصْحَابُهَا مِصْدَاقًا لِحَدِيثِ «إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ» .
لِأَنَّ فَسَادَهُمْ سَارَ إلَى الْجُهَلَاءِ فِي التتارخانية عَنْ عَمْرٍو رضي الله عنه إذَا زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ الْعَالَمُ (فِيمَا عَدَاهُمَا) خَيْرٌ لِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا الِاشْتِبَاهُ أَيْ فِيمَا عَدَا الْبُغْيَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ (مِنْ الشُّرُورِ) يَعْنِي فِي الشَّرِّ نَوْعٌ غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ وَهُوَ الْبُغْيَتَانِ وَنَوْعٌ آخَرُ غَيْرُ خَافٍ أَيْضًا عَلَى الْعَالِمِ الْمُسْتَيْقِظِ وَخَافَ عَلَى الْعَالِمِ الْغَافِلِ وَالْجَاهِلِ الْمُتَنَسِّكِ وَهُوَ غَيْرُهُمَا مِمَّا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً لِتَجَانُسِهِ مَعَ الْعِبَادَةِ وَلَوْ بِحَسَبِ الصُّورَةِ فَيَظُنُّهُ الْعِبَادَةَ عِبَادَةً فَيُفَرِّطُ وَالْعَالِمُ فَيُفَرِّطُ فَيَتَشَابَهُ كُلٌّ لِلْعِبَادَةِ يَذْهَلَانِ فَيَدْخُلُهُمَا الشَّيْطَانُ (فَدَلَّاهُمَا) مِنْ التَّدْلِيَةِ بِمَعْنَى الْإِرْسَالِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِطْمَاعُ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ وَالْخُدْعَةُ (بِغُرُورٍ) بِاغْتِرَارِ كَوْنِهِ عِبَادَةً كَانَ الشَّيْطَانُ يُظْهِرُ النُّصْحَ وَيُنْسِي الضُّرَّ مَعَ إبْطَانِ الْغِشِّ فَكَأَنَّهُ حَطَّهُمَا مِنْ مَنْزِلٍ عَالٍ إلَى مَحِلٍّ سَافِلٍ (فَيُفَرِّطُونَ) مِنْ الْإِفْرَاطِ بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ عَنْ الْحَدِّ بِالْجَهْلِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ فَيُكْثِرُونَ (أَوْ يُفْرِطُونَ) مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَعْنَى التَّهَاوُنِ وَالتَّضْيِيعِ إمَّا بِالْغَفْلَةِ بِسَبَبِ تَعَمُّقِ الدُّنْيَا وَإِنْ عَلِمُوا قُبْحَهَا وَإِمَّا بِاعْتِقَادِ كِفَايَةِ الْعِلْمِ الْمُجَرَّدِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ لُزُومِ الْعَمَلِ فَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي
فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الشَّيْطَانُ فِي الْبُغْيَتَيْنِ قُلْت وَإِنْ دَخَلَ فِيهِمَا لَكِنَّ الْإِنْسَانَ عَارٍ بِدُخُولِهِ فَيُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ.
وَأَمَّا فِي هَذِهِ الشُّرُورِ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ بَلْ يُظَنُّ أَنَّهَا مِنْ الرَّحْمَنِ لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ الْغَافِلِ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ احْتِيَاجِ مُطْلَقِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ الْمُتَيَقِّظِ إلَى هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ قُلْنَا نَعَمْ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ لِكَوْنِهِ مَاشِيًا عَلَى مُوجَبِ عِلْمِهِ يَجُوزُ عَدَمُ احْتِيَاجِهِ فِي أَصْلِهِ بَلْ لِتَقْوِيَتِهِ
وَتَثْبِيتِهِ وَأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ مَا ذَكَرَهُ وَغَيْرُهُمَا كَالتَّبَعِ وَالْجَاهِلُ الْمُطْلَقُ دَاخِلٌ فِي الْبُغْيَتَيْنِ وَلَا نُفُوذَ لِلشَّيْطَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَيْضًا.
لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِ فِي الْبُغْيَتَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ سِوَاهُمَا حَظٌّ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُمَا فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ نَوْعُ تَدَافُعٍ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْحَصْرَ فِي الْبُغْيَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ غَرَضِ الشَّيْطَانِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى تَأْبِيرِ فِعْلِهِ وَيُرَدُّ أَيْضًا أَنَّهُ اعْتَبَرَ دُخُولَ الْعَالِمِ الْغَافِلِ وَالْمُتَنَسِّكِ فِي الْمُؤْمِنِ الطَّالِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ طَلَبَ الْحَقِّ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ وَإِلَى التَّيَقُّظِ فِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنِ الطَّلَبُ إلَخْ مَا مِنْ شَأْنِهِ كَذَلِكَ أَوْ يُرَادُ الْإِجْمَالُ وَفِي الْجُمْلَةِ وَبِالْجُمْلَةِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَخْلُو عَنْ إغْلَاقٍ هُنَا {وَهُمْ يَحْسَبُونَ} [الكهف: 104] أَيْ الْمُتَنَسَّكُونَ وَالْغَافِلُونَ يَظُنُّونَ {أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] أَيْ يَعْتَقِدُونَ حُسْنَهُ فِيمَا عَمِلُوا مِنْ إفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ يَشْكُلُ أَنَّ هَذَا وَإِنْ تَمَّ فِي حَقِّ الْجَاهِلِ الْمُتَنَسِّكِ لَكِنْ لَا يَتِمُّ فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَإِنْ غَفَلَ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ عَدَمَ حُسْنِهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا وَالْحَاصِلُ فَإِمَّا لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ اعْتِقَادُ حُسْنِهِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ حَسَنًا قُلْت لَعَلَّهُمْ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَخْتَارُونَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَرْجُوحَةَ أَوْ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ اعْتِقَادُ حَقِّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ يُظْهِرُونَ الْحَقِّيَّةَ خِلَافَ مَا اعْتَقَدُوا ثُمَّ أَوْرَدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ هَذَا سُوءُ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَدُفِعَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْخُصُوصِ وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ فَجَائِزٌ أَقُولُ سُوءُ الظَّنِّ الْمُحَرَّمِ إمَّا بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ أَوْ الشَّكِّ.
وَأَمَّا الْمُجَاهِرُونَ وَكَذَا الَّذِينَ دَلَّ عَلَى سُوءِ حَالِهِمْ الدَّلِيلُ وَلَوْ ظَنًّا غَالِبًا فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]- وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنْ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
(فَأَرَدْت) الظَّاهِرُ تَعْقِيبُ الْفَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَضْمُونِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ لَكِنْ بِمُلَاحَظَةِ مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْوُصُولُ إلَى النِّعَمِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَقْصُورًا عَلَى مُتَابَعَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُتَابَعَةُ مُحْتَاجَةٌ إلَى دَفْعِ حِيلَ الشَّيْطَانِ وَدَفْعُهَا فِي الْبُغْيَتَيْنِ هَيِّنٌ لِعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ وَكَانَ صَعْبًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَنَسِّكَ وَالْغَافِلُ لِلِاشْتِبَاهِ وَكَانَ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِمَا وَإِلَى غَيْرِهِمَا لِكَوْنِ صُورَةِ حَالِهِمَا عَلَى الطَّاعَةِ فَأَرَدْت (أَنْ أُصَنِّفَ) مِنْ التَّصْنِيفِ بِمَعْنَى إظْهَارِ صِنْفٍ مِنْ الْعُلُومِ يَجْمَعُ الْمَسَائِلَ قِيلَ هُوَ وَالتَّأْلِيفُ مُتَرَادِفَانِ وَقِيلَ التَّأْلِيفُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ إيقَاعُ أُلْفَةٍ بَيْنَ الْمَسَائِلِ وَلَوْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَالتَّصْنِيفُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الصُّنُوفِ أَيْ الْأَنْوَاعِ وَقِيلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيَّة إنَّ التَّصْنِيفَ مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَيَّدَ بِحَدِيثِ أَقُولُ إنْ كَانَ التَّصْنِيفُ بِمَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَلَهُ وَجْهٌ وَإِنْ مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحَدِيثِ لَا تَقْرِيبَ مِنْ دَلَالَتِهِ (الطَّرِيقَةُ) الظَّاهِرُ طَرِيقَةُ الْمُتَابَعَةِ الْمَذْكُورَةِ (الْمُحَمَّدِيَّةِ) الْمَنْسُوبَةِ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ الْوُصُولُ إلَى اعْتِقَادِهِ وَأَقْوَالِهِ مَثَلًا فَإِنْ قُلْت الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ عَدَمُ اخْتِصَاصٍ بِأَمْرٍ وَمِنْ تَعَلُّقِ لَفْظِ الْفَاءِ اخْتِصَاصُهُ بِالِاقْتِصَادِ أَيْ مَا بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الطَّرِيقَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالِاقْتِصَادِ لَكِنْ يُرَدُّ أَنَّ الِاقْتِصَادَ إنَّمَا هُوَ بَعْضُ فُصُولٍ مِنْ بَعْضِ أَبْوَابِ هَذَا الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ مَا فِي هَذَا الْفَصْلِ إنَّمَا هُوَ حُكْمُهُ وَمَاهِيَّتُه.
وَأَمَّا مِصْدَاقُ إفْرَادِهِ فَجَمِيعُ مَا فِي الْكِتَابِ وَلَوْ ادِّعَاءً أَوْ إضَافَةً ثُمَّ لَفْظُ مُحَمَّدٍ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي هَلْ هِيَ ثَلَثُمِائَةٍ أَوْ أَلْفٌ أَوْ تِسْعُمِائَةٍ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْعُولٌ مِنْ التَّحْمِيدِ مُبَالَغَةً الْحَمْدُ يُقَالُ فُلَانٌ مَحْمُودٌ إذَا أُثْنِيَ عَلَى جَمِيع خِصَالِهِ وَإِذَا بَلَغَتْ النِّهَايَةَ وَتَكَامَلَتْ يُقَالُ مُحَمَّدٌ فَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ لِبُلُوغِ خِصَالِهِ الْحَمِيدَةِ إلَى غَايَةِ الْكَمَالِ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ إنَّمَا هِيَ مِنْ التَّكْثِيرِ الَّذِي هُوَ بِنَاءُ بَابِهِ لَا مِنْ الصِّيغَةِ (وَأَحْبَبْت أَنْ أُبَيِّنَ) أُوَضِّحَ (السِّيرَةَ) مِنْ سَارَ بِسَيْرٍ بِمَعْنَى الطَّرِيقَةِ أَيْضًا لَكِنْ