الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَكْفُرُ) أَيْ إيقَاعَهُ فِي الْخَجْلَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالِاعْتِقَادِيَّاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِاسْتِلْزَامِهِ رِضَا كُفْرِ غَيْرِهِ.
(قَالَ) أَيْ فِي الْخُلَاصَةِ (رَأَيْت فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَعِنْدِي لَا يَكْفُرُ إلَّا أَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ) لَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْكُفْرِ كُفْرًا، وَالْأَوَّلُ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ الْأَوَّلُ فِي ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَهَذَا فِي مَحَلٍّ فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ وَأَمَّا التَّخْجِيلُ فِي غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ (انْتَهَى) أَقُولُ قَرِيبٌ إلَيْهِ مَا فِي التتارخانية (، وَالْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا) عَصْرُ التِّسْعِمِائَةِ (أَنْ يُنَاظِرَ أَحَدًا إذْ قَلَّمَا يُوجَدُ مَنْ يُرِيدُ إظْهَارَ الصَّوَابِ) لَيْسَ هَذَا سُوءُ ظَنٍّ بَلْ بِمُشَاهَدَةٍ وَتَجْرِبَةٍ، وَالْأَصْلُ فِي اجْتِمَاعِ الْمَفْسَدَةِ، وَالْمَصْلَحَةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْمَفْسَدَةِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ وَقَدْ كَانَتْ الْكَثْرَةُ هُنَا فِي جَانِبِ الْمَفْسَدَةِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا رَاجِعٌ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ فَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَنَا. قُلْنَا بَلْ مِنْ قَبِيلِ إلْحَاقِ الْمُفْرَدِ بِالْأَعَمِّ، وَالْأَغْلَبِ وَإِنَّ الْأَصْلَ فِي وَضْعِ الْأَحْكَامِ هُوَ الشُّيُوعُ، وَالْكَثْرَةُ لَا الْقِلَّةُ، وَالنُّدْرَةُ وَعَنْ بَحْرِ الْكَلَامِ الْمُنَاظَرَةُ فِي الدِّينِ جَائِزَةٌ إلَّا لِمُرَاءٍ وَقَاصِدِ طَلَبِ جَاهٍ وَثَنَاءٍ وَإِرَادَةِ دُنْيَا لَكِنْ عِنْدَ عِلْمِهِ بِمَحْمُودِيَّةِ قَصْدِهِ فَجَائِزٌ بَلْ قَدْ يَجِبُ.
[النَّوْعُ الثَّالِثُ الْعُلُومِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا]
(النَّوْعُ الثَّالِثُ)
مِنْ الْعُلُومِ الثَّلَاثَةِ (فِي الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا وَهِيَ مَعْرِفَةُ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَنَوَافِلِهَا) الْمُرَادُ الْجِنْسُ وَإِلَّا فَبَيَانُ جَمِيعِ الْفَضَائِلِ، وَالنَّوَافِلِ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ هُنَا لَا يُمْكِنُ فِي ذَاتِهِ عَادَةً (وَسُنَنِهَا) الظَّاهِرُ فِي مُقَابَلَةِ مُطْلَقِ الْفَضَائِلِ هِيَ الْمُؤَكَّدَةُ وَإِنْ عَمَّمَ وَمِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَنْدُوبِ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ بِمَعْنَى الْمُسْتَحَبِّ بَلْ الْعَامِّ إلَى السُّنَّةِ وَلَوْ عُمُومَ مَجَازٍ إذْ قَوْلُهُ: سُنَنُهَا عَطْفٌ عَلَى فَضَائِلِ أَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِي بَيَانِ الْعُلُومِ الْمَنْدُوبَةِ لَكِنَّ الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ (وَمَكْرُوهَاتِهَا) بَاقٍ إذْ عِنْوَانُ هَذَا النَّوْعِ لِلْمَنْدُوبَةِ، وَالْمَكْرُوهَاتُ لَيْسَتْ بِمَنْدُوبَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَفُرُوضِ الْكِفَايَةِ) فَيَجُوزُ بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ إذْ مُطْلَقُ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى فِي مَعْنَى النَّدْبِ شَامِلٌ لِلْكُلِّ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ (فِيمَا وَجَدَ الْقَائِمُ بِهَا) أَيْ عِنْدَ إتْيَانِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ قِيلَ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى فُرُوضًا بَعْدُ وَلَا يُثَابُ فَاعِلُهَا ثَوَابَ الْفَرْضِ بَعْدَ إتْيَانِ مَنْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِإِتْيَانِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ نَفْلًا فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ (وَالتَّعَمُّقِ) فِيهَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَضَائِلُ الْأَعْمَالِ (وَالتَّوَغُّلِ) أَيْ الْإِكْثَارُ (فِي أَدِلَّةِ فُرُوضِ الْعَيْنِ، وَالْكِفَايَةِ وَوُجُوهِهِمَا) .
قَالَ الْمُحَشِّي قِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ بَلْ مُبَاحٌ لِكَوْنِهِ شُغْلًا بِمَا لَا يُهِمُّ لَا يَخْفَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَيْسَتْ كَمَعْرِفَتِهِ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ (وَمِنْهَا) مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَعْنِي الْمَنْدُوبَ (الطِّبُّ قَالَ فِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ) عِلْمِ (الطِّبِّ) عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَمِزَاجٍ وَأَخْلَاطٍ (مِقْدَارَ مَا يَمْتَنِعُ بِهِ عَمَّا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ) مِنْ الْمَأْكَلِ، وَالْمُشْرَبِ، وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَلْبَسِ (انْتَهَى) .
قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ: عِلْمُ الطِّبِّ أَكْثَرُ الْعُلُومِ احْتِيَاجًا إلَى التَّفْصِيلِ إذْ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِشَيْءٍ قَدْ يَكُونُ دَاءً لِآخَرَ فِي مَرَضٍ وَاحِدٍ وَمَا يَكُونُ دَوَاءً لِوَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ قَدْ يَكُونُ دَاءً فِي أُخْرَى وَيَخْتَلِفُ الدَّوَاءُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ، وَالْفُصُولِ، وَالْغِذَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْأَمْكِنَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَا يَجِبُ) الطِّبُّ أَقُولُ فِي التتارخانية إنَّ عِلْمَ الطِّبِّ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ فِي الْبَلَدِ بِذَلِكَ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَأَمَّا تَعَمُّقُهُ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ انْتَهَى وَمِثْلُهُ نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ
لَكِنْ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيُّ بِالنَّدْبِ أَيْضًا لَعَلَّ اخْتِيَارَ الْمُصَنِّفِ جَانِبَ عَدَمِ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ التَّدَاوِي لَا يَجِبُ) . وَأَشَارَ إلَى دَلِيلِهِ بِقَوْلِهِ (قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ) : لِئَلَّا يَلْزَمَ اسْتِدْلَالُ الْمُقَلِّدِ ابْتِدَاءً فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ الَّذِي هُوَ مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ وَلِئَلَّا يَلْزَمَ الرَّأْيُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بِمِثْلِ مَا فِي التتارخانية (رَجُلٌ اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ) أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِ غَائِطِهِ (أَوْ رَمِدَتْ عَيْنَاهُ) مَثَلًا (فَلَمْ يُعَالَجْ) مَعَ إمْكَانِ الْمُعَالَجَةِ (حَتَّى أَضْعَفَهُ) دَاؤُهُ. (وَمَاتَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ) فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ آثِمًا (وَفَرْقٌ) الظَّاهِرُ بِالتَّنْوِينِ (بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا صَامَ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ قَادِرٌ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَكْلَ مِقْدَارُ قُوَّتِهِ فَرْضُ) عَيْنٍ (لِأَنَّ فِيهِ شِبَعًا بِيَقِينٍ) يَعْنِي أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ هَاهُنَا تَابِعَةٌ لِقَطْعِيَّةِ الدَّوَاءِ فَإِنَّ الشِّبَعَ يَقِينٌ (فَإِذَا تَرَكَ الْأَكْلَ كَانَ مُتْلِفًا لِنَفْسِهِ) مَعَ قُدْرَتِهِ (وَلَا كَذَلِكَ الْمُعَالَجَةُ لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِالْمُعَالَجَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ) لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الْحُسْنِ الْعَقْلِيِّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعْلِيلِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَثَرُهُ قَطْعِيًّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ثُمَّ قَوْلُهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَيْ عِلْمًا قَطْعِيًّا لَا مُطْلَقًا إذْ الظَّنُّ مِنْ أَقْسَامِ مُطْلَقِ الْعِلْمِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» إذْ الشَّرْطِيَّةُ لُزُومِيَّةٌ لَا اتِّفَاقِيَّةٌ، وَاللُّزُومُ يَقْتَضِي عَدَمَ الِانْفِكَاكِ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَبْعُدُ حَمْلُ كَلِمَةِ " إذَا " عَلَى الْكُلِّيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثٌ آخَرُ «مَا مِنْ دَاءٍ إلَّا وَلَهُ دَوَاءٌ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلَّا أَنْزَلَ لَهُ الشِّفَاءَ» .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» ، وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا تَخَلُّفُ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ فَمِنْ جَهْلِ الطَّبِيبِ كَمَا أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً» هَذِهِ الْكَلِمَةُ صَادِقَةُ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ مِنْ الصَّادِقِ الْبَشِيرِ عَنْ الْخَالِقِ الْقَدِيرِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ فَالدَّاءُ وَالدَّوَاءُ خَلْقُهُ، وَالشِّفَاءُ، وَالْهَلَاكُ فِعْلُهُ وَرَبْطُ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ حِكْمَتُهُ وَحُكْمُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرٍ لَا مَعْدِلَ عَنْهُ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَدَمُ الْقَطْعِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ بَلْ فِي إصَابَةِ الْحَكِيمِ، وَالطَّبِيبِ كَمَا أُشِيرَ فَالظَّنُّ فِي طَرِيقِ شَيْءٍ قَطْعِيٍّ مَانِعٌ عَنْ الْقَطْعِ كَآحَادِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ مَتْنَ الْحَدِيثِ وَإِنْ قَطْعِيًّا لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ لِظَنٍّ فِي سَنَدِهِ فَتَأَمَّلْ مَا فِيهِ أَيْضًا.
(وَقَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَرْبَعِينَ فَصْلًا (اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُزِيلَةَ لِلضَّرَرِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ، وَالصُّورِيَّ أَوْ الِاعْتِقَادِيَّ وَإِلَّا فَالْمَوْهُومَاتُ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ أَسْبَابًا مُزِيلَةً (تَنْقَسِمُ إلَى مَقْطُوعٍ بِهِ) بِالتَّجْرِبَةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْمُشَاهَدَةِ الْيَقِينِيَّةِ (كَالْمَاءِ الْمُزِيلِ لِضَرَرِ الْعَطَشِ) أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَزُولُ الْعَطَشُ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَالْبِطِّيخِ وَكَذَا قَوْلُهُ.
(وَالْخُبْزُ الْمُزِيلُ لِضَرَرِ الْجُوعِ) فَلَا يَضُرُّ دَفْعُهُ بِشَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تَنْتَقِضَ الْقَطْعِيَّةُ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَكَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَيْسَا مِنْ مَقْصُودِنَا بَلْ إتْيَانُهُمَا لِإِتْمَامِ الْمَنْقُولِ مَعَ تَضَمُّنِهِ فَائِدَةَ تَوْضِيحِ الْقِسْمِ الْمَقْصُودِ وَزِيَادَةِ تَنْبِيهٍ (وَإِلَى مَظْنُونٍ) لِاحْتِمَالِ التَّخَلُّفِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا
(كَالْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ وَشُرْبِ الْمُسْهِلِ وَسَائِرِ أَسْبَابِ الطِّبِّ أَعْنِي مُعَالَجَةَ الْبُرُودَةِ بِالْحَرَارَةِ، وَالْحَرَارَةِ بِالْبُرُودَةِ وَهِيَ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ فِي الطِّبِّ) إذْ جِنْسُ مَا ذُكِرَ مُجَرَّدُ سَبَبٍ ظَاهِرِيٍّ لَا حَقِيقِيٍّ إذْ ذَلِكَ تَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى لَا طَبْعُ مَا ذُكِرَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ (وَإِلَى مَوْهُومٍ) أَيْ جَانِبُ التَّخَلُّفِ رَاجِحٌ، وَجَانِبُ النَّفْعِ مَرْجُوحٌ قَلِيلٌ (كَالْكَيِّ) بِالنَّارِ كَمَا قِيلَ: آخَرُ الطِّبِّ أَوْ الدَّوَاءِ الْكَيُّ أَيْ أَضْعَفُهُ فَغَيْرُهُ مِنْ الْمُعَالَجَاتِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ.
(وَالرُّقْيَةُ) بِالضَّمِّ الْعُوذَةُ، وَالتَّعْوِيذَاتُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونَانِ مِنْ الْمَوْهُومَةِ وَقَدْ صَحَّا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا سِيَّمَا الرُّقْيَةُ فِعْلًا كَمَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اشْتَكَى إنْسَانٌ أَيْ مَرِضَ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» أَوْ قَوْلًا كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «ضَعْ يَدَك عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِك، وَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاَللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» .
وَفِي الْبُخَارِيِّ «اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ» قَالَهُ حِينَ رَأَى جَارِيَةً وَمِثْلَهَا فِي غَايَةِ كَثْرَةٍ. كَمَا فِي الْمَشَارِقِ، وَالْحِصْنِ لَا سِيَّمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَوَامِرِ الْوُجُوبُ وَلَا أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اسْتِحْبَابِ تَرْكِهِمَا. قُلْت الْمُرَادُ بَعْضُهُمَا كَمَا سَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُلُوا} [البقرة: 57] وَقَوْلُهُ {فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] بَلْ لِلْإِذْنِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] لَمَّا ذَكَرَ أَقْسَامَ الْأَسْبَابِ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَهَا فَقَالَ عَلَى طَرِيقِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ.
(أَمَّا الْمَقْطُوعُ بِهِ) وَهُوَ أَوَّلُ الثَّلَاثَةِ (فَلَيْسَ تَرْكُهُ مِنْ التَّوَكُّلِ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (بَلْ تَرْكُهُ حَرَامٌ عِنْدَ خَوْفِ الْمَوْتِ) مِنْ الْعَطَشِ أَوْ الْجُوعِ لِظُهُورِ التَّهْلُكَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا قَطْعِيًّا.
(وَأَمَّا الْمَوْهُومُ) ثَالِثُ الْأَقْسَامِ (فَشَرْطُ التَّوَكُّلِ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (تَرْكُهُ إذْ بِهِ) أَيْ بِتَرْكِ هَذَا الْقِسْمِ الْمَوْهُومِ (وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَوَكِّلِينَ وَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ أُرِيت» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ أَرَانِي اللَّهُ تَعَالَى «الْأُمَمَ» أُمَمَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ «بِالْمَوْسِمِ» فِي مَوْسِمِ مِنًى.
«فَرَأَيْت أُمَّتِي» أُمَّةَ إجَابَةٍ لَا أُمَّةَ دَعْوَةٍ «قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ، وَالْجَبَلَ فَأَعْجَبَنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئَاتُهُمْ فَقِيلَ» مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى «لِي أَرَضِيت؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» أَيْ حِسَابِ الْمُنَاقَشَةِ إمَّا عَلَى مُوجِبِ قُوَّةِ اكْتِسَابِهِمْ الصَّالِحَاتِ وَمُتَارَكَةِ الزَّائِلَاتِ الْفَانِيَاتِ أَوْ بِفَضْلِهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً أَوْ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ «قِيلَ» مِنْ الصَّحَابَةِ «مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ» الْغَرَضُ مِنْ السُّؤَالِ مَعْرِفَةُ سَبَبِ هَذَا الدُّخُولِ حَتَّى يُحَصِّلَهُ بَلْ غَرَضُ هَذَا الْحَاكِي - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ ذَلِكَ.
«قَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ» لَا يَتَدَاوُونَ بِالْكَيِّ «وَلَا يَسْتَرْقُونَ» لَا يَتَدَاوُونَ بِالرُّقْيَةِ «وَلَا يَتَطَيَّرُونَ» لَا يَتَشَاءَمُونَ ضِدُّ التَّفَاؤُلِ «وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» يُقْصِرُونَ
تَوَكُّلَهُمْ وَاعْتِمَادَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ الَّذِي رَبَّاهُمْ بِالْإِيجَادِ وَسَائِرِ الْكَمَالَاتِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُمْ بِيَدِهِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ التَّوَكُّلِ وَقُوَّةِ أَثَرِهِ يَعْنِي إنَّمَا لَمْ يَفْعَلُوا نَحْوَ مَا ذُكِرَ لِكَمَالِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ تَعَالَى فَقَرِيبٌ أَنَّ مِنْ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ حَالَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَالْأَشْيَاءِ قَصْرُ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّهِمْ وَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا بَعْضٌ مِنْ تَنَاوُلَاتِهِ فَيَلْتَزِمُونَ الْإِعْرَاضَ عَنْ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ غَيْرِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ هُوَ الْمَانِعُ الدَّافِعُ، وَالضَّارُّ النَّافِعُ لَا غَيْرُ فَيَقْصُرُونَ نَظَرَهُمْ إلَى طَاعَاتِ اللَّهِ وَمُلَاحَظَةِ جَلَالِهِ وَيَسْتَغْرِقُونَ فِي أَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدُسِ، وَالْمَلَكُوتِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُجَازَاةِ الْعَلِيَّةِ لَا يَتَحَصَّلُ بِسُهُولَةٍ فَإِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ التَّعَبِ عَادَةً نَعَمْ سَاحَةُ الْفَضْلِ، وَالْكَرَمِ لَا نِهَايَةَ لَهَا أَوْ نَقُولُ فِيمَا عُدَّ هُنَا تَذْكِيرًا لِمَا عَدَاهُ فَإِنَّ مَا ذُكِرَ إنَّمَا وَقَعَ تَمْثِيلًا أَوْ اكْتِفَاءً وَدَلَالَةً لَا حَصْرًا نَعَمْ إنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ قَدْ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْأَجْرِ الْجَزِيلِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ هَذَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِوُقُوعِ الْكَيِّ فِي الصَّحَابَةِ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالطِّبِّ كُلِّهِ، وَالرُّقْيَةِ النَّبَوِيَّةِ فَتَأَمَّلْ، وَانْظُرْ.
«فَقَامَ عُكَّاشَةُ» بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ» لَا بُدَّ مِنْ تَفْرِيقِ الدُّعَاءِ مِنْ التَّعَوُّذِ الَّذِي هُوَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بَلْ ظَاهِرُ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ كَالْمُنَافِي لِكَمَالِ التَّوَكُّلِ فَالِاسْتِدْعَاءُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام كَنَفْسِ الدُّعَاءِ مُشْكِلٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَبَيْنَ الْعَادِيَّةِ، وَالْبَدَنِيَّةِ بَعِيدٌ، وَالْجَوَابُ بِأَنَّ مُنَافَاةَ التَّوَكُّلِ عِنْدَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ السَّبَبِ مِنْهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا عِنْدَ الِاعْتِرَافِ فَمِنْ التَّوَكُّلِ وَأَنَّ الْمُنَافَاةَ فِي التَّعَمُّقِ فِي الْأَسْبَابِ لَا فِي الْإِطْلَاقِ لَا تُغْنِي حَقَّ الْغَنَاءِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ دُعَاءِ النَّبِيِّ وَغَيْرِهِ إذْ دُعَاءُ النَّبِيِّ لَا يُرَدُّ فَمِنْ الْقَطْعِيِّ فَتَأَمَّلْ «فَقَالَ اللَّهُمَّ: اجْعَلْهُ مِنْهُمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ اُدْعُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَقَك بِهَا» بِهَذِهِ الْفِعْلَةِ أَوْ الْخَصْلَةِ «عُكَّاشَةُ» كَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْأَحْكَمِ أَيْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إذْ هُوَ تَلَقٍّ بِغَيْرِ مَا يُتَرَقَّبُ وَيُتَطَلَّبُ. قِيلَ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِعَدَمِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِكَوْنِ السَّائِلِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ.
أَقُولُ لَعَلَّ الْأَوْجَهَ عَدَمُ تَحَمُّلِ حَالِ هَذَا السَّائِلِ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْعَوَامّ وَيُؤَيِّدُهُ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ أَوْ؛ لِأَنَّ سُؤَالَهُ بِمُجَرَّدِ قَرِيحَتِهِ، وَالثَّانِي بِمُقَايَسَتِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَاقْتِدَائِهِ وَمُتَابَعَتِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَرَفَ مِنْ الثَّانِي عَدَمَ صِدْقِ رَغْبَتِهِ بَلْ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهِ وَظَاهِرِهِ، وَعَرَفَ مِنْ الْأَوَّلِ صَفَاءَ بَاطِنِهِ، وَسَلَامَةَ صَدْرِهِ كَمَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيِّ مَا وَصَلْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقِيَامِ لَيْلٍ وَلَا صِيَامِ نَهَارٍ وَلَا دِرَاسَةِ عِلْمٍ وَلَكِنْ وَصَلْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَرَمِ، وَالتَّوَاضُعِ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ.
(وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَوَكِّلِينَ بِتَرْكِ الْكَيِّ، وَالرُّقْيَةِ، وَالتَّطَيُّرِ وَأَقْوَاهَا الْكَيُّ) فَإِنَّهُ قَرِيبٌ إلَى مُجَانَسَةِ الطِّبِّ الَّذِي هُوَ مِنْ الظَّنِّيِّ فَهُوَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْوَهْمِيَّةِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِي أَهَمِّيَّةِ التَّرْكِ (ثُمَّ الرُّقْيَةُ) وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَتْ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا وَوَرَدَ بِهَا آثَارٌ (وَالطِّيَرَةُ آخِرُ دَرَجَاتِهَا) وَلِهَذَا كَانَ مَمْنُوعًا فِي الشَّرْعِ (وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا) عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.
(وَالِاتِّكَالُ إلَيْهَا) وَإِنْ اعْتَقَدَ التَّأْثِيرَ الْحَقِيقِيَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (غَايَةُ التَّعَمُّقِ فِي مُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ) الظَّاهِرَةِ الْعَادِيَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْدُوحٍ بَلْ تَرْكُهُ أَوْلَى يُمْكِنُ فَهْمُ هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ تَرْتِيبِ الْحَدِيثِ إمَّا مِنْ لَفْظَةِ الْوَاوِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَنُسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ مَجَازًا عِنْدَنَا أَوْ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ التَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوَاقِعِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ عَلَى سُنِّيَّةِ التَّرْتِيبِ ثُمَّ التَّعَمُّقُ مُنَاقِضٌ لِلتَّوَكُّلِ فَحَاصِلُ الْمَقَامِ التَّشَبُّثُ بِالْأَسْبَابِ الْوَهْمِيَّةِ تَعَمُّقٌ، وَالتَّعَمُّقُ مُنَاقِضٌ لِلتَّوَكُّلِ هَذَا لَكِنْ يَسْبِقُ إلَى الْخَاطِرِ الْفَاتِرِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ السَّبَبِ الْوَهْمِيِّ مَا يَكُونُ سَبَبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَيَكُونُ ضَعِيفًا أَوْ يَكُونُ تَأْثِيرُهُ نَادِرًا فَالطِّيَرَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ
أَهْلُ الْمَعْقُولِ فِي الْمُغَالَطَةِ مِنْ الْكَوَاذِبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالْكَيُّ، وَالرُّقْيَةُ لَيْسَا كَذَلِكَ بَلْ عَدُّ الطِّيَرَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ وَلَوْ اعْتِقَادًا لَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الطِّيَرَةِ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَالْمَذَاهِبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يَقْتَضِي الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ.
(وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَهِيَ الْمَظْنُونَةُ كَالْمُدَاوَاةِ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ) كَالْأَدْوِيَةِ، وَالْمُعَالَجَةِ (فَفِعْلُهُ لَيْسَ مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ بِخِلَافِ الْمَوْهُومِ) لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْأَعَمِّ، وَالْأَغْلَبِ وَإِلَّا فَقَدْ يُوجَدُ الْمَظْنُونُ فِيمَا عُدَّ مِنْ الْوَهْمِيَّاتِ وَقَدْ يُوجَدُ الْمَوْهُومُ فِيمَا عُدَّ مِنْ الْمَظْنُونَاتِ عَلَى مَا تَشْهَدُ بِهِ التَّجْرِبَةُ (وَتَرْكُهُ لَيْسَ مَحْظُورًا) مَمْنُوعًا (بِخِلَافِ الْمَقْطُوعِ بِهِ) فَإِنَّ تَرْكَهُ حَرَامٌ عِنْدَ إفْضَائِهِ إلَى الْمَوْتِ، وَالْمَكْرُوهِ عِنْدَ إضْعَافِهِ (بَلْ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ) أَيْ حَالِ خَوْفِ الِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مِنْ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَحَالِ التَّعَمُّقِ كَمَا سَبَقَ وَيَأْتِي أَيْضًا.
(وَفِي حَقِّ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ) لَعَلَّ صَاحِبَ كَمَالِ التَّوَكُّلِ مِنْ الْخَوَاصِّ قِيلَ لِعَدَمِ إقْبَالِ طَبْعِهِ عَلَيْهِ كَمَا فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قِيلَ لَهُ نَدْعُو لَك طَبِيبًا فَقَالَ قَدْ رَآنِي الطَّبِيبُ كَمَا فِي الْعِمَادِيِّ (فَهُوَ) أَيْ الْمَظْنُونُ (عَلَى دَرَجَةٍ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ) الْفِعْلِ، وَالتَّرْكِ، وَقِيلَ: الْحِلُّ، وَالْحُرْمَةُ (انْتَهَى) كَلَامُ فُصُولِ الْعِمَادِيِّ.
ثُمَّ إنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّبِيبِ عَادِلًا وَفَاسِقًا بَلْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بَعْدَ أَنْ سَبَقَ ظَنُّ الْمَرِيضِ إلَى صِدْقِهِ وَحَذَاقَتِهِ إذْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْكَافِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّورِ قَبْلَ قَوْلِ كَافِرٍ وَلَوْ مَجُوسِيًّا شَرَيْت اللَّحْمَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مِنْ مَجُوسِيٍّ.
وَفِي الْكَنْزِ يُقْبَلُ قَوْلُ الْكَافِرِ فِي الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّ الْحِلَّ، وَالْحُرْمَةَ مِنْ الدِّيَانَاتِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْكَافِرِ فِيهَا وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مَا يَكُونُ فِي ضِمْنِ الْمُعَامَلَاتِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ التَّطْبِيبِ بِالْكَافِرِ فَعَلَى مَنْ يُوجِبُ وَهَنَ اعْتِقَادِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: (أَقُولُ) قَالَ الْمُحَشِّي لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ عِمَادِ الدِّينِ مُشْعِرًا بِوُجُوبِ تَرْكِ الْكَيِّ، وَالرُّقْيَةِ وَأَمْثَالِهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ شَرْطٌ لِلتَّوَكُّلِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ فِي كِتَابِهِ مَعَ أَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ مُبَاحٌ بَيْنَ الْمُصَنِّفِ مُرَادُهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْخَبْطُ، وَالزَّلَّةُ أَقُولُ قَوْلُهُ مَعَ أَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ مُبَاحٌ مُشْكِلٌ بِالطِّيَرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْوَهْمِيَّاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ (مُرَادُهُ) فُصُولُ الْعِمَادِيِّ (بِالتَّوَكُّلِ) عِنْدَ قَوْلِهِ.
وَأَمَّا الْمَوْهُومُ فَشَرْطُ التَّوَكُّلِ تَرْكُهُ إلَى آخِرِهِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ فَفِعْلُهُ لَيْسَ مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ بِخِلَافِ الْمَوْهُومِ مُطَابَقَةً، وَالْتِزَامًا أَوْ مَفْهُومًا (كَمَالُهُ إذْ أَصْلُهُ) أَيْ التَّوَكُّلِ (فَرْضُ) عَيْنٍ (وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا خَالِقَ) فِي الْوُجُودِ (وَلَا مُؤَثِّرَ فِي شَيْءٍ) كَالْأَدْوِيَةِ (إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَالشِّفَاءُ لَيْسَ إلَّا مِنْهُ تَعَالَى وَأَنَّهُ جَرَتْ عَادَتُهُ تَعَالَى عَلَى رَبْطِ الْمُسَبِّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ) بِدُونِ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً عَقْلِيَّةً عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَالنَّارِ لِلْحَرَارَةِ، وَالشِّبَعِ لِلْأَكْلِ.
(فَالتَّشَبُّثُ بِالْأَسْبَابِ) الْعَادِيَّةِ (عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ لَا يُنَاقِضُ هَذَا التَّوَكُّلَ) الْفَرْضُ الَّذِي هُوَ
أَصْلُ التَّوَكُّلِ وَإِنْ مُنَاقِضًا لِكَمَالِهِ فِي حَقِّ الْمُوهِمِ مُطْلَقًا، وَفِي حَقِّ الْمَظْنُونِ حَالَ التَّعَمُّقِ (مَظْنُونَةً أَوْ مَوْهُومَةً) كَالْمَقْطُوعَةِ (وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ هَذَا) أَيْ كَوْنَ التَّأْثِيرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْ الدَّوَاءِ فَالْمَظْنُونُ بَلْ الْمُتَيَقَّنُ مُنَاقِضٌ لِهَذَا التَّوَكُّلِ أَيْضًا) كَالْمَوْهُومِ إذْ الْكُلُّ مُسَاوٍ حِينَئِذٍ بَلْ فِيهِ خَوْفُ كُفْرٍ لِكَوْنِهِ شِرْكًا فِي الْخَالِقِيَّةِ كَالدَّهْرِيَّةِ، وَالطِّبَاعِيَّةِ.
قِيلَ: إنْ اعْتَقَدَ كَوْنَهُ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ فَكُفْرٌ وَإِنْ بِجَعْلِهِ تَعَالَى فِيهِ فَفِسْقٌ إذْ الْمُؤَثِّرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً تَأَمَّلْ (وَأَمَّا كَمَالُ التَّوَكُّلِ فَالِاعْتِمَادُ، وَالِاتِّكَالُ) مِنْ التَّوَكُّلِ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا اسْتِقْصَاءٍ) طَلَبِ الْقُصْوَى، وَالْغَايَةِ (وَلَا تَعَمُّقٍ) تَوَغُّلٍ (فِي مُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ) إلَى أَنْ يَضْعُفَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَذْهَلَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ بَلْ مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُ أَنَّ تَقْسِيمَ فُصُولِ الْعِمَادِيِّ إمَّا لَيْسَ بِحَاصِرٍ أَوْ مُسْتَلْزِمٍ لِتَدَاخُلِ الْأَقْسَامِ كَمَا لَا يَخْفَى.
(فَهَذَا مُسْتَحَبٌّ) لِوُرُودِ جِنْسِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَأْثِيرِ الظَّنِّ فَهَذَا الِاسْتِحْبَابُ أَيْ النَّدْبُ كَالنَّتِيجَةِ لِهَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ مَعَ طُولِهِمَا أَعْنِي كَلَامَ فُصُولِ الْعِمَادِيِّ وَكَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: أَقُولُ (يُنَاقِضُهُ التَّشَبُّثُ) التَّمَسُّكُ (بِالسَّبَبِ الْمَوْهُومِ) فِي الِاسْتِحْبَابِيِّ وَعَدَمِهَا لَا فِي أَصْلِ الْجَوَازِ وَلَا فِي أَصْلِ التَّوَكُّلِ كَمَا عَرَفْت (فَتَرْكُ الْكَيِّ، وَالرَّقْيِ وَأَمْثَالِهِمَا) مِنْ الْمَوْهُومِ (مُسْتَحَبٌّ) لِلْكَمَالِ (وَلَا وَاجِبَ) لِعَدَمِ تَنَافِيهِ لِأَصْلِ التَّوَكُّلِ.
ثُمَّ أَقُول هَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى مُرَادِ الْمُصَنِّفِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا هُوَ الْمُوجِبَةُ الْكُلِّيَّةُ أَيْ كُلُّ الطِّبِّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ سَابِقًا وَمِنْهَا الطِّبُّ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْعِمَادِيَّةِ نَقِيضُهُ ظَاهِرًا وَضِدُّهُ احْتِمَالًا إذْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ هُوَ السَّالِبَةُ الْجُزْئِيَّةُ بَعْضَ الطِّبِّ لَيْسَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالًا بَعْضُ الطِّبِّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَهَذَا ضِدٌّ لِلْمُوجِبَةِ الْكُلِّيَّةِ كَكَوْنِ السَّابِقَةِ الْجُزْئِيَّةِ نَقِيضُهَا فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُصَنِّفِ دَفْعُ هَذَا الْمَحْذُورِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ إلَى نَقْلِ كَلَامِ الْعِمَادِيِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَقُولُ مُرَادُهُ إلَى آخِرِهِ إنَّمَا يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ تَرْكِ الْمَوْهُومِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ لَا اسْتِحْبَابَ فِعْلِ الْمَظْنُونِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ لَعَلَّ أَنَّ تَحْقِيقَهُ أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَ الْعِمَادِيِّ فَفِعْلُهُ لَيْسَ مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ أَيْ التَّوَكُّلِ الْكَامِلِ بَلْ مُجَامِعٌ لَهُ، وَالْمُجَامَعُ لِلتَّوَكُّلِ الْكَامِلِ لَا أَقَلَّ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ وَيَجْعَلُ قَرِينَةَ ذَلِكَ مَظْنُونِيَّةً مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ أَوْ تَصْرِيحِ الْقَوْمِ بِنَدْبِيَّةِ الطِّبِّ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ، وَالْعَوَارِضِ وَأَمَّا عِنْدَ الْعَوَارِضِ فَقَدْ يَكُونُ التَّرْكُ أَفْضَلَ أَيْ النَّدْبُ يَكُونُ فِي جَانِبِ التَّرْكِ فَلَا تَعَارُضَ وَلَا عَدَمَ تَقْرِيبٍ.
(قَالَ فِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ) حَاصِلُهُ إثْبَاتُ جَوَازِ الرَّقْيِ، وَالْكَيِّ، وَالتَّدَاوِي وَإِبَاحَتُهَا لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمَسُّ بِأَصْلِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ نَدْبِيَّةُ الطِّبِّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْإِبَاحَةِ النَّدْبُ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْجَوَازُ جُزْءُ النَّدْبِ فَالْمُرَادُ إثْبَاتُ جُزْءِ الْمَطْلُوبِ لِإِتْمَامِهِ، وَالْكَلَامُ فِي الرَّقْيِ، وَالْكَيِّ لِإِتْمَامِ الْمَنْقُولِ بِلَفْظِهِ مَعَ تَضَمُّنِهَا فَوَائِدَ مُنَاسِبَةٍ لِلْمَقَامِ.
وَقَالَ الْمُحَشِّي جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَارِدٍ عَلَى قَوْلِهِ بِجَوَازِ الرُّقْيَةِ فَهُوَ كَمَا تَرَى اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَطْلُوبِ الْأَوْلَى.
وَأَمَّا التَّطَفُّلِيُّ فَلَا يَحْسُنُ هَذَا التَّطْوِيلُ لِأَجْلِهِ (وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي النَّهْيِ) نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ أَيْ عَنْ التَّدَاوِي، وَالرَّقْيِ أَقُولُ فِي الرَّقْيِ عَلَى الصَّرَاحَةِ، وَالتَّدَاوِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْإِشَارَةِ وَكَذَا الْكَيُّ فَالْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ الِاكْتِفَاءِ (فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ أَلَا يَرَى إلَى مَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نَهَى عَنْ الرَّقْيِ وَكَانَ عِنْدَ آلِ» أَهْلِ «عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رُقْيَةً يَرْقُونَ بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَضُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا إنَّك نَهَيْت عَنْ الرَّقْيِ فَقَالَ مَا أَرَى بِهِ» الْآنَ «بَأْسًا مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ»
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّهْيَ) فِي السَّابِقِ (عَنْ) الرَّقْيِ (الَّذِي يَرَى) يَعْتَقِدُ (الْعَافِيَةَ فِي الدَّوَاءِ) بِتَأْثِيرِهِ (مِنْ نَفْسِهِ) نَفْسِ الدَّوَاءِ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَأَمَّا إذَا عَرَفَ أَنَّ الْعَافِيَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّوَاءُ سَبَبٌ لَا بَأْسَ بِهِ) .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ نُهِيَ عَنْ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمِ، وَالتُّوَلَةِ الرَّقْيُ الْمَنْهِيُّ مَا يُزْعَمُ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِنِّ وَمَا يَرْكَنُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الشَّيَاطِينِ، وَالِاسْتِعَانَةِ مِنْهُمْ، وَالتَّعَوُّذِ مِنْ مَرَدَتِهِمْ. وَأَمَّا الرُّقْيَةُ بِالْقُرْآنِ وَبِالْأَسْمَاءِ فَجَائِزَةٌ قَدْ مَرَّ غَيْرُ مَرَّةٍ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا الرَّقْيُ هُوَ الطِّبُّ الرُّوحَانِيُّ أَنَّ عَلَى لِسَانِ الْأَبْرَارِ حَصَلَ الشِّفَاءُ فَلَمَّا عَزَّ ذَلِكَ فَزِعَ النَّاسُ إلَى الطِّبِّ الْجُسْمَانِيِّ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَالَ الْمُحَشِّي الرَّقْي جَائِزٌ إنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا كَالْإِقْسَامِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَالْأَلْفَاظِ الْغَيْرِ الْمَفْهُومَةِ الْمَعَانِي مِثْلُ: آهَيَّا وشراهيا. أَقُولُ إنْ أَخَذَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ كَالْغَزَالِيِّ وَبَعْضِ ثِقَاتِ الصُّوفِيَّةِ. فَالظَّاهِرُ لَا مَنْعَ حِينَئِذٍ عَلَى حَمْلِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَعْنَاهُ كَمَا قِيلَ مَعْنَى آهيا وشراهيا يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ كَمَا يُقَالُ مَعْنَى جَبْرَائِيلَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ الْأَمْرُ النَّبَوِيُّ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ فَلْيَفْعَلْ فِي جَوَابِ الرَّقْيِ لَا أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ وَقَدْ اُخْتُصَّ بِالطِّبِّ سَابِقًا وَأَيْضًا.
قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَمِنْ السُّنَنِ أَنْ يُسْتَشْفَى بِالذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْقُرْآنِ، وَالْفَاتِحَةِ، وَقَدْ كَثُرَتْ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا الْبَابِ.
فَحَاصِلُ الْإِشْكَالِ إنْ أُرِيدَ مِنْ الرَّقْيِ مَا اُعْتُقِدَ تَأْثِيرُهُ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى أَوْ مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَحَرَامٌ وَإِلَّا فَنَدْبٌ أَوْ سُنَّةٌ وَقَدْ نَفَيْتُمْ ذَلِكَ. وَنُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ الرُّقَى فِي حَدِيثِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ مَا هِيَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَالْمَجْهُولَةِ الْمَعْنَى.
وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الْآيَاتِ وَمَفْهُومَةُ الْمَعَانِي فَسُنَّةٌ وَنَقَلَ الْبَعْضُ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الرَّقْيِ بِهَا. وَعَنْ الْمَازِرِيِّ جَمِيعُ الرُّقَى جَائِزٌ فِيمَا ذُكِرَ. وَأَمَّا رُقَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَوَّزَهَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْمُوَطَّإِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِلْيَهُودِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْقِي عَائِشَةَ ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرِهَهَا مَالِكٌ لِعَدَمِ الْأَمْنِ بَقِيَ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى النَّسْخِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ كَمَا ذُكِرَ فَلَا قَالَ فِي الْإِتْقَانِ إنَّمَا يَرْجِعُ مِنْ النَّسْخِ إلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ عَنْ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ ثُمَّ قَالَ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ عَوَامِّ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ وَلَا اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ
مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ صَحِيحٍ وَلَا مُعَارَضَةِ بَيِّنَةٍ مَعَ عِلْمِ تَارِيخٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُجْتَرَأُ عَلَيْهِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَلَا حُجَّةٍ.
(وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ فِي الْإِبَاحَةِ) أَيْ إبَاحَةِ مُطْلَقِ الدَّوَاءِ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ فِي الْآثَارِ، وَالظَّاهِرُ فِي مَوَاضِعَ وُقُوعُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ الْفِعْلِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ التَّتَبُّعُ وَيَدُلُّ قَوْلُهُ (أَلَا يَرَى) إلَى آخِرِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ أَوْ السُّنَّةِ فَتَأَمَّلْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ» غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِ عليه الصلاة والسلام اُسْتُشْهِدَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ عَمُّ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَرَضِي اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ «دَاوَى» مِنْ الدَّوَاءِ «جُرْحَهُ بِعَظْمٍ قَدْ بَلِيَ» لِيَقْطَعَ دَمَهُ قِيلَ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ دَاوَاهُ بِحَصِيرٍ أَحْرَقَهُ وَكَبَسَ بِهِ مَحَلَّ الْجُرْحِ فَأَمْسَكَ الدَّمُ وَفِعْلُهُ سُنَّةٌ يُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي فِعْلِهِ.
وَاحْتِمَالُ الزَّلَّةِ بَعِيدٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنُبِّهَ وَمَنَعَ عَنْ الرِّوَايَةِ بِلَا نَكِيرٍ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ.
(وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ» الَّذِينَ نَصَرُوا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُهَاجِرِينَ بِالدِّيَارِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْمُحَارَبَةِ مَعَ أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ «رُمِيَ» عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ ( «فِي أَكْحَلِهِ» قِيلَ عَنْ الْقَامُوسِ وَهُوَ عِرْقٌ فِي الْيَدِ أَوْ هُوَ عِرْقُ الْحَيَاةِ وَلَا تَقُلْ عِرْقُ الْأَكْحَلِ «بِمِشْقَصٍ» كَمِنْبَرٍ نَصْلٍ عَرِيضٍ «فَأَمَرَ بِهِ» أَيْ الرَّجُلِ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُوِيَ» بِالنَّارِ فَثَبَتَ أَنَّ الْكَيَّ مَأْمُورٌ بِهِ.
قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «نَهَى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنْ الْكَيِّ» وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ نَهْيَ تَنْزِيهٍ إنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ وَأَمَّا عِنْدَ تَعَيُّنِهِ فَلَا يُكْرَهُ فَقَدْ «كَوَى النَّبِيُّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ بِمَوْتِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ الْمَخْصُوصَ بِأَنَّهُ أَقْرَأُ الْأُمَّةِ» وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ مِثْلَ سَعْدٍ وَأُبَيُّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ وَصَفَهُمْ النَّبِيُّ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ انْتَهَى.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تُسَلِّمُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَلَمَّا اكْتَوَى انْقَطَعَ التَّسْلِيمُ فَلَمَّا تَرَكَهُ عَادَ إلَيْهِ فَلَعَلَّهُ لِإِمْكَانِ الْغَيْرِ.
(وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْقِي» نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ «بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ» .
قَالَ الْمُحَشِّي أَيْ قَرَأَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «ثُمَّ مَسَحَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ، فَقَالَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بَرِئَ مِنْ الْآفَاتِ» (وَالْآثَارُ فِيهِ) أَيْ تَدَاوِي النَّبِيِّ وَرُقْيَتِهِ (أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى) كَمَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأَحَادِيثِ كَالْحِصْنِ الْحَصِينِ، وَالطِّبِّ النَّبَوِيِّ الَّذِي أُحِيلَ إلَيْهِ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ، وَذُكِرَ هُنَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَجْرُوحِ أَوْ الْعَلِيلِ وَيَقُولُ حَالَ الْمَسْحِ: بِاسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» .
قَالَ الْجُمْهُورُ جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَقِيلَ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِرِقَّتِهَا، وَالرِّيقَةُ أَقَلُّ مِنْ الرِّيقِ (انْتَهَى) كَلَامُ الْبُسْتَانِ
(ثُمَّ إنْ عُدَّ الْكَيُّ) كَمَا عُدَّ فِي الْعِمَادِيِّ هَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ إشَارَةً إلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْإِشْكَالِ عَلَيْهِ. حَاصِلُهُ تَحْرِيرُ مُرَادِهِ بِالْبَعْضِيَّةِ لَكِنْ حِينَئِذٍ يَضْمَحِلُّ التَّقْسِيمُ فَإِمَّا لَا يَحْسُنُ فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي قِسْمَتِهِ (مِنْ الْمَوْهُومِ لَيْسَ بِيَقِينٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَظْنُونِ بَلْ مِنْ الْمُتَيَقَّنِ) تَجْرِبَةً أَوْ شَرْعًا (فَلِذَا) أَيْ فَلِكَوْنِهِ مِنْ الْمُتَيَقَّنِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ (أُمِرَ) فِي الشَّرْعِ (بِالْحَسْمِ) حَسَمَهُ يَحْسِمُهُ فَانْحَسَمَ قَطَعَهُ بِالدَّوَاءِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ) أَوْ رِجْلِهِ (لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ) لَكِنْ كَوْنُ أَمْرِ الْحَسْمِ فِي الشَّرْعِ دَالًّا عَلَى الْيَقِينِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ كَيْفَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَاقْطَعُوا وَاحْسِمُوا» وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ بَلْ آحَادٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ، وَادِّعَاءُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ سَنَدًا لَهُ بَعِيدٌ، إذْ الْحَسْمُ نَدْبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيُرَادُ بِالْمُتَيَقَّنِ فِعْلًا لَا اعْتِقَادًا.
(وَعَدُّ التَّطَيُّرِ مِنْ الْمَوْهُومِ يُوهِمُ الْجَوَازَ) بَلْ يَدُلُّ لِقَوْلِهِ (كَقَرِينَيْهِ) أَيْ الْكَيِّ، وَالرُّقْيَةِ (بَلْ هُوَ حَرَامٌ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ كُفْرًا) لِنِسْبَةِ التَّأْثِيرِ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى (ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ) قِيلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ صَاحَتْ الطَّيْرُ فَقَالَ رَجُلٌ يَمُوتُ الْمَرِيضُ أَوْ خَرَجَ إلَى السَّفَرِ فَرَجَعَ لِصِيَاحِ الْعَقْعَقِ كُفْرٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا نَقَلَ عَنْ عُمْدَةِ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّفَاؤُلِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي مَنْعِ الطَّيْرَةِ كَثِيرَةٌ نَحْوُ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ وَلَا غُولَ» وَنَحْوُ «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» (فَظَهَرَ أَنَّ الطِّبَّ لَيْسَ بِفَرْضٍ) وَلَا وَاجِبٍ (بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا) وَقَدْ سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» . عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدَّوَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الْخَلَفِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صِحَّةُ عِلْمِ الطِّبِّ وَجَوَازُهُ وَاسْتِحْبَابُهُ وَرَدٌّ لِمُنْكِرِ التَّدَاوِي كَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ الْكُلِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّدَاوِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ. وَيُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمِثْلُهُ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ وَقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالتَّجَنُّبِ عَنْ التَّهْلُكَةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ مَعَ أَنَّ الْأَجَلَ وَاحِدٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ.
(وَقَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِحْيَاءِ إنَّهُ) أَيْ الطِّبُّ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) لَعَلَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى فَائِدَةِ لَفْظِ عِنْدَنَا آنِفًا لَكِنْ قَدْ سَمِعْت سَابِقًا كَوْنَهُ كَذَلِكَ عِنْدَنَا أَيْضًا أَيْ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
(تَفْرِيعٌ) نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مَحْمُودَةٌ إلَّا بِعَوَارِضَ خَارِجَةٍ، وَالْكَلَامُ بِهَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ، وَالْمُشَاغَبَاتِ وَنَقْلِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي أَكْثَرُهَا تُرَّهَاتٌ وَغَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالدِّينِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَمِنْ الْبِدَعِ فَالْآنَ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لِدَفْعِ مُبْتَدَعٍ مُخَاصِمٍ.، وَالْعُلُومُ الْغَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ مَحْمُودَةً كَالطِّبِّ لِحَاجَةِ بَقَاءِ الْأَبَدَانِ، وَالْحِسَابِ لِلْمُعَامَلَاتِ وَقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، وَالْفِلَاحَةِ، وَالْحِيَاكَةِ وَسَائِرِ أُصُولِ الصِّنَاعَاتِ لِحَاجَةِ بَقَاءِ الْبِنْيَةِ أَيْضًا فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
وَأَمَّا التَّعَمُّقُ فِي دَقَائِقِ الْحِسَابِ، وَالطِّبِّ مَثَلًا فَفَضِيلَةٌ لَا فَرْضِيَّةٌ أَوْ مَذْمُومَةٌ كَالسِّحْرِ، وَالطَّلْسَمَاتِ وَعِلْمِ الشَّعْبَذَةِ، وَالتَّلْبِيسَاتِ وَإِمَّا مُبَاحٌ كَعِلْمِ الْأَشْعَارِ الَّتِي لَا سُخْفَ فِيهَا، وَالتَّوَارِيخِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ.
وَأَمَّا الْفَلْسَفَةُ فَالْهَنْدَسَةُ، وَالْحِسَابُ فَمُبَاحَانِ إلَّا إذَا خِيفَ التَّجَاوُزُ إلَى عُلُومٍ مَذْمُومَةٍ. وَالْمَنْطِقُ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ، وَالْإِلَهِيَّاتِ فَمَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ وَمَا لَا يُوَافِقُ فَإِمَّا كُفْرٌ أَوْ بِدْعَةٌ، وَالطَّبِيعِيَّاتُ بَعْضُهَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَجَهْلٌ وَبَعْضُهَا بَحْثٌ عَنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ فَشَبِيهٌ بِنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ وَيَقْرَبُ إلَيْهِ كَلَامٌ فِي مُنْقِذِ الضُّلَّالِ كَمَا أُشِيرَ سَابِقًا وَتَمَامُ تَفْصِيلِهِ يُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ.
وَفِي التتارخانية بَعْدَمَا نَقَلَ مَا ذُكِرَ عَنْ الْإِحْيَاءِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَأُصُولَ
الْفِقْهِ وَأُصُولَ الْحَدِيثِ وَتَفَاصِيلَ الْفِقْهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَكَذَا عِلْمُ الْقِرَاءَةِ، وَالتَّجْوِيدِ وَعِلْمُ الْحَدِيثِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْكَلَامُ بِدْعَةٌ فِي زَمَانِ السَّلَفِ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي زَمَانِنَا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْمُخَالِفِ وَعِلْمُ الشَّعْرِ، وَالنِّيرَنْجَاتُ، وَالطَّلْسَمَاتُ وَعِلْمُ النُّجُومِ وَنَحْوُهَا غَيْرُ مَحْمُودٍ، وَكَذَا أَنْسَابُ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا عِلْمُ الْمُكَاشَفَةِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمُجَاهَدَةِ مُقَدِّمَةً لِلْهِدَايَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] .
وَفِي الْمُنْقِذِ لِلْغَزَالِيِّ عَلِمْت يَقِينًا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمْ السَّالِكُونَ بِطُرُقِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً وَسِيرَتَهُمْ أَحْسَنُ السَّيْرِ وَطَرِيقَتَهُمْ أَحْسَنَ الطُّرُقِ لَوْ جُمِعَ عَقْلُ الْعُقَلَاءِ وَحِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ وَعِلْمُ الْوَاقِفِينَ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ لِيُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ سِيرَتِهِمْ وَيُبَدِّلُوهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَجْدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا، فَإِنَّ جَمِيعَ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي طَرِيقَةٍ أَوَّلُ شَرْطِهَا طَهَارَةُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِفْتَاحُهَا: اسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَآخِرُهَا الْفَنَاءُ فِي اللَّهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَطُولُ الْكَلَامُ بِذِكْرِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «عِلْمُ الْبَاطِنِ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ اللَّهِ يَقْذِفُهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ عِلْمُ الْبَاطِنِ عِلْمُ الْمُكَاشَفَةِ وَذَلِكَ غَايَةُ الْعُلُومِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهُ يُخَافُ عَلَيْهِ سُوءٌ الْخَاتِمَةِ وَأَدْنَاهُ التَّصْدِيقُ بِهِ وَتَسْلِيمُهُ لِأَهْلِهِ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الْخَفِيُّ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ» انْتَهَى.
وَفِي الْأَشْبَاهِ: الْعِلْمُ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِدِينِهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَبِمَا زَادَ عَلَيْهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَالتَّبَحُّرُ فِي الْفِقْهِ مَنْدُوبٌ كَعِلْمِ الْقَلْبِ وَعِلْمُ الْفَلْسَفَةِ، وَالشَّعْبَذَةِ، وَالتَّنْجِيمِ، وَالرَّمَلِ وَعُلُومُ الطَّبَائِعِيِّينَ حَرَامٌ وَأَشْعَارُ الْمُوَلِّدِينَ مِنْ الْغَزْلِ، وَالْبَطَالَةِ حَرَامٌ، وَالْأَشْعَارُ الَّتِي لَا سُخْفَ فِيهَا مُبَاحٌ إلَى آخِرِهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ قَدْرُ مَا يُعْلَمُ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ، وَالْقِبْلَةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ حَرَامٌ فَإِذَا عُرِفَتْ الْعُلُومُ وَمَرَاتِبُهَا.
(فَإِذَا فَرَغَ السَّالِكُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ وَوُجِدَ مَنْ يَقُومُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ) مِنْ يُحَصِّلُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مِنْ الْغَيْرِ (فَحَصَّلَهُ) أَيْ فَرْضَ الْكِفَايَةِ (أَيْضًا) كَفَرْضِ الْعَيْنِ (فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ) فَيَتَفَرَّغُ لَهَا وَيَنْقَطِعُ عَمَّا سِوَاهَا وَيَسْتَوْعِبُ أَوْقَاتَهَا بِطَاعَةِ مَوْلَاهُ كَمَا هُوَ طَرِيقُ الْمُتَصَوِّفَةِ لَا سِيَّمَا الْوَاصِلِينَ إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ (وَإِنْ شَاءَ أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ) كَمَا سَبَقَ كَمَا هُوَ الْمُجْتَهِدِينَ وَكَافَّةِ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ (فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ) لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّفْضِيلِ، وَالِاخْتِيَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ الْفَضْلِ وَإِنْ أَوْهَمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى رُتْبَةِ الْفَضْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ هَلْ الْعِلْمُ أَفْضَلُ أَوْ الْعَمَلُ. فَاخْتَارَ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْأَوَّلَ لِمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ.
وَأَهْلُ الْبَاطِنِ الثَّانِيَ إذْ جَمِيعُ الْعُلُومِ مُقَدِّمَاتٌ، وَالْأَعْمَالُ نَتَائِجُ وَثَمَرَاتٌ فَلَوْلَا الْعَمَلُ لَا يُصَارُ إلَى الْعِلْمِ وَلِكَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ، وَالْأَحَادِيثِ أَمَّا الْآيَاتُ فَنَحْوُ {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى - فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 39 - 110] {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]- {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} [الكهف: 107]- {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60]- {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَنَحْوُ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» الْحَدِيثَ. «وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» .
وَعَنْ الْحَسَنِ يَقُولُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِكُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ وَغَيْرُهَا.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي النَّصَائِحِ الْوَلَدِيَّةِ: الْعِلْمُ الْمُجَرَّدُ لَا يُؤْخَذُ بِالْيَدِ فَلَوْ قَرَأَ رَجُلٌ مِائَةَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَتَعَلَّمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا لَا تُفِيدُهُ إلَّا بِالْعَمَلِ وَلَوْ قَرَأْت الْعِلْمَ مِائَةَ سَنَةٍ وَجَمَعْت أَلْفَ كِتَابٍ لَا تَكُونُ مُسْتَعِدًّا لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالْعَمَلِ. وَرُئِيَ الْجُنَيْدُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ طَاحَتْ الْعِبَارَاتُ وَفَنِيَتْ الْإِشَارَاتُ مَا نَفَعَنَا إلَّا رَكْعَتَانِ رَكَعْنَاهُمَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَأُيِّدَ بِالْأَمْثَالِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ النُّصُوصِ، وَالْآثَارِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ: لَمَّا اسْتَوْصَى مُوسَى مِنْ الْخَضِرِ حِينَ الْمُفَارِقَةِ قَالَ لَا تَطْلُبْ الْعِلْمَ لِتُحَدِّثَ بِهِ وَاطْلُبْهُ لِتَعْمَلَ بِهِ
وَاسْتَدْعَى قَالَ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْك طَاعَتَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّفْلِ مِنْهُمَا، وَالْفَرْضِ مِنْهُمَا لِمَنْ أَتَى بِهِمَا (الْآيَاتُ) أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ أَوْ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ هِيَ مَا سَيَذْكُرُ. اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ قَالَ بَعْضٌ الْمَذْكُورُ مُبْتَدَأٌ، وَالْمَحْذُوفُ خَبَرٌ إذْ الْمُبْتَدَأُ ذَاتٌ وَأَصْلٌ، وَالْخَبَرُ وَصْفٌ تَابِعٌ لَهُ قَالَ بَعْضٌ عَكْسَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ هُوَ الْخَبَرُ وَرُجِّحَ هَذَا كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] أَيْ أَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْ صَبْرٌ جَمِيلٌ أَجْمَلُ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْأَدِلَّةِ هُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ كَمَا سَيَظْهَرُ بَلْ بَعْضُهَا لَا يُخَصُّ بِالْعِلْمِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ أَيْضًا كَمَا سَيَظْهَرُ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ كَوْنَ الْمَطْلُوبِ مُطْلَقَ الْفَضْلِ أَوْ تُؤَوَّلُ الْأَدِلَّةُ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ الْإِضَافِيِّ وَلَوْ خِلَافَ الظَّاهِرِ ثُمَّ الْآيَاتُ إحْدَى عَشَرَةَ الْأُولَى مِنْ الْبَقَرَةِ.
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] لَمَّا فَهِمَ الْمَلَائِكَةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]- فَضْلَ الْخَلِيفَةِ عَلَيْهِمْ تَعَجَّبُوا وَاسْتَعْظَمُوا. وَأَجَابَ تَعَالَى أَوَّلًا إجْمَالًا بِقَوْلِهِ {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وَثَانِيًا تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: 31] حَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى بَيَانِ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ عِلْمِ الْخَلِيفَةِ يَعْنِي مَا لَا يَعْلَمُونَ فَضْلَ آدَمَ عَلَيْهِمْ إلَى أَنْ سَجَدُوا لَهُ بِالْعِلْمِ فَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ وَشَرَفِهِ لَكِنْ فِي نَفْسِهِ لَا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَمَلِ كَمَا نَبَّهَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ بِمَحْضِ فَضْلِهِ تَعَالَى لَا بِكَسْبِهِ وَإِتْعَابِهِ الَّذِي هُوَ مَدَارُ الْفَضْلِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْإِسْنَادِ وَكَوْنُ التَّعْلِيمِ عَلَى خَلُقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ كَمَا سَيُشَارُ إلَيْهِ فَمَا وَجْهُ التَّفْضِيلِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ تَوَقُّفِ الْفَضْلِ عَلَى مَدْخَلِيَّةِ الْفَاضِلِ فِي حُصُولِ الْفَضْلِ قَالُوا: إنَّ إفَاضَةَ الْعِلْمِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى اسْتِعْدَادِ الْمُتَعَلِّمِ لِقَبُولِ الْفَيْضِ وَتَلَقِّيه مِنْ جِهَتِهِ كَمَا قَالُوا أَيْضًا تَأْثِيرُ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِعْدَادِ الْعِلَّةِ الْقَابِلِيَّةِ.
قَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَبِهِ يَظْهَرُ أَحَقِّيَّتَهُ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُمْ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ جِبِلَّتَهُمْ غَيْرُ مُسْتَعِدَّةٍ لِإِحَاطَةِ تَفَاصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَادِّيَّةِ. ثُمَّ هَذَا التَّعْلِيمُ بِخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَالْإِلْهَامِ فِي قَلْبِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي رَوْعِهِ مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاصِّهَا وَأَسْمَائِهَا وَأُصُولِ الْعُلُومِ وَقَوَانِينِ الصِّنَاعَاتِ وَكَيْفِيَّةِ آلَاتِهَا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَصْعَةَ قِيلَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ فَاللُّغَاتُ الْمُتَخَالِفَةُ فِي أَوْلَادِهِ كُلِّهَا إنَّمَا أُخِذَتْ عَنْهُ وَقِيلَ اسْمَ كُلِّ مَا كَانَ وَسَيَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: 31] الضَّمِيرُ لِلْمُسَمَّيَاتِ الْمَدْلُولَةِ ضِمْنًا أَوْ الْتِزَامًا.
وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ وَكَذَا جَانِبُ الذُّكُورِ قِيلَ مَعْنَى الْعَرْضِ: الْإِظْهَارُ {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} [البقرة: 31] أَخْبِرُونِي {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة: 31] الْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ كَمَا فِي {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: 23] تَبْكِيتًا لَهُمْ فِيمَا اعْتَقَدُوا مِنْ اسْتِحْقَاقِهِمْ الْخِلَافَةَ وَإِظْهَارًا لِحِكْمَةِ إيثَارِ الْخِلَافَةِ لِآدَمَ مِنْ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ فَأَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَالتَّصَرُّفَ الَّذِي تَقْتَضِيه الْخِلَافَةُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَلِيفَةِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ زَمَانِهِ نَعَمْ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ لَا يُنَافِي الْأَوْلَوِيَّةَ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] فِي اعْتِقَادِ أَنَّكُمْ أَحِقَّاءُ لِلْخِلَافَةِ مِنْ الْخَلِيفَةِ الْمَوْعُودِ عَلَى مَا لَزِمَ مَقَالُهُمْ {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] اعْتِرَافٌ بِعَجْزِهِمْ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ سُؤَالَهُمْ لَيْسَ سُؤَالَ اعْتِرَاضٍ بَلْ اسْتِفْسَارٌ وَبَيَانٌ لِفَضْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارٌ لِشُكْرِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَمُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ بِتَفْوِيضِ الْعِلْمِ كُلِّهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} [البقرة: 32] فِيهِ تَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]{الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] كُلُّ فِعْلِك عَلَى حِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ
فَمِنْ جُمْلَةِ عِلْمِهِ اسْتِحْقَاقُ آدَمَ بِالْخِلَافَةِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ حِكْمَتِهِ جَعْلُ آدَمَ خَلِيفَةً وَتَعْلِيمُهُ مَا هُوَ قَابِلٌ اسْتِعْدَادَهُ لِجَمِيعِ الْعُلُومِ كَمَا عَرَفْت {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ} [البقرة: 33] أَعْلِمْهُمْ وَأَخْبِرْهُمْ {بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] الَّتِي عَجَزُوا عَنْ عِلْمِهَا وَاعْتَرَفُوا بِتَقَاصُرِهِمْ عَنْ بُلُوغِ مَرْتَبَتِهَا {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] فِي إيثَارِ الْفَاءِ إيذَانٌ بِمُسَارَعَةِ الْإِخْبَارِ، وَالْإِظْهَارِ مَوْضِعَ الْإِضْمَارِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِشَأْنِ الْأَسْمَاءِ وَلِإِيذَانِ كَوْنِ خَبَرِ آدَمَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} [البقرة: 33] تَقْرِيرٌ لِمَا مَرَّ مِنْ الْجَوَابِ الْإِجْمَالِيِّ وَاسْتِحْضَارٌ لَهُ {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 33] .
قَالَ أَبُو السُّعُودِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَمُ فِيهِ مِنْ دَوَاعِي الْخِلَافَةِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْهَا وَهُوَ الَّذِي عَايَنْتُمُوهُ {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة: 33] مِنْ قَوْلِكُمْ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]{وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] مِنْ كَتْمِ إبْلِيسَ الْكُفْرَ وَقِيلَ الْكَتْمُ قَوْلُهُمْ لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا أَفْضَلَ مِنَّا أَوْ كَتْمِ إبْلِيسُ التَّكَبُّرَ فَمِنْ قَبِيلِ بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا، وَالْقَاتِلُ وَاحِدٌ.
قَالَ أَبُو السُّعُودِ قَالُوا فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ الْإِنْسَانِ وَمَزِيَّةِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَأَنَّهُ مَنَاطُ الْخِلَافَةِ وَأَنَّ إطْلَاقَ التَّعْلِيمِ جَائِزٌ دُونَ الْمُعَلِّمِ وَأَنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَأَنَّ عُلُومَ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا لَاتَهُمُّ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ خِلَافًا لِلْحُكَمَاءِ وَأَنَّ آدَمَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ بِالْعِلْمِ وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي.
وَالثَّانِيَةُ مِنْ الْبَقَرَةِ أَيْضًا {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} [البقرة: 269] تَحْقِيقُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانِ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ الْعِلْمُ النَّافِعُ الْمُؤَدِّي إلَى الْعَمَلِ كَمَا فِي الْجَلَالَيْنِ لَا يَخْفَى عَدَمُ التَّقْرِيبِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَكِنْ عَنْ مُجَاهِدٍ هِيَ الْقُرْآنُ، وَالْعِلْمُ، وَالْفِقْهُ.
وَعَنْ النَّخَعِيِّ مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَفَهْمُهَا.
وَعَنْ الضَّحَّاكِ الْقُرْآنُ وَفَهْمُهُ وَكَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَذَا عَنْ الْمُفَسِّرِينَ.
وَعَنْ الْخَازِنِ حَاصِلُ الْأَقْوَالِ الْعِلْمُ، وَالْإِصَابَةُ فِيهِ لَعَلَّ الْإِصَابَةَ فِيهِ هُوَ الْعَمَلُ وَقِيلَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّي وَقِيلَ إشْهَادُ الْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقِيلَ تَجْرِيدُ السِّرِّ لِوُرُودِ الْإِلْهَامِ وَقِيلَ النُّورُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِلْهَامِ، وَالْوَسْوَاسِ وَقِيلَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ الْخَشْيَةُ وَقِيلَ الْوَرَعُ وَقِيلَ وَقِيلَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ كَمَا مَرَّ عَنْ التَّلْوِيحِ وَلَوْ سُلِّمَ فَالدَّلَالَةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ بِنَفْسِهِ، وَالْمَطْلُوبُ فَضْلُهُ عَلَى الْعَمَلِ {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] يَتَزَايَدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَالثَّالِثَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران: 7] الْمُتَشَابِهِ {إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] الَّذِينَ تَمَكَّنُوا وَثَبَتُوا فِي الْعِلْمِ.
وَعَنْ مَالِكٍ الْعَالِمُ الْعَامِلُ بِمَا عَلِمَ الْمُتَّبِعُ لَهُ وَقِيلَ الرَّاسِخُ بِأَرْبَعَةٍ التَّقْوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَاضُعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَالزُّهْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، وَالْمُجَاهَدَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ لَعَلَّ دَلَالَتَهَا عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْوَقْفِ أَوْ لَا يَعْنِي عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ كَانَ عَلَى عَدَمِ الْوَقْفِ أَبْلَغُ وَكَانَ الْوَقْفُ لِلْأَكْثَرِ إذْ الْمُقَامُ مَدْحُهُمْ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مَدْحُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّائِغِينَ فَلَا يَقْتَضِي الْفَضْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَعَمْ قَدْ يُفْهَمُ الْإِطْلَاقُ مِنْ قَوْلِهِ فِي آخَرِ الْآيَةِ - {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة: 269]- عَنْ الْخَازِنِ ثَنَاءٌ مِنْ اللَّهِ لِقَائِلِي {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] .
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: مَدْحٌ لِلرَّاسِخِينَ بِجَوْدَةِ الذِّهْنِ، وَحُسْنِ النَّظَرِ إلَى آخِرِهِ فَالْأُولَى إتْمَامُ الْآيَةِ.
وَالرَّابِعَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 18] قِيلَ مَعْنَى شَهَادَةِ اللَّهِ إخْبَارُهُ وَمَعْنَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُؤْمِنِينَ إقْرَارُهُمْ {وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] الْأَنْبِيَاءُ.
وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ وَعَنْ مُقَاتِلٍ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
وَعَنْ السُّدِّيَّ وَالْكَلْبِيِّ يَعْنِي عُلَمَاءَ الْمُؤْمِنِينَ فَالِاحْتِجَاجُ صَرِيحٌ فِي الْأَخِيرِ مُطَابَقَةً وَعَلَى الْبَوَاقِي دَلَالَةٌ أَوْ مُقَايَسَةً أَوْ إشَارَةً لَكِنْ عَلَى الْأَوَّلِ مَحَلُّ خَفَاءٍ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] مُقِيمًا بِالْعَدْلِ فِي قَسْمِهِ وَحُكْمِهِ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ مِنْ اللَّهِ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا.
وَعَنْ الْبَغَوِيّ أَيْ قَائِمًا بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ.
قَالَ فِي التتارخانية بَعْدَمَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ بَدَأَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ وَثَلَّثَ بِأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَالْخَامِسَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] جَمْعُ: رَبَّانِيٍّ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ، وَالنُّونِ وَهُوَ الْكَامِلُ فِي الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ أَيْ مُعَلِّمِينَ وَقِيلَ: فُقَهَاءَ عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ، وَالنِّسْبَةُ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ أَيْ الشَّرِيعَةِ، وَالصِّفَاتِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الَّذِي يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ نُصَحَاءَ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ. وَقِيلَ الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ، وَالْأَحْبَارُ فَوْقَ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ الَّذِينَ جَمَعُوا مَعَ الْعِلْمِ الْبَصَارَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ.
وَعَنْ الْمُبَرِّدِ هُمْ مُرَبُّو الْعِلْمِ بِالْقِيَامِ بِهِ وَبِالتَّعْلِيمِ.
وَعَنْ جَعْفَرٍ رضي الله عنه كُونُوا مُسْتَمِعِينَ بِسَمْعِ الْقُلُوبِ وَنَاظِرِينَ بِأَعْيُنِ الْغُيُوبِ.
وَعَنْ الْجُنَيْدِ أَخْرَجَهُمْ عَنْ الْكَوْنِ جُمْلَةً وَجَذَبَهُمْ إلَى الْحَقِّ إشَارَةً.
وَعَنْ الشِّبْلِيِّ الرَّبَّانِيُّ مَنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ مِنْ الْحَقِّ لَا مِنْ الْخَلْقِ وَلَا يَرْجِعُ فِي بَيَانِهِ إلَّا إلَى الرَّبِّ وَقِيلَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَا أَيْضًا عَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ كَمَا تَرَى {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُعَلِّمِينَ الْكِتَابَ وَدَارِسِينَ لَهُ فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّعْلِيمِ، وَالتَّعَلُّمِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ لِلِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَقِيلَ كُونُوا مُعَلِّمِينَ النَّاسَ بِعِلْمِكُمْ وَدَرْسِكُمْ أَيْ عَلِّمُوا النَّاسَ وَبَيِّنُوا لَهُمْ.
وَعَنْ الْخَازِنِ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عَالِمِينَ وَمُعَلِّمِينَ وَبِسَبَبِ دِرَاسَتِكُمْ الْكِتَابَ فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ، وَالتَّعَلُّمَ، وَالدِّرَاسَةَ يُوجِبُ كَوْنَ الْإِنْسَانِ رَبَّانِيًّا فَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، وَالتَّعْلِيمِ لَا بِهَذَا الْمَقْصُودِ ضَاعَ عِلْمُهُ وَخَابَ سَعْيُهُ.
وَالسَّادِسُ فِي طَه {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] سَلْ اللَّهَ تَعَالَى زِيَادَةَ الْعِلْمِ بَدَلَ الِاسْتِعْجَالِ فِي تَلَقِّي الْوَحْيِ مِنْ جَبْرَائِيلَ فَإِنَّ مَا أُوحِيَ إلَيْك تَنَالُهُ لَا مَحَالَةَ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. قِيلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَلَبِ زِيَادَةِ شَيْءٍ إلَّا فِي الْعِلْمِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عِلْمًا أَيْ حِفْظًا وَقِيلَ قُرْآنًا وَقِيلَ أَدَبًا أَوْ صَبْرًا عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْجِهَادِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَيْ عَالِمًا بِك جَاهِلًا بِمَا سِوَاك.
وَالسَّابِعَةُ فِي الْعَنْكَبُوتِ {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} [العنكبوت: 43] الْأَشْبَاهُ يَعْنِي أَمْثَالَ الْقُرْآنِ الَّتِي شَبَّهَ بِهَا أَحْوَالَ كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِكُفَّارِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ نُقِلَ
عَنْ الْخَازِنِ {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت: 43] تَسْهِيلًا لِأَفْهَامِهِمْ {وَمَا يَعْقِلُهَا} [العنكبوت: 43] وَمَا يُدْرِكُ فَائِدَةَ ضَرْبِهَا {إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] الَّذِينَ يَتَدَبَّرُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا يَنْبَغِي.
وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ الْعَالِمُ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبَ سُخْطَهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إذَا قَصُرَ فَهْمُ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَزِمَ ضَرُورَةُ مَدْحِهِمْ وَشَرَفِهِمْ لَكِنْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ فَقَطْ بَلْ مَعَ الْعَمَلِ، وَالْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ.
وَالثَّامِنَةُ فِي الرُّومِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الروم: 22] فِي اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ {لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ إنْسٍ وَجِنٍّ.
وَالتَّاسِعَةُ فِي فَاطِرِ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] إذْ الْخَشْيَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِمَعْرِفَةِ الْمَخْشِيِّ وَصِفَاتِهِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ ازْدَادَتْ الْخَشْيَةُ.
وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ» وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصْرُ الْفَاعِلِيَّةِ وَلَوْ أَخَّرَ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ. وَقُرِئَ بِرَفْعِ اسْمِ اللَّهِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّعْظِيمِ فَإِنَّ الْمُعَظَّمَ يَكُونُ مَهِيبًا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.
وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْ إنَّمَا يَخَافُنِي مَنْ عَلِمَ جَبَرُوتِي وَعِزَّتِي وَسُلْطَانِي. وَعَنْ مَسْرُوقٍ كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا.
وَعَنْ الرُّبَيِّعِ مِنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَعَنْ حَاشِيَةِ شَيْخْ زَادَهْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى حَصْرِ الْخَشْيَةِ بِالْعُلَمَاءِ لِدَلَالَةِ إنَّمَا عَلَى الْحَصْرِ وَآيَةِ {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ وَكَوْنُهَا لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ يُنَافِي كَوْنَهَا لِغَيْرِهِمْ فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَهْلٌ إلَّا الْعُلَمَاءُ. وَقِيلَ إذَا كَانَتْ الْخَشْيَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ أَيْ الْخَشْيَةُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ أَيْ الْعِلْمُ فَالْعِلْمُ مَا يَكُون سَبَبًا لِلْخَشْيَةِ، وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ وَإِنْ عَدُّوهُ عِلْمًا. قِيلَ وَمَا يُقَالُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ فِي الْعُلَمَاءِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ فِيهِ خَشْيَةٌ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ مَأْخَذَ الِاشْتِقَاقِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ وَذَكَرَ الْخَشْيَةَ؛ لِأَنَّهَا مِلَاكُ الْأُمُورِ إذْ الْخَشْيَةُ جَالِبَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ وَعَدَمُهَا لِكُلِّ مَكْرُوهٍ قَالُوا الرِّعَةُ، وَالْفِقْهُ، وَالِاسْتِقَامَةُ، وَالتُّقَى كُلُّهَا مُسَخَّرَةٌ لِلْخَشْيَةِ فَمَنْ رُزِقَ لَهُ الْخَشْيَةُ مَلَكَ كُلَّ شَيْءٍ فَإِذَا حُصِرَ ذَلِكَ بِالْعُلَمَاءِ لَزِمَ اخْتِصَاصُ الْفَضْلِ بِهِمْ ضَرُورَةً.
وَالْعَاشِرَةُ فِي الزُّمَرِ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] بَلْ الْعَالِمُونَ فَائِقَةٌ لِمَزِيدِ فَضْلِهِمْ بِسَبَبِ عِلْمِهِمْ هَذِهِ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا تَدُلُّ كَمَا فِي السَّوَابِقِ عَلَى الْفَضْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ إذْ الْكَلَامُ فِي الْعَالِمِ الْمُتَفَرِّغِ لِلْعُلُومِ الْمَنْدُوبَةِ، وَالْعَامِلِ الْمُتَقَاعِدِ لِأَجْلِ فَضَائِلِ الْعِبَادَاتِ فَتَأَمَّلْ.
وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي الْمُجَادَلَةِ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة: 11] قَالَ الْقَاضِي بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ فِي الدُّنْيَا وَإِيوَائِهِمْ غُرَفَ الْجِنَانِ فِي الْآخِرَةِ {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] يَرْفَعُ الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ خَاصَّةً
دَرَجَاتٍ بِمَا جَمَعُوا مِنْ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ فَإِنَّ الْعِلْمَ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِ يَقْتَضِي الْعَمَلَ الْمَقْرُونَ بِهِ مَزِيدَ رِفْعَةٍ وَلِذَلِكَ يُقْتَدَى بِالْعَالِمِ فِي أَفْعَالِهِ وَلَا يُقْتَدَى بِغَيْرِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ» فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَهَذِهِ أَيْضًا كَمَا تَرَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُتَبَادَرُ إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي نِسْبَةِ الْعِلْمِ مَعَ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُؤَوَّلَاتٌ أَوْ مُفَسَّرَاتٌ بِالْأَحَادِيثِ وَلِذَا أَوْرَدَ بَعْدَهَا الْأَخْبَارَ فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ الدَّلَالَةُ بِحَسَبِ الْمَجْمُوعِ أَمْكَنَ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ سِيَّمَا لَوْ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ ظَنِّيًّا.
قَالَ فِي التتارخانية آثَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لِلْعُلَمَاءِ دَرَجَاتٌ فَوْقَ الْمُؤْمِنِينَ تِسْعُ مِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْن كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ الْآيَاتُ أَيْضًا عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ كَمَا فِي التتارخانية {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] يَعْنِي الْعِلْمَ {خَلَقَ الإِنْسَانَ} [الرحمن: 3]{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص: 80] . {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
رَدَّ حُكْمَهُ فِي الْوَقَائِعِ إلَى اسْتِنْبَاطِهِمْ فَالْحَقُّ رَتَّبَهُمْ بِرُتْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كَشْفِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]{وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] . وَالْمُرَادُ التَّعْلِيمُ، وَالْإِرْشَادُ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33]- {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125]- وَغَيْرُهَا (الْأَخْبَارُ) الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ (دت) أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ) يَوْمَئِذٍ (بِدِمَشْقَ) الشَّامِ.
(فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَا أَقْدَمَك) مَا سَبَبُ قُدُومِك (يَا أَخِي قَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّك تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ (أَمَا جِئْت لِحَاجَةٍ) غَيْرِ هَذَا (قَالَ لَا قَالَ أَمَا قَدِمْت لِتِجَارَةٍ) السُّؤَالُ وَتَكْرِيرُهُ لِلِاسْتِعْظَامِ لِكَوْنِهِ خِلَافَ الْعَادَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ أَوْ إعْلَامِ غَيْرِهِ فِي الْمَجْلِسِ إظْهَارًا لِشَرَفِ الْأَمْرِ، وَالْجَائِيّ (قَالَ لَا قَالَ) الرَّجُلُ (مَا جِئْت إلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ) أَبُو الدَّرْدَاءِ (فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا» مُدَّةَ سَفَرٍ أَوْ لَا وَلَوْ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَوْ قَرْيَةٍ وَلَوْ خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ «يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا» نَكَّرَهُ لِيَشْمَلَ كُلَّ عِلْمٍ وَآلَتِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أَيْ حَالَ كَوْنِهِ طَالِبًا فِي سُلُوكِهِ عِلْمًا شَرْعِيًّا قَصْدِيًّا أَوْ آلِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
«سَلَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» أَيْ بِذَلِكَ الْعَبْدِ «طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ»
لِلتَّسَبُّبِ بِهَا وَقُوَّةِ إيصَالِهِ لِوُفُورِ الْأَجْرِ «وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ» الْحَفَظَةَ أَوْ مُطْلَقَ الْمَلَائِكَةِ «لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا» إكْرَامًا أَيْ تَوَاضُعًا أَوْ تَبَرُّكًا مِنْ الْمَسِّ أَوْ لِإِلْهَامِ عِلْمٍ أَوْ كُلِّ خَيْرٍ فَيَفِرُّ الشَّيْطَانُ لِمُضَادَّتِهِ بِالْمَلَكِ أَوْ تَعَطُّفًا أَوْ تَلَطُّفًا أَوْ دَفْعَ سُوءٍ «رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ» أَوْ لِإِيصَالِهِ إلَى مَقْصُودٍ أَوْ تَزَاحُمًا لِلزِّيَارَةِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ «وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» مَلَائِكَةٌ أَوْ حَيَوَانَاتٌ بَلْ النَّبَاتُ، وَالْجَمَادُ كَمَا قِيلَ لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ مَنْ الْحَقِيقَةُ فِي أُولِي الْعِلْمِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ - {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]- وَلَا يُلَائِمُ الْغَايَةَ فِي قَوْلِهِ.
«حَتَّى الْحِيتَانُ» جَمْعُ حُوتٍ السَّمَكُ «فِي الْمَاءِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ» . فَإِنْ قِيلَ إنَّ اسْتِغْفَارَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجَمِ، وَالْجَمَادَاتِ غَيْرُ مَعْقُولٍ يَعْنِي خِلَافَ الْقِيَاسِ، وَالرَّاوِي هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ بِالرِّوَايَةِ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، الْوَارِدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ إذْ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ. قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ عَدَمِ مَعْرُوفِيَّةِ الرَّأْيِ بِالرِّوَايَةِ لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ خِلَافَ الْقِيَاسِ بَلْ الْقِيَاسُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَثَابِتٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا مَا لَمْ يَصْرِفْهَا صَارِفٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ خَبَرًا ضَعِيفًا.
وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْفَضَائِلِ تَثْبُتُ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يُنْطِقَ كُلَّ شَيْءٍ فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِعَدَدِ كُلٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ اسْتِغْفَارَةً مُسْتَجَابَةً لَكِنْ يَشْكُلُ بِنَحْوِ الْكُفَّارِ بَلْ الْفُسَّاقِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَعَدَمُ اسْتِغْفَارِهِمْ ظَاهِرٌ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ بِشَهَادَةِ الْعَقْلِ أَوْ الْحِسِّ أَوْ الْعَادَةِ وَحِينَئِذٍ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي ثُمَّ اسْتِغْفَارُ الْبَوَاقِي وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ لَكِنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الْعُمُومِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ نَحْوَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
ثُمَّ وَجْهُ اسْتِغْفَارِهِمْ تَنَفُّعُهُمْ مِنْ بَرَكَةِ عِلْمِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُفِيضُ الْخَيْرَ، وَالرَّحْمَةَ عَلَى الْكُلِّ بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ وَبَرَكَةِ ثَمَرَتِهِ مِنْ الْعَمَلِ وَاكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمُنَاوِيِّ أَنَّ حِكْمَتَهُ أَنَّ صَلَاحَ الْعَالَمِ مَنُوطٌ بِالْعَالِمِ إذْ بِالْعِلْمِ أَنَّ الطَّيْرَ لَا يُؤْذَى وَلَا يُقْتَلُ إلَّا لِأَكْلِهِ وَلَا يُذْبَحُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُعَذَّبُ طَيْرٌ وَلَا غَيْرُهُ بِجُوعٍ وَلَا ظَمَأٍ إلَى آخَرِ مَا قَالَ «وَفَضْلُ الْعَالِمِ» الْعَامِلِ «عَلَى الْعَابِدِ» الْمُتَفَرِّغِ لِلْعِبَادَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَلَمْ يَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ مِنْ نَحْوِ التَّعْلِيمِ، وَالتَّدْرِيسِ، وَالْإِفْتَاءِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوَعْظِ وَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَمُطَالَعَتِهَا وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا يُقَالُ أَيْ الْعَامِلُ بِلَا عِلْمٍ إذْ حِينَئِذٍ لَا فَضْلَ لَهُ أَصْلًا «كَفَضْلِ الْقَمَرِ» لَيْلَةَ الْبَدْرِ «عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ» فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي أَنْفُسِهَا أَنْوَارًا لَكِنَّهَا عِنْدَ نُورِ الْقَمَرِ سِيَّمَا عِنْدَ الْبَدْرِ كَالْمُضْمَحِلِّ بَلْ أَكْثَرُهَا مُضْمَحِلٌّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي تَشْبِيهِ الْعَالِمِ بِالْقَمَرِ إشَارَةٌ إلَى تَعَدِّي الْعِلْمِ إلَى الْغَيْرِ وَانْتِفَاعِ الْعَالِمِ بِعِلْمِهِ إذَا عَلَّمَهُ كَمَا أَنَّهُ فِي تَشْبِيهِ الْعَابِدِ بِالنُّجُومِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ نَفْعِهِ لِلْغَيْرِ وَكَمَا أَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ يُسْتَفَادُ نُورُ الْعَالِمِ مِنْ النَّيْرِ الْأَعْظَمِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَإِنَّ «الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْأَقْرَبِ وَأَقْرَبُ الْأُمَّةِ فِي نِسْبَةِ الدِّينِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ
الدُّنْيَا وَأَقْبَلُوا عَلَى الْآخِرَةِ وَكَانُوا بَدَلًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فَازُوا بِالْحُسْنَيَيْنِ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ وَحَازُوا الْفَضِيلَتَيْنِ الْكَمَالَ، وَالتَّكْمِيلَ وَهُوَ الْمِيرَاثُ الْأَكْبَرُ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إنَّمَا يُوَرَّثُونَ مِيرَاثَ الدُّنْيَا، وَالرُّسُلُ إنَّمَا يُوَرِّثُونَ وَرَثَتَهُمْ الْحِكَمَ الرَّبَّانِيَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا رُتْبَةَ فَوْقَ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ فَلَا شَرَفَ فَوْقَ شَرَفِ وَارِثِ تِلْكَ الرُّتْبَةِ.
وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «الْعُلَمَاءُ مَصَابِيحُ الْأَرْضِ وَخُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِي وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْكَشَّافِ لِمُدَانَاتِهِمْ لَهُمْ فِي الشَّرَفِ، وَالْمَنْزِلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْقُوا بِمَا بُعِثُوا مِنْ أَجْلِهِ.
وَعَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَحْوَالُهُمْ الْكِتْمَانُ لَوْ قُطِّعُوا إرْبًا إرْبًا مَا عُرِفَ مَا عِنْدَهُمْ. ثُمَّ قَالَ
(فَائِدَةٌ) سُئِلَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ عَمَّا اُشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مِنْ حَدِيثِ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ» فَقَالَ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا اسْتِنَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَيُغْنِي عَنْهُ «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ انْتَهَى لَعَلَّ مَعْنَى يُغْنِي يُنَافِي إذْ الْخُصُوصُ يُنَافِي الْعُمُومَ وَيَحْتَمِلُ يُغْنِي يَعْنِي لَا يُبْقِي حَاجَةً لِقُرْبِ مَضْمُونِهِ مِنْهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَحِينَئِذٍ يَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ نَقْلِ الْمَعْنَى.
وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ الدَّمِيرِيِّ، وَالْعَسْقَلَانِيِّ، وَالزَّرْكَشِيِّ لَا أَصْلَ لَهُ وَسَكَتَ عَنْهُ السُّيُوطِيّ فَمَا فِي نَحْوِ شَرْحِ الشِّرْعَةِ مِنْ تَصْحِيحِهِ بِالرُّؤْيَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إذْ غَايَتُهُ الْإِلْهَامُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ سِيَّمَا وَقَعَ تَصْرِيحٌ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ «إنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ» أَيْ تَعَلَّمَهُ «فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ» نَصِيبٍ «وَافِرٍ» كَثِيرٍ زَائِدٍ فِي الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهَا لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْفَضَائِلِ، وَالْكَمَالَاتِ النَّفِيسَةِ وَلَا يَنْتَقِلُ الشَّيْءُ إلَى الْوَارِثِ إلَّا بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمَوْرُوثِ.
عَنْ الْغَزَالِيِّ: الْعَالِمُ لَا يَكُونُ وَارِثًا لِنَبِيِّهِ إلَّا إذَا اطَّلَعَ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إلَّا دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْوَارِثِ، وَالْمَوْرُوثِ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ (طب) طَبَرَانِيٌّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْفِقْهُ» الْمُصْطَلَحُ الْمُعَرَّفُ عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ بِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ بِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا وَعِنْدَ بَعْضٍ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ فَيَدْخُلُ جَمِيعُ مَبَادِئِ الْفِقْهِ الَّتِي عُدَّتْ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ «وَأَفْضَلُ الدِّينِ» الْإِسْلَامُ وَهُوَ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودَ إلَى الْخَيْرِ بِالذَّاتِ وَيَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَقَدْ يُخَصُّ بِالْفُرُوعِ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا هَذَا الْمَخْصُوصُ ( «الْوَرَعُ» تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ وَيُفَسَّرُ بِتَرْكِ الشُّبُهَاتِ (طط) طَبَرَانِيٌّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «قَلِيلُ الْعِلْمِ» الشَّرْعِيِّ الْمَقْرُونِ بِالْعَمَلِ «خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ» فَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ صَاحِبُ فَضِيلَتَيْنِ، وَالْعَامِلَ صَاحِبُ فَضِيلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّ الْعِلْمَ مُتَعَدٍّ، وَالْعَمَلَ قَاصِرٌ وَإِنَّ الْعِبَادَةَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ لَا تَخْلُو عَنْ قُصُورٍ وَخَلَلٍ وَإِنَّ عِبَادَةَ الْعَالِمِ مَعَ تَيَقُّنِ مَنَافِعِهَا وَتَحَقُّقِ غَايَتِهَا وَلِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمُصَحِّحُ لِلْعِبَادَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «قَلِيلُ الْفِقْهِ» وَفِي أُخْرَى «قَلِيلُ التَّوْفِيقِ» .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «قَلِيلُ الْعَمَلِ يَنْفَعُ مَعَ الْعِلْمِ وَكَثِيرُ الْعَمَلِ لَا يَنْفَعُ مَعَ الْجَهْلِ» فَبِهَذَا الْحَدِيثِ يُعْلَمُ عِلَّةُ حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا (طط) طَبَرَانِيٌّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ» لِرِضَاهُ تَعَالَى إمَّا لِلتَّعْلِيمِ أَوْ الْعَمَلِ «لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ إلَّا دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَبْلُغَ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهَا وَهْبِيَّةٌ إلَهِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا بِالْكَسْبِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ نَبِيًّا وَاحِدًا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ (طك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ» الَّذِينَ مَشَوْا عَلَى مُوجِبِ عُلُومِهِمْ وَرَاعَوْا حُقُوقَهُ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ» الَّذِي وَسِعَ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضَ بِلَا كَيْفِيَّةِ لَوَازِمِ الْجِسْمِيَّةِ لَعَلَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ إظْهَارِ كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ «لِفَصْلِ عِبَادِهِ» لَعَلَّ ذَلِكَ وَقْتَ الْمُحَاسَبَةِ وَوَضْعِ مِيزَانِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ «إنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي» الْإِضَافَةُ لِتَعْظِيمِ الْمُضَافِ «وَحِلْمِي» أَيْ تَخَلُّفَكُمْ بِأَخْلَاقِي كَمَا وَرَدَ «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ» .
وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ خُلُقٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ خُلُقًا مَنْ أَتَاهُ بِخُلُقٍ مِنْهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» «فِيكُمْ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ» جَمِيعَ ذُنُوبِكُمْ فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِلتَّعْمِيمِ الظَّاهِرِ فِي مِثْلِ الصَّغَائِرِ «وَلَا أُبَالِي» لِقُوَّةِ شَرَفِ الْعِلْمِ يَعْنِي لَا أَجْعَلُ فِي جَوْفِهِ الْعِلْمَ إلَّا لَأَنْ أَغْفِرَ لَهُ. قِيلَ فِي إضَافَةِ الْعِلْمِ، وَالْحِلْمِ إلَيْهِ تَعَالَى إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الشَّرَفَ إنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَإِلَّا لَا يُنْسَبَانِ إلَيْهِ تَعَالَى.
وَعَنْ الْمُنْذِرِيِّ لِيَنْظُرَ هَذِهِ الْإِضَافَةُ وَلَا يُغْتَرَّ بِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ.
وَعَنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَمْعِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةَ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُجَاءُ» مُضَارِعٌ
مَجْهُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ «بِالْعَالِمِ وَالْعَابِدِ يُقَالُ لِلْعَابِدِ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ» ابْتِدَاءً بَلْ قَبْلَ الْحِسَابِ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «وَيُقَالُ لِلْعَالِمِ قِفْ حَتَّى تَشْفَعَ لِلنَّاسِ» ؛ لِأَنَّ وِرَاثَةَ النُّبُوَّةِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ جِنْسِ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ فَإِذَا تَعَدَّى نَفْعُ عِلْمُهُ فِي الدُّنْيَا فَكَذَا فِي الْآخِرَةِ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْثَرُ، وَالْأَغْلَبُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ جِنْسِ الشَّفَاعَةِ عَنْ جَمِيعِ الْعَابِدِ إذْ الصُّلَحَاءُ لَهُمْ حَظٌّ فِي مَقَامِ الشَّفَاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ كَالْعُلَمَاءِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ سَبْعُونَ دَرَجَةً مَا بَيْن كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حُضْرُ الْفَرَسِ» ارْتِفَاعُهَا فِي الْعَدْوِ «سَبْعِينَ عَامًا» لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلْحَصْرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ» «وَذَلِكَ» أَيْ عِلَّةُ ذَلِكَ الْفَضْلِ «؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَبْتَدِعُ» يُحَسِّنُ «الْبِدْعَةَ لِلنَّاسِ» وَيُزَيِّنُهَا «فَيُبْصِرُهَا الْعَالِمُ» بِنُورِ عِلْمِهِ «فَيَنْهَى عَنْهَا» فَيَنْزَجِرُ «، وَالْعَابِدُ مُقْبِلٌ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا» لِعَدَمِ عِلْمِهِ أَوْ لِكَمَالِ تَوَجُّهِهِ لِعِبَادَتِهِ. (قُطْن هق) دَارَقُطْنِيٌّ وَبَيْهَقِيٌّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا عُبِدَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «اللَّهُ بِشَيْءٍ» بِالْعِبَادَاتِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَالْبَاطِنِيَّةِ «أَفْضَلُ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينِ اللَّهِ» ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ إذْ الْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَّقِي وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ فَضْلُ الْفِقْهِ وَتَمْيِيزُهُ عَلَى سَائِرِ الْعُلُومِ بِكَوْنِهِ أَهَمَّهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَشْرَفَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُرَادُ بِالْفِقْهِ هُنَا انْكِشَافُ الْأُمُورِ، وَالْفَهْمُ هُوَ الْعَارِضُ الَّذِي يَعْتَرِضُ فِي الْقَلْبِ مِنْ النُّورِ فَإِذَا عَرَضَ انْفَتِحْ بَصَرُ الْقَلْبِ فَرَأَى صُورَةَ الشَّيْءِ فِي صَدْرِهِ حَسَنًا كَانَ أَوْ قَبِيحًا فَالْفِقْهُ هُوَ الِانْفِتَاحُ، وَالْعَارِضُ هُوَ الْفَهْمُ، وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ بِقَوْلِهِ:{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] .
وَقَالَ الْمُصْطَفَى فِقْهُ الرَّجُلِ أَيْ فَهْمُ الْأُمُورِ وَقَدْ كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَنْ يَعْرِفُوهُ ثُمَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ أَنْ يَخْضَعُوا وَيَدِينُوا لَهُ فَشَرَعَ لَهُمْ الْحَلَالَ، وَالْحَرَامَ لِيَدِينُوا لَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ فَذَلِكَ الدِّينُ هُوَ الْخُضُوعُ، وَالْفِقْهُ، وَالدِّينُ جُنْدٌ عَظِيمٌ يُؤَيِّدُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَهْلَ الْيَقِينِ الَّذِينَ عَايَنُوا مَحَاسِنَ الْأُمُورِ وَمَشَايِنَهَا وَأَقْدَارَ الْأَشْيَاءِ وَحُسْنَ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَهُمْ بِنُورِ يَقِينِهِمْ لِيَعْبُدُوهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيُسْرٍ وَمَنْ حُرِمَ ذَلِكَ عَبْدَهُ عَلَى مُكَابَرَةٍ وَعُسْرٍ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ وَإِنْ أَطَاعَ وَانْقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَالنَّفْسُ إنَّمَا تَخِفُّ وَتَنْقَادُ إذَا رَأَتْ نَفْعَ شَيْءٍ أَوْ ضُرَّهُ، وَالنَّفْسُ جُنْدُهَا الشَّهَوَاتِ وَيَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إلَى أَضْدَادِهَا مِنْ الْجُنُودِ وَهُوَ الْفِقْهُ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ «وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ» وَاَللَّهِ لَفَقِيهٌ، وَالْفَقِيهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ «أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ» الَّذِي يُرِيدُ إغْوَاءَهُ وَإِضْلَالَهُ بُغْضًا وَعَدَاوَةً «مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» بِعَمَلٍ صَالِحٍ بِلَا عِلْمٍ أَوْ لَهُ عِلْمٌ لَكِنْ يَتَقَاعَدُ لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ النُّورَيْنِ يَغْلِبَانِ عَلَى نُورٍ وَاحِدٍ وَلِأَنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّمَا يَدْخُلُ عَلَى عَمَلِهِ فَيُفْسِدُهُ بِلَا شُعُورِهِ بِخِلَافِ الْعَالِمِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ حِيَلَهُ وَطُرُقَ غَوَائِلِهِ فَيَدْفَعُ «وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ» يَرْتَفِعُ بِهِ بُنْيَانُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ «وَعِمَادُ الدِّينِ الْفِقْهُ» الَّذِي بِهِ
قِوَامُهُ.
(وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) وَاَللَّهِ (لَأَنْ أَجْلِسَ سَاعَةً) الظَّاهِرُ التَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ، وَالسَّاعَةُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَدِيدَيْنِ، وَالْوَقْتُ الْحَاضِرُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (فَأَفْقَهُ) أَيْ أَتَعَلَّمُ الْفِقْهَ (أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ إحْيَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) بِالْقِيَامِ، وَالتَّهَجُّدِ مَعَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
(وَفِي رِوَايَةِ لَيْلَةٍ إلَى الصَّبَاحِ) ظَاهِرُهُ مُطْلَقُ لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي لَكِنَّ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالْحَادِثَةِ تَجْعَلُ اللَّيْلَةَ الْمُطْلَقَةَ مُقَيَّدَةً وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى تَفَاوُتِ الْمُتَعَلِّمِينَ وَتَفَاوُتِ عِلْمِهِمْ وَتَفَاوُتِ غَرَضِهِمْ فَقَالَ تَاجُ الدِّينِ فِي رِسَالَتِهِ الْكُبْرَى: لَمَّا حَصَلَ التَّرَقِّي لِمُرِيدِ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ قَالَ: اذْهَبْ عِنْدَ أَبِي يَزِيدَ قَالَ الْغُلَامُ لَيْسَ لِي حَاجَةٌ إلَى أَبِي يَزِيدَ لِأَنِّي أَرَى اللَّهَ تَعَالَى جَهْرَةً فَقَالَ الشَّيْخُ رُؤْيَةُ أَبِي يَزِيدَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَحْسَنُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ سَبْعِينَ مَرَّةً. فَإِنْ قِيلَ إنَّ جِنْسَ هَذَا الْمَطْلَبِ لَا يُمْكِنُ وَصْلَتُهُ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ السَّمْعِيَّةِ فَأَيْنَ يَعْلَمُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْحَدِيثِ وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ الصُّفَّةِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ مِنْ السَّمْعِيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْخَبَرِ الْمَوْقُوفِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.
(ت. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» فِي الشَّرَفُ، وَالرِّفْعَةِ أَيْ نِسْبَةُ شَرَفِ الْعَالِمِ إلَى شَرَفِ الْعَابِدِ كَنِسْبَةِ شَرَفِ الرَّسُولِ إلَى أَدْنَى شَرَفِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ شُبِّهُوا بِالنُّجُومِ فِي حَدِيثِ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَهَذَا التَّشْبِيهُ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَالِمِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَلِلْعَابِدِ مِنْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِالْمُصْطَفَى وَبِالْعِلْمِ يَسْتَدْعِي الْمُشَارَكَةَ فِيمَا فُضِّلُوا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ كَيْفَ لَا، وَالْعِلْمُ مُقَدِّمَةٌ لِلْعَمَلِ وَصِحَّةُ الْعَمَلِ مُتَوَفِّقَةٌ عَلَى الْعِلْمِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ.
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ إنَّمَا كَانَ الْعَالِمُ أَفْضَلَ إذَا كَانَ عَامِلًا؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا فَعِلْمُهُ وَبَالٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْعَابِدُ بِغَيْرِ فِقْهٍ فَمَعَ نَقْصِهِ هُوَ أَفْضَلُ بِكَثِيرٍ مِنْ فَقِيهٍ بِلَا تَعَبُّدٍ كَفَقِيهٍ هِمَّتُهُ فِي الشُّغْلِ بِالرِّيَاسَةِ انْتَهَى أَشْكَلَ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْعَابِدِ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ أَصْلًا يَعْنِي عِلْمَ عِبَادَتِهِ فَفَاسِقٌ عَابِثٌ فَلَا فَضْلَ لَهُ أَصْلًا، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِيمَا لَهُ فَضْلٌ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا بِعِبَادَتِهِ فَمُخَالِفٌ عَلَى مَا اُتُّفِقَ عَلَى فَضْلِ الْعِبَادَةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا إذْ الْعِلْمُ مَقْصُودٌ لِلْعِبَادَةِ وَمَا يُرَادُ لِلْغَيْرِ مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ مِنْهُ. أَقُولُ هَذَا دِرَايَةٌ فِي مُقَابَلَةِ رِوَايَةٍ، وَإِنَّ الْحُسْنَ لَيْسَ بِعَقْلِيٍّ مَحْضٍ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا يُرَادَ لِلْغَيْرِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ النَّظَرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ التَّسْبِيحِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ، وَالنَّوَافِلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِبَادَةِ مِنْ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ بَعْدَ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ» هُمْ الْمَلَائِكَةُ «وَالْأَرْضِ» مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُبَّادِ، وَالزُّهَّادِ، وَالْوُرَّاعِ بَلْ مُطْلَقُ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ مُطْلَقُ الْحَيَوَانَاتِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ «حَتَّى النَّمْلَةِ فِي جُحْرِهَا، وَالْحِيتَانِ» جَمْعٌ حُوتٍ بِمَعْنَى: السَّمَكِ «فِي الْبَحْرِ يُصَلُّونَ» يَدْعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ وَيُثْنُونَ «عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: أَيْ
يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ طَالِبِينَ لِتَخْلِيَتِهِمْ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ الْأَوْضَارِ، وَالْأَدْنَاسِ؛ لِأَنَّ بَرَكَةَ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَفَتْوَاهُمْ سَبَبٌ لِانْتِظَامِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ وَذِكْرُ النَّمْلَةِ، وَالْحُوتِ بَعْدَ ذِكْرِ الثَّقَلَيْنِ، وَالْمَلَائِكَةِ تَتْمِيمٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَخَصَّ النَّمْلَةَ، وَالْحُوتَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطَرِ وَحُصُولِ الْخَيْرِ، وَالْخِصْبِ بِبَرَكَتِهِمْ كَمَا قَالَ «بِهِمْ تُنْصَرُونَ وَبِهِمْ تُرْزَقُونَ» حَتَّى الْحُوتِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعُلَمَاءِ افْتِقَارَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ فِي جَوْفِ الْمَاءِ يَعِيشُ أَبَدًا بِبَرَكَتِهِمْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ» جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ الْعَالِمِ، وَالْعَابِدِ وَأَنَّ نَفْعَ الْعَابِدِ مَقْصُورٌ عَلَى نَفْسِهِ وَنَفْعَ الْعَالِمِ مُتَجَاوِزٌ إلَى الْخَلَائِقِ حَتَّى النَّمْلَةِ، وَذَكَرَ النَّمْلَةَ؛ لِأَنَّ دَأْبَهَا الْقِنْيَةُ وَادِّخَارُ الْقُوتِ فِي جُحْرِهَا ثُمَّ التَّدَرُّجُ مِنْهَا إلَى الْحِيتَانِ وَإِعَادَةُ كَلِمَةِ الْغَايَةِ لِلتَّرَقِّي، وَلَا رُتْبَةَ فَوْقَ رُتْبَةِ مَنْ تَشْتَغِلُ الْمَلَائِكَةُ مَعَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِذَا لَا يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ، وَإِنَّهُ لَيُتَنَافَسُ فِي دَعْوَةِ رَجُلٍ صَالِحٍ فَكَيْفَ بِدُعَاءِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَمَّا إلْهَامُ الْحَيَوَانَاتِ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ فَقِيلَ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمَنَافِعِهِمْ، وَالْعُلَمَاءُ هُمْ الْمُبَيِّنُونَ الْحِلَّ، وَالْحَرَامَ وَيُوصُونَ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهَا وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهَا حَتَّى بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ فَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ شُكْرٌ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَشَرِ آكَدُ؛ لِأَنَّ احْتِيَاجَهُمْ إلَى الْعِلْمِ أَشَدُّ وَعَوْدَ فَوَائِدِهِ عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ وَأَتَمُّ.
(مج. عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَنْبِيَاءُ» - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثُمَّ الْعُلَمَاءُ» .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَفْظَةُ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ يُحْسِنُونَ إلَى النَّاسِ بِعِلْمِهِمْ الَّذِي أَفْنَوْا بِهِ نَفَائِسَ أَوْقَاتِهِمْ أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ بِوِلَايَةِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالشَّفَاعَةِ جَزَاءً وِفَاقًا «ثُمَّ الشُّهَدَاءُ» اتَّفَقُوا بِنَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى فَضْلِ الْعَالِمِ عَلَى الشَّهِيدِ لِأَنَّ كُلَّ عَامِلٍ إنَّمَا يَتَلَقَّى عَمَلَهُ مِنْ الْعَالِمِ فَهُوَ أَصْلُهُ وَأُسُّهُ وَعَكَسَ آخَرُونَ بِأَحَادِيثَ.
قَالَ الزَّمْلَكَانِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَشْخَاصِ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ. فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ ثَبَتَ شَفَاعَةُ الصِّدِّيقِينَ، وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ. قُلْنَا إنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي لِمَا عَدَاهُ وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ بَلْ مُطْلَقُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا خُصُوصًا فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ إرْجَاعُ ذَلِكَ الْبَاقِي إلَى وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ.
(طك) طَبَرَانِيٌّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا» يَحْصُلُ «الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»
بِالْكَسْبِ، وَالْأَخْذِ عَنْ الْأُسْتَاذِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: أَيْ لَيْسَ الْعِلْمُ الْمُعْتَبَرُ إلَّا الْمَأْخُوذَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ وَتَعَلُّمُهُ طَلَبُهُ وَأَخْذُهُ عَنْهُمْ حَيْثُ كَانُوا فَلَا عِلْمَ إلَّا بِتَعْلِيمٍ مِنْ الشَّارِعِ أَوْ مِنْ نَائِبِهِ وَمَا تُفِيدُهُ الْعِبَادَةُ، وَالتَّقْوَى، وَالْمُجَاهَدَةُ، وَالرِّيَاضَةُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يُوَافِقُ الْأُصُولَ وَيَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيُوَسِّعُ الْعُقُولَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَعَلَّمُوا فَأَحَدُكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُحْتَاجُ إلَيْهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَعَلَّمُ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُتَكَبِّرٌ.
وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ قَالَ بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ انْتَهَى.
«وَ» إنَّمَا «الْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ» أَيْ التَّكَلُّفِ، وَالْإِتْعَابِ فِي تَحْصِيلِهِ لَا بِسُهُولَةٍ خِلَافَ مُتَوَهِّمِي جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ حُصُولِهِ بِلَا تَعَلُّمٍ بِنُورِ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ أَيْ التَّفَهُّمُ بِقُوَّةِ نُورِ الْخُشُوعِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالتَّقْوَى، لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إلَّا أَنْ يُقَالَ أَيْ الْعَمَلُ بِالْفِقْهِ وَكَمَالِ الْعَمَلِ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفِقْهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالرِّعَةِ، وَالزُّهْدِ، وَالتَّقْوَى، وَالْخَوْفِ، وَالْخَشْيَةِ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا.
«وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا» أَيْ كَامِلًا بَاعِثًا لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ «يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» عِلْمِ الشَّرِيعَةِ « {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] » سَوَاءٌ كَانَ خَوْفَ هَيْبَةٍ وَإِجْلَالٍ أَوْ خَوْفَ عَذَابٍ وَعِقَابٍ.
وَالتَّخْصِيصُ بِالْأَوَّلِ كَمَا تُوُهِّمَ يَقْتَضِي أَمْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاَلَّذِينَ بُشِّرُوا بِالْجَنَّةِ بَعِيدٌ فَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مِنْ لَا خَشْيَةَ لَهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَعِلْمُهُ الصُّورِيُّ لَيْسَ بِعِلْمٍ حَقِيقَةً (بِرّ) ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
(عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَلَّمُوا» أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ «الْعِلْمَ» الزَّاجِرَ النَّافِعَ وَمَبَادِئَهُ إذْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ وَشَرَائِطِهِ «فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى» الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ «خَشْيَةً» لَهُ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]«وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ وَمُذَاكَرَتَهُ» بِأَغْرَاضٍ حَمِيدَةٍ وَأَسَالِيبَ مُرْضِيَةٍ، وَفَرْقُ الْمُذَاكِرَةِ مَعَ التَّعَلُّمِ، الْأَوَّلُ: مَعَ مَنْ عَلِمَ كَالْمُسَاوِي، وَالثَّانِي: لِمَنْ لَا يَعْلَمُ كَالْمُسْتَفِيدِ «تَسْبِيحٌ» إمَّا تَنْزِيهُ حَقِيقَةٍ كَمَا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ أَوْ تَنْزِيهُ مُشَابَهَةٍ ثَوَابًا كَمَا فِي الْعَمَلِيَّةِ.
«، وَالْبَحْثَ» الْمُبَاحَثَةُ، وَالْمُنَاظَرَةُ لِمُجَرَّدِ إظْهَارِ الصَّوَابِ «عَنْهُ جِهَادٌ» ثَوَابُ جِهَادٍ فِي الْمَشَقَّةِ أَوْ فِي إعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْزَازِ كَلِمَتِهِ الْعُلْيَا، وَقِيلَ مُجَاهَدَةُ نَفْسٍ «وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ» ؛ لِأَنَّهُ بَذْلُ إحْسَانٍ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ ضَعِيفٌ مِنْ الْمُشَبَّهِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ إذْ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرَةِ «وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ» إلَيْهِ تَعَالَى يَعْنِي زِيَادَةَ قُرْبَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ.
وَقِيلَ: قُرْبَةٌ إلَى الْأَهْلِ لِكَوْنِهِ صِلَةً لَهُ «لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ» أَيْ شَعَائِرُهُ وَعَلَامَتُهُ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُمَا مُنْحَصِرَةٌ بِالْعِلْمِ ( «وَمَنَارُ» وَهُوَ الْجَبَلُ وَمَا يُوضَعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْحُدُودِ وَمَحَجَّةِ الطَّرِيقِ وَمَوْضِعِ النُّورِ «سُبُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ» لِمَا فِيهِ مِنْ الْأُنْسِيَّةِ «وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ» عَنْ الْأَوْطَانِ، وَالْأَقْرَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» .
«وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ» أَيْ الْعُزْلَةِ عَنْ النَّاسِ إذْ حَالُ الصَّاحِبِ، وَالْأَنِيسِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ «وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ» أَيْ مُرْشِدٌ لِمَا يَسُرُّ الْعَبْدَ «، وَالضَّرَّاءِ» حَالَ الضَّرَرِ كَالْمَرَضِ فَيُعْلَمُ بِهِ الْمَنَافِعُ، وَالْمَضَارُّ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا «، وَالسِّلَاحُ» الَّذِي يَكُونُ آلَةً لِلْمُحَارِبَةِ، وَالْمُقَاتَلَةِ «عَلَى الْأَعْدَاءِ» دِينِيًّا كَالنَّفْسِ، وَالشَّيْطَانِ وَفَسَقَةِ الْإِنْسَانِ وَدُنْيَوِيًّا بِإِضْمَارِ الْحَسَدَةِ، وَالْمُبْغِضِينَ «وَالزَّيْنُ» ، وَالزِّينَةُ، وَالْهَيْئَةُ الْحَسَنَةُ «عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]«فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً» جَمْعُ قَائِدٍ دُعَاةً إلَيْهِ يَجْذِبُونَ النَّاسَ بِسَلَاسِلِ الْحُجَجِ، وَالْبَيِّنَاتِ إلَى نَعِيمِ الْجَنَّاتِ «وَأَئِمَّةً» جَمْعُ إمَامٍ «يُقْتَصُّ آثَارُهُمْ» فِي الْقَامُوسِ قَصَّ أَثَرَهُ قَصًّا وَقَصِيصًا تَتَبَّعَهُ أَيْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ ( «وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ» .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: فَعَالٌ كَسَحَابٍ اسْمُ الْفِعْلِ الْحَسَنُ، وَالْكَرَمُ «وَيُنْتَهَى» بِالْمَفْعُولِ أَيْ يُرْجَعُ «إلَى آرَائِهِمْ» فِي الْأَحْكَامِ، وَالْحَوَادِثِ، وَالْوَقَائِعِ «وَتَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ» أَيْ صُحْبَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ فَلَا يُفَارِقُونَهُمْ وَيُلْهِمُونَهُمْ الْخَيْرَ وَيُحَذِّرُونَهُمْ مِنْ الشَّرِّ.
وَفِي الْقَامُوسِ: الْخِلَّةُ بِالْكَسْرِ هِيَ الصَّدَاقَةُ، وَالْإِخَاءُ، وَالْخُلَّةُ أَيْضًا الصَّدِيقُ لِلذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْوَاحِدِ، وَالْجَمْعِ، وَالْخِلُّ بِالْكَسْرِ، وَالضَّمِّ الصَّدِيقُ الْمُخْتَصُّ أَوْ لَا يُضَمُّ إلَّا مَعَ وُدٍّ «وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ» حِفْظًا لَهُمْ وَتَعْظِيمًا بِهِمْ وَتَوْقِيرًا إيَّاهُمْ «يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ» قِيلَ رُوحَانِيٍّ «وَيَابِسٍ» جُسْمَانِيٍّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالْبَرِّيِّ، وَالْبَحْرِيِّ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ.
فَقَوْلُهُ «وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ» أَيْ بَوَاقِي حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ إلَى آخِرِهِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
وَقَدْ عَرَفْت وَجْهَ التَّخْصِيصِ قَرِيبًا «وَسِبَاعُ الْبَرِّ» بِالْفَتْحِ ضِدَّ الْبَحْرِ ( «وَأَنْعَامُهُ» جَمْعُ نَعَمٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَقَدْ يُسَكَّنُ عَيْنُهُ، وَهِيَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ أَوْ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَنَاعِيمَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ «لِأَنَّ الْعِلْمَ» الْمَقْرُونَ بِالْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصِ «حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنْ» مَوْتِ «الْجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الْأَبْصَارِ» يَعْنِي نُورَ الْأَبْصَارِ وَضِيَاءَهَا «مِنْ الظُّلَمِ» لِأَنَّ كُلَّ خَفِيٍّ يَنْكَشِفُ بِالْعِلْمِ.
«يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِالْعِلْمِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ» جَمْعُ خَيِّرٍ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى كَثِيرِ الْخَيْرِ إمَّا لِلْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ أَوْ لِإِبْقَاءِ شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ وَحْيِ اللَّهِ أَوْ بِالتَّدْرِيسِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَالْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ «وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا» بِكَوْنِهِ مُمْتَازًا وَمُعَظَّمًا عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ وَلِذَا تَرَى الْعَالِمَ الْعَامِلَ، وَالْمُتَقَاعِدَ لِلطَّاعَةِ وَجِيهًا مُحْتَرَمًا وَمُهَابًا مُحْتَشِمًا عِنْدَ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَوَاضِعًا حَلِيمًا.
وَقَدْ يُظْهِرُ فِي يَدِهِ خَوَارِقَ بِالْكَرَامَاتِ الْعِيَانِيَّةِ، وَيَجْعَلُ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا خَادِمَةً لَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» وَجَعَلَ حُكْمَ مُهِينِهِ وَمُسْتَأْذِيهِ وَشَاتِمِهِ وَضَارِبِهِ
وَنَحْوِهَا مُمْتَازًا عَنْ أَحْكَامِ أَفْرَادِ النَّاسِ «، وَالْآخِرَةِ» بِالْعَفْوِ وَبِالْمَغْفِرَةِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَالْمَقَامِ الْعَلِيِّ فِي الْجَنَّةِ بَلْ مَقَامِ الْحَشْرِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ» فِي الْعِلْمِ الزَّاجِرِ لَا مُطْلَقِ الْعِلْمِ لَكِنْ بِالنِّيَّةِ الْمَحْمُودَةِ «يَعْدِلُ الصِّيَامَ» جَمْعُ صَوْمٍ يَعْنِي صَوْمًا كَثِيرًا الظَّاهِرُ أَنَّ قَلِيلَ التَّفَكُّرِ يَعْدِلُ كَثِيرَ الصَّوْمِ «وَمُدَارَسَتُهُ» قِرَاءَتُهُ عَلَى الْمَشَايِخِ «تَعْدِلُ الْقِيَامَ» قِيَامَ اللَّيَالِي بِالتَّهَجُّدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْفَضَائِلِ صَلَاةُ اللَّيْلِ. فَإِنْ قِيلَ قُرِّرَ فِي الْفِقْهِيَّةِ وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَرْجِيحُ الْعِلْمِ وَأَفْضَلِيَّتِهِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَالْمُعَادَلَةُ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ. قُلْنَا إمَّا الْمُرَادُ أَنَّ قَلِيلَ ذَلِكَ مُعَادِلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ ذَاكَ كَمَا أُشِيرَ أَوْ أَنَّ ذَاكَ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ زَادَ فَضْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذِهِ أَوْ أَعْمَالٌ أَوْ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ الْعَوَامّ، وَالْخَوَاصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَاخْتِلَافِ عُلُومِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ «بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ» بِأَدَاءِ حُقُوقِهِمْ مِنْ النَّفَقَةِ، وَالْكِسْوَةِ، وَالزِّيَادَةِ وَأَدَاءِ الْحَاجَاتِ وَسَائِرِ الْإِحْسَانِ الْفَاضِلَةِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ، وَحُكْمُهُ مِنْ الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ وَقُوَّةِ أَثَرِهِ مِنْ الثَّوَابِ، وَالْمَرْحَمَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالْعِلْمِ «وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ، وَالْحَرَامُ» تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحَصْرِ، وَفِيهِ قَصْرُ مَعْرِفَةِ الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ دُونَ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ مِنْ ادِّعَاءِ الْأَخْذِ عَنْ النَّبِيِّ أَوْ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ شَيْءٍ وَلَا مُرَاجَعَةِ كِتَابٍ بَلْ نَبِيٍّ «وَهُوَ» أَيْ الْعِلْمُ «إمَامُ الْعَمَلِ» لِتَبَعِيَّةِ الْعَمَلِ وَتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ «، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ» ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَمَلِ الشَّهَادَةُ فَتَدَبَّرْ.
«يُلْهَمُهُ» بِالْمَفْعُولِ أَيْ يُلْهِمُ اللَّهُ تَعَالَى حُذِفَ الْفَاعِلُ لِلتَّعَيُّنِ «السُّعَدَاءُ» مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى «وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ» يَعْنِي مَنْ لَمْ يُرْزَقْ الْعِلْمَ فَمِنْ الْأَشْقِيَاءِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ الْأَزَلِيَّةُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَبَا ذَرٍّ لَأَنْ تَغْدُوَ» وَاَللَّهِ لَأَنْ تَغْدُوَ خَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ اقْتَضَى كَمَالَ الْعِنَايَةِ بِمُوجِبِ الْحُكْمِ لِقُوَّةِ الْفَضْلِ وَزِيَادَةِ الشَّرَفِ أَوْ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى مُسَارَعَتِهِ أَيْ تَذْهَبُ فِي وَقْتِ الْغُدْوَةِ بِالضَّمِّ الْبَكْرَةِ أَوْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ كَالْغَدَاةِ قِيلَ تَخْصِيصُهُ بِهَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَوْقَاتِ، وَمَحَلُّ نُزُولِ الْبَرَكَاتِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِتَقْدِيمِهِ عَلَى سَائِرِ أُمُورِهِ وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى شَوْقِهِ، وَحِرْصِهِ «فَتَعَلَّمَ» أَيْ تَتَعَلَّمَ «آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ» .
فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْأَتْعَابِ، وَالتَّكَلُّفِ فِي تَحْصِيلِهِ وَيُنَاسِبُهُ عِظَمُ هَذَا الْأَجْرِ عَلَى وَفْقِ أَجْرِكُمْ بِقَدْرِ تَعَبِكُمْ فَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِمَنْ أَتْعَبَ فِي تَحْصِيلِهِ وَتَحْرِيضٌ وَتَرْغِيبٌ عَلَى الْكَدِّ، وَالْمِحَنِ فِي حُصُولِهِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى مُتَّحِدٌ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً وَمِنْ الْوَاحِدَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُتَعَارَفَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَوْ مَا دُونَ آيَةٍ وَأَنْ يَكُونَ لِتَحْصِيلِهِ أَصْلَ قِرَاءَتِهِ أَوْ لِتَرْتِيلِهِ أَوْ تَجْوِيدِهِ وَوُجُوهِ قِرَاءَتِهِ وَلِتَحْصِيلِ مَعَانِيه اللُّغَوِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ الْمُرَادِيَةِ فَإِذَا كَانَ حَالُ الْوَاحِدَةِ كَذَلِكَ فَحَالُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى مُقَاسَاةِ مَا ذُكِرَ كَذَلِكَ «خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ مِنْ النَّوَافِلِ» الظَّاهِرُ أَيُّ نَافِلَةٍ كَانَتْ وَلَوْ صَلَاةَ تَهَجُّدٍ بَلْ صَلَاةَ تَسْبِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالتَّخْصِيصُ بِلَا مُخَصِّصٍ خِلَافُ الْأَصْلِ وَأَمَّا التَّقْيِيدُ
بِالنَّوَافِلِ فَبِدَلَالَةِ شَوَاهِدِ الشَّرْعِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَرَفْعُ هَذَا الْقَيْدِ لَازِمٌ أَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقَارِئِ لِلثَّوَابِ دُونَ قِرَاءَتِهِ لِلتَّعَلُّمِ لَعَلَّ ذَلِكَ لِلْأَتْعَابِ أَوْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِقِرَاءَتِهِ بَعْدَهُ لِلثَّوَابِ أَوْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي هُوَ الْمُتَعَدِّي فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مُجَازَاةِ فَضْلِ مُعَلِّمٍ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى أَوْ بِالْمُسَاوَاةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ «وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا» نَوْعًا «مِنْ الْعِلْمِ» ، وَفِي إيثَارِ لَفْظِ النَّوْعِ إشَارَةٌ إلَى الْكَثْرَةِ الشَّخْصِيَّةِ وَقِيلَ: إشَارَةٌ إلَى لُزُومِ جَمِيعِ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَشَرَائِطِهَا كَمَسْأَلَةِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِجَمِيعِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا بِتَفَاصِيلِ أَبْحَاثِهَا صِحَّةً وَفَسَادًا، لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ.
«عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ» يَعْنِي سَوَاءٌ مِمَّا عَمِلَ هُوَ أَوْ مِمَّا لَمْ يَعْمَلْ كَتَعَلُّمِ الْفَقِيرِ مَسَائِلَ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالرَّجُلِ مَسَائِلَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ أَوْ الصِّيغَتَانِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ الْغَيْرِ أَوْ كَانَ الْعِلْمُ مِنْ الْفَضَائِلِ، وَالنَّوَافِلِ وَلَمْ يَعْمَلْ الْمُتَعَلِّمُ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ وَلَمْ يَسْتَدِمْ وَلَمْ يَسْتَغْرِقْ أَوْقَاتَهُ بِإِتْيَانِ تِلْكَ النَّوَافِلِ «خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ» لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مُتَعَدِّيَةً وَتِلْكَ قَاصِرَةٌ وَإِنَّ التَّعَلُّمَ اسْتِحْصَالُ وِرَاثَةِ النُّبُوَّةِ وَاسْتِحْفَاظُ أَسْرَارِ شَرِيعَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ حِكْمَةُ إنْزَالِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَمَصْلَحَةُ إرْسَالِ الرُّسُلِ الرَّبَّانِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي يَدُومُ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بَقَاءُ الدُّنْيَا كَمَا أُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنْ اسْتَقَامَتْ أُمَّتِي فَلَهَا يَوْمٌ وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِمْ فَلَهَا نِصْفُ يَوْمٍ» لَا يَخْفَى مَا فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ عَلَى الْعَمَلِ.
وَقِيلَ هَذَا مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ لِلْعِلْمِ، لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ خِطَابَ الرَّسُولِ لِلْوَاحِدِ خِطَابٌ لِلْجَمَاعَةِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً وَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ مِنْ أَعْيَانِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ خَامِسٌ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ زُهَّادِهِمْ.
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ ذَاكَ رَجُلٌ وَعَى عِلْمًا عَجَزَ عَنْهُ النَّاسُ ثُمَّ أَوْكَأَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِنْهُ وَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَصْدَقُكُمْ أَبُو ذَرٍّ» .
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مَا انْبَسَطْتُمْ إلَى نِسَائِكُمْ وَلَا تَقَارَرْتُمْ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنَّ اللَّهَ خَلَقَنِي يَوْمَ خَلَقَنِي شَجَرَةً تُعْضَدُ، وَيُؤْكَلُ ثَمَرُهَا، وَقِيلَ لَهُ اتَّخَذَ ضَيْعَةً كَفُلَانٍ وَفُلَانٍ قَالَ وَمَا أَصْنَعُ أَنْ أَكُونَ أَمِيرًا وَإِنَّمَا يَكْفِينِي كُلَّ يَوْمٍ شَرْبَةَ مَاءٍ أَوْ لَبَنٍ، وَفِي الْجُمُعَةِ قَفِيزًا مِنْ قَمْحٍ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا فِي التتارخانية «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» .
«الْإِيمَانُ عُرْيَانٌ فَلِبَاسُهُ التَّقْوَى وَزِينَتُهُ الْحَيَاءُ وَثَمَرَتُهُ الْعِلْمُ» .
«خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْفِقْهُ» .
«مَوْتُ قَبِيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عَالِمٍ» .
«مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّهُ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» .
«الْعَالِمُ أَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» .
«خَمْسٌ مِنْ النَّظَرِ عِبَادَةٌ: النَّظَرُ إلَى الْأَبَوَيْنِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي زَمْزَمَ عِبَادَةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا، وَالنَّظَرُ إلَى الْعَالِمِ عِبَادَةٌ» . «وَمَنْ أَحَبَّ الْعِلْمَ، وَالْعُلَمَاءَ لَا تُكْتَبُ خَطِيئَةُ أَيَّامِ حَيَاتِهِ» ، «يَبْعَثُ اللَّهُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ الْعُلَمَاءَ فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إنِّي لَمْ أَضَعْ فِيكُمْ عِلْمِي إلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ فَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ لِأُعَذِّبَكُمْ انْطَلِقُوا فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» ، «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَقِّرُوا عَبْدًا أَنِّي آتَيْته عِلْمًا فَإِنِّي لَمْ أُحَقِّرْهُ حِينَ عَلَّمْته» ، «جُلُوسُ سَاعَةٍ عِنْدَ مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا وَخَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ وَخَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ فَرَسٍ يَغْزُو بِهَا الْمُؤْمِنُ» . «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» .
«طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ، «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ» .
«مَا آتَى اللَّهُ عَالِمًا عِلْمًا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ
مِنْ الْمِيثَاقِ كَمَا أَخَذَ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يُبَيِّنَهُ وَلَا يَكْتُمَهُ» ، «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .
(الْآثَارُ) عَلَى مَا فِيهَا أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُك وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزَّ مِنْ الْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُيِّرَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد بَيْنَ الْعِلْمِ، وَالْمَالِ، وَالْمُلْكِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ الْمَالَ، وَالْمُلْكَ مَعَهُ.
قَالَ الْحَسَنُ يُوزَنُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ فَيَرْجَحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ لَأَنْ أَتَعَلَّمَ مَسْأَلَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ الْعَالِمُ، وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيكَانِ فِي الْخَيْرِ وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ كُنَّ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا وَلَا تَكُنْ الرَّابِعَ فَتَهْلِكَ.
قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ فَعُمِلَ بِهِ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ ذَلِكَ الْعَمَلِ انْتَهَى.
(أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ) الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ (فِي الْخُلَاصَةِ سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمُتَفَقِّهَةِ هِيَ أَفْضَلُ أَمْ دَرْسُ الْفِقْهِ) تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَمُطَالَعَةً.
(قَالَ حُكِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ) بَلْدَةٌ مِنْ قُرْبِ بُخَارَى (أَنَّهُ قَالَ: النَّظَرُ) أَيْ التَّأَمُّلُ كَالْمُطَالَعَةِ (فِي كُتِبَ أَصْحَابِنَا) الْفُقَهَاءِ (مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ) مُدَارَسَةً (أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ) الَّذِي يَكُونُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ التَّهَجُّدِ. اعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِمَّا فِي النَّهَارِ وَقِرَاءَتُهُ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِي اللَّيْلِ.
وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه يَعْدِلُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ قَائِمًا مِائَةَ حَسَنَةٍ وَجَالِسًا خَمْسِينَ وَإِنْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ عَلَى وُضُوءٍ فَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَعَشْرٌ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ قِيَامُهُ بِالصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِقِرَاءَةٍ فَيَكُونُ حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مُطَالَعَةَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ فَضْلًا عَنْ دِرَاسَتِهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ فِي الصَّلَاةِ وَيَكُونُ فِي اللَّيْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدِّرَاسَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُطَالَعَةِ فَبَيْنَ الدِّرَاسَةِ الْفِقْهِيَّةِ وَمُطْلَقِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَرَاتِبُ فِي الْفَضْلِ. وَلَا يَخْفَى عَلَى هَذَا مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَحْكَمِ أُسْلُوبٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الدَّرْسِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالْجَوَابَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَمُطَالَعَةَ الْكُتُبِ فَلَا مُطَابَقَةَ وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لَعَلَّ وَجْهَ الْفَضْلِ أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ ثَمَرَاتُ الْقُرْآنِ وَنَتَائِجُهُ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَثَوَابِ التِّلَاوَةِ لِمُجَرَّدِ التَّبَرُّكِ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ عِبَادَةٌ قَاصِرَةٌ، وَالْمُطَالَعَةَ مُتَعَدِّيَةٌ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُطَالَعَةُ لِأَجْلِ الدِّرَاسَةِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ وَكَذَا دَرْسُ الْفِقْهِ لِلْفَقِيهِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَفِي التتارخانية النَّظَرُ فِي الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] خَمْسَةَ آلَافِ مَرَّةً.
(وَعَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْفَقِيهِ هَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ التَّسْبِيحِ) الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ نَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ، وَالصَّلَاةُ النَّافِلَةُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْفَضَائِلِ مِنْ الْعِبَادَاتِ.
(قَالَ) فِي الْجَوَابِ (تِلْكَ) صَلَاةُ التَّسْبِيحِ (طَاعَةُ الْعَامَّةِ) الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَفْضَلِ الطَّاعَاتِ وَأَمَّا الْخَوَاصُّ أَيْ الْقَادِرُونَ عَلَى اشْتِغَالِ الْفِقْهِ مُطَالَعَةً أَوْ تَدْرِيسًا أَوْ إفْتَاءً فَطَاعَتُهُمْ بَعْدَ الْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ الِاشْتِغَالُ بِالْفِقْهِ بَلْ قَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَالْمُضَايَقَةِ كَمَا فِي الدُّرَرِ (فَقِيلَ لَهُ) : عَلَى طَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَالْمُقَابَلَةِ (فَلِأَنَّ الْفَقِيهَ يُصَلِّي صَلَاةَ التَّسْبِيحِ، قَالَ) جَوَابًا لَهُ (هُوَ) أَيْ ذَلِكَ الْمُصَلِّي صَلَاةَ التَّسْبِيحِ (عِنْدِي
مِنْ الْعَامَّةِ) حَيْثُ تَرَكَ الْأَفْضَلَ مَعَ إمْكَانِهِ وَفَعَلَ الْمَفْضُولَ بِلَا دَاعِيَةٍ. وَجْهُ الْفَضْلِ مَا عَرَفْت آنِفًا لَكِنْ يَشْكُلُ كَمَا عَرَفْتَ سَابِقًا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعُلُومِ كُلِّهَا هُوَ الْأَعْمَالُ، وَالْعُلُومُ وَسَائِلُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ثَوَابَ الِاشْتِغَالِ بِالْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْغَيْرِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ بِذَلِكَ وَظَاهِرُ السَّوْقِ هُوَ الِانْطِلَاقُ فَتَأَمَّلْ.
(انْتَهَى) كَلَامُ الْخُلَاصَةِ (وَفِي التَّجْنِيسِ) لِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ الْإِمَامِ الْفَرْغَانِيِّ (الرَّجُلُ) وَكَذَا الْمَرْأَةُ (إذَا تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ) مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ وَوَاجِبُهَا بَلْ سُنَنُهَا عَلَى مَا حُرِّرَ فِي الْفِقْهِيَّة (وَلَمْ يَتَعَلَّمْ الْكُلَّ) كُلَّ الْقُرْآنِ (فَإِذَا وَجَدَ) ذَلِكَ الرَّجُلُ (فَرَاغًا) أَيْ وَقْتًا خَالِيًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ وَكَذَا مِنْ اكْتِسَابِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ (كَانَ تَعَلُّمُ) بِوَاقِي (الْقُرْآنِ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ) وَلَوْ صَلَاةَ التَّسْبِيحِ (لِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ) سَوَاءٌ مِنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ أَوْ مِنْ الْمُصْحَفِ صَحِيحًا مُجَوَّدًا (عَلَى الْأُمَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَرْضَ وَلَوْ كِفَايَةً أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُقِيمُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ فَضْلًا وَكَانَ مُسْقِطًا عَنْ الْغَيْرِ الْوُجُوبَ فَكَأَنَّهُ أَحْرَزَ الْفَضِيلَتَيْنِ وَوُجُودُ الْغَيْرِ عَلَى خَطَرِ الزَّوَالِ بِالْمَوْتِ أَوْ النِّسْيَانِ مَثَلًا (وَتَعَلُّمُ الْفِقْهِ) زَائِدًا عَلَى مَا لَزِمَ عَلَيْهِ (أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ) لِمَا ذُكِرَ أَيْضًا مِنْ كَوْنِهِ غَايَةَ الْقُرْآنِ وَنِهَايَةَ حِكْمَةِ نُزُولِ الْفُرْقَانِ وَفَائِدَةَ مَصْلَحَةِ النُّبُوَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَأَيْضًا التَّعْدِيَةَ وَعُمُومَ النَّفْعِ وَعِظَمَ الْقَدْرِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى رُتْبَةِ وِرَاثَةِ النُّبُوَّةِ (انْتَهَى) مَا فِي التَّجْنِيسِ.
(وَفِيهِ) فِي التَّجْنِيسِ (أَيْضًا طَلَبُ الْعِلْمِ) الشَّرْعِيِّ (، وَالْفِقْهِ) أَيْ الْفَهْمِ، وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ (وَالْعَمَلِ بِهِ إذَا صَحَّتْ النِّيَّةُ) بِنَحْوِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَعَالَى وَتَحْصِيلِ رِضَاهُ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى غَيْرِهِ (أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ) بِالْكَسْرِ الطَّاعَاتِ كَنَوَافِلِ الصَّلَاةِ (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا عُبِدَ اللَّهُ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ» إنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ كَثِيرٌ مَعَ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ لَا يَنْفَعُ مَعَ الْجَهْلِ فَصِحَّةُ الْعَمَلِ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:«أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إنَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُك مَعَهُ قَلِيلُ الْعَمَلِ وَكَثِيرُهُ وَإِنَّ الْجَهْلَ لَا يَنْفَعُك مَعَهُ قَلِيلُ الْعَمَلِ وَلَا كَثِيرُهُ» . فَإِنْ قِيلَ: إنَّ لِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضَاتٍ كَثِيرَةً نَحْوَ حَدِيثِ «إنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» .
وَحَدِيثِ «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الدُّعَاءُ» وَحَدِيثُ «أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَفْضَلُ الْعِبَادِ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا» .
وَفِيهِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَرَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ بَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ لَلْأَبَدَانِ، وَالرُّوحِ لِلْإِنْسَانِ وَهَلْ لِلْإِنْسَانِ غِنًى عَنْ الْحَيَاةِ وَهَلْ لَهُ عَنْ الرُّوحِ مَعْدِلٌ وَإِنْ شِئْت قُلْت بِهِ بَقَاءُ الدُّنْيَا، وَقِيَامُ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضِ. قُلْنَا أَوَّلًا نَحْنُ مُقَلِّدُونَ وَحُجَّتُنَا هِيَ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ وَكُلُّ مَا خَالَفَ لِنَصِّ أَقْوَالِهِمْ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِهَا لَا بِهِ وَلَا جَائِزَ أَنَّ هَذَا النَّصَّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ كَمَا لَا جَوَازَ فِي الْحَمْلِ عَلَى عَدَمِ اطِّلَاعِ مَعَانِيه فَالْحَدِيثُ الَّذِي وَافَقَ عَلَى قِيَاسِهِمْ لَا سِيَّمَا وَقَعَ فِي احْتِجَاجِهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ أَوْ الْعَمَلَ فَأَفْضَلُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ إضَافِيٌّ يَعْنِي دُونَ فَضْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْأَوْقَاتِ. وَقِيلَ فِي تَعَارُضِ حَدِيثِ الصَّلَاةِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الْفِعْلِيَّةِ وَهَذَا عَامٌّ لَهَا وَلِغَيْرِهَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ.
(وَلِأَنَّهُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِقَوْلِهِ (أَعَمُّ نَفْعًا؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ) بِالْعَمَلِ
(وَإِلَى غَيْرِهِ) بِالتَّعْلِيمِ، وَالْإِفْتَاءِ، وَالْعِظَةِ، وَالْقَضَاءِ (وَنَفْعَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ يَرْجِعُ إلَى الْعَامِلِ خَاصَّةً) يَعْنِي نَفْعَ سَائِرِ الْأَعْمَالِ لَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى عَامِلِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَكُونُ نَفْعُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَكُونُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى احْتِمَالِ كَوْنِ مَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ قَوِيًّا عَمَّالَهُ وَلِغَيْرِهِ مَعًا لِتَسَاوِي احْتِمَالِ الْعَكْسِ فِيهِ أَيْضًا لَكِنْ يَشْكُلُ بِمِثْلِ حَدِيثِ: مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً إذْ الْآتِي بِمِثْلِ عَمَلِ الْعَامِلِ لِأَجْلِ رُؤْيَتِهِ مِنْهُ يُؤْجَرُ الْعَامِلُ مِثْلَ أَجْرِ ذَلِكَ الْآتِي فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا أَيْضًا نَعَمْ قَلِيلٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ بَلْ طَبِيعَةٌ لَهُ وَعَارِضٌ لِلْعَمَلِ فَافْهَمْ.
وَأَمَّا إثَابَةُ دَالِّ الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فَلَا يَبْعُدُ إرْجَاعُهُ إلَى الْعِلْمِ كَالتَّعْلِيمِ (قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ) صَاحِبُ الْهِدَايَةِ (عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) مِنْ الْخَطَأِ، وَالزَّيْغِ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَقْوَالِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْقَوْلِ (وَكَذَا الِاشْتِغَالُ بِالزِّيَادَةِ) مِنْ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ (بَعْدَمَا تَعَلَّمَ قَدْرَ مَا يَحْتَاج إلَيْهِ أَفْضَلُ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذَا السَّوْقِ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِذًا لَا فَضْلَ فِي الْعَمَلِ أَصْلًا، وَقَدْ قَالَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ.
حَاصِلُهُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا طَلَبُ الْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ عُلِمَ الْحَالُ فَلَا نُسَلِّمُ حُصُولَ أَصْلِ الْفَضْلِ فِي الْعَمَلِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أُرِيدَ وَرَاءَ عِلْمِ الْحَالِ فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ وَكَذَا الِاشْتِغَالُ. . . إلَخْ إذْ هُوَ حِينَئِذٍ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ (إذَا كَانَ لَا يَدْخُلُ النُّقْصَانُ فِي فَرَائِضِهِ) وَكَذَا الْوَاجِبَاتُ، وَالسُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَهُ الْقَصْرُ بِالْفَرَائِضِ، وَالْأَوْلَى التَّعْمِيمُ.
(وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا قُلْنَا) مِنْ نَفْعِ الْغَيْرِ أَيْضًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» لَا مَا زَعَمَ بَعْضُ الزُّهَّادِ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مَقْصُودَةً أَصْلِيَّةً، وَالْعِلْمُ وَسِيلَةٌ وَلِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَا يَحْصُلُ الْحَالَاتُ السَّنِيَّةُ مِنْ مُشَاهَدَاتِ الْأَنْوَارِ وَرُؤْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي: لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّفْيِ مِنْ دَلِيلٍ وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِثْبَاتِ فَمُعَارَضٌ بِمِثْلِهَا بِأَدِلَّةِ النَّفْيِ كَمَا سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ غَايَتُهُ مَا أُشِيرَ أَيْضًا أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ هُوَ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ وَلَا مَدْخَلَ لِدِرَايَةِ الْغَيْرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ.
لَكِنَّ قَائِلَ هَذَا الْحُكْمِ هُوَ الْمُتَصَوِّفَةُ، وَقَدْ كَثُرَ فِيهِمْ الْمُجْتَهِدُ كَالْغَزَالِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ عَلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ مِمَّا اخْتَصَّ فَهْمُهُ بِالْمُجْتَهِدِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعَالِمِ حَظٌّ فِيهِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَتَقَاعَدُ لِلْعَمَلِ بَعْدَ تَحْصِيلِ عِلْمِ الْحَالِ وَمِنْ يَتَقَاعَدُ لَهُ بَعْدَ تَحْصِيلِ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَكَلَامُ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي الثَّانِي فَقَطْ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْأَوَّلِ لَكِنْ حِينَئِذٍ لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَالسَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ الْفَاتِرِ أَنَّ مَنْ لَا يَأْخُذَ ذَوْقًا مِنْ الْعِلْمِ لِغَبَاوَتِهِ مَثَلًا فَالْأَفْضَلُ لَهُ الْعَمَلُ وَمِنْ لَا يَأْخُذُ ذَوْقًا مِنْ الْعَمَلِ كَذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ لَهُ الْعِلْمُ كَمَا يَقْرَبُ إلَيْهِ كَلَامُ الْبَزَّازِيِّ بَعْضَ الْقُرْبِ.
(وَصِحَّةُ النِّيَّةِ) الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا فِي التَّعَلُّمِ (أَنْ يَطْلُبَ بِهِ) بِطَلَبِ الْعِلْمِ (وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى) رِضَاهُ (وَ) نَجَاةَ (الدَّارِ الْآخِرَةِ) وَثَوَابَهَا (وَلَا يَنْوِي بِهِ طَلَبَ الدُّنْيَا) كَالْجَاهِ، وَالْمَنَاصِبِ وَجَلْبِ الْمَالِ، وَالتَّعَزُّزِ بَيْنَ الْأَقْرَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ (وَقِيلَ إذَا أَرَادَ) طَالِبُ الْعِلْمِ (أَنْ يُصَحِّحَ نِيَّتَهُ يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْ الْجَهْلِ وَمَنْفَعَةَ الْخَلْقِ) بِالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ، وَالْخَطَابَةِ لَهُمْ سِيَّمَا عَدَمُ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ (وَإِحْيَاءَ الْعِلْمِ) بَقَاءَهُ
سِيَّمَا عِنْدَ نُدْرَةِ أَهْلِهِ (انْتَهَى) كَلَامُ التَّجْنِيسِ لَا كَلَامَ قَبْلُ كَمَا تُوُهِّمَ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْخُرُوجِ، وَالْمَنْفَعَةِ لَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخِرَةُ فَإِنْ أُرِيدَ الْإِطْلَاقُ فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهَا نِيَّةً مُقَيَّدَةً وَإِنْ أُرِيدَ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ فَرَاجِعٌ إلَيْهِ لَعَلَّ لِهَذَا مَرَضِهِ فَأُخِّرَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلِ وَبِمَا ذُكِرَ عَرَفْت عَدَمَ اتِّحَادِهِمَا بَلْ تَلَازُمَهُمَا كَمَا تَوَهَّمَ.
(وَفِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ) لِمُزَاحَمَةِ الْغَوَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ وَمُعَارَضَةِ الْأَوْهَامِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ (فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ) لِأَجْلِ عَدَمِ الْخُلُوصِ إذْ ضَرَرُ الْجَهْلِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ عَدَمِ خُلُوصِ النِّيَّةِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ تَعَارُضِ الضَّرَرَيْنِ ارْتِكَابُ الْأَخَفِّ كَمَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْمَفْسَدَتَيْنِ كَذَلِكَ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ (لِأَنَّهُ إذَا تَعَلَّمَ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ يُرْجَى) وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ (أَنْ يُصَحِّحَ الْعِلْمُ) فَاعِلُ يُصَحِّحُ (نِيَّتَهُ) فَإِنَّ الْعِلْمَ إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَخُلِّيَ وَطَبْعُهُ يَنْفِي الْمَفَاسِدَ.
وَالْمَانِعُ أَمْرٌ عَرَضِيٌّ فَعَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ (قَالَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) تَأْيِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ إذْ هُوَ مِنْ التَّابِعِينَ يَصْلُحُ كَلَامُهُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَنَا سِيَّمَا فِيمَا لَا يُعْلَمُ خِلَافُ غَيْرِهِ وَقَدْ كَانَ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ كَمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ (طَلَبْنَا الْعِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النِّيَّةِ) يَعْنِي لَيْسَ لَنَا عِنْدَ طَلَبِ الْعِلْمِ نِيَّةٌ كَامِلَةٌ تَامَّةٌ مَحْمُودَةٌ أَيْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى تَصْفِيَةِ نِيَّتِنَا فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ أَوْ لَيْسَ لَنَا نِيَّةٌ حَمِيدَةٌ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ (ثُمَّ رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ) فِي الْعِلْمِ (تَصْحِيحَ النِّيَّةِ) بِقُوَّةِ الْعِلْمِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا هُوَ لَهُ أَوْ بِمُقَاسَاةِ الْغَيْرِ وَبِتَجْرِبَةِ عَدَمِ ثَمَرَتِهِ أَوْ بِبُلُوغِ السِّنِّ إلَى رُتْبَةِ الِانْحِطَاطِ الَّتِي يَنْتَهِي عِنْدَهَا تَوَقُّدُ نِيرَانِ آمَالِهِ وَتَنْطَفِئُ سَوْرَةُ أَمَانِيه (انْتَهَى وَفِيهِ) أَيْ الْبُسْتَانِ.
(قَالَ بَعْضُهُمْ) سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ (تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى) امْتَنَعَ (الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى) الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ فِي فَأَبَى بِمَعْنَى ثُمَّ إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْإِبَاءَ لَيْسَ فِي فَوَرَانِ حُصُولِ الْعِلْمِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ سِيَّمَا عَنْ مِثْلِ سُفْيَانَ لَكِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْوِجْدَانِيَّاتِ تَصْلُحُ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الظَّنِّيَّةِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْمِيزَانِيَّةِ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِمَّنْ يَحْسُنُ بِهِ الظَّنُّ لِعِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ وَرِيَاضَتِهِ مِنْ الْخَطَابَةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا تَرْغِيبُ الْجُمْهُورِ إلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ وَكَذَا تَنْفِيرُ الشَّرِّ وَسُفْيَانُ مِنْ كِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ وَعُظَمَاءِ الصُّوفِيَّةِ (وَالظَّاهِرُ) مِنْ قَوْلِ هَذَا الْبَعْضِ تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ (أَنَّ مُرَادَهُ) بِالْعِلْمِ عَلَى مَا قِيلَ لَعَلَّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِ الْبُسْتَانِ فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ إلَى آخِرِهِ.
قَالَ الْمُحَشِّي فِي فَائِدَةِ هَذَا الْقَوْلِ: لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْفَقِيهِ شَامِلًا لِكُلِّ عِلْمٍ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ إعْلَامَ مُرَادِهِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْخَبْطِ مَنْ كَانَ قَاصِرَ النَّظَرِ.
قَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَدَمُ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ فِي غَيْرِ الْعُلُومِ الزَّاجِرَةِ فَالْأَفْضَلِيَّةُ فِي جَانِبِ التَّرْكِ. أَقُولُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ غَيْرِ الزَّاجِرَةِ مُقَدَّمَاتِ تِلْكَ الزَّاجِرَةِ وَمَبَادِئِهَا كَالْعَرَبِيَّةِ فَقَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَأَنَّ غَيْرَهَا كَالْفَلْسَفِيَّاتِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُلُّ عِلْمٍ يَصِحُّ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ إذْ بَعْضُهُ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً وَلَا يَكُونُ صَلَاحُهُ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ.
(الْعُلُومُ الزَّاجِرَةُ) الْفِقْهُ، وَالتَّصَوُّفُ وَالتَّفْسِيرُ، وَالْحَدِيثُ، وَالتَّخْصِيصُ بِغَيْرِ الْأَوَّلِ كَمَا تُوُهِّمَ مَعَ عَدَمِ اسْتِقَامَتِهِ فِي نَفْسِهِ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْفِقْهِ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى قَوْلِهِ: (بِدَلِيلِ قَوْلِهِ) أَيْ قَوْلِ الْبُسْتَانِ (فِيمَا سَبَقَ) لَا هُنَا بَلْ فِي كِتَابِهِ فَلَعَلَّ أَنَّ مُعْظَمَ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ
مِنْ ذِكْرِهِ نَقْدَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْفَوَائِدِ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ رُجُوعُ ضَمِيرِ قَوْلِهِ إلَى الْبَعْضِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَمَقُولُ الْقَوْلِ قَوْلُهُ (وَإِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ حَظًّا) نَصِيبًا (وَافِرًا) وَقِيلَ الْمَقُولُ قَوْلُهُ هُنَا فَإِنَّهُ يُرْجَى أَنْ يُصَحِّحَ الْعِلْمَ.
وَقَوْلُهُ وَإِذَا أَخَذَ لَيْسَ مِنْ الْبُسْتَانِ بَلْ مِنْ الْمُصَنِّفِ (مِنْ الْفِقْهِ) وَرَاءَ الْحَاجَةِ (يَنْبَغِي) قِيلَ يَجِبُ، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ لَعَلَّ الثَّانِيَ هُوَ الْحَقُّ إذْ عِلْمُ نَحْوَ عِلْمِ الزُّهْدِ بَعْدَ الْفِقْهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ (أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْفِقْهِ) فَقَطْ إذْ رُبَّمَا يُوقِعُهُ فِي الْغَفْلَةِ (وَلَكِنْ يَنْظُرُ) بِتَأَمُّلٍ (فِي عِلْمِ الزُّهْدِ) أَيْ التَّصَوُّفِ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ الْقُلُوبِ مِنْ الذَّمِيمَةِ أَوْ الْحَمِيدَةِ فَيَزْهَدُ عَنْ الدُّنْيَا، وَيَرْغَبُ فِي الْأُخْرَى.
(وَفِي كَلَامِ الْحُكَمَاءِ) الْمُشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ خَلَصَ بِاَللَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» وَهِيَ عُلُومُ الْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّة، وَالْإِلْهَامِ لَا عُلُومُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ حُكَمَاءَ. وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ بَلْ هُوَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ.
عَنْ الشَّيْخِ الشَّاذِلِيِّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتَوَغَّلْ فِي عِلْمِنَا هَذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ (وَشَمَائِلِ الصَّالِحِينَ) أَخْلَاقِهِمْ مِنْ نَحْوِ الْوَرَعِ، وَالزُّهْدِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ (فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَعَلَّمَ الْفِقْهَ) وَحْدَهُ (وَلَمْ يَنْظُرْ فِي عِلْمِ الزُّهْدِ، وَالْحِكْمَةِ قَسَا) مِنْ الْقَسْوَةِ (قَلْبُهُ) لِاشْتِغَالِهِ بِعُلُومٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ (وَالْقَلْبُ الْقَاسِي بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ مِنْ رَحْمَتِهِ الْكَامِلَةِ فَالْفِقْهُ الْمُجَرَّدُ بِلَا زُهْدٍ وَحِكْمَةٍ لَيْسَ بِمَمْدُوحٍ بَلْ مَذْمُومٌ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِغَفْلَةِ الْقَلْبِ وَلَعَلَّ هَذَا مَا قَالُوا مَنْ تَفَقَّهَ تَفَسَّقَ وَإِنْ أَمْكَنَ لَهُ وَجْهٌ آخَرُ (انْتَهَى) كَلَامُ الْبُسْتَانِ.
وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ الْقُلُوبِ مِنْ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» .
وَعَنْ الشِّرْعَةِ مَعَ شَرْحِهِ وَيَقْتَبِسُ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ كُلِّ فَنٍّ حَظًّا كَافِيًا لِحَاجَتِهِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَعْضِ فَقَدْ قِيلَ مَنْ طَلَبَ اللَّهَ بِعِلْمِ الْكَلَامِ وَحْدَهُ تَزَنْدَقَ، وَبِالزُّهْدِ وَحْدَهُ ابْتَدَعَ، وَبِالْفِقْهِ وَحْدَهُ تَفَسَّقَ ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَإِذَا كَانَ الْحَالُ هَذَا) أَيْ قَسْوَةَ الْقَلْبِ (فِي الْفِقْهِ) الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ عَلَى الِاتِّفَاقِ
(فَمَا ظَنُّك بِسَائِرِ الْعُلُومِ الْغَيْرِ الزَّاجِرَةِ) كَالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ قَسْوَةَ الْقَلْبِ، وَالْبُعْدَ مِنْ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ زُهْدًا فَإِنَّمَا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا» وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَسُوغُ إهْمَالُ عِلْمِ الزُّهْدِ عِنْدَ اشْتِغَالِ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ وُجُوبًا أَوْ اسْتِحْبَابًا كَمَا عَرَفْت
(وَفِي التَّجْنِيسِ رَجُلٌ تَفَقَّهَ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَامْتَنَعَ عَنْ التَّعْلِيمِ فَإِنْ كَانَ النَّاسُ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِغَيْرِهِ) بِسَبَبِ تَعْلِيمِ الْغَيْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ (أَجْزَأَهُ) أَيْ الِاشْتِغَالُ مَعَ الِامْتِنَاعِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْإِجْزَاءِ إشَارَةٌ إلَى أَدْنَى الْجَوَازِ إذْ الْإِتْيَانُ فَرْضُ كِفَايَةٍ (كَمَا فَعَلَهُ دَاوُد الطَّائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) مَنْسُوبٌ إلَى قَبِيلَةِ طَيِّئٍ كَحَاتِمٍ الطَّائِيِّ (فَإِنَّهُ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ) لِوُجُودِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْغَيْرِ (وَاعْتَزَلَ النَّاسَ) عَنْ اخْتِلَاطِهِمْ وَأُنْسِهِمْ لَا كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ تَرْكِ نَحْوِ الْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَاتِ لِكَمَالِ الْعُزْلَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَأَمَّا الْوَحْشَةُ إلَى الْجِبَالِ، وَالْمَفَاوِزِ الَّتِي لَا عُمْرَانَ فِي قُرْبِهَا فَالتَّرْكُ وَإِنْ جَازَ حِينَئِذٍ لَكِنْ لَعَلَّهُ تَرْكُ الْأَفْضَلِ إذْ فِعْلُ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ النَّوَافِلِ فَضْلًا عَنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ فَإِيثَارُ فَضْلٍ يَدْعُو إلَى تَرْكِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالْوَاجِبَاتِ تَرْكُ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ الْفَاضِلِ (وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّعْلِيمِ) لِاقْتِضَائِهِ الصُّحْبَةَ بِالْغَيْرِ وَكُلُّ رَدِيءِ الْخُلُقِ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا.
(وَهَذَا) أَيْ الْإِجْزَاءُ (لِأَنَّهُ) أَيْ طَرِيقُ اشْتِغَالِ الْعِبَادَةِ فَقَوْلُهُ (أَخْذٌ) لَيْسَ بِفِعْلٍ بَلْ مَصْدَرٌ وَخَبَرَانِ (بِالْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ أَفْضَلَ) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهُ هُوَ ذَلِكَ أَيْ عَدَمُ اشْتِغَالِ التَّعْلِيمِ لِلْعِبَادَةِ وَقَدْ سَمِعْت مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا ذُكِرَ (لِأَنَّ نَفْعَهُ أَوْفَرُ) لِتَعَدِّيهِ دُونَ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا قَاصِرَةٌ (فَلَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ) .
وَفِي التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى أَوْلَوِيَّةِ التَّرْكِ كَمَا هُوَ حَالُ الْفَاضِلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْضَلِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَاوُد مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَسَنِّنَةِ وَهُمْ يَلْتَزِمُونَ عَزَائِمَ كُلِّ الْأَعْمَالِ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا الرُّخَصَ كَالْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ارْتِكَابُ مَا لَا بَأْسَ.
أَقُولُ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْعَكْسِ عِنْدَهُمْ (انْتَهَى) .
(وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ إلَى الْغَيْرِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ) اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» وَتَلْمِيحٌ إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» ، وَالْحَدِيثَانِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الثَّانِي أَيْ بِالْهِدَايَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْلِيمِ لِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّرَحُّمِ، وَالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْإِحْسَانَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى فَضْلِ قَضَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ وَنَفْعِهِمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ إشَارَةٍ أَوْ نُصْحٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى خَيْرٍ أَوْ إعَانَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ تَحْتَ ظِلَالِهِ
…
فَأَحَبُّهُمْ طُرًّا إلَيْهِ أَبَرُّهُمْ لِعِيَالِهِ
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِمَا حَاصِلُهُ الْإِحْسَانُ بِالْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالنَّفْعِ الدِّينِيِّ، وَالدُّنْيَوِيِّ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِمَامَ الْعَادِلَ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لِوُفُورِ نَفْعِهِ لِلْعَامِّ، وَالْخَاصِّ هَذَا. ثُمَّ أَقُولُ إنْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِلَا رُجُوعٍ إلَى النَّقْلِ فَمِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْمَطْلَبِ النَّقْلِيِّ الشَّرْعِيِّ بِالْعَقْلِيِّ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِشَرْعِيَّةِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ، وَأَنَّ النَّقْلِيَّةَ ابْتِدَاءً أَوْ رُجُوعًا كَمَا نَبَّهَ آنِفًا فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْعِلْمِ بَلْ شَامِلٌ لِبَعْضِ الْعَمَلِ، وَقَدْ سَمِعْت بَيَانَ شَارِحِ الْحَدِيثِ مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ كَمَا يَقْتَضِي إطْلَاقَ صِيغَتَيْ الْحَدِيثَيْنِ وَقَدْ قَالَ شَارِحُهُ عَنْ الْمِيزَانِ إنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَاهٍ وَعَنْ ابْنِ عَدِيٍّ لَهُ مَنَاكِيرُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ الثِّقَاتِ الطَّامَّاتِ وَعَنْ الْهَيْثَمِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ
الثَّانِيَ مُنْكَرٌ.
وَعَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَا يَصِحُّ، وَعَنْ الْهَيْثَمِيِّ أَيْضًا مَتْرُوكٌ وَكَذَا عَنْ النَّيْسَابُورِيِّ وَعَدَّهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَنَاكِيرِ وَبِالْجُمْلَةِ الِاحْتِجَاجُ عَلَى إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِتَامٍّ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَدَارُهُ النُّصُوصُ وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَعِلَّتُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ سِيَّمَا عِنْدَ إدْرَاكِ الْعِلَّةِ فَالْمَذْكُورُ إمَّا عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ ذَلِكَ مُرَادَهُ قَوْلُهُ: وَالْحَاصِلُ أَيْ حَاصِلُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ فَتَأَمَّلْ.
(ثُمَّ الْمُتَعَدِّيَةُ) مُطْلَقًا (نَوْعَانِ أُخْرَوِيٌّ) فِيهِ نَفْعٌ أُخْرَوِيٌّ لِلْغَيْرِ (وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ إذْ هُوَ عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) إذْ شَأْنُهُمْ تَعْلِيمُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ الرَّبَّانِيَّةِ (وَبِهِ) أَيْ بِهَذَا النَّوْعِ (فُضِّلُوا) بِالْبِنَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ فِعْلِ فُضِّلُوا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ لَا يَخْفَى أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَدْخَلِيَّةِ لَا بِالْحَصْرِ وَأَنَّهُ يُشْعِرُ عَدَمَ مَدْخَلِ أَعْمَالِهِمْ فِي تَفْضِيلِهِمْ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ تَفْضِيلَهُمْ بِهِ إنَّمَا هُوَ لِسَبَبِ الِابْتِدَاءِ وَبِالِاخْتِصَاصِ بِهِمْ وَكَلَامُنَا عِنْدَ إقَامَةِ الْغَيْرِ هَذَا الْأَمْرَ وَأَنَّ قِيَاسَ حَالِ الْأُمَّةِ عَلَى حَالِ النَّبِيِّ قِيَاسٌ مَعَ فَارِقٍ ظَاهِرٍ.
وَقَدْ كَانَ عِلَّةُ الْأَصْلِ مَقْصُودًا بِهِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِالْغَيْرِ (خَرَّجَ دَيْلَمٌ) أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَعَلَّمَ بَابًا» نَوْعًا «مِنْ الْعِلْمِ» النَّافِعِ الزَّاجِرِ «لِيُعَلِّمَ النَّاسَ» لِمُجَرَّدِ رِضَاهُ تَعَالَى يَعْنِي نِيَّتُهُ تَعْلِيمُ النَّاسِ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَإِلَى عَدَمِ شَرْطِيَّةِ إحَاطَةِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فِي الْمُعَلِّمِ وَإِلَى شَرْطِيَّةِ إحَاطَةِ جَمِيعِ أَرْكَانِ الْمَسْأَلَةِ وَشَرَائِطِهَا فَمَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ بَابٌ مِنْهُ انْتَهَى.
«أُعْطِيَ» مِنْ اللَّهِ تَعَالَى «ثَوَابَ سَبْعِينَ صِدِّيقًا» مِنْ أَوْزَانِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الْمَبَالِغُ فِي الصِّدْقِ وَهُوَ الَّذِي كَمُلَ فِي تَصْدِيقِ كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا لِصَفَاءِ بَاطِنِهِ وَقُوَّتِهِ بِبَاطِنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فِي قَوْله تَعَالَى - {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الصِّدِّيقُونَ الَّذِينَ صَعِدَتْ نُفُوسُهُمْ تَارَةً بِمَرَاقِي النَّظَرِ فِي الْحِجَجِ، وَالْآيَاتِ وَأُخْرَى بِمَعَارِجِ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَاتِ إلَى أَوْجِ الْعِرْفَانِ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَى الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَرُوا عَنْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَالْعَالِمُ دَاخِلٌ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فِي مَفْهُومِ الصِّدِّيقِ فَيَلْزَمُ تَفْصِيلُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْقَوْلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْضِيلِ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ الصِّدِّيقِ بِحَسَبِ إعْطَاءِ الثَّوَابِ يَقْتَضِي تَفْضِيلَ الْمُتَعَلِّمِ عَلَى الْمُعَلِّمِ، فَالْحَدِيثُ مُشْكِلٌ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى دَفْعِ إشْكَالِهِ أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِحَسَبِ قَصْدِ تَعْلِيمِ النَّاسِ فَالْمُتَعَلِّمُ لِقَصْدِ التَّعْلِيمِ مُثَابٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ الصِّدِّيقِ الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لِلْعَالِمِ لَكِنْ ذَلِكَ الْعَالِمُ لَا يُعَلِّمُ الْغَيْرَ بَلْ يَتَعَاقَدُ لِلْعَمَلِ فَالْمُتَعَلِّمُ الْقَاصِدُ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ أُعْطِيَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَالْعَالِمِ كَذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا أُعْطِيَ لِلْعَالِمِ الَّذِي لَا يُعَلِّمُ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَمَلِ.
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُؤَوَّلٌ أَيْضًا إمَّا بِأَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ ثَوَابِ سَبْعِينَ صِدِّيقًا أَوْ بَعْضِ ثَوَابِ سَبْعِينَ وَقِيلَ ثَوَابُ السَّبْعِينَ غَيْرُ مُضَاعَفٍ وَلَهُ مُضَاعَفٌ، وَلَعَلَّ السَّبْعِينَ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلْعَدَدِ فَتَأَمَّلْ بَعْدُ.
(وَلِذَا قَالَ فِي التَّجْنِيسِ إذَا تَعَلَّمَ رَجُلَانِ عِلْمًا عِلْمَ الصَّلَاةِ) الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ إذْ شَرَفُ الْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ شَرَفِ مَعْلُومِهِ (أَوْ غَيْرَهُ) مِنْ الْمُهِمَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ (أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّمُ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ وَ) الرَّجُلُ (الْآخَرُ) يَتَعَلَّمُ (لِيَعْمَلَ بِهِ) بِعِلْمِهِ (فَاَلَّذِي يَتَعَلَّمُ لِيُعَلِّمَ) غَيْرَهُ (أَفْضَلُ) مِنْ الَّذِي يَتَعَلَّمُ لِيَعْمَلَ بِهِ (لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ أَكْثَرُ لِلنَّاسِ وَأَبْلَغُ فِي أَمْرِ الدِّينِ) لِإِبْقَاءِ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَإِجْرَاءِ حُكْمِ اللَّهِ وَحِمَايَتِهَا عَنْ الضَّيَاعِ وَصِيَانَتِهَا عَنْ الضَّعْفِ، وَالِانْطِمَاسِ (انْتَهَى) كَلَامُ التَّجْنِيسِ.
(وَدُنْيَوِيٌّ) عَطْفٌ عَلَى أُخْرَوِيٍّ كَوْنُهُ
مِنْ الدُّنْيَوِيِّ لِكَوْنِهِ بِوَاسِطَةِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَإِلَّا فَهَذَا أُخْرَوِيٌّ أَيْضًا (كَالصَّدَقَةِ) زَكَاةٍ أَوْ نَافِلَةٍ فَإِنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ أَيْضًا لِانْتِفَاعِ الْغَيْرِ وَلَوْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا (وَالْإِعَانَةِ) عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى (وَالدَّلَالَةِ) عَلَى الْخَيْرِ دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ إغَاثَةَ اللَّهْفَانِ» .
(وَالشَّفَاعَةِ) الْحَسَنَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85]- (وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ) كَالْجِسْرِ فُرِّقَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِالْبِنَاءِ، وَالثَّانِيَ أَعَمُّ (وَنَحْوِهَا) كَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ، فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ مَنْ أَغَاثَ مَلْهُوفًا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ مَغْفِرَةً وَاحِدَةٌ مِنْهَا صَلَاحُ أَمْرِهِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ لَهُ دَرَجَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «مَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَاجَةً كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ» وَنَحْوِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالسِّقَايَاتِ، وَالرِّبَاطِ وَنَحْوِهَا (وَتَسْوِيَةِ الطُّرُقِ) بِنَحْوِ رَفْعِ الْأَحْجَارِ وَتَسْهِيلِ الْمُرُورِ بِأَيِّ وَجْهٍ (وَإِمَاطَةِ الْأَذَى) أَيْ إزَالَةِ مَا يُؤْذِي الْمَارِّينَ (عَنْهَا) عَنْ الطُّرُقِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:«الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ» .
(فَهَذَا) النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ (مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا) بَيْنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَالْعِبَادَةِ الْقَاصِرَةِ (دُونَ الْأَوَّلِ) تَحْتَهُ لِتَمَحُّضِهِ فِي الْأُخْرَوِيَّةِ (وَفَوْقَ الْقَاصِرَةِ) لِعَدَمِ تَعَدِّيهَا أَصْلًا أَوْ تَعَدِّي الْأَوَّلِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَدِيمُ إلَى انْقِرَاضِ الزَّمَانِ وَأُشِيعَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَشِرُ شَرْقًا وَغَرْبًا (كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالذِّكْرِ) لَكِنْ يَشْكُلُ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]- فُسِّرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ حَيْثُ الْفَضْلُ وَبِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ ظَاهِرُهَا كَوْنُ الذِّكْرِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى حَسَبِ شَرَفِ الْمَذْكُورِ، كَحَدِيثِ الْحِصْنُ الْحَصِينُ.
«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ» الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلَ لِلْفَرْدِ السَّابِقِ.
وَفِي الْجَامِعِ: «أَفْضَلُ الْعِبَادِ دَرَجَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا» قَالُوا فِي شَرْحِهِ فَالذِّكْرُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَرَأْسُ كُلِّ عِبَادَةٍ وَرَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ، وَفِيهِ أَيْضًا «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ وَلَا تَتْرُكُ ذَنْبًا» .
وَحَدِيثُ «أَفْضَلُ مَا أَقُولُ أَنَا، وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَتَفْضِيلُ الْعَكْسِ إمَّا عَنْ رَأْيٍ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ أَوْ تَرْجِيحِ مَرْجُوحٍ فَتَأَمَّلْ (وَالدُّعَاءِ فَلِذَا) لِأَجْلِ كَوْنِ هَذَا النَّوْعِ أَفْضَلَ مِنْ الْقَاصِرَةِ (كَانَ الِاشْتِغَالُ بِأَمْرِ النِّكَاحِ) التَّزَوُّجِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى حُقُوقِهِ (وَالْكَسْبِ) مِنْ الْحَلَالِ (لِأَجْلِ التَّصَدُّقِ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي) التَّقَاعُدِ (لِلْعِبَادَةِ) ؛ لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ تَكْثِيرَ الْأُمَّةِ وَإِعْفَافَ النَّفْسِ، وَفِي الصَّدَقَةِ دَفْعَ احْتِيَاجِ الْفَقِيرِ.
قَالَ الْمُحَشِّي: لِأَنَّ فِيهِمَا نَفْعًا دُنْيَوِيًّا لِلْغَيْرِ بِخِلَافِ التَّخَلِّي لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ فِي النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ سَوْقُ الْكَلَامِ فِيهِ.
(فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ) مِنْ خُرَافَاتِ هَذَا الْعَالِمِ الرِّجْسِ، وَالزُّورِ إلَى مَقَاصِدِ أَنْوَاعِ عَيَالِمِ الْقُدْسِ، وَالنُّورِ. أَقُولُ يُرِيدُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ إثْبَاتِ فَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَةِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُوصِيَ بِالْجِدِّ فِي اسْتِحْصَالِ الْعِلْمِ بِلَا مُبَالَاةِ الْمُخَالِفِ فِي ذَلِكَ (بِالْجِدِّ) أَيْ السَّعْيِ، وَالِاجْتِهَادِ (وَالْمُوَاظَبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ) أَيْ اكْتِسَابِهِ وَارْتِكَابِ الْمَشَاقِّ، وَالْكُلْفَةِ فِي طَرِيقِهِ لِعِظَمِ شَرَفِهِ وَقُوَّةِ فَضْلِهِ بِمَا سَمِعْت سَابِقًا (فَلَا تُصْغِ) مِنْ الْإِصْغَاءِ أَيْ لَا تَلْتَفِتْ (إلَى تُرَّهَاتِ) أَبَاطِيلِ (جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ)
لِإِظْهَارِ مَا لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ إذْ بِحَسَبِ ادِّعَائِهِمْ أَوْ بِحَسَبِ ظَنِّ الْخَلْقِ فِيهِمْ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الصُّوفِيَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ الْمُتَشَرِّعُ بِأَصَحِّ الشَّرَائِعِ، وَالْمُتَسَنِّنُ بِأَقْوَمِ السُّنَنِ (فِي زَمَانِنَا) ، وَفِي دِيَارِنَا هُوَ عَصْرُ التِّسْعُمِائَةِ فِي التَّقْيِيدِ بِالْجَهَلَةِ، وَالزَّمَانُ إشَارَةٌ بَلْ دَلَالَةٌ إلَى أَنَّ كُلَّ صُوفِيٍّ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ كَالْفُقَهَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ فِيهِمْ فَسَقَةٌ وَصُلَحَاءُ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُفَسِّرِينَ، وَالْمُلُوكِ، وَالْأُمَرَاءِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْأَسْوَاقِ، وَالصَّنَائِعِ فِيهِمْ كِلَا النَّوْعَيْنِ الْفِسْقِ وَالصَّلَاحِ، فَلَا يَعُمُّ الذَّمُّ بِذَمِّ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَبَعْضِ الْجَهَلَةِ.
(يَقُولُونَ الْعِلْمُ حِجَابٌ) عَنْ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ الْقُدْسِ مِنْ التَّجَلِّيَاتِ، وَالْمُكَاشَفَاتِ وَهَذَا جَهْلٌ إذْ بِالْعِلْمِ يَزْدَادُ الشُّهُودُ وَتَكْمُلُ الْمَعْرِفَةُ بَلْ الْحِجَابُ هُوَ الْجَهْلُ كَيْفَ، وَإِنَّ الْوُصُولَ مُحْتَاجٌ إلَى قَطْعِ عَقَبَاتِ النَّفْسِ وَدَفْعِ حِيَلِ الشَّيْطَانِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْعِلْمِ، وَلَعَلَّ مَنْشَأَ غَلَطِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَشْتَغِلُونَ بِالْمُحَرَّمَاتِ وَيُصِرُّونَ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ وَيَسْتَغْرِقُونَ فِي الْمُنْكَرَاتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مُوَرِّثَ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا فَإِنَّهُ إذَا زَلَّ عَالِمٌ زَلَّ عَالَمٌ كَمَا أَنَّهُ إذَا عَزَّ عَالِمٌ عَزَّ عَالَمٌ وَأَكْثَرُ مَشَاهِيرِ الْمُتَصَوِّفَةِ مُتَبَحِّرُونَ فِي الْعِلْمِ وَمُجْتَهِدُونَ.
(وَأَنَّهُ) أَيْ الْعِلْمَ (يَحْصُلُ بِالْكَشْفِ) بِدُونِ تَجَشُّمٍ لِكَسْبِ انْكِشَافِ مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بِتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ وَنِسْيَانِ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ.
وَعَنْ التِّلْمِسَانِيِّ: الْمُشَاهَدَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ نَحْوِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ فَلَيْسَتْ مُكَاشَفَةً حَقِيقِيَّةً بَلْ صُورِيَّةً قَاطِعَةً لِلْأَوْلَى (فَلَا حَاجَةَ إلَى الْكَسْبِ) أَيْ الْمُطَالَعَةِ، وَالْأَخْذِ مِنْ الْأُسْتَاذِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَهُوَ تَنَاقُضٌ قُلْنَا لَعَلَّ مُرَادَهُمْ الِابْتِدَاءُ بِالْعِلْمِ حِجَابٌ مَانِعٌ عَنْ الْكَشْفِ وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْمُجَاهَدَةِ فَيُنْتِجُ الْكَشْفَ الَّذِي يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ (فَإِنَّهُ كَذِبٌ) يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» وَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي ادَّعَوْا حُصُولَهُ بِالْكَشْفِ هُوَ عِلْمُ الْمَعْرِفَةِ لَا عُلُومُ الشَّرِيعَةِ، وَالْأَحْكَامِ نَعَمْ قَدْ يَحْصُلُ لَكِنْ عَلَى طَرِيقِ النُّدْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ التَّخَلُّفِ فَلَا يَكُونُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ (وَضَلَالٌ) فِي حَقِّ نَفْسِهِ (وَإِضْلَالٌ) فِي حَقِّ غَيْرِهِ قِيلَ هُنَا، وَفِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ فِيمَا سَبَقَ فِي مِثْلِهِ إنَّ هَذَا الطَّعْنَ وَالتَّخْطِئَةَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْعَامِّ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخَصُّصِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمُعَيَّنٍ فَإِنَّ سُوءَ الظَّنِّ حَرَامٌ وَحُسْنَ الظَّنِّ لَازِمٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: يَجِبُ حَمْلُ الْإِخْوَانِ عَلَى الْمَحَامِلِ الْحَسَنَةِ فِي كُلِّ نَقِيصَةٍ إلَى سَبْعِينَ مَحْمَلًا ثُمَّ قَالَ فَلَا تَسْأَلْ مِمَّنْ لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ أَصْلًا فَإِنَّهُ تَخْجِيلُ كُفْرٍ كَمَا سَبَقَ وَإِذَا سَاعَدَهُ التَّوْفِيقُ يَعْمَلُ بِلَا عِلْمٍ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ لَمْ يُوَفِّقْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ فَمَخْذُولٌ وَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ وَفَّقَهُ بِالْعَمَلِ بِالْإِلْهَامِ فَخُيِّرَ مِنْ ذَلِكَ الْعَالِمِ وَإِنَّمَا لِلْعَالِمِ النُّصْحُ، وَالتَّحْذِيرُ بِلَا إسَاءَةِ ظَنٍّ وَتَجَسُّسٍ وَامْتِهَانٍ لِمُعَيَّنٍ إلَى غَيْرِ مَا قَالَهُ لَا يَخْفَى مَا فِيهَا مِنْ الْخَلْطِ وَالْخَلَلِ وَسَدِّ طُرُقِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَطُرُقِ الْحُدُودِ، وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَالتَّأْوِيلِ بِالْحَسَنِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ التَّحَمُّلِ وَعَدَمِ صَرَاحَةِ الْخَطَأِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي مُعَيَّنٍ فَمَا مَعْنَى وُجُودُهُ فِي الْعُمُومِ، وَقَدْ قَالُوا لَا وُجُودَ لِلْعَامِّ إلَّا فِي ضِمْنِ الْخَاصِّ وَسَلْبِ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَنَفْعِهِ وَتَفْوِيضِهِ إلَى تَوْفِيقِهِ تَعَالَى وَإِلَى حُصُولِهِ بِالْإِلْهَامِ، وَالْكَشْفِ مُخَالِفٌ لِقَوَاطِع النُّصُوصِ، وَالْإِجْمَاعِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ.
(فَإِنَّ الْعِلْمَ) أَيْ تَعَلُّمَهُ وَكَسْبَهُ (فَرْضٌ) عَيْنًا وَكِفَايَةً كَمَا سَبَقَ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ (وَأَنَّهُ) أَيْ الْعِلْمَ إنَّمَا يَحْصُلُ (بِالتَّعَلُّمِ) لَا غَيْرُ (لِمَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَمَا سَبَقَ «إنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» .
لَا يُقَالُ كَيْفَ يَحْصُلُ الْفَرْضُ مِنْ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت فِيمَا سَبَقَ أَنَّ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ مِنْ الْكِتَابِ مَعَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ مِنْ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْقَطْعَ وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ إضَافَةُ الْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ إلَى مِثْلِ هَذَا الْوَاحِدِ وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالُوا الْخَبَرُ الْوَاحِدُ الْمُؤَيَّدُ بِالْحُجَّةِ الْقَطْعِيَّةِ يَصِحُّ إضَافَةُ الْفَرْضِ إلَيْهِ، وَهَاهُنَا مُؤَيَّدٌ بِالْكِتَابِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ سَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ، وَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى السَّنَدِ وَقَدْ يُطْلَقُ الْفَرْضُ عَلَى الظَّنِّيِّ لَكِنْ لَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ هُنَا.
(وَأَنَّ مَأْخَذَهُ) أَيْ الْعِلْمِ
(كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا بَيَّنَّاهُ سَابِقًا) فِي فَضْلِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْكَشْفِ، وَالْإِلْهَامِ وَلَا بِالْأَخْذِ مِنْ اللَّهِ بِالذَّاتِ وَلَا مِنْ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام (وَإِنَّ الصَّحَابَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا) عِلْمًا وَعَمَلًا (فَإِنَّهُمْ اجْتَهَدُوا) فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ (اخْتَلَفُوا وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أُلْهِمَ إلَيَّ) أَوْ وَقَفْت بِالْكَشْفِ (أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ حَلَالٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ) فَلَوْ أَمْكَنَ لَوَقَعَ مِنْهُمْ وَلَوْ وَقَعَ لَسُمِعَ.
وَنُقِلَ فَإِنْ قِيلَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ هَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَجَاءَ شَيْبَانُ الرَّاعِي فَقَالَ أَحْمَدُ أُرِيدُ أَنْ أُنَبِّهَ هَذَا عَلَى نُقْصَانِ عِلْمِهِ لِيَشْتَغِلَ بِبَعْضِ الْعِلْمِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَفْعَلْ فَلَمْ يَقْنَعْ فَقَالَ لِشَيْبَانَ مَا تَقُولُ فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ وَلَا يَدْرِي أَيَّ صَلَاةٍ نَسِيَهَا مَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، فَقَالَ شَيْبَانُ يَا أَحْمَدُ هَذَا قَلْبٌ غَفَلَ عَنْ اللَّهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّبَ حَتَّى لَا يَغْفُلَ عَنْ مَوْلَاهُ بَعْدَهُ فَغُشِيَ عَلَى أَحْمَدَ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تُحَرِّكْ هَذَا وَشَيْبَانُ الرَّاعِي كَانَ أُمِّيًّا
قُلْنَا لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مُخْتَصٍّ بِالْعَالِمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ وَأَنَّهُ لَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ سَنَدِهِ وَلَوْ سَلِمَ فَقَدْ سَمِعْت أَنَّ كُلَّ مَا يُخَالِفُ النَّصَّ فَهُوَ رَدٌّ وَقَدْ دَلَّ النَّصُّ عَلَى لُزُومِ التَّعَلُّمِ وَأَنَّ صِحَّتَهُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِمُوَافَقَةِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ لَوْ سَلِمَ فَنَادِرٌ اتِّفَاقِيٌّ لَا بِمُوجِبٍ مُفْضٍ (فَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ كُوشِفُوا وَوَصَلُوا إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قِيلَ قَدْ يُوجَدُ فِيمَا بَعْدَ الصَّحَابِيِّ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَالْكَشْفِ بَلْ يُوجَدُ عِلْمٌ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي النَّبِيِّ سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِوِلَايَةِ الْخَضِرِ وَنُبُوَّةِ مُوسَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَنَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَادِّعَاءَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ كَالنَّبِيِّ (فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ خَارِجُونَ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ) لِمَا عَرَفْت مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَلِمَا عَرَفْت مِنْ فَضْلِ الصَّحَابَةِ.
(وَلَوْ سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ) شَيْءٍ مِنْ (الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ مِثْلِ الرِّيَاءِ، وَالْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالْحَسَدِ، وَالْحِقْدِ أَوْ عَنْ) مَعْرِفَةِ (عِلَاجِهَا أَوْ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ مِثْلِ النِّيَّةِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالصَّبْرِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالشُّكْرِ أَوْ عَنْ طَرِيقِ تَحْصِيلِهَا أَوْ تَقْوِيَةِ ضَعِيفِهَا بُهِتَ) أَيْ دُهِشَ وَتَحَيَّرَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجَوَابِ عَنْهُ وَقَدْ كَانَ التَّصَوُّفُ فِي الْحَقِيقَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْثَالِهَا وَلِهَذَا قَدْ يُقَالُ لِعِلْمِ التَّصَوُّفِ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ (وَخَجِلَ) مِنْ الْخَجَالَةِ (وَخَلَطَ فِي كَلَامِهِ) بِالْهَذَيَانَاتِ (وَتَكَلَّمَ بِالشَّطْحِ) بِالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ وَبِالْخُرُوجِ عَنْ الْحُدُودِ (وَالطَّامَّاتِ) أَيْ الزَّخَارِفِ الْبَاطِلَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ الْعِرْفَانِ عَنْ أَصْلِ مَا سُئِلَ وَعَدَمُ الْجَوَابِ عَنْ مَعْنَى مَا سُئِلَ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ لَا عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْجَوَابِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْآنَ حَتَّى تَوَهَّمَ وَيُقَالُ إنَّهُ لَوْ سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِخُصُوصِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَا يَعْرِفُهُ وَمَا فَائِدَةُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ وَمَا ضَرَرُ عَدَمِ الْعِلْمِ مَعَ عَمَلٍ وَلَيْسَ الْعِلْمُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ بَلْ لِأَجْلِ الْعَمَلِ وَلَوْ وُجِدَ الْعَمَلُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا ضَرَرُ عَدَمِ الْعِلْمِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ خَلْطٌ أَيُّ خَلْطً وَجَسَارَةٌ إلَى مَا يُوجِبُ أَمْرًا عَظِيمًا (بَلْ لَوْ سُئِلَ عَنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، وَالْوُضُوءِ، وَالِاسْتِنْجَاءِ تَحَيَّرَ وَاضْطَرَبَ)
وَلَا يَقْدِرُ عَلَى جَوَابٍ أَصْلًا وَهَذِهِ مِنْ أَجْلَى الْوَاضِحَاتِ حَتَّى لِأَكْثَرِ الصِّبْيَانِ، وَالْعَامِّيِّ الْمَحْضِ (بَلْ بَعْضُهُمْ لَمْ يُصَحِّحْ اعْتِقَادَهُ بَعْدُ) بِأَنْ لَا يَعْرِفَ ذَاتَهُ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَحْوَالَهُ وَكَذَا مَا فِي حَقِّ الرُّسُلِ (وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ تَعَالَى عَلَى صُورَةٍ) وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْفِقْهِيَّةِ، وَالْكَلَامِيَّةِ تَفْصِيلَهُ وَحَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ كُفْرٌ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا تَفْصِيلُ جِهَةِ الْكُفْرِ بَلْ التَّسْلِيمُ كَافٍ هُنَا إذْ الْبُرْهَانُ إنَّمَا هُوَ فِي مَبْحَثِهِ
الْأَصْلِيِّ.
قَالَ فِي الْوَسِيلَةِ قَالَ شَارِحُ الطَّرِيقَةِ جَارِحُ الشَّرِيعَةِ مُحَمَّدٌ الْكُرْدِيُّ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْفِيقِ: هَذَا الِاعْتِقَادُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُطَابِقٌ لِاعْتِقَادِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ مُوَافِقٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَإِنْ خُولِفَ مُتَشَبِّثًا بِأَذْيَالِ الْفَلَاسِفَةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» .
وَقَالَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ بِاللُّطْفِ وَلَا تَكُنْ سَفِيهًا فَإِنَّ السَّفِيهَ مَحْرُومٌ مِنْ الْكَمَالَاتِ انْتَهَى
ثُمَّ اشْتَغَلَ بِرَدِّهِ بِتَفْصِيلٍ لَا يَسَعُهُ الْمَقَامُ وَقَدْ أَغْنَيْنَاك عَنْهُ وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا كَانَ خَطَؤُهُ ضَرُورِيًّا وَاضِحًا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ بَلْ عَامَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ أُجِيبَ عَمَّا اُشْتُبِهَ عَلَيْهِ، وَفِي مَحَلِّهِ قَالَ فِي الْوَسِيلَةِ أَيْضًا: قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَقْرِيظِ ذَلِكَ الشَّرْحِ وَإِمْضَائِهِ: هَذِهِ الْأَوْرَاقُ الْحَرِيَّةُ بِالْإِحْرَاقِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، وَالْكَلِمَاتِ الْعَاطِلَةِ بِحَيْثُ تُنْبِئُ عَنْ حَمَاقَةِ مَنْ جَمَعَهَا وَسُوءِ عَقِيدَةِ مَنْ رَتَّبَهَا، وَإِنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ خَانْ مَنَعَ قِرَاءَةَ هَذَا الْكِتَابِ وَأَمَرَ بِإِعْدَامِ نُسْخَتِهِ أَيْنَمَا تُوجَدُ، وَأَمَرَ بِنَفْيِ مُؤَلِّفِهِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَلْفٍ، فَإِنْ قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِقَادُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ فَبِمُجَرَّدِ الظَّنِّ هَلْ يَلْزَمُ الْكُفْرُ.
قُلْنَا أَدِلَّتُهُ تَقْتَضِي لُزُومَ الْقَطْعِ وَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّكَّ سِيَّمَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ بَلْ خُلُوُّ الذِّهْنِ كُفْرٌ فَضْلًا عَنْ الظَّنِّ (وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْقَبَائِحَ، وَالْمَعَاصِيَ وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُوجِدٌ لِفِعْلِهِ)
كَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ فُصِّلَ الرَّدُّ فِي مُخْتَصَرَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَمَبْسُوطَاتِهَا بَلْ أُشِيرَ فِيمَا سَبَقَ فَلَا نَشْتَغِلُ بِهِ (وَأَكْثَرُهُمْ يُصَلُّونَ بِلَا تَعْدِيلِ أَرْكَانٍ) وَهُوَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ وَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً، وَالتَّصَوُّفُ يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِالْأَحْوَطِ (وَلَا تَجْوِيدِ قُرْآنٍ) وَهُوَ أَيْضًا حَتْمٌ لَازِمٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ الْقَارِي وَتَسْهِيلُ التَّجْوِيدِ الِاتِّفَاقُ مِنْ جَمِيعِ الْمُجَوِّدِينَ وَإِنَّ أَخْذَ الْقُرْآنِ عَنْ فَمِ الْمُحْسِنِ فَرْضُ عَيْنٍ قِيلَ يَجُوزُ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّجْوِيدِ بَعْدَ السَّعْيِ فَلَا إثْمَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَأَخْطَأَ أَوْ لَحَنَ أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا كَتَبَهُ الْمَلَكُ كَمَا أُنْزِلَ أَقُولُ قَرَائِنُ سَائِرِ أَحْوَالِ جِنْسِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ لِلْكَسْلَانِ لَا لِلْعَجْزِ كَتَرْكِ التَّعْدِيلِ وَأَنَّ الطَّعْنَ لِمَنْ تَكَاسَلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمُصَنِّفَ وَقَفَ عَلَى كَسْلَانِهِمْ وَطَعَنَ بَلْ يُمْكِنُ أَنَّ الْمَطْلَبَ اسْتِقْرَائِيٌّ فَلَا بُدَّ فِي السَّنَدِ مِنْ تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ.
وَعَنْ الْجَارِحِ الْمَذْكُورِ الْكُرْدِيِّ نَظَرَ الصُّوفِيَّةُ إلَى تَعْدِيلِ أَرْكَانِ الْبَاطِنِ هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنَاطُ الثَّوَابِ فَإِذَا حَصَلَ هَذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَالْعِبَادَةُ إنَّمَا هِيَ بِحُسْنِ التَّوَجُّهِ لَا بِالطُّولِ وَالْقَصْرِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا فِي الْأُصُولِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِلشَّرِيعَةِ الظَّاهِرِيَّةِ بَلْ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ، وَالْإِسْنَادُ إلَى الْأُصُولِ افْتِرَاءٌ مَحْضٌ وَأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ وُجُودُ
عَيْنِهِ فِي الْأُصُولِ فَبَاطِلٌ ضَرُورَةً وَإِنْ قَاعِدَتُهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ بَلْ مَا قَوَاعِدُهُ هُوَ جَانِبُ لُزُومِهِ وَأَنَّ الْأَحْكَامَ تُؤْخَذُ لِمِثْلِنَا مِنْ الْفُرُوعِ لَا مِنْ الْأُصُولِ وَاسْتِخْرَاجُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأُصُولِ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ.
(وَمَعَ هَذِهِ الْفَضَائِحِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ وَاصِلُونَ مُكَاشِفُونَ) وَقَدْ عَدِمَ أَرْبَابُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ تَرْكَ الْأَوْلَى وَارْتِكَابَ مَا لَا بَأْسَ بِلَا ضَرُورَةٍ مِنْ مَوَانِعِ الْوُصُولِ وَرِعَايَةِ غَايَتِهِمْ مِنْ شَرَائِطِهِ (فَهَيْهَاتَ) بَعُدَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَنْ الْحَقِّ، وَالصَّدَقَةِ بُعْدًا لَا رَيْبَ فِيهِ (هَيْهَاتَ) تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ (نَعَمْ) .
قَالَ الْمُحَشِّي هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ.
قُلْت وَأَيْضًا هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ الذَّمِّ بِمَا يُشْبِهُ الْمَدْحَ، وَالْأَوَّلُ أُصُولِيٌّ، وَالثَّانِي بَدِيعِيٌّ (أَنَّهُمْ وَاصِلُونَ إلَى الشَّيْطَانِ) الَّذِي هُوَ شَيْخُهُمْ الَّذِي عَلَّمَهُمْ هَوَاهُمْ وَغَرَّهُمْ فِي أَمَانِيهِمْ وَلِذَا أَنَّهُمْ (مَغْرُورُونَ بِأَمَانِيِّهِ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا. جَمْعُ أُمْنِيَةٍ بِمَعْنَى الْمَقْصُودِ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ الْوَصْلَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسُوا بِوَاصِلِينَ إلَيْهِ بَلْ وَاصِلُونَ إلَى الشَّيْطَانِ وَيَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ وَدَلَالَاتِهِ وَيَمْشُونَ عَلَى نَهْجِ تَصَرُّفَاتِهِ.
حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيَّ اعْتَزَلَ عَنْ النَّاسِ وَتَوَحَّشَ لِلْعِبَادَةِ فَلَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي امْتَلَأَ الْعَالَمُ بِالْأَنْوَارِ فَنَادَى مُنَادِيًا عَبْدَ الْقَادِرِ: اجْتَهَدْت لِلْعِبَادَةِ لِي وَعَبَدْتَ حَقَّ الْعِبَادَةِ فَإِنِّي قَدْ رَفَعْت عَنْك حُرْمَةَ الْأَشْيَاءِ وَأَبَحْت جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ لَك فَافْعَلْ مَا شِئْت فِيمَا بَعْدُ وَقَدْ غَفَرْت لَك فَقَالَ: عَبْدُ الْقَادِرِ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّكَ يَا شَيْطَانُ فَإِذَا قَدْ رَكَدَ الظَّلَامُ وَاضْمَحَلَّتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ قَدْ نَجَوْت بِعِلْمِك يَا عَبْدَ الْقَادِرِ إنِّي قَدْ أَهْلَكْت فِي هَذَا الْمَقَامِ عُبَّادًا وَزُهَّادًا.
(عَامِلُونَ بِوَسَاوِسِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ لِبَعْضِهِمْ كَشْفٌ حِسِّيٌّ لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ) عَنْ أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأَكْوَانِ مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ فَيَكُون كَذَلِكَ وَهُوَ الْكَشْفُ الصُّورِيُّ (أَوْ نَحْوِهِ) مِنْ الْمَنَامَاتِ، وَالتَّخَيُّلَاتِ، وَالْوَارِدَاتِ الْغَيْبِيَّةِ، وَالْهَوَاتِفِ (مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ بِمُقْتَضَى الرِّيَاضَاتِ) بِتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنْ الْعَلَائِقِ الْبَشَرِيَّةِ (أَوْ إرَاءَةِ الشَّيْطَانِ) لَهُمْ طَيَرَانًا فِي الْهَوَاءِ بِرَفْعِ بَعْضِهِمْ أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَان بِأَسْرَعِ زَمَانٍ أَوْ الْإِتْيَانِ بِمَا يُرِيدُونَهُ (مَكْرًا) إضْمَارًا لِلسُّوءِ بِهِ (وَاسْتِدْرَاجًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكَفَرَةِ الْمُرْتَاضِينَ) .
وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ عَالَمَ الصَّفَا حِجَابٌ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَكُونُ الْكَشْفُ وَهَذَا يُشَارِكُنَا فِيهِ الرُّهْبَانُ وَإِنَّمَا نُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِعَالَمِ التَّرْقِيَةِ (فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ كَرَامَةٌ وَوِلَايَةٌ فَيَغْتَرُّونَ بِهِ) فَيَهْلِكُونَ وَلَا يَشْعُرُونَ وَكُلُّ ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَلَا يُحْتَمَلُ كَوْنُ ذَلِكَ غَيْرَ ذَلِكَ مَا دَامَتْ أَفْعَالُهُمْ الظَّاهِرَةُ عَلَى خِلَافِ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ اسْتَقَامَ بَاطِنُهُمْ خِلَافًا لِمَنْ خَلَطَ وَيَشْهَدُهُ قَوْلُهُ (وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا قَوْلَ سُلْطَانِ الْعَارِفِينَ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ) هَذَا إثْبَاتٌ لِتَوَقُّفِ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ عَلَى كَمَالِ اتِّبَاعِ الشَّرْعِ وَلِكَوْنِ الْكَشْفِ الْخَارِجِيِّ اسْتِدْرَاجًا مِنْ مُخَالِفِ الشَّرْعِ (لَوْ نَظَرْتُمْ إلَى رَجُلٍ) أَيْ شَخْصٍ (أُعْطِيَ مِنْ الْكَرَامَاتِ حَتَّى تَرَبَّعَ فِي الْهَوَاءِ) أَوْ جَلَسَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ فِي النَّارِ (فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ) وَتَنْسِبُوهُ
إلَى الْوِلَايَةِ (حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ وَحِفْظِ الْحُدُودِ) الْإِلَهِيَّةِ (وَأَدَاءِ)(أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ انْتَهَى فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِهِمْ) بِالسِّرَايَةِ إلَيْنَا بِالِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ أَفَاعِيلِهِمْ الْكَاذِبَةِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ التَّوْفِيقِ إلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الظَّاهِرِيِّ (وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ) الَّتِي لَا تَدْخُلُ فِي الْمَوَازِينِ النَّبَوِيَّةِ (فَإِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ) بِوَسْوَسَتِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ (وَقُطَّاعُ طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَخُصَمَاءُ حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لِاسْتِهَانَتِهِمْ شَرِيعَتَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ سُنَّتَهُ وَهُمْ يَدَّعُونَ وِلَايَتَهُ.